مجلة حكمة

قَضِيَّةٌ مُوجِعَة – تأليف: جيمس جويس / ترجمة: مروان الرشيد

mrwan
مروان الرشيد

عاش السيد جميس دوفي في تشابلزود لأنه كان يريد أن يكون أبعد ما يكون عن المدينة التي كان من سكانها، ولأن بقية ضواحي دبلن كان من شأنها – في نظره – الانحطاط والحداثة والغرور. لقد عاش في منزل كئيب قديم تُطل نوافذه على معمل تقطير مهجور، وعلى النهر الضحل الذي بُنيت على ضفافه مدينة دبلن. كانت الحوائط الرفيعة في غرفته، الغير مفروشة بالسجاد، عارية من الصور. ولقد ابتاع بنفسه كل قطعة أثاث في الغرفة: السرير الحديدي الأسود، والمغسلة المعدنية، والكراسي الأربعة القصبية، ومعلقة الملابس، ودلو الفحم، وسياج الموقد، والطاولة المستطيلة ذات الدُرْجين. وفي كوة في الجدار وضع خزانة كتب مصنوعة من خشب أبيض. كان السرير مغطا بشراشف بيضاء، وسجادة قرمزية سوداء عند موضع الأرجل. وكان هنالك مرآة يدوية معلقة فوق المغسلة، وليس على رف الموقد من زينة إلا سراج موشح بالبياض لا يستبين إلا أثناء النهار. كانت الكتب في خزانة الكتب الخشبية البيضاء مرتبة من الأسفل إلى الأعلى وفقا لحجمها؛ أسفلها الأعمال الكاملة لووردزورث، وأعلاها كُتيِّب عقيدة لُفَّ في غلاف كراسة. وكان ثمة على الدوام أدوات كتابة على الطاولة. وفي درج الطاولة توجد ترجمة مسرحية مايكل كرِيْمَر لهاوبتمان على هيئة مخطوطة، مع التوجيهات المسرحية مكتوبة بحبر أرجواني، وحزمة صغيرة من الأوراق ممسوكة بدبوس نحاسي؛ على هذه الأوراق كان يُدوِّن جملة من وقت إلى الآخر؛ وعلى نحو ساخر ألصقَ إعلان أقراص عسر هضم على الصفحة الأولى. وتنبعث، عند رفع غطاء الطاولة، رائحة خفيفة في الأجواء: رائحة أقلام رصاص صنعت لتوها من خشب الأرْز، أو قنينة من الصمغ، أو ربما تفاحة دبَّ فيها العفن ونُسيت هاهنا.

لقد أبغض السيد دوفي كل ما من شأنه أن يكون علامة على اعتلال بدني أو عقلي. ولو أن طبيبا من القرون الوسطى رآه لوصفه بكآبة المزاج. كان وجهه، الذي ارتسمت عليه قصة حياته، مصطبغا بسحنة شوارع دبلن السمراء، ونبت في رأسه المستطيل شعر أسود جاف، وشارب مشوب بالصفرة لا يكاد يغطي فمه الدميم. كذلك اسبغت وجنتيه على وجهه ملمحا قاسيا، لكن لم تك في عينيه – اللتان تحدقان إلى العالم من تحت حاجبين أصفرين – قسوة، وإنما انطبع فيهما أن صاحبيهما رجل مستعد لرؤية الخير في الأخرين لكنه طالما خاب أمله فيهم. ولقد عاش حياته منفصلا عن جسده بعض الانفصال، واضعا افعاله موضع ملاحظة وشك على الدوام. وقد كانت له عادة غريبة في رؤيته لنفسه، قادته، من وقت إلى آخر، إلى أن يؤلف في عقله جملة عن نفسه بضمير الغائب وصيغة الماضي. ولم يكن يمنح الصدقات للسائلين، وكان يسير بحزم، ويحمل عصا عريضة من خشب البُندق.

لقد عمل لسنوات طِوال محاسبا في بنك خاص على شارع باغوت. يأتي كل صباح من تشابلزود على متن الترام. وفي الظهيرة يتغدى في مطعم دان بُرك: كوب كبير من البيرة، وصينية صغيرة ممتلئة من البسكويت. وفي الرابعة ينتهي دوامه ويطلق سراحه. يتعشى في مطعم بشارع جورج، حيث يشعر هناك أنه بمنأى عن شباب دبلن الطائش، وعن الغش في الأسعار. وكان يقضي لياليه إما أمام بيانو مالكة منزله، وإما سائحا في أطراف المدينة. وقد يجلبه حبه لموزارت إلى الأوبرا أو المسرح؛ وهما الشيئين الوحيدين اللذان ينغمس فيهما انغماسا تاما في الحياة.

