مجلة حكمة
في مقهى الوجودية

الحياة والموت في مقهى الوجودية – ريتشارد قولسان / ترجمة: خلود السرحان


منحت سارة بيكويل كتابها عنواناً غريباً بعض الشيء “في مقهى الوجودية: الحرية والكينونة وحفلات الكوكتيل ” حيث كان مقدمة الكتاب تضم كلا من سيمون دي بوفوار وجان بول سارتر، وصديقهم ريمون آرون يحتسون الكوكتيل في مقهى باريسي. وقد يفترض القارئ أن كتاب سارة بيكويل الجديد ما هو إلا تمهيداً غير رسمي للنسخة الفلسفية السائدة حول “ضوء الوجودية” في منتصف القرن العشرين.

وذلك الافتراض قد يكون صحيحاً بشكل جزئي لأن كتاب “في مقهى الوجودية” يستعرض بشكل مكثف الإنجازات الفلسفية للمفكرين الوجوديين العظماء في أوروبا مثل مارتن هايدغر، إدموند هوسرل، وكارل ياسبرز في ألمانيا؛ وجان بول سارتر، سيمون دي بوفوار، وموريس ميرلو بونتي في فرنسا. كما يناقش في بعض الحالات أفكار بعض الأشخاص في “المدار الوجودي” بما في ذلك طلاب هيدجر هربرت ماركوز وحنة أرندت في باريس، والسابق الذكر ريمون آرون، والمسيحي الوجودي غابرييل مارسيل، وبطبيعة الحال، ألبير كامو. والانتماءات الفكرية المشتركة الأخيرة لسارتر ودي بوفوار الذي ينفي دائما كونه وجودياً مفضلا وصف فلسفته بأنها “فلسفة عبثية“.

ولا ينتهي الكتاب عند هذا الحد بل يقدم للقارئ أيضاً مجموعة من الفنانين والكتّاب والأصدقاء ومحبي الوجودية وخاصة في فترة ما بعد الحرب في باريس. كالروائي وعازف الجاز بوريس فيان الذي توفي بشكل مأساوي في عمر التاسعة والثلاثين بسبب نوبة قلبية. وكلود لