مجلة حكمة

قرن جديد في أبحاث الدماغ – يوست & تشيرش


جهود علمية حثيثة تنير لنا معالم الطريق لفهم الكيفية
التي تصنع وفقها أعقدُ آلة في العالم أفكارَنا وانفعالاتِنا.

<R. يوست> – <M .G. تشيرش>

باختصار-2

على الرغم من مضي قرن من البحث العلمي المستدام، مازال علماء الدماغ يجهلون طريقة عمل ذلك العضو الذي يزن ثلاثة أرطال إنكليزية(1)، ويشكل مقرا للنشاط الواعي برمته عند البشر. وقد حاول العديد من العلماء التغلب على هذه المعضلة عبر استقصاء الجهاز العصبي لدى الكائنات الحية الأقل تطورا. وقد مضت بالفعل قرابة ثلاثين عاما على نجاح الباحثين في وضع خريطة لجميع وصلات الخلايا العصبية البالغ عددها 302 خلية عصبية في الدودة المدورة (the roundworm (Caenorhabditis elegans. بيد أن الرسم البياني لهذه الأسلاك في الدودة لم يؤد إلى فهم كيف تولد هذه الاتصالات مختلف أنماط السلوك، حتى البدائي منها مثل التغذية وممارسة الجنس. ومازلنا نفتقد حتى الآن بيانات تتعلق بنشاط النورونات (العصبونات) neuronsالمرتبط بأنماط معينة من السلوك.

والصعوبة في إقامة رابط بين البيولوجيا والسلوك عند البشر أكبر بكثير، وتتناقل وسائل الإعلام روتينيا تقارير حول مسوحات تصويرية تشير إلى أن هناك مواقع معينة في أدمغتنا تضيء عندما نشعر بأن الآخرين يرفضوننا، أو عندما نتحدث بلغة أجنبية. فهذه القصص الإخبارية من شأنها أن تترك لدينا انطباعا بأن التقانة الحالية تقدم لنا رؤى أساسية عن كيفية عمل الدماغ، وهو انطباع مضلل بلا ريب.

ومن الأمثلة التي تستحق الذكر على عدم التوافق المشار إليه تلك الدراسة الذائعة الصيت التي ذهبت إلى أن هناك خلايا دماغية مفردة تقوم بإطلاق دفعة impulse كهربائية استجابة لرؤية وجه الممثلة <J. أنيستون>. وعلى الرغم من الضجة الكبيرة حولها، فقد كان اكتشاف نورون <أنيستون> أمرا شبيها باكتشاف رسالة وصلتنا من كائنات فضائية غريبة توحي بوجود حياة ذكية في الكون، ولكن دون أن تحمل الرسالة أي إشارة إلى معنى هذا الإرسال. فنحن مازلنا نجهل كليا الكيفية التي يؤثر بها النشاط الكهربائي المتدفق من ذلك النورون في قدرتنا على تعرف وجه <أنيستون> ومن ثَمَّ ربطه بمقطع من برنامج فريندس Friends التلفزيوني. ولكي يتعرف الدماغ على هذا النجم أو ذاك، فلابد له على الأرجح من تنشيط مجموعة كبيرة من النورونات التي تتواصل فيما بينها عبر كود code عصبي، علينا فك تكويده أولا.

تشير قضية نورون <أنيستون> إلى أن العلوم العصبية وصلت إلى مفترق طرق. فمع أن ما لدينا من تقنيات يتيح لنا تسجيل نشاط النورونات المفردة عند الأحياء من البشر، فإن السير قدما بصورة مجدية يتطلب منا تزويد هذا الحقل من العلوم بمجموعة جديدة من التقانات التي تمكن الباحثين من رصد النشاط الكهربائي لآلاف أو حتى بالأحرى لملايين النورونات، وكذلك تغيير هذا النشاط، على أن تكون هذه التقنيات قادرة على فك كود ما أطلق عليه المشرح العصبي الإسباني الرائد <R .S. كاجال> عبارة «الأدغال التي لا تخترق حيث تاه فيها كثير من الباحثين.»

فمن حيث المبدأ، يمكن لهذه الطرائق المتقدمة breakthrough methods ردم الفجوة بين قدحfiring النورونات وبين المعرفة بما فيها الإدراك والانفعال وصنع القرار والوعي نفسه في آخر الأمر. ففك كود النماذج الحقيقية للنشاط الدماغي الكامنة وراء التفكير والسلوك من شأنه أيضا تقديم تصورات عميقة حاسمة عما يحدث عندما تختل وظيفة الدارات العصبية في الاضطرابات النفسية والعصبية مثل: الفصام أو التوحد أو داء ألزهايمر أو داء پاركنسون.

وقد بدأت الدعوات حول ضرورة إحداث قفزة تقانية لدراسة الدماغ تجد آذانا صاغية خارج المختبرات. وبالفعل أعلنت إدارة <أوباما> في عام 2013 أنها بصدد إنشاء مبادرة واسعة النطاق تسمى بحوث الدماغ من خلال مبادرة تطوير التقانات العصبية المبتكرة(2)، اختصارا «مبادرة الدماغ» the BRAIN Initiative، وهي أكبر مسعى إلى تطوير العلوم أعلن في الفترة الثانية لولاية الرئيس <أوباما>.

 

 

وبتمويل أوليّ ينوف على 100 مليون دولار لعام 2014 تهدف مبادرة الدماغ إلى تطوير تقانات قادرة على تسجيل إشارات من الخلايا الدماغية بأعداد أكبر بكثير مما سبق، إضافة إلى قدرتها على تسجيل الإشارات من مناطق دماغية بكاملها. وجاءت مبادرة الدماغ متممة لمشاريع ضخمة أخرى خارج الولايات المتحدة مثل مشروع الدماغ البشري(3) الذي يموله الاتحاد الأوروبي بمبلغ قدره 1.6 بليون دولار لمدة عشرة أعوام، وهو مشروع يرمي إلى تطوير حاسوب يحاكي الدماغ بكامله. إلى جانب ذلك، هناك مشاريع بحثية طموحة أخرى في العلوم العصبية تم إطلاقها في الصين واليابان وإسرائيل. وهذا الإجماع العالمي على الاستثمار في علوم الدماغ يعود بذاكرتنا إلى المبادرات العلمية بعد الحرب العالمية الثانية التي انصب اهتمامها على الأولويات الوطنية الملحة مثل: الطاقة النووية والأسلحة الذرية واكتشاف الفضاء وأجهزة الحاسوب والطاقة البديلة وتحديد تسلسل الجينوم. لا ريب في أننا اليوم نشهد انبلاج قرن الدماغ بامتياز.

