مجلة حكمة

تحليل النزعة التدميرية البشرية: إيريك فروم / قراءة: حميد لشهب.

erich fromm the anatomy of human destructiveness
غلاف الكتاب

خصّص المحلل النفسي وعالم اجتماع التحليل النفسي الألماني إيريك فروم كتابًا قائمًا بذاته لـ “تحليل النزعة التدميرية البشرية”، نشر عام 1973، وأعيد نشره في الأعمال الكاملة له، الجزء السادس سنة 1989 بميونيخ. ولا يُسَجَّلُ اهتمامنا بهذا الكتاب الضخم الذي قرأناه أكثر من مرّة إلى الإقبال العالمي الكبير على مؤلفات فروم، وبالخصوص من طرف محبي الحرية ومنتقدي المظاهر المزيفة للحياة المعاصرة، ولا لكونه أحد الكتاب القلائل الذي يتمتّع بدرجة عالية من المصداقية والإخلاص في كل ما يقدمه من أفكار وتصوّرات واستشراف للمستقبل. لم نهتم بهذا الكتاب فقط لأن فروم من بين المؤلفين الذين تعمدوا الوضوح والمباشرة وابتعدوا عن المراوغة والغموض والنظريات الفضفاضة، سواء في أسلوب كتابته أو في قوة الرؤى التي تطرحها كتاباته؛ بل إن هذا الاهتمام نابع من اعتقادنا الراسخ في أن هذا المؤلف أصبح من الأهمية بمكان في محاولة فهم أسباب “التدمير” الشامل الذي وصل إليه العالم، و بالخصوص في العالم المسلم.

ولد إيريك فروم يوم 23 مارس في عام 1900 في مدينة فرانكفورت. اشتغل كمحلل نفسي ابتداء من سنة 1926، والتحق بمدرسة فرانكفورت عام 1930، كرئيس لقسم السيكولوجية الاجتماعية. كما أنه كان من أعضاء الدائرة الماركسية للتحليل النفسي إلى جانب فيلهيلم رايخ وأوطو فينيخل. كان مضطرًا للهروب من ألمانيا بعد وصول النازيين للحكم، قاصدًا أمريكا، حيث عاش طويلًا، قبل أن يستقر في الميكسيك والرجوع النهائي إلى سويسرا، حيث مات يوم 18 مارس 1980.

التحق بالحزب الاشتراكي الأمريكي و شارك في التنظير له و صياغة برامجه الانتخابية. لكنه اعتزل السياسة ليتفرغ لعيادته وكتاباته ومحاضراته الكثيرة. و على الرغم من أنه عاش في أمريكا، فإنه لم يكن مدافعًا على النظام الأمريكي، كما أنه لم يدافع على النظام الشيوعي، على الرغم من أنه كان ماركسيا عتيدًا. بل وأكثر من هذا، مع أنه كان يهودي المولد، فإنه رفض الدفاع عن دولة إسرائيل عند قيامها، لأنه رأى فيها انحرافاً تاماً عن حقيقة اليهودية. بل استشرف النزعة التدميرية للصهيونية؛ للطريقة التي تأسست بها، لكونهم عندما شرعوا في بناء دولة خاصة بهم تحولوا من “مواضيع ظلم” إلى ممارسين له ضد الآخرين.

كعادته حرص فروم على التوضيح الدقيق للمصطلحات التي يستخدمها؛ لتجنب الخلط الشائع في الكثير من الكتابات التي اهتمت بالموضوع. ميّز بين العنف (la violence)، والعدوان (l‘aggréssion)، والتدمير (la destruction). أكّد على بديهة لا نقاش فيها، تتمثل في وجود العنف في كل المجتمعات البشرية وتمارسه بأساليب مختلفة. ويعطي أمثلة كثيرة عن هذا، كعنف الرجال ضد النساء والكبار ضد الصغار. إلا أن هذا العنف لا يتحوّل إلى عدوان، لأنّ له مؤسسات اجتماعية تنظمه وتحدّده وتمنع تحوله إلى عدوان. بينما ينتشر العدوان في صفوف نسبة أقل من المجتمعات البشرية. فالعدوان يكون موجهاً إلى الآخر، الذي ينتمي غالباً إلى جماعة مختلفة وهو نوعان:

–  عدوان دفاعي، ويقصد به المقاومة التي تصدر عن جماعة ضد عدوان تفرضه عليها جماعة أخرى.

