مجلة حكمة

فلسفة الاستطيقا – ترجمة: حنان العتيبي


تعتبر فلسفة الاستطيقا إحدى مدارس الفلسفة المعنية بالطبيعة و تقدير الجمال والفن والذوق الرفيع، وتُعرف بأنها التحليل النقدي للفن والطبيعة والثقافة. و قد اشتق المصطلح الاستطيقا (Aesthetics) من الكلمة اليونانية Aisthetikos))  وتعني الإدراك الحسي. تشترك فلسفتا الجمال والأخلاق في كونهما فرعان من علم القيم المعني بتحليل القيم والحكم عليها.

هناك فرق بين الحكم الجمالي الاستطيقي والحكم الفني؛ فيعرف الحكم الاستطيقي بأنه إطلاق الأحكام الجمالية على الأشياء من حولنا والتي قد لا تكون بالضرورة قطعا فنية. أما بالنسبة للحكم الفني فالأمر مختلف بعض الشيء، إذ تنصب الأحكام الجمالية على القطع الفنية دون سواها؛ لذا تعتبر الاستطيقا فلسفة أشمل ولها منظور أوسع من فلسفة الفن. كما تتيح فلسفة الاستطيقا للناقد الجمالي التعبير عن مدى استحسانه أو استيائه للأعمال الفنية أو الترفيهية بعكس فلسفة الجمال التي تدور حول مفهوم الاستحسان فقط.

يطرح فلاسفة الاستطيقا ودارسوها مجموعة من الإشكالات والتساؤلات المتعلقة بموضوعات هذه المدرسة الفلسفية، ومن بينها: ماهو العمل الفني؟ وما السمات التي تجعله عملا فنيا ناجحا؟ لماذا نجد الأشياء جميلة من حولنا؟ ولم تتساوى القيم الجمالية عند الحكم على أشياء مختلفة؟ هل هناك ترابط بين الفن والأخلاق؟ وهل من الممكن أن يوصلنا الفن إلى الحقيقة؟ وكيف تصنف الأحكام الجمالية؟ أهي أحكام موضوعية أم ذاتية خاضعة لأهواء شخصية؟ وأخيرا هل من الممكن التحسين من الحكم الجمالي أو تدريب الملتقي لكي يتعرف على مواطن الجمال والقبح في الأشياء بطرق سليمة؟ من الممكن أن نلخص مبادئ هذه الفلسفة في أنها تبحث عما يجعلنا ننعت تجاربنا الجمالية بصفات معينة فمثلا قد نحكم عليها بأنها تجارب جميلة أو مقدسة، مقززة أو ممتعة، ظريفة أو سخيفة، مسلية أو منفرة، متجانسة أو مملة، سارة أو حزينة.

**على الرغم من اعتماد ترجمة (Aesthetics) في بعض الكتب المترجمة إلى (علم أو فلسفة الجمال)، إلا أن البعض فرق بين معنى فلسفة الجمال (Philosophy of Beauty) ومعنى الجمال من منظور استطيقي. لذا فضلت المترجمة الحفاظ على ترجمة  (Aesthetics) إلى الفلسفة الاستطيقية للجمال كما هو معمول به في بعض الكتب في هذا المجال؛ خشية الخلط بين هذين المفهومين.

 

الأحكم الجمالية:

يعتمد الحكم على القيمة الجمالية مبدئيا على قدرتنا في تمييز الأشياء حسيا، لكن الأمر معقد بعض الشيء، فعند الحكم الجمالي، تتداخل الجوانب الحسية والشعورية والفكرية معا.

يعتقد إيمانويل كانط بموضوعية الحكم الجمالي وعالميته، فقد يجمع الجنس البشري على جمال شيء معين، لكن هناك عامل مؤثر في الحكم الجمالي ألا وهو الذوق الشخصي والذي دائما مايكون ذاتيا ومحكوما بالطبقة الاجتماعية التي ينتمي إليها المتلقي وخلفيته التعليمية والثقافية.