مسألة شاشة التلفاز(**)

إن الكيفية التي تقوم بها خلايا الدماغ بحوسبة مفهوم <أنيستون> السالف الذكر – أو أي أمر مماثل آخر نواجهه في تجاربنا الشخصية، أو خلال إدراكنا للعالم من حولنا بمختلف صنوف الإدراك – لايزال تعقبها مشكلة مستعصية حتى اليوم. الأمر الذي يعني أنه علينا الانتقال من قياس نورون مفرد إلى السعي إلى فهم كيف يمكن لمجموعة من هذه الخلايا أن تشارك في تآثرات interactions معقدة تفضي إلى كل أكبر لايتجزأ يتجسد فيما يسميه العلماء الخاصية الظاهرة emergent property. فدرجة حرارة مادة ما أو صلابتها أو الحالة المغنطيسية لمعدن metal ما، على سبيل المثال، لاتنشأ إلا نتيجة تآثرات متبادلة بين عدد وافر من الجزيئات أو الذرات. فذرات الكربون مثلا تكون باتحادها إما خاصية الصلابة المتمثلة بالألماس أو خاصية الليونة المتجسدة في الگرافيت الذي يتفتت بسهولة إلى الحد الذي يمكنه من تشكيل كلمات على الورق. فسواء الصلابة أو الليونة لايتوقف نشوؤها على الذرات المفردة، بل على مجموعة التآثرات المتبادلة فيما بينها.

وقد يكون الدماغ أيضا قادرا على توليد ضروب من الخصائص الناشئة التي لايمكن فهمها من خلال معاينة نورونات مفردة أو حتى معاينة صورة غير دقيقة تماما لنشاط مجموعات كبيرة من هذه النورونات فقط. فإدراك زهرة أو استرجاع ذكريات الطفولة لايمكن فهمها إلا من خلال رصد نشاط دارات دماغية تمرر إشارات كهربائية معقدة صعبة الفهم إلى سلاسل متشابكة مكونة من مئات أو آلاف النورونات. وقد واجه علماء الجهاز العصبي هذه التحديات منذ فترة طويلة، إلا أنهم مازالوا يفتقرون إلى الوسائل اللازمة لتسجيل نشاط الدارات الفردية المسيرة للإدراك أو الذاكرة، أو الكامنة وراء أنماط السلوك المعقدة والوظائف الاستعرافية.

وللتغلب على هذه العقبة تم إطلاق محاولة تتضمن وضع خريطة للوصلات التشريحية – أو لمشابك ما بين النورونات، وهو مسعى يسمى كونيكتوميكس(4) connectomics. وسوف يزودنا مشروع الكونيكتوم البشري(5) Human Connectome Project الذي تم إطلاقه مؤخرا في الولايات المتحدة برسم بياني لبنية شبكة الدماغ السلكية. غير أن هذه الخريطة، شأنها شأن خريطة الدودة المدورة، لن تكون سوى نقطة انطلاق فقط. فهي بحد ذاتها، لن تكون قادرة على توثيق الإشارات الكهربائية المتغيرة باستمرار التي تتمخض عنها استعرافية عمليات معينة.

ولكي نتمكن من تسجيل مثل هذه الإشارات، تلزمنا طرائق جديدة كليا لقياس النشاط الكهربائي تتجاوز قدراتها قدرات التقانات الحالية إلى الحد الذي تمدنا فيه – إما بصورة دقيقة عن نشاط مجموعة صغيرة نسبيا من النورونات أو بصور أخرى شاملة عن مناطق دماغية واسعة، ولكن دون أن تقتضي دقة هذه الصور التعرف على ما إذا كانت دارات دماغية نوعية في حالة نشاط أو حالة عطالة. أما تسجيلات المقياس الدقيق fine-scale recordings، فتجرى حاليا عن طريق غرس إلكترودات إبرية الشكل داخل أدمغة حيوانات المختبر لالتقاط النبضات (الدفقات) impulses الكهربائية المنطلقة من النورونات المفردة بعد تحريضها من قبل الإشارات الكيميائية الواردة إليها من النورونات الأخرى. وعندما يتم تنبيه نورون ما بطريقة ملائمة تنقلب ڤلطيةvoltage الغشاء الخارجي، فيحث هذا الانقلاب قنوات الغشاء على السماح لأيونات الصوديوم أو غيرها من الأيونات الموجبة بالولوج إلى داخل الخلية. وما أن يحصل هذا التدفق الوارد حتى تتولد منه نبضة حسكية (عابرة) spike ترتحل إلى الأسفل على امتداد البروز الطويل للخلية – أي المحوار the axon – محرضة إياه على إرسال إشارة كيميائية خاصة به إلى النورونات الأخرى ليتم بذلك انتقال الإشارة. إن تسجيل نشاط نورون واحد فقط هو أشبه ما يكون بحالتنا حين نحاول متابعة حبكة فيلم سينمائي رقمي عالي الدقة، ولكن من خلال التحديق في أول بقعة ضوء (پيكسل) pixel على الشاشة. لكننا نعجز عن رؤية المشهد بكامله. أضف إلى ذلك أن هذه الطريقة مؤذية، فهي قد تلحق الأذى بنسيج الدماغ أثناء اختراقه بالإلكترودات.