–  عدوان هجومي، ويقصد به مبادرة جماعة إلى الهجوم على جماعة أخرى؛ لاحتلال أرضها أو سلب ممتلكاتها والسيطرة عليها أو حتى استعبادها.

يعتبر التدمير في نظره من أشد أنواع العدوان الهجومي تطرفاً و تدميرية. وهو لا يوجد إلا في نسبة قليلة نسبياً من المجتمعات والشخصيات البشرية. وفي نمط العدوان التدميري يكون هدف الجماعة هو قتل الآخر وإبادته، وليس مجرد استغلاله، كما هو الحال في حالة العدوان.

يرى فروم بأن إشكالية النزعة التدميرية بدأت في الظهور في الدراسات الأكاديمية في بداية عشرينيات القرن السابق، أي مع اندلاع الحرب العالمية الأولى. ففرويد مثلا، و بعد أن شحن نظريته بالتركيز على الغريزة الجنسية، التي ليس لها أي هدف آخر غير المحافظة على النوع البشري؛ أضاف جديدا إلى هذه النظرية في العشرينيات من القرن الماضي، مؤكدًا بأن غريزة الموت تقف على قدم المساواة مع غريزة المحافظة على استمرار حياة النوع البشري. وبهذا دفع بالموت والتدمير إلى مستوى الغريزة.

لم يتغير هذا الموقف إلا في ستينيات القرن الماضي، عندما نشر الباحث كونراد لورنز عام 1966 كتابه الشهيرعن العدوان عند الحيوان، وعقبه كتاب ديزموند موريس عام 1967. وبهذا انتقلت دراسة العدوان من مجال الغريزة إلى مجال الغريزة-السلوك. وتخصصت السلوكية الأمريكية فيما بعد في دراسة النزعة التدميرية في مجال السلوك وحده، حيث ينتقل التركيز في هذا المذهب من المشاعر إلى السلوكات. فلا قيمة للمشاعر والعواطف والغرائز بالنسبة له إن لم تتحول إلى سلوك، و هذا ما دافع عنه سكينر، أكبر أعمدة المذهب السلوكي.

حاول فروم في دراسته للنزعة التدميرية عند الإنسان تصحيح وتجاوز نظرية فرويد- لورنز ونظرية سكينر. وقعت كلتا النظريتين في نظره في خطأ الخلط بين العنف والعدوان والتدمير. والصحيح هو أن هناك نوع من العنف يتشابه فيه الإنسان مع بقية الحيوانات والكائنات الحية، إلا أن هناك نوع آخر يتميز به الإنسان عن بقية هذه الكائنات.

يؤكد فروم مثلا بأن كل أشكال العنف عند الحيوان تهدف إلى فرض السيطرة والانفراد بالزعامة أو إشباع الحاجة البيولوجية أو الغريزية، لكنها لا تهدف إلى التدمير الممنهج والمقصود. أما الإنسان فإنه الكائن الوحيد القادر على إتيان عمليات عدوان تدمير قصدية في سلوكات مثل التعذيب والقتل، لا لشيء إلا للمتعة في القتل والتعذيب. وهي أمور تكاد تختفي في عالم الحيوان كليةً. بل إن هذه النزعة تكاد تختفي في أغلب الحضارات البشرية البدائية.

يؤكد فروم بأن دراسة التاريخ تبعث على اليأس، فيما تبعث دراسة ما قبل التاريخ على الأمل. فالنزعة التدميرية غائبة مثلا عند العديد من القبائل البدائية في أستراليا والهند وأمريكا الشمالية، وهذا ما يُثبت في نظره بأن النزعة التخريبية ليست غريزية لدى كل القبائل والحضارات البشرية، بل مرتبطة بشكل ومرحلة الحضارة التي يحيا في كنفها. من هنا كانت خلاصته تتلخص في كون العنف ليس ملازماً للإنسان أو الحيوان ملازمة الغريزة. فالعنف غير كامن في غرائز الإنسان في كل مكان وزمان. فلا يظهر العنف وخاصةً في جانبه التدميري، إلا في ظروف زمانية وحضارية معينة.