يمكن القول بأن جميع الأحكام الجمالية هي أحكام تابعة لعوامل ثقافية إلى حد ما. من المحتمل أن تخضع الأحكام الجمالية للتغيير مع مرور الوقت، فمثلا رأى البريطانيون في العصر الفكتوري أن المنحوتات الإفريقية قبيحة، لكن وبعد قرون قليلة وفي العهد الادواردي تحديدا أجمع البريطانيون على جمال نفس هذه المنحوتات.

 

قناع منحوت من جمهورية الغابون

ترتبط القيم الجمالية بالأحكام المتعلقة بالقيم السياسية والاقتصادية والأخلاقية، فقد نحكم على سيارة ثمينة بأنها جميلة لأنها تعتبر رمزا للطبقة الاجتماعية الرفيعة، وقد نراها رمزا سيئا يمثل الهوس الاستهلاكي ويسيء إلى قيمنا السياسية والأخلاقية الرفيعة.

يتساءل الفلاسفة الاستطيقيون عن السر خلف تطابق الأحكام الجمالية بين البشر بالرغم من اختلاف الأشياء من حولنا، فقد يشمل التفضيل الجمالي الأشخاص والمنازل والموسيقى والعطور بل وحتى المسائل الرياضية، لكن ما السمات المشتركة بين كل هذه الأشياء والتي جعلتها تتشارك نفس القيمة الجمالية؟

يجب ألا نغفل ضبابية التعابير اللغوية وانعدام دقتها عند التصريح بالأحكام الجمالية، التي دائما ما تؤدي إلى الوقوع في حيرة كبيرة. فعلى سبيل المثال، قد يصف شخصان حالتان شعوريتان مختلفان بتعبيرين متطابقين، أو على النقيض قد يستخدما تعبيران مختلفان لوصف حالة شعورية واحدة.

 

ما الفن؟

ظل استخدام مصطلح (الفن) لسنوات قريبة محصورا في الدلالة على الفنون الإبداعية أو الفنون الجميلة، وقد يستخدم أيضا لوصف إبداع الفنان، أو لوصف الحالة التي يغوص فيها الجمهور في الأحاسيس الجمالية، أو ربما للفت نظر المتلقي إلى جمال أخاذ آخر في عمل فني مغاير. يستخدم مصطلح (الحرفة) بدلا من (الفن) إذا ما كانت صناعة العمل الفني متواضعة أو حتى عملية. أما إن أردنا وصف المهارة من منظور تجاري أو مهني، فإننا نستخدم مصطلح (التصاميم أو الفنون التطبيقية). ويرى البعض أن الفرق بين الفنون الجميلة أو الفنون التطبيقية يتعلق بالحكم على القيم الجمالية أكثر من كونها فروقا دلالية بين المصطلحين.

لن نستطيع الجزم أن الفنون تدور دائما في فلك الجمال خصوصا بعد ظهور الحركة الدادانية مطلع القرن العشرين. يرى البعض بأن الفن يتواجد أينما بُنيت مدارس الفنون وانخرط بها الفنانون الذين لا يلقون بالا لتعاريف الفن ولكل الاختلافات الدلالية لشرح مصطلح الفن، وهو ما يعرف بالتعريف المؤسسي للفن.

لم يحبذ بعض الفلاسفة وعلى رأسهم جون ديوي وصف العمل بأنه فني لسماته وميزاته، أو لتوضيح ردة فعل المتلقين من أفراد ومؤسسات، ورأوا بأن الفن يجب أن يبقى محصورا لوصف عملية صنع العمل الفني.  فمثلا إن أراد شاعر أن ينظم قصيدة، يجب عليه إتباع أحد أساليب نظم الشعر؛ ليصبح ما كتبه شعرا حتى وإن لم يرض ذائقة الشعراء الآخرين.، لكن إن كتب صحفي الكلمات نفسها بأسلوب نثري، عندها لن يكون النص نصا شعريا. من زاوية أخرى، يرى ليو تولستوي (1915-1985) وآخرون أن ما يجعل العمل فنيا هو ردة فعل المتلقي تجاهه وليست نية صانعه هي ما تجعله فنا.