[highlight color=”yellow”]ما يلزم لإدراك وردة لايمكن فهمه إلا من خلال رصد نشاط دارات دماغية تمرر إشارات كهربائية إلى سلاسل مكونة من آلاف النورونات.[/highlight]

 

 

أما الطرائق الواقعة في الطرف الآخر من الطيف التي تستقصي النشاط الجمعي للنورونات في الدماغ بكامله، فهي أيضا غير كافية. إذ إن جهاز تخطيط الدماغ الكهربائي (EEG)ا(6) المألوف الذي اخترعه <H. برگر> في عشرينات القرن العشرين، لايتيح للإلكترودات المثبتة على الجمجمة سوى قياس النشاط الكهربائي المشترك لأكثر من 000 100 خلية عصبية تحتها – فهذا الجهاز يسجل «الموجات» الاهتزازية(7) أي السعة الصاعدة والهابطة لبضعة ميلي ثوانٍ، علما بأنه لا يفيد في معرفة أي نورون مفرد كان ناشطا أم متوقفا عن العمل. والتصوير بالرنين المغنطيسي الوظيفي (fMRI)ا(8) – الذي يظهر تلك اللطخات الملونة الدالة على مناطق الدماغ الناشطة – يسجل النشاط في أنحاء الدماغ جميعها بطريقة غير مؤذية، ولكن ببطء وبدقة مكانية ضعيفة. كما أن كل عنصر من عناصر الصورة، أو الڤوكسل(9) voxel، يتكون من نحو 000 80 نورون. إضافة إلى ذلك، فإن التصوير fMRI لايستقصي النشاط النوروني بصورة مباشرة، بل يسجل فقط تغيرات ثانوية تطرأ على تدفق الدم إلى داخل الڤوكسيلات.

ولكي يحصل الباحثون على صورة لأنماط من أمثلة نشاط الدماغ ينبغي أن يكون بحوزتهم محساتprobes جديدة قادرة على التسجيل من جموع تضم آلاف النورونات. ويمكن لتقانة النانو بمنتجاتها المثيرة في بعض الأحيان، أن تقيس أبعادا أصغر من أبعاد الجزيئات الفردية فتساعدنا أيضا على إجراء تسجيلات المقياس الكبير(10). وقد تم بناء نماذج أولية prototypes لمصفوفات تحتوي على أكثر من 000 100 إلكترود على قاعدة سليكونية(11)، حيث يمكن لمثل هذه الوسائل أن تسجل النشاط الكهربائي لعشرات آلاف النورونات في شبكية العين. وسوف يسمح لنا الاستمرار بتطوير هندسة هذه التقانة بتجميع المصفوفات في بنى ثلاثية الأبعاد، ومن ثمّ تصغير قطر الإلكترودات لتجنب إلحاق الضرر بالأنسجة وكذلك إطالة هذه الإلكترودات كي تتمكن من اختراق القشرة الدماغية the cerebral cortex، وهي أقصى طبقة خارجية من الدماغ، والوصول إلى أعماقها. وقد نصبح بفضل هذه التطورات قادرين على تسجيل عشرات الآلاف من النورونات عند المريض في حين علينا أن نبين الخواص الكهربائية لكل خلية.

وليس استعمال الإلكترودات إلا إحدى طرق تتبع نشاط النورونات. فهناك أيضا طرائق أخرى تجاوزت المحسات الكهربائية أخذت تشق طريقها اليوم إلى المختبر. إذ بدأ البيولوجيون باقتباس تقانات طورها فيزيائيون وكيميائيون وعلماء وراثة لكي يروا النورونات الحية في الحيوانات اليقظة أثناء ممارستها حياتها اليومية.

في عام 2013 وصلتنا معلومة عما قد يكون في جعبتنا اليوم، وذلك حينما قام <M. أرينس>، في مزرعة البحث العلمي جانيليا(12) بمعهد هوارد هيوز الطبي في أشبورن بولاية فرجينيا، باستخدام يرقة سمك مخطط a larval zebra fish لإجراء تصوير مجهري لكامل الدماغ. والسمك المخطط هو أحد الكائنات التي يفضلها اختصاصيو البيولوجيا العصبية لأن هذا النوع يتمتع بالشفافية في حالته اليرقية، ومن ثم يسمح بمعاينة أعضائه الداخلية بسهولة، بما في ذلك الدماغ. وقد قامت التجربة المذكورة على تعديل نورونات السمك المخطط جينيا بطريقة تجعلها تتألق عند دخول أيونات الكالسيوم إلى الخلية بعد أن انقدحت fired النورونات. وهناك نوع حديث من المجاهر يضيء دماغ السمك المخطط من خلال تسليط الضوء عليه بكامله في الوقت الذي تقوم فيه كاميرا خاصة بتصوير لقطات سريعة للنورونات المنارة بمعدل صورة واحدة في الثانية.

هذه التقنية المستخدمة التي يطلق عليها اسم تصوير الكالسيوم calcium imaging والتي طورها أحدنا(<يوست>) لتسجيل النشاط الكهربائي للدارات، هي تقانة مكنتنا من تسجيل 80 % من نورونات السمكة المخططة البالغ عددها 000 100 نورون. وقد تبين أخيرا أن مناطق كثيرة من الجهاز العصبي ليرقة السمك المخطط تنشط وتخمد بالتناوب وفق نماذج غريبة أثناء راحتها. فمنذ أن قدم <برگر> جهاز تخطيط الدماغ الكهربائي للعالم، والباحثون يدركون أن الجهاز العصبي في جوهره دائم النشاط. إن تجربة السمك المخطط تبعث فينا الأمل بأن تتمكن تقانات التصوير الأحدث من مساعدتنا على التعاطي مع أكبر تحد يواجهنا في العلوم العصبية، ألا وهو فهم القدح التلقائي(13) والمتواصل الذي تقوم به مجموعات كبيرة من النورونات.