من المتفق عليه بين علماء الأنثروبولوجيا أن مراحل تطور المجتمعات البشرية بدأت بالإلتقاط ثم الصيد، ولم يُتوصل للزراعة إلا في مرحلة متأخرة، لينتهي به المطاف بالتصنيع. بدأت البشرية بمرحلة الأموسية التي تشبه مجتمعات النحل، حيث الأنثى الأم هي محور الأسرة والمجتمع، و كان دور الذكر يتلخص في مساعدة الأم على الإنجاب. ثم انتقلت المجتمعات البشرية إلى المرحلة الأبيسية التي نعيشها حالياً.

يلاحظ فروم اختلافات كثيرة بين كل هذه المراحل. يمكن مثلاً ملاحظة تعادل صورة الأم مع الأب في فنون الحضارة الفرعونية، التي يُرَجَّحُ أن تكون قد شهدت بداية الانقلاب من المجتمع الأموسي إلى المجتمع الأبيسي، بعد فترة من المساواة بينهما. كما أن أنماط الأموسية بشكل عام ويكاد يختفي منها نوع العدوان التدميري تماماً، كما هو الأمر في مجتمع الأسكيمو. أما المجتمعات الأبيسية فيتحول فيها العنف إلى التدمير وينتشر فيها التخريب والتعذيب والقتل لمتعة القتل، كما نجد ذلك عند شعوب الأزتيك والتروبرياند.

بعد كل هذه التحاليل يرجع فروم لإشكالية النزعة التدميرية، محاولا فهمها وسبر أغوار أسبابها. و يشير مثلا إلى أن مجتمع النحل يقتل الذكور، حفاظاً على تراكمات العسل للملكة والشغيلة وحدهن. ومثل هذا قد يحدث في بعض المجتمعات البشرية التي تحرص على تراكم وتخزين الثروة وتخصيصها لفئات معينة دون فئات أخرى، وخاصة إذا ما كان إنتاجها يخضع لعملية مضنية ولاعتبارات الندرة لا الوفرة، وفق المقياس العمري للفرد الواحد. و هكذا تتواكب مستويات العنف وأنواعه في المجتمعات البشرية مع عوامل كثيرة منها: ندرة الثروة ونمط إنتاجها وتراكمها وتخزينها. فمن المعروف أن حروب المجتمع القديم كانت تهدف إلى استعباد الشعوب المهزومة لتجبرهم على العمل في إنتاج الثروة للشعوب المنتصرة. وما زال هذا النمط سائداً في كثير من المجتمعات الحالية تحت مسميات مختلفة.

لكن عندما تصل الحضارة إلى مرحلة من تراكم الثروة لا تحتاج معها إلى مزيد من القوة العاملة للعبيد، فإنها تتحول إلى تخزين الثروة والتصارع على توزيعها بدلاً من إنتاجها وتنميتها. وتلك هي حالة الحضارة المعاصرة. وهنا ينتقل العنف إلى أقصاه المدمر. فتعمل جماعة للتنكيل بجماعة أخرى. و لا تقتصرتبريرات القتل على ذكر المصالح الاقتصادية فحسب، كما كان الحال في المجتمعات البدائية، بل تتضمن هده التبريرات مزيجاً من الاعتبارات السياسية والنفسية والاجتماعية والدينية والجغرافية والتاريخية، التي يُشِيعُهَا مؤيدوالدمار.

وهنا نصل إلى الأهمية القصوى لهذه الدراسة في وقتنا الحاضر، فقد تساعدنا على فهم التدمير الذي تتعرض له الشعوب العربية الإسلامية، سواء على يد القوى الكولونيالية أو على يد أبناء جلدتها، من كل الطوائف والتوجهات الأيديولوجية. إلى أين تُقاد هذه الشعوب؟ أهي في طريقها إلى مجزرة التاريخ؟ إن كل الشروط مجتمعة في هذه الشعوب لكي تذوب في سلة مهملات البشرية، نظرا لعنف النزعة التدميرية التي تُمارس عليها، و لربما كان نزار قباني على حق عندما عنون قصيدة من قصائده: “متى يعلنون عن موت العرب؟”