ويعتقد الفلاسفة الوظيفيون مثل مونرو بيردسلي (1915-1985) أن وصف آنية شرب معينة-على سبيل المثال- على أنها عمل فني أو دون ذلك هو أمر مقرون بوظيفتها في سياق محدد؛ فالأواني اليونانية قد تستخدم لحفظ الشراب وفي هذه الحالة لا تصنف كعمل فني؛ لوظيفتها النفعية، وقد تصنف هذه الآنية كقطعة فنية أخاذة في سياق آخر.

لنتخيل تجربة حضور عمل مسرحي لشرح كيفية تأثير المستويين الميتافيزيقي والانطولوجي عند الحكم على التجربة الجمالية، هل سنحكم حينها على العمل الفني في مجمله؟ أو سنحكم على جودة كتابة النص المسرحي؟ أو على الإخراج أو مكان عرض المسرحية؟ أو على أداء الممثلين أو على أزيائهم؟ ينطبق الأمر ذاته على الموسيقى  والرسومات،  ومع ظهور حركة الفن التصوري أو المفاهيمي في القرن العشرين أضحت مشكلة الحكم على العمل الفني أكبر،  فمثلا ما السمة التي نحكمها عليه جماليا عند النظر إلى علب بريللو التي صممها آندي وارهول.؟

 

علب بريللو

يطرح فلاسفة الاستطيقا أسئلة حول القيمة التي يضيفها الفن لحياتنا وفائدته في اكتساب المعارف. فهل يُنظر إلى الفن كأداة تعليمية لتلقين الفنون ورفع مستوى الثقافة؟ أم ماهو إلا نوع من السياسة؟ هل يعطينا الفن الفرصة للوقوف على الوضع الإنساني؟ وهل يجعلنا أخلاقيون؟ ماذا عن إسهامات الفن الروحية، هل يعيننا على الوصول إلى السمو الروحي؟ وهل تختلف النظرة إلى القيمة الفنية بين الفنان وجمهوره؟ بين الفرد والمجتمع؟

جماليات عالمية

حدد الفيلسوف الأمريكي المعاصر دنيس دوتون – المولود عام 1944- سبع مفاهيم عالمية تتشاركها الجماليات الإنسانية، والتي تعتبر نقطة انطلاق جيدة لفهم أركان هذه الفلسفة على الرغم من وجود عدد من الاستثناءات والاعتراضات على بعضها:

  • يدرك البشر أهمية المهارات الفنية وضرورة تنميتها وحذقها.

  • الاستمتاع بالفنون هو سلوك غير نفعي؛ فيستمتع المتلقي بالفن لأجل الفن، دون الطمع في جني بعض الفوائد العملية.

  • لكل نوع فني نمطه الفريد وقانون صنعه الخاص الذي لا بد لكل فنان أن يتبعه، وهو ما يعرف بالأسلوب الجمالي.

  • يحدث ما يعرف بالنقد الجمالي عندما يحكم المتلقي على مواطن الكمال أو النقص في عمل ما أو عند إظهار تقديره لهذا العمل أو تحليله.

  • الفن محاكاة؛ فالفنون تحاكي الخبرات البشرية، لكن نستثني بعض ضروب الفنون كفنون الرسم التجريدي والموسيقى التي تساهم في تكوين خبرات جديدة بين البشر.

  • ينزوي الفن بنفسه عن شؤون الحياة الاعتيادية ويتفاعل مع الخبرات الإنسانية باهتمام وعمق شديدين.

  • الغوص في الخيال الجمالي وخلق عوالم افتراضية خيالية، وهذا ما يبرع فيه الفنانون والجمهور على حد سواء.