وتجربة السمك المخطط هي مجرد بداية، فعلماء الجهاز العصبي مازالوا بحاجة إلى تقانات أكثر تطورا لاكتشاف كيف يقوم النشاط الدماغي بإنتاج السلوك. فهم بحاجة، مثلا، إلى أنواع جديدة من المجاهر المصممة لتصوير النشاط العصبي بثلاثة أبعاد في وقت واحد. كما أن تصوير الكالسيوم بوضعه الحالي لايزال يعمل ببطء شديد لايسمح بتعقب قدح النورونات السريع، وهو أيضا غير قادر على قياس الإشارات المثبطة التي تقوم بإخماد النشاط الكهربائي في الخلية.

ويسعى اختصاصيو الفيزيولوجيا العصبية الذين يعملون جنبا إلى جنب مع اختصاصيي الوراثيات والفيزياء والكيمياء إلى تحسين التقنيات البصرية التي تسجل النشاط النوروني مباشرة عبر استكشاف ڤلطية غشاء الخلية، عوضا عن استشعار الكالسيوم. إذ إن الأصباغ التي تغير من خصائصها الضوئية استجابة لتقلبات الڤلطية – والتي إما أن تكون مودعة على النورون أو تكون مدمجة ضمن غشاء الخلية بتقنية الهندسة الجينية – يمكن لها أن تكون أفضل من تصوير الكالسيوم. فهذه التقنية البديلة التي تعرف باسم التصوير الڤلطي voltage imaging قد تمكن الباحثين في نهاية المطاف من تسجيل النشاط الكهربائي لكل نورون من النورونات التي تتكون منها دارة عصبية بكاملها.

 

[الإرسال الخلوي]

إصغاء إلى ملايين النورونات(***)

  اختصاصيو العلوم العصبية بحاجة إلى وسائل أكثر كفاءة وأقل إزعاجا لرصد الدارات الدماغية التي تنتقل فيها الإشارات الكهربائية من نورون (عصبون) إلى آخر. وهناك مجموعة من التقانات بعضها قيد الاستخدام، وبعضها الآخر لايزال الباحثون يأملون بتطويرها – لعلها تمكن العلماء من تسجيل نشاط الآلاف، أو الملايين، من النورونات. وسوف يكون من شأن هذه التقانات الجديدة أن تحل محل الطرائق البطيئة وغير الدقيقة التي غالبا ما تتطلب استخدام مسابير كهربائية مؤذية.

التصوير الڤلطي(****)

  تقوم هذه التقنية على غرس صباغ في أحد النورونات لتحديد ما إذا كانت الخلية ناشطة. ويتألق هذا المحس الصباغي عندما يقلب الحقل الكهربائي المحيط بغشاء الخلية شحنته إثر عبور إشارة كهربائية لهذا الغشاء. ويتم تسجيل هذا الحدث بواسطة كشاف (لايظهر في الشكل) قادر أيضا على رصد نشاط العديد من النورونات الأخرى الموسومة بالصباغ ذاته.

شريط الدنا المسجل(*****)

  وهو طريقة جديدة مختلفة كليا عن الطرق المعروفة – وهي استعمال شريط تسجيل جزيئي – يتم في أحد سيناريوهاته وضع ضفيرة مفردة من الدنا ذات تسلسل معروف من النيوكليوتيدات في إحدى الخلايا بالقرب من سطحها. وبعدئذ يقوم إنزيم يسمى بوليميراز الدنا(14)بإضافة نيوكليوتيدات جديدة تترابط مع ضفيرة الدنا ويتكون جزيء بضفيرة مزدوجة (في اليسار). فعندما ينقدح نورون تتدفق أيونات الكالسيوم عبر قناة غشاء انفتحت للتو؛ مما يؤدي إلى دفع الإنزيم لإضافة النيوكليوتيدات غير الصحيحة (في اليمين) وهو خطأ يمكن اكتشافه لاحقا عندما تتم سلسلة ضفيرة الدنا.

 

 

بيد أن التصوير الڤلطي لايزال في مراحله الأولى. وينبغي على الكيميائيين أن يعززوا قدرة الأصباغ على تغيير لونها أو بعض خصائصها الأخرى استجابة لقدح النورون. كما يجب أيضا أن يتم تصميم الأصباغ على نحو يضمن عدم قيام هذه المواد الكيميائية بإلحاق الأذى بالنورون. وبالفعل، فإن علماء البيولوجيا الجزيئية يقومون اليوم ببناء محسات ڤلطية مكودة(15). وهي خلايا تقوم بقراءة متوالية جينية لإنتاج بروتين متألق يتم إيصاله إلى داخل غشاء الخلايا الخارجي. وما أن تصل مثل هذه البروتينات إلى هناك حتى تصبح قادرة على تغيير درجة تألقها استجابة للتبدلات الحاصلة في ڤلطية النورون.

وكما هي الحال مع الإلكترودات، فإن المواد غير البيولوجية المتطورة المستوحاة من تقانة النانو، يمكنها أن تكون مواد مساعدة. فعوضا عن الأصباغ العضوية أو المشعرات الجينية، يمكننا صناعة نوع جديد من المحسات الڤلطية من نقاط كمومية (كوانتية) quantum dots – وهي جسيمات صغيرة مكونة من أنصاف نواقل(16)لها آثار ميكانيكية كمومية ويمكن تصميم خصائصها البصرية بدقة بالغة، مثل اللون أو شدة الضوء المنبعث منها. ويتمتع الألماس النانوي، مادة جديدة أخرى تم استيرادها من عالم البصريات الكمومية، بحساسية كبيرة إزاء التغيرات في الحقول الكهربائية التي تحدث بحدوث تقلبات في نشاط الخلية الكهربائي. كما يمكننا أيضا أن نمزج جسيمات نانوية بأصباغ عضوية تقليدية أو بأصباغ معدلة جينيا لإنتاج جزيئات هجينة يمكن أن يكون فيها الجسيم النانوي بمثابة «قرن استشعار» (هوائي) antenna يقع على عاتقه تضخيم الإشارات الضعيفة الصادرة عن الأصباغ المتألقة استجابة لتنشيط نورون ما.

