مجلة حكمة

إيريك فروم: عن الطبيعة البشرية وحاجة النفس للإيمان العقلاني – ماريا بوبوفا / ترجمة: وضحى الهويمل، مراجعة: سارة اللحيدان


   “التفاؤل شكل من أشكال الإيمان، والتشاؤم شكل من أشكال اليأس … أن تكون مؤمنا يعني أن تكون جسورا، أن تفكر فيما يصعب تصوره، أو التفكير به، بل وتتصرف رغم ذلك ضمن حدود المعقول منطقيا.”

   اقتباسا مما كتبته “ريبيكا سولنت” في بيان رائع عن الأمل في زمن اليأس تقول: “الأمل هبة فلا إيرك فرومتتنازل عنها، وهو قوة فلا تفرط بها”، و “رغم أن الأمل يمكن أن يكون تحديا، إلا أن ذلك ليس سببا كافيا للأمل”. وسبقها بعقود الفيلسوف الإنساني، وعالم النفس الألماني العظيم “إيريك فروم” (13 مارس 1900 م | 18 مارس 1980 م)، ذو الحكمة الرصينة التي تجلّت بـ (فن الحب-The Art of Loving)، و (فن الوجود-The Art of Being)، وكذلك في أطروحته التي قدمت عام 1972 (تشريح النزعة التدميرية عند الإنسان- The Anatomy of Human Destructiveness)، وتناول فيها جُبن تشاؤم اليائس، ومدى الحاجة لتفاؤل عقلاني جريء.

   وفي نظرتنا للطبيعة البشرية، نجد أن إيرك فروم يميز بين الإيمان العقلاني للنفس البشرية، “المبني على الإدراك التام للحقائق ذات الصلة”، وبين الإيمان اللاعقلاني “الوهم الذي نسجته رغباتنا” ويكتب حول ذلك قائلا: –

   إن التفاؤل شكل من أشكال الإيمان، والتشاؤم شكل من أشكال اليأس. وللمرء أن يستجيب لمستقبل الإنسان باهتمام ومسؤولية، واستجابته تلك تكون إما بالإيمان أو اليأس. يقوم الإيمان العقلاني، وكذلك اليأس العقلاني على إدراك نقدي لكافة العوامل الضرورية لبقاء الإنسان. ومن ثم فإن أُس الإيمان العقلاني لدى الإنسان يتمثل بوجود احتمالية حقيقية لنجاته، وقد يتمثل أُس اليأس العقلاني بإدراك انعدام هذه الاحتمالية.

    قبل آلاف السنين كانت هناك رؤية “أفلاطون” حول قدراتنا المتماثلة للخير والشر، هنا يضيف إيرك فروم: –

  إن القول بأن “الطبيعة البشرية شريرة” ليس بأكثر واقعية من القول بأن “الطبيعة البشرية صالحة”. بيد أن الأول قد تسهل صياغته، فمن أراد برهنة الشر في طبيعة الإنسان سيلقى أتباعا وبسهولة، لأنه يقدم ذريعة لخطاياهم، دون أن يخاطر بشيء. غير أن انتشار اليأس العقلاني أمر مدمر بحد ذاته، تماما مثل شيوع الكذب، فهو محيّر، ومثبط للعزيمة. ويكاد أن يكون الوعظ بالإيمان اللاعقلاني، أو التبليغ بخرافة المسيح المنتظر أقل هدما، وتدميرا، فهو يغوي المرء ويُقعده.

   وهذا في الواقع سبب كون فلسفة التهكم فلسفة مغرية جدا لثقافتنا الحاضرة، كنموذج مضر من الانصياع الانهزامي المتنكر بصورة فكر نقدي، حول هذا يضيف إيريك فروم بذكاء: –

    “سلوك الأغلبية ليس امتدادا لإيمانهم، ولا ليأسهم، بل امتداد لعدم اكتراثهم – بالمطلق – لمستقبل الإنسان. أما سلوك المكترثين – إلى حد ما – بالتعاطي مع هذا الأمر فهو ناجم إما عن “التفاؤل” أو “اليأس”. إن المتفائلين هم أولئك المؤمنين بعقيدة السير المتواصل “للتقدم”، فقد اعتادوا على تحديد الإنجاز البشري من خلال منجز تقني، والحرية البشرية من خلال حرية بإكراه مباشر، وحرية المستهلك من خلال حصر خياراته إلى عدة سلع بزعم أنها مختلفة. لا تستهويهم مفاهيم مثل الكرامة، والتعاون، والإحسان لدى البدائي، بقدر ما يستهويهم المنجز التقني، والثروة، والعنف …

     يعيش “المتفائلون” بشكل جيد على الأقل في الوقت الراهن، وبإمكانهم تحمل حقيقة تفاؤلهم، أو هذا ما يظنونه نظرا لكونهم بمعزل تام إلى درجة أن مستقبل أحفادهم لا يعدّ تهديدا لهم. ويعيش “المتشائمون” بارتياح، ولا يختلفون كثيرا عن المتفائلين إلا أنهم منصرفين بعض الشيء. يهمهم مصير البشرية كما هو الحال مع المتفائلين، والمتشائمين لا يشعرون باليأس، ولو شعروا فلم ولن يتمكنوا من العيش بارتياح كما عهدوا من قبل. وعندما تدفع بهم رسائلهم التشاؤمية للخلاص من أي ضرورة داخلية للقيام بأمر ما، نتيجة تصورهم لفكرة ألا شيء يمكن القيام به حيال الأمر، فإن المتفائلين يعصمون أنفسهم من ذات الضرورة وذلك بإقناع أنفسهم أن كل شيء يسير حسبما يرام لذا لا ينبغي عليهم القيام بشيء على أية حال.

    ويرى “إيريك فروم” أن ما نحتاجه لتجاوز هذه الثنائية البائسة: “إيمانا عقلانيا في قدرة الإنسان على انتشال نفسه من الظروف الحتمية التي نسجها بنفسه على ما يبدو”. وجاء في صميم فلسفته عن الراديكالية الإنسانية:

   تسعى الراديكالية الإنسانية إلى تحرير الإنسان من قيود الأوهام، وتسلم بضرورة إحداث تغييرات جوهرية، ولا يقتصر الأمر على نظامنا الاقتصادي والسياسي، بل يمتد للقيم، وللمفهوم المتعلق بغايات الإنسان، وكذلك إلى السلوكيات الشخصية.

   أن تكون مؤمنا يعني أن تكون جسورا، أن تفكر فيما يصعب تصوره، أو التفكير به، بل وأن تتصرف رغم ذلك ضمن حدود المعقول منطقيا. هو ذاك الأمل المتناقض في انتظارك الدائم للمسيح، وفقدانك الأمل بقدومه في الساعة الموعودة. هذا الأمل ليس سلبيا ولا عليلا، بل على النقيض تجده يتطلع لأي احتمال ضمن حدود احتمالات الواقع.

  ويضيف الفيلسوف “إيريك فروم” عن “ألبير كامو” وتصوره الحكيم حول السعادة، اليأس، وحب الحياة:

    إن وضع البشرية خطير جدا لدرجة لا تسمح لنا بالإصغاء إلى الغوغائيين، أو أولئك الغوغائيين الذين يستهويهم الهدم والتدمير، وكذلك القادة الذين تصلبت قلوبهم، فما استخدموا سوى عقولهم. الفكر النقدي والراديكالي سيؤتي ثماره فقط حين يندمج مع أعظم خاصية قد ينعم بها الإنسان “حب الحياة”.

المصدر