تاريخ فلسفة الاستطيقا:

رأى الفلاسفة اليونانيون القدماء أن الأشياء تتمتع بجاذبية جمالية لذواتها وليس لما يسقطه المتلقي عليها. فيعتقد أفلاطون بأن الأشياء الجميلة تتمتع بقدر عال من التناسق والانسجام بين أجزائها الصغرى. ويعتقد أرسطو أن لكل عمل جميل ثلاث مبادئ أساسية وهي مبدأ النظام والتماثل والوضوح.

يحكم المسلمون بتواضع الأعمال الفنية عند مقارنتها بمخلوقات الله، وأن أية محاولة في صنع أعمال فنية تصور ذوات الأرواح من بشر وحيوانات هي محاولة فاشلة لمقارعة حسن خلق الله. هذا الأمر قد أسهم في الحد من وفرة الأعمال الفنية الإسلامية، وجعلت الاهتمام ينصب على فنون الفسيفساء والخط والعمارة والرسومات الهندسية والنباتية. أما الفن الهندي فقد تمحور حول تعزيز الجانب الروحي والفلسفي للمتلقي ولا يخلو هذا الأمر من توظيف للرمزية لتحقيق هذا الغرض.

لو عدنا إلى الوراء وتحديدا إلى القرن الخامس قبل الميلاد سنجد أن فلاسفة الصين قد تطرقوا لموضوع الجمال الاستطيقي، فشدد كونفيشوس (479-551 ق.م) على دور الفنون والعلوم الإنسانية، وخصوصا الموسيقى والشعر في توسيع المدارك البشرية. وهذا عكس ما رآه مواطنه موزي (391-470 ق. م) الذي ناقش طبقية الاستهلاك الفني وانعدام الفائدة على عوام الناس باستثاء الأغنياء، وهم المستفيدون الوحيدون من هذه الفنون.

تأثر الفن الغربي في العصور الوسطى بالأفكار الدينية قبيل إحياء التراث اليوناني القديم خلال عصر النهضة الأوروبية. وقد سيطرت الكنيسة على صناعة الفن ومولتها إلى جانب دعم المنتمين إلى الكنيسة من ذوي النفوذ أو رعاة الأبرشية الأغنياء، فقد حظيت المواضيع الدينية بمستوى رفيع وقُدمت على الجماليات الفنية أو الخيال الفني. وساد الاعتقاد آنذاك بأن المهارات الحرفية هي هبات ربانية وجدت لخدمة غرض أوحد وهو إثبات وجود الله.

ومع حدوث النقلة في الفلسفة الغربية في القرن السابع عشر وحتى العصر الحالي، أكد المفكرون الألمان والبريطانيون على وجه الخصوص أن الجمال عنصر أساسي للفن وللخبرة الجمالية، وأن الفنون في الأساس تدور حول مفهوم الجمال. ويرى الفيلسوف الألماني فريدريك شيلر (1759-1805) بأن التقدير الاستطيقي للجمال يعني التصالح التام بين الجوانب الحسية والعقلانية للطبيعة البشرية. يعتقد هيجل بأن الفن هو المرحلة الأولى لجعل الروح المطلقة تعي ذاتها مباشرة وبصورة حسية؛ لذا يعتقد هيجل بموضوعية التجربة الجمالية أكثر من كونها تجربة ذاتية صرفة. أما بالنسبة لشوبنهاور، فيعتقد بأن الدراسة الاستطيقية للجمال هي من أكثر التجارب حرية وصفاء والتي يمكن للعقل النقي أن يحظى بها.

يرى الحدسيون البريطانيون أمثال أنتوني كوير(1671-1713) -إيرل شافتسبري الثالث- بأن الجمال هو المقابل الحسي للأخلاقيات. وعبر الكثير من المنظرين التحليلين أمثال لورد كيمس (1696-1782) وويليام هوجرت (1697-1764) و إدموند بيرك عن أمنيتهم في حصر أبرز سمات الجمال كمعايير يستعين بها النقاد عند دراسة التجربة الجمالية، بينما ربط البعض الجمال بعدد من نظريات علم النفس وعلم الأحياء من بينهم جيمس ميل (1773-1836) وهربرت سبنسر (1820-1903).

 

 

المصدر