الوصول إلى الأعماق(******)

هناك تحد تقني كبير آخر نواجهه في سعينا إلى تظهير نشاط نوروني. ويتمثل هذا التحدي بصعوبة إيصال الضوء إلى الدارات العصبية الواقعة على عمق كبير تحت سطح الدماغ وصعوبة تجميعه منها. ولحل هذه المشكلة، قام خبراء تطوير التقانة العصبية بالتعاون مع باحثين في البصريات الحاسوبية وهندسة المواد والطب الذين هم أيضا بحاجة إلى أن يبصروا، وبطريقة غير مؤذية، عبر المواد الصلبة مثل الجلد أو الجمجمة، أو معاينة ما تحتويه شيپة حاسوبية(17). ويدرك العلماء منذ زمن طويل أن الضوء عندما يصطدم ينتثر جزء منه وأن الفوتونات المنتثرة يمكنها، من حيث المبدأ، أن تظهر تفاصيل الجسم الذي يعكسها.

فضوء المصباح الومضي flashlight، على سبيل المثال، يخترق اليد ويخرج من الجانب الآخر كوهج منتشر، ولكن من دون أن يعطينا أي فكرة عن مكان وجود العظام أو الأوعية الدموية تحت الجلد. بيد أن المعلومات حول المسار الذي يتخذه الضوء داخل اليد لاتختفي كليا، فموجات الضوء المضطربة تنتشر ثم تتداخل مجددا فيما بينها. وهذا النموذج من الضوء يمكن تصويره بكاميرا، ويمكن بعد ذلك وبطرائق حاسوبية جديدة إعادة بناء صورة لما كان يتوارى عن أنظارنا في الداخل – وهي تقنية استخدمها <R. پيستون> وزملاؤه [من جامعة كولورادو في بولدر] في عام 2013 لرؤية ما يوجد في داخل مادة معتمة. وقد يكون من الممكن مزاوجة هذه الطرائق بتقنيات بصرية أخرى، بما في ذلك التقنيات التي يستخدمها علماء الفلك لتصحيح تشوهات الصور الناجمة عن تأثير الغلاف الجوي في ضوء النجوم. أما ما يسمى علم البصريات الحاسوبي(18)، فيمكنه أن يساعد على تظهير الوهج المتألق المنبعث من الأصباغ التي تضيء عندما تنقدح نورونات تحت السطح.

وقد تم بالفعل استخدام بعض هذه التقنيات البصرية الجديدة بنجاح لتصوير الامتدادات الداخلية لأدمغة الحيوانات أو الإنسان، حيث تمكن العلماء من خلال استئصال قطعة من الجمجمة من رؤية جزء من القشرة بعمق تجاوز ميلي متر واحد. وقد يفضي إدخال مزيد من التحسينات على هذه التقنيات إلى توفير الفرصة لإيجاد طريقة تمكننا من الرؤية عبر سمك الجمجمة. ولكن التصوير الضوئي بالرؤية الاختراقية(19) لن يكون بوسعه التغلغل إلى مسافات تمكنه من اكتشاف البنى العميقة في الدماغ. بيد أن هناك اختراعا حديثا آخر قد يساعد على معالجة هذه المشكلة. فالتقنية التي يطلق عليها اسم تنظير ميكروي microendoscopy هي تقنية يستخدمها اختصاصيو الأشعة العصبية حاليا، حيث يدخلون أنبوبا رفيعا مرنا إلى الشريان الفخدي ثم يدبرونه للوصول إلى مناطق عدة من الجسم، بما في ذلك الدماغ، الأمر الذي يسمح بعد ذلك بإدخال مسابير ضوئية مجهرية إلى الأنبوب المذكور لتقوم بعملها. وفي عام 2010 قام فريق من معهد كارولينسكا في ستوكهولم بعرض ما يسمى «إكستروديوسر» extroducer، وهو جهاز يسمح للشريان أو الوعاء الدموي الذي أدخل إليه المنظار بأن ينثقب بأمان، الأمر الذي يفتح الطريق أمام شتى تقنيات التصوير أو تقنيات التسجيل الكهربائي للوصول إلى أي جزء من الدماغ ومعاينته، وليس إلى الأوعية الدموية فقط.

وتعد الإلكترونات والفوتونات من أكثر الجسيمات ملاءمة لتسجيل نشاط الدماغ، ومع ذلك فهي ليست الوحيدة. إذ إن تقانة الدنا DNA technology يمكنها أن تؤدي دورا حاسما في رصد النشاط العصبي في المستقبل البعيد. وقد استلهم ذلك أحدنا (<تشيرش>) من حقل البيولوجيا التخليقية synthetic biology، حيث يتم العمل بالمواد البيولوجية كما لو كانت قطع غيار آلية. وبتقدم البحث العلمي قد يصبح من الممكن هندسة حيوانات المختبر جينيا لتخليق الشريط الجزيئي المسجل molecular ticker tape وهو جزيء يتغير بطرق محددة قابلة للكشف عندما ينشط نورون ما. وفي أحد السيناريوهات، تتم صناعة الشريط هذا من إنزيم بوليميراز الدنا DNA polymerase الذي يبدأ انطلاقته الأولى عبر تركيب متواصل لضفيرة طويلة من الدنا التي يتم ربطها بضفيرة أخرى مؤلفة من متوالية محددة بشكل مسبق من النيوكليوتيدات nucleotides (وهي الرسائل التي تشكل اللبنات في بناء الدنا). أما في المرحلة التي تلي ذلك، فمن شأن تدفق أيونات الكالسيوم نتيجة للقدح النوروني، أن يحفز البوليميراز على إنتاج متوالية مختلفة من النيوكليوتيدات، أي باختصار يتسبب هذا الأمر في وقوع «أخطاء» في الموقع المرتقب للنيوكليوتيدات. وقد يتم في وقت لاحق ومن أي نورون من نورونات دماغ حيوان التجربة سَلْسَلة sequencing ضفيرة النيوكليوتيدات المزدوجة التي نتجت. ومن شأن تقنية مبتكرة تسمى السلسلة التألقية في الموقع الأصلي(20) أن تسفر عن سجل يتضمن نماذج مختلفة من التغيرات – أي «الأخطاء» في الشريط المسجل الأصلي تتوافق مع قوة أو توقيت كل من النورونات الموجودة في حجم معين من النسيج. وفي عام 2012 أخبرنا مختبر <تشيرش> عن قابلية تنفيذ هذه الفكرة باستخدام شريط الدنا المسجل الذي تغير بفعل أيونات المغنزيوم والمنغنيز والكالسيوم.

 

[تشغيل الدارات]

تركيب بدالة عصبية ضوئية(*******)

  تتزايد رغبة علماء الجهاز العصبي في الذهاب إلى أبعد من رصد التيارات الكهربائية التي تتدفق عبر الدارات العصبية. فهم يريدون تشغيل الدارات الفردية وإيقافها عن العمل حسب الرغبة كي يتمكنوا من التوصل إلى التحكم في أشكال معينة من نشاط الدماغ. وقد يأتي اليوم الذي تتمكن فيه هذه التقانات الوليدة – اثنتان منها تعتمدان على الإشارات الضوئية (في الأسفل) – من كبح جماح النوبات الصرعية أو الارتعاشات الپاركنسونية.

كيف يعمل علم الوراثة البصري(********)

  تقنية الوراثيات البصرية، كما يوحي اسمها، هي توليفة من الإشارات الضوئية والهندسة الوراثية لتنشيط إحدى الدارات الدماغية في الحيوان الحي. يتم أولا وضع جين مولد لبروتين حساس للضوء اسمه أوپسين opsin داخل أحد الڤيروسات. وبعد حقن الحيوان بهذا الڤيروس، يقوم هذا الأخير بنقل الجين إلى النورونات. وتحوي المادة الجينية المحقونة معززا promoter من الدنا يضمن ألا يتم تركيب الأوپسين سوى في نورونات معينة. وما أن تقوم النورونات بتركيب الأوپسين – وهو قناة أيونية – حتى تغرسه في أغشيتها السطحية. وبفعل إشارة مرسلة من ليف ضوئي يقع داخل جمجمة الفأر تفتح هذه القناة بوابتها، فتدخل أيونات مشحونة إلى النورون وتولد تيارا في داخله.

كيف تعمل الكيمياء البصرية(*********)

  تقنية بديلة تعرف باسم الكيمياء البصرية(21) تغنينا عن الهندسة الجينية المرهقة. وبفضل هذه التقنية سوف يعطى المريض قرصا حاويا جزيئا منشطا ضوئيا عن طريق الفم – يسمى القفص cage – مربوطا بناقل عصبي ناظم لنشاط نورون. وبعد ابتلاع المريض لهذا القرص ووصول محتواه إلى الدماغ يرسل نبضة ضوئية من منظار داخلي، أو من مصدر يقع خارج الجمجمة، فيتحرر الناقل العصبي ويرتبط بقناة على سطح الخلية؛ فيفتحها مما يسمح بدخول الأيونات، وسوف تقوم هذه الأيونات عندئذ بقدح النورون الذي يرسل دفعة كهربائية تدخل إلى الخلية.

 

 

تتطلع البيولوجيا التخليقية إلى تطوير خلايا اصطناعية تقوم بعمل حراس بيولوجيين يقومون بدوريات في الجسم البشري؛ إذ يمكن للخلية المعدلة جينيا أن تستعمل إلكترودا بيولوجيا وبقطر أصغر بكثير من ثخن الشعرة، يوضع بالقرب من أحد النورونات لاستكشاف قدحه. وبذلك يصبح بإمكاننا تسجيل هذا النموذج من القدح بفضل دارة نانونية الحجم يتم دمجها في داخل الخلية الاصطناعية – ويمكن ل «غبار إلكتروني»(22) أن ينقل ما تم تجميعه من بيانات إلى جهاز حاسوب في مكان قريب بواسطة وصلة لاسلكية. وهذه الأجهزة النانونية الحجم التي هي هجين مكون من أجزاء إلكترونية وأخرى بيولوجية يمكن تقويتها بواسطة جهاز إرسال خارجي للموجات فوق الصوتية، أو تقويتها حتى من داخل الخلية باستخدام الغلوكوز أو الأدينوسين الثلاثي الفوسفات أو غيرهما من الجزيئات.

تبديل بين مفتاحي التشغيل أو الإيقاف(**********)

لفهم ما يحدث في شبكة الدماغ الواسعة التي تشكلها منظومة كاملة من الدارات العصبية، فعلى الباحثين أن يقوموا بأكثر من مجرد التقاط الصور؛ فعليهم، مثلا، القيام بتشغيل مجموعات مختارة من النورونات أو إيقافها عن العمل حين يشاؤون، وذلك لاختبار وظائف هذه الخلايا، فعلم الوراثة البصري optogenetics هو تقنية اعتمدها علماء الجهاز العصبي على نطاق واسع في السنوات الأخيرة، حيث تستخدم حيوانات مهندسة جينيا بطريقة تمكن نوروناتها من إنتاج بروتينات حساسة للضوء مستمدة من البكتيريا أو الطحالب. فعندما تتعرض هذه البروتينات لموجات ضوئية بطول معين، تصلها عبر ليف بصري، فإنها تدفع النورونات إما إلى العمل أو التوقف عنه. وقد طبق الباحثون هذه التقنية لتنشيط دارات عصبية معروفة بانخراطها في الاستجابة للمتعة وغيرها من استجابات المكافأة، وانخراطها أيضا في اختلال الحركة الذي يميز داء پاركنسون. وقد استخدمها الباحثون أيضا حتى في غرس ذكريات كاذبة عند الفئران.

إن حاجة الوراثيات البصرية إلى الهندسة الجينية تعني أنها قد تتطلب بروتوكولات مطولة للموافقة عليها قبل التمكن من اختبارها أو استخدامها كطريقة علاجية عند البشر. وقد تبين أن هناك بديلا عمليا أفضل لبعض التطبيقات، ويتمثل هذا البديل بربط نواقل عصبية، وهي مواد كيميائية ناظمة لنشاط النورونات، بمادة كيميائية حساسة للضوء تسمى القفص cage، وما أن يتعرض هذا القفص للضوء حتى يتفكك، فتنطلق المادة الكيميائية من داخله وتصبح ناشطة. وفي عام 2012 أجرى <S. روثمان> [من جامعة مينيسوتا] بالتعاون مع مختبر <يوست>، دراسة قام فيها بوضع أقفاص من الروثينيوم موصولة ب گابا (GABA)ا(23) وهو ناقل عصبي يحدُّ النشاط العصبي على القشرة الدماغية المكشوفة لجرذان مهيأة كيميائيا لتوليد نوبات صرع. وتسليط نبضة من ضوء أزرق على الدماغ يُحرر گابا، وبذا يتم إبطال الصرع. وهناك طرائق كيميائية بصرية optochemicalمشابهة تُستخدم لاختبار وظيفة دارات عصبية محددة. وهي طرائق، إن استمر تطويرها، قد تصبح صالحة لمعالجة بعض الاضطرابات العصبية أو العقلية عند البشر.

ولاتزال هناك مسافة كبيرة تفصل البحوث الأساسية عن تطبيقاتها السريرية. إذ إن أي فكرة جديدة تتناول القياس الكبير the large-scale measurement، أو تتناول تشغيل النشاط العصبي، لابد من اختبارها أولا على ذباب الفاكهة والديدان المدورة والقوارض قبل اختبارها على البشر. وقد يتمكن الباحثون، إذا ما كثفوا جهودهم، من تصوير عدد كبير من ال 000 100 نورون الكائنة في دماغ ذبابة الفاكهة خلال خمس سنوات. أما الأدوات القادرة على التقاط النشاط العصبي وتغييره في دماغ الفأر وهو بحالة اليقظة، فتحتاج إلى مدة قد تصل إلى عشر سنوات. وإن بعض التقانات، مثل الإلكترودات الدقيقة الخاصة بإصلاح الخلل الوظيفي في الدارات العصبية عند مرضى الاكتئاب أو الصرع، قد يجد طريقه إلى الاستعمال الطبي في السنوات القليلة القادمة، بينما سيستغرق بعضه الآخر عشر سنوات أو أكثر.

ومع تصاعد تطوير التقانات العصبية سيحتاج الباحثون إلى طرائق محسنة لتنظيم كم هائل من البيانات وتبادلها. فتصوير نشاط النورونات جميعها في القشرة الدماغية لفأر لمدة ساعة واحدة، مثلا، قد ينتج منه 300 تيرابايت(24) من البيانات المضغوطة. ومع ذلك، فإن هذه المشكلة ليست عصية على الحل. فوسائل البحث المتقدمة الشبيهة بالمراصد الفلكية ومراكز أبحاث الجينوم ومسرعات الجسيمات يمكنها استيعاب هذا الكم الهائل من البيانات الرقمية ودمجها وتوزيعها. وكما أفرز مشروع الجينوم البشري ميدان المعلوماتية البيولوجية للتغلب على مصاعب سَلْسَلة البيانات، فإن الفرع الأكاديمي لعلم المعلوماتية البيولوجية، قد يصبح قادرا على فك كود الطريقة التي يعمل بها الجهاز العصبي كلِّه.

وإن التمكن من تحليل بيانات من حجم الپيتابايتات petabytes سوف تكون له تداعيات لا تتمثل فقط بمعالجة هذا الفيض الهائل من المعلومات الجديدة، بل أيضا في وضع أسس نظريات جديدة حول الكيفية التي تتم بها ترجمة هذه القدوح العصبية المتضادة إلى إدراك وتعلم وذاكرة. وقد يسهم تحليل البيانات العملاقة أيضا في تأكيد أو دحض نظريات لم يكن اختبارها ممكنا من قبل. ومن بين النظريات المثيرة للاهتمام نظرية تفترض أن النورونات الكثيرة المشاركة في نشاط دارة عصبية ما تقوم بتطوير متواليات sequences قدح معينة تعرف باسم الجذابات attractors ينتج منها حالات الدماغ البارزة، مثل فكرة أو ذاكرة أو قرار. وفي إحدى الدراسات الحديثة، كان على الفأر اتخاذ قرار يتعلق باجتياز هذا الجزء أو ذاك من متاهة مسقطة على شاشة. وقد ترافق هذا الفعل بتشغيل العشرات من النورونات التي أظهرت تغيرات ديناميكية شبيهة بالجذاب في نشاطها.

إن فهم الدارات العصبية على نحو أفضل من شأنه أن يعزز قدرتنا على تشخيص أمراض الدماغ وتعميق فهمنا لأسبابها، بدءا بألزهايمر ووصولا إلى التوحد. فبدلا من أن يكتفي الأطباء بتشخيص هذه الحالات ومعالجتها على أساس الأعراض وحدها، سوف يكون بوسعهم إدخال تعديلات نوعية على نشاط دارات عصبية معينة تبين أنها تكمن وراء هذا الاضطراب أو ذاك، ثم تقديم المعالجات اللازمة لتصحيح تلك الشذوذات. ويكمن القول استطرادا إن الإحاطة علما بجذور المرض غالبا ما تتسنى ترجمتها إلى منافع اقتصادية يستفيد منها الطب والتقانات البيولوجية. ويجب أخذ قضايا الأخلاقيات الطبية والقانونية في الاعتبار كما حصل في مشروع الجينوم، لاسيما إذا كانت هذه الأبحاث تؤدي إلى القدرة على التمييز أو إحداث تغيير في الحالات العقلية، وهي عواقب من شأنها أن تستدعي اتخاذ إجراءات دقيقة بشأن موافقة المريض وحماية خصوصيته.

غير أن تحقيق النجاح في مبادرات الدماغ المختلفة، يستوجب استمرار العلماء ومن يدعمهم بالتركيز بعناية على الهدف من تصوير مجموعة الدارات العصبية ورصدها. فالفكرة التي تقوم عليها مبادرة الدماغ تطورت إثر مقال نشر في مجلة نورون Neuron في الشهر 6/2012. إذ اقترحنا وزملاؤنا في ذلك المقال إقامة علاقات تعاون مشتركة طويلة الأمد بين اختصاصيي الفيزياء والكيمياء وعلم النانو والبيولوجيا الجزيئية والعلوم العصبية لوضع خريطة نشاط الدماغ brain activity map تستمد عناصرها من تطبيق تقانات لقياس النشاط الكهربائي ورصده في دارات الدماغ جميعها.

ومع تطور مشروع الدماغ الطموح، لايسعنا إلا أن نحث على ضرورة الحفاظ على ما ركزنا عليه أصلا، ألا وهو بناء الأداة. فمجال بحوث الدماغ واسع جدا، ومبادرة الدماغ يمكن أن تنحرف بسهولة وتتحول إلى قائمة بخلطة الاهتمامات الخاصة لمجموعة كبيرة من الاختصاصات الفرعية للعلوم العصبية، الأمر الذي يعني أن هذا المشروع قد يؤول إلى مجرد فعالية مكملة لما سبق تأسيسه من مشاريع تعمل على تنفيذها مجموعة كبيرة من المختبرات الفردية كل على حدة.

وإذا حصل ذلك، فسوف يكون التقدم عشوائيا، وقد يصبح من غير الممكن مواجهة التحديات التقنية الكبرى. ونحن بحاجة إلى التعاون الفعلي بين مختلف الفروع الأكاديمية. إذ لايمكننا بناء أدوات قادرة على تصوير ڤلطية ملايين النورونات في سائر مناطق الدماغ بصورة متزامنة إلا من خلال جهد متواصل يبذله فريق بحثي ضخم متعدد الاختصاصات. وحينئذ يتمكن هذا الفريق من تقديم التقانة اللازمة على نطاق واسع – منشأة مشتركة لمنظمة العلوم العصبية على طراز المرصد الفلكي. ونحن نُصرُّ على الاستمرار بالتركيز على تطوير تقانة جديدة قادرة على تسجيل ورصد وفك كود الموجات الكهربائية الحسكية spikes التي تشكل لغة الدماغ. وإننا نعتقد أنه من دون هذه الأدوات الجديدة فلن يتسنى للعلوم العصبية الخروج من عنق الزجاجة، وسوف تفشل في الكشف عن خصائص الدماغ البارزة التي يقوم عليها افتراضيا عدد لانهائي من أنماط السلوك. ويبقى تعزيز القدرة على فهم واستثمار لغة الموجات الحسكية والنورونات الوسيلةَ الأجدى لاستنتاج نظرية شاملة عن الكيفية التي تعمل بها أعقد آلة في الطبيعة.

(مجلة العلوم – ديسمبر2014)


المؤلفين:

Rafael Yuste

George M. Church

<يوست> هو أستاذ للعلوم البيولوجية والعلوم العصبية في جامعة كولومبيا والمدير المساعد في معهد مؤسسة كاڤلي لعلوم الدماغ، وقد حاز مؤخرا جائزة «المدير الريادي» التابعة للمعاهد الوطنية للصحة في أمريكا.

 <تشيرش> هو أستاذ الوراثيات (علم الوراثة) في جامعة هارڤرد، وهو مؤسس موقع الإنترنت المعروف PersonalGenomes. org، وهو موقع مفتوح للجميع، يتضمن بيانات تتعلق بالجينومات البشرية والتصوير العصبي والخصال السلوكية والمعرفية. وهو أيضا عضو في المجلس الاستشاري لمجلة ساينتفيك أمريكان.


مراجع للاستزادة

The Brain Activity Map Project and the Challenge of Functional Connectomics. A.
Paul Alivasatos et al. in Neuron, Vol. 74, No. 6, pages 970–974; June 21, 2012.
The NIH Brain Initiative. Thomas R. Insel et al. in Science, Vol. 340, pages 687–688;
May 10, 2013.


(*)THE NEW CENTURY OF THE BRAIN

(**)THE TV SCREEN PROBLEM

(***)Listening in on Millions of Neurons

(****)Voltage Imaging

(*****)DNA Ticker Tape

(******)GOING DEEP

(*******)Installing a Neural Light Switch

(********)How Optogenetics works

(*********)How Optochemistry Works

(**********)TOGGLING ON OR OFF SWITCHES


(1) الرطل الإنكليزي (الباوند) = 0.4536 كغ تقريبا.

(2) the Brain Research through advancing Innovative Neurotechnologies Initiative

(3) The Human Brain Project

(4) هو اختصاص فرعي يعنى بإنتاج ودراسة الكونيكتوم.

(5) يعالج مشروع الكونيكتوم البشري جانبا مفتاحيا لأحد أكبر التحديات العلمية في القرن الواحد والعشرين، ويرمي هذا المشروع إلى اكتشاف السبل العصبية التي تشكل الأرضية لوظائف الدماغ والسلوك، وموقعه على الإنترنت هو: humanconnectome.org

(6) (EEG) اختصارا لـelectroencephalographˮ“

(7) the oscillating “wavesˮ

(8) functional magnetic resonance imaging

(9) أو: پكسل ثلاثي الأبعاد

(10) large-scale recordings

(11) silicon base

(12) Janelia Farm Research

(13) spontaneous firing

(14) DNA polymerase

(15) encoded voltage sensors

(16) semiconductor

(17) computer chip؛ أو شريحة حاسوب.

(18) computational optics

(19) see-through optical imaging

(20) optochemistry

(21) fluorescent in situ sequencing

(22) electronic dust

(23) اختصارا لـ «غاما أمينو حمض البوتريك» gamma aminobutyric acid

(24) terabyte

*مجلة العلوم