لم يكن له صاحب ولا خليل، لا عقيدة ولا مذهب. لقد عاش حياته الوجدانية بمنأى عن الآخرين، لا يزور قرابته إلا في الأعياد، ولا يرافقهم إلا في الجنائز. وما كان ليؤدي هذين الواجبين الاجتماعيين لولا وجهاء العائلة، ومع ذلك لم يسلِّم بأكثر من هذا للأعراف الاجتماعية والمدنية. وكان يحدث نفسه بأنه، إذا اقتضت الظروف، سيسطو على بنكه؛ لكن هذه الظروف لم تكن أبدا، وكانت حياته تسير على نمط واحد: حكاية بغير مغامرات.

وفي إحدى الليالي، وجد نفسه جالسا إلى جانب سيدتين في المسرح. كان خلو المسرح من الناس يُنذر بفشل الأمسية. تلفَّتت السيدة الجالسة إلى جانبه مرتين أو ثلاثة مرات، ثم قالت: “يا للأسى، ما من أحد هنا الليلة! من الصعب الغناء على مسامع مقاعد فارغة”. واعتبر صاحبنا التعليق دعوةً للكلام. وتفاجأ بعدم شعور السيدة بالحرج. وبينما كانا يتحدثان، حاول تثبيت صورتها في ذاكرته بإحكام. وعندما علم أن الفتاة الشابة التي معها هي ابنتها، استنبط أن السيدة تَصْغُره بعام أو بعض عام. لقد امتاز وجهُهَا بالذكاء، ولا بد أنه كان يتسم بالجمال فيما مضى. كان بيضاويا وذا ملامح حادة. أما عيناها فكانتا ثابتتين، ذواتا زرقة داكنة، تحدقان أول الأمر بتحد لكنهما لا تلبثان أن تُفصحا عن رقة هائلة عندما تنتشر حدقيتيهما في البؤبؤين. لكن عندما تعود العينان لحالتيهما الأصيلة، تتراجع هذه الرقة، التي لا تكاد تُرى، وتظهر نظرة حصيفة رزينة؛ ثم إن معطفها المصنوع من فرو الماعز، والمسبوك سبكا على صدر له بعض الامتلاء، يؤكِّد نبرة التحدي أكثر ما يكون التحدي.

قابلها مرة أخرى في أمسية موسيقية في إيرلزفورت تراتس، واستغل لحظات شرود ابنتها لتعزيز علاقتِه بها. ولقد ألمحت مرة أو مرتين إلى زوجها، لكن نبرتها لم يكن فيها ما يجعل التلميح تحذيرا. كان اسمها السيدة سينيكو. لقد جاء جد زوجها إلى هنا من إيطاليا. وكان زوجها يعمل قبطانا لمركبة تجارية تتردد بين دبلن وهولندا. وكان لهما طفل واحد.

عندما قابلها صدفة للمرة الثالثة، واتته الشجاعة أن يواعدها. وقد جاءت؛ وكان هذا اللقاء الأول في لقاءات عديدة. كانا يلتقيان دوما في المساء، ويختاران اهداء الأحياء ليتجولا فيها معا. لكن السيد دوفي كان مبغضا للأساليب الملتوية، فألزمها أن تدعوه للمنزل بعدما تبين له أنهما مضطرين للقاء في الخفاء. وشجَّع القبطان زياراته ظنا منه أن يد ابنته هي المقصودة بهذه الزيارات؛ فهو قد ضرب صحفا عن زوجته في معرض لذائذه إلى درجة أنه لم يتصور أن هنالك من قد يبدي اهتمامه بها. وقد أتيحت للسيد دوفي العديد من المناسبات، بسبب غياب الزوج وانشغال الابنة بإعطاء دروس في الموسيقى، للخلو بالسيدة؛ ولم يكن لأي منهما تجارب شبيهة سابقا، ولم يجدا أيضا في ذلك من حرج. وبمرور الوقت، تعالقت أفكاره بأفكارها، وصار يعيرها كتبه، ويقدم لها أفكاره، ويُشْرِكُها حياته العقلية؛ أما هي فكانت تنصت إلى كل ما يقوله.

أحيانا، كانت ترد على نظرياته بأن تطلعه على حقيقة من حقائق حياتها. وبعناية أمومية دفعته إلى أن يكون على سجيتها كيفما كانت هذه السجية؛ وصارت هي كاهن الاعتراف الذي يودعه الأسرار. أخبرها بأنها، لبعض الوقت، كان يساعد في اجتماعات الحزب الاشتراكي الإيرلندي، وفيها أحس بأنه شخص ممتاز وسط ثلة من العمال الرصينين، في حجرة ليس فيها إلا مصباح زيتي لا يكاد يُبين. وعندما تفرق الحزب إلى ثلاث فرق، كل فريق له قائده وحجرته، ما عاد يحضر الاجتماعات. قال، بأن أحاديث العمال شديدة الجُبْن، وأن اهتمامهم بقضية الأجور كان مغالى فيه. لقد شعر بأنهم شديدو الواقعية، وأنهم كارهون للدقة التي هي ثمرة ليسر العيش الذي ليس في متناولهم. وأخبرها أنه ما من ثورة اجتماعية ستضرب دبلن لعدة قرون.

سألته، لما لا يُودِع أفكاره على الورق؟ سألها، باستحقار موزون، لماذا يكتبها؟ لينافس تُجار الكلام الذين ليس بمقدورهم التفكير تفكيرا متواصلا يزيد على ستين ثانية؟ ليعرِّض نفسه لنقد طبقة وسطى بليدة تقيم رجل الشرطة حارسا لقيمها وتستأمن قادة الفرق الغنائية على فنها؟

صار يتردد كثيرا على كوخ لها خارج دبلن، وكان كثيرا ما يقضيان المساء لوحديهما. وشيئا فشيئا، تشابكت أفكارهما، وصارا يتحدثان بموضوعات متشابهة. وكان لرفقتها، عليه، أثر كأديم خصب على أرض بوار. وكانت في العديد من المرات لا تبادر إلى إشعال المصباح عندما يُخيِّم عليهما الظلام؛ فكان الظلام يلقي عليهما ستارا من الكتمان، فيتوحدان في العزلة، والموسيقى ما يزال يرن جرسها في الآذان. ولقد سما به هذا التوحد، ولطف خشونة طبعه، وأغدق مسحة عاطفية على حياته الذهنية. ولقد وجد نفسه مرارا منصتا إلى صوته. وظن أنه قد علا في عينيها إلى مرتبة ملائكية. ولكنه كلما ازداد اتصلا بطبيعة رفيقته المتوقدة، تناهى إليه صوت غريب – هو صوته – يُذكِّره بعزلة الروح التي لا بُدَّ منها ولا مفر. يقول الصوت: ليس لنا أن نمنح أنفسنا لأحد، فنحن مِلْكُ أنفسنا. ولقد كانت نهاية هذه النجوى المتكررة أن أظهرت السيدة سينيكو، في إحدى الليالي، حماسة غير معتادة؛ فقبضت على يده بانفعال، وضغطتها على خدها.

كان السيد دوفي في غاية الاندهاش. وقد حرره تأويلُها لكلماته من الأوهام. ثم أنه لم يزرها لمدة أسبوع، ثم بعث إليها برسالة يطلب فيها لقاؤه. ولأنه لم يرد للقائهم الأخير أن يفسد باعترافات الخلوات التي اعتادا عليها، قابلها في مقهى صغير بالقرب من باركغيت. كان الطقس خريفيا باردا، لكن على الرغم من هذا البرد تجولا لساعات ثلاث في طرقات الحديقة. اتفقا أن يقطعا كل علاقة بينهم؛ لقد قال: إن كل علاقة بيننا، ولا مناص، تقود إلى الأحزان. وعندما فارقا الحديقة، سارا إلى الترام والصمت يجللهما؛ ولكن حينئذ بدأت هي بالارتعاش على نحو شديد، ففارقها، خشية أن تنهار مرة أخرى، بعد أن ودعها على استعجال. وبعد أيام جاءه بريد يحوي كتبه وموسيقاه.

مرت سنوات أربعة. وقد عاد السيد دوفي إلى نمط حياته المألوف. ولم تزل غرفته شاهدة على نظامه العقلي. لقد اثقلت قطع موسيقية جديدة رف الموسيقى السفلي، وانضم لرف الكتب كتابين لنيتشه هما: هكذا تحدث زرادشت، والعلم المرح. وما عاد يكتب على الورقات المبثوثة على الطاولة إلا قليلا. تقول إحدى الجُمل، التي كتبها بعد فراقه للسيدة سينيكو بشهرين، التالي: “الحب بين الرجل والرجل محال لأنه ليس ممكنا وجود علاقة جنسية، والصداقة بين الرجل والمرأة محالة لأنه يجب أن تكون علاقة جنسية”. ولم يعد يتردد على المسارح، خشية أن يلتقيها. وقد مات والده، وتقاعد الشريك الصغير في البنك. ولا زال في كل صباح يمتطي الترام ذاهبا إلى المدينة، ويعود في المساء إلى بيته مشيا بعد أن يتناول وجبة معتدلة في شارع جورج، ويقرأ جريدة المساء كتحلية.

في إحدى الأمسيات، بينما كان يَهمُّ بوضع لقمة من لحم البقر والملفوف في فمه، تجمَّدت يده. وتعلقت عيناه، رغما عنه، على فِقْرة في جريدة المساء التي اسندها إزاء قنينة المياه. أعاد اللقمة إلى الطبق، وقرأ الفِقْرة باهتمام. ثم اجترع كوبا من الماء، ودفع طبقه جانبا، وطوى الصحيفة أمامه بين مرفقيه، وقرأ الفِقْرة مرة تلوى مرة. وبدأ يترسب من الملفوف دهن أبيض بارد. وجاءته الفتاة تسأل ما إذا كان عشاءه مطبوخا على نحو لائق. فقال لها إنه غاية في الجودة، وأكل لقيمات منه بصعوبة. ثم إنه دفع الفاتورة، وخرج.

سار سريع الخطى في غسق شهر نوفمبر، وعصاه الخشبية تقرع الأرض على نحو منتظم، والجريدة المنتفخة تُطلُّ من جيب سترته الضيقة غليظة القماش. وفي الطريق المهجور الذي يقود من باركغيت إلى تشابلزود، خف وقع سيره، وما عادت ضربات عصاه على الأرض لها القوة نفسها، وصارت أنفاسه المضطربة – التي باتت تشابه أنينا وتأوها – تتكثَّف في الهواء الشاتي. وعندما وصل منزله، صعد على الفور إلى غرفته، واخرج الصحيفة من جيبه، وجعل يقرأ الفِقْرة على ضوء الغروب الداخل من النافذة. لم يقرأها جهارا، لكنه حرَّك شفتيه كقس يردد التعاويذ والأدعية. تقول الفِقْرة:

موت سيدة في محطة سيدني
قضية موجعة
قام اليوم، في مستشفى مدينة دبلن، نائب محقق الوفيات (في غياب السيد لَفرت) بإجراء تحقيق على جثمان السيدة إيميلي سينيكو، البالغة من العمر ثلاثة وأربعين سنة، التي وافتها المنية في محطة قطار سيدني مساء الأمس. وأظهر الدليل أن السيدة المتوفاة، بينما كانت تحاول عبور السكة، ارتطم بها مُحرِّك قطار العاشرة مساء القادم من كينغزتاون، وهكذا أصيبت بجروح بليغة في الرأس والجانب الأيمن، أودت بها إلى الوفاة.
وصرح جيمس لَنون، سائق القطار، الذي يعمل في شركة القطارات منذ خمسة عشر عاما، أنه عند سماع صافرة الانطلاق حرَّك القطار ثم أوقفه بعد ثانية أو ثانيتي عندما تناهت إليه الصرخات. وقد كان القطار حينئذ يسير ببطء.

وقال بي. دُن، حمَّال القطار، إنه بينما كان القطار على وشك التحرك شاهد امرأة تهم بقطع السكة، وأنه جرى نحوها وصاح، لكن قبل أن يبلغها كان صدَّام القطار قد دهمها وطوَّح بها إلى الأرض.

سأل أحد أعضاء هيئة محلفين: “رأيت السيدة أثناء وقوعها؟”
الشاهد: “أجل”.

وشهد رقيب الشرطة كرولي إنه حين وصوله وجد جثمان الفقيدة مسجى على الرصيف، وبدت له ميتة. وقام بأخذ الجثمان إلى غرفة الانتظار ريثما يصل الإسعاف.
وأكَّد الشرطي رقم 57 كلامه.

وقال السيد هابلن، الجراح المساعد في مستشفى مدينة دبلن، إنه قد تحطم ضلعين من ضلوع الفقيدة السفلى، وتهشم كتفها الأيمن. وقد أصيب رأسها أثناء الوقوع. وقال إن هذه الإصابات ما كانت لتسبب الوفاة في شخص طبيعي، وإن الوفاة حدثت – وفقا لرأيه – على الأرجح بسبب الصدمة والفشل المفاجئ لوظائف القلب.

وأخيرا، عبَّر السيد بي. أتش. باترسون، نيابة عن شركة القطارات، عن بالغ أسفه حيال الحادثة. وإن الشركة دائما ما اتخذت كل احتياط لمنع الناس من قطع السكة، إلا من خلال الجسور، بوضع تنبيهات في كل محطة، وباستخدام بوابات واضحة للعيان على جانبي السكة. وإنه كان من عادة الفقيدة قطع السكك في الليل أثناء انتقالها من رصيف إلى آخر، وأنه بالنظر إلى ملابسات القضية، فإنه لا يعتقد أن اللوم يلحق موظفي شركة القطارات.

كذلك قدم القبطان سينيكو، القاطن في لوفيل، وزوج الفقيدة، شهادته في القضية. فصرح بأن الفقيدة زوجته، وأنه لم يكن في دبلن وقت الحادثة، حيث لم يصل إلى هنا إلا صباح هذا اليوم من روتردام. وأنهما كانا متزوجين منذ اثنين وعشرين سنة سادت فيها السعادة، إلا في السنتين الأخيرتين، إذ صارت زوجته مسرفة في عاداتها وطبائعها.

وقالت الآنسة ماري سينيكو إن والدتها الراحلة اعتادت على الخروج في الليل لشراء المشروبات الروحية. وشهدت بأنها دائما ما حاولت اقناع والدتها بالإقلاع عن الشراب، وحثتها على الالتحاق برابطة للتعافي من الخمور. وإنها لم تكن في المنزل حتى ساعة من وقوع الحادثة. وقد عادت هيئة المحلفين بحكم يتوافق والدليل الطبي، وبرَّأت لَنون من كل مسئولية.

وقال نائب محقق الوفيات أن القضية موجعة للغاية، وأنه يبدي عظيم عطفه تجاه القبطان سينيكو وابنته. كذلك حثَّ شركة القطارات اتخاذ كل ما من شأنه أن يحول دون تكرار حوادث شبيهة في المستقبل، وأنه لا يلوم أحدا على هذه الحادثة.

رفع السيد دوفي عينيه من الصحيفة، وأطلق بصره، من خلال النافذة، تجاه منظر غروب كئيب. كان النهر ينساب بسكينة على جانب معمل التقطير المهجور، ومن وقت لآخر يضيء نور من بيت على شارع لوكان. يا لها من نهاية! أصابته حكاية موتها، أجمعها، بالاشمئزاز، واشمأز من أنه استودعها أغلى وأعز ما يملك. وأمغصت بطنه العبارات المبتذلة، وتعابير التعاطف التافهة، والكلمات الحذرة من مراسل نجح بإخفاء تفاصيل حادثة موت معتادة وذليلة. وهي لم تنحط بنفسها وحسب، وإنما حطت منه كذلك. لقد رأى أثر رجسها البائس النتن. تلك التي ظنها رفيقة روحه! لقد تذكر أولئك العرجان المتاعيس الذين يراهم يحملون قواريرا وعُلبا ليملأها لهم ساقي الحانة خمرا. ربها، يا لها من نهاية! من الجلي أنها لم تك صالحة للحياة، وأنها كانت بلا غاية ولا هدف، وأنها ضحية سائغة للعادات، إحدى الأمراض التي شبَّت عليها الحضارة. لكن أن تنزل إلى هذه الخساسة! هل من الممكن أنه قد خادع نفسه على نحو تام حيالها؟ لقد تذكر هيجانها تلك الليلة، وأوَّله على نحو أقسى مما أوَّله مسبقا. وما عاد الآن يجابه أية صعوبة في تقبُّل المسلك الذي اتخذه تجاهها.

وبينما خيَّم الظلام، وأخذت ذاكرته بالشرود، شعر بيدها تمس يده. فأوجس أن الصدمة التي شعرها في بطنه بدأت تصيب أعصابه. ارتدى معطفه وقبعته على عجل، وغادر المنزل. لاقاه الهواء البارد على عتبة الباب، وانساب في أكمام معطفه. وعندما وصل إلى الحانة في تشابلزود، دخل وطلب خمرة ساخنة.

عامله مالك الحانة بعناية، لكنه لم يكلمه. كان هنالك خمسة أو ستة عمال في الحانة يتناقشون حول قيمة عقار أحد السادة في مقاطعة كيلدير. وكانوا يشربون شربا متقطعا من أقداح كبيرة، ويدخنون، ويبصقون كثيرا على الأرض، وأحيانا يحثون نشارة الخشب على بصاقهم بأحذيتهم الثقيلة. جلس السيد دوفي على مقعده يحدق فيهم، دون أن يراهم أو يسمعهم. وبعد برهة خرجوا، وطلب هو كوبا آخر من الخمرة الساخنة. واستغرق مدة طويلة في شربه. وكانت الحانة هادئة. وقد أتكأ المالك على المنضدة، يقرأ جريدة ويتثاءب. ومن حين لآخر يُسْمعُ صوت ترام يمر وله هسيس في الطريق الخالية أمام الحانة.
وبينما هو جالس هناك، يستذكر حياته معها، ويستحضر الصورتين اللتين صار ينظر من خلالهما إليها؛ أدرك أنها ماتت، وأنها ما عادت تُوجَد، وأنها صارت ذكرى. وبدأ يشعر بالاضطراب. وسأل نفسه ما الذي كان يمكن أن يفعله. كان بمقدوره ألا يستمر بمهزلة الخداع معها، إذ لم يكن ممكنا أن يعيش معها في العلن. لقد فعل ما بدى له أنه الأصلح. فكيف يمكن لومه؟ والآن بعدما غادرت الحياة، استوعب كم كانت حياتها موحشة، وهي تجلس، ليلة تلو ليلة، وحيدة في تلك الغرفة. حياته أيضا ستكون موحشة، حتى يموت، ولا يعود له وجود، ويصير ذكرى – هذا إن تذكره أحد.

كانت الساعة قد جاوزت التاسعة حين غادر الحانة. كان الليل باردا وكئيبا. ولج الحديقة من أول بوابة وسار تحت الأشجار الهزيلة. ومشى في خلال الأزقة الموحشة التي سارا فيها قبل أربعة سنوات. ولقد بدى أنها إلى جانبه في العتمة. ولحظات شعر بصوتها يلامس أذنيه، ويدها تلمس يده. وقف يُنصت. لماذا منعها الحياة؟ لماذا حكم عليها بالموت؟ وشعر بأن ضميره يتهافت.

عندما وصل قمة تلِّ ماغازين، وقف وجعل ينظر إلى النهر وصولا إلى دبلن، إلى تلك الأضواء التي تتوهج حُمرة وحفاوة. نظر إلى الأسفل، إلى سفح التل، في ظلال جدار الحديقة، وأبصر أشباحا بشرية مستلقية. وملأته هذه الغراميات الفاسدة والمختلسة بالقنوط. وتضايق من استقامته في الحياة، وشعر أنه منبوذ من وليمة الحياة. لقد أحبه إنسان، فحرم هذا الإنسان من حياته وسعادته؛ لقد حكم عليه بالهوان، وأماته في الخزي. لقد علم أن الكائنات المضطجعة أسفل الحائط تَرقبُه، وأنها تتمنى ذهابه. لا أحد يُريده، فلقد كان منبوذا من وليمة الحياة. وجَّها بصره إلى النهر الرمادي اللامع، المتعرج نحو دبلن. وراء النهر رأى قطار بضائع يخرج من محطة كينغسبريدج، كأنه دودة لها رأس من نار تخترق العتمة، بمشقة وعناد. غادر القطار ببطء مدى البصر، لكنه ما يزال يسمع صوت محركه المُجْهَد يكرر مقاطع اسمها.

عاد أدراجه، وصدى محرك القطار يطرق أذنيه. بدأ يشك بحقيقة ما تخبره ذاكرته. توقف تحت شجرة بانتظار أن يخمد الصدى. ما عاد يشعر بها إلى جانبه في الظلام، ولا يسمع لصوتها همسا في أذنيه. بقي لبضعة دقائق مصغيا أسماعه. ما عاد يسمع شيئا، وكان صمتا مطبقا. أصغى كرة أخرى: صمت تام. وشعر بالوحدة.

 

A Painful Case, by James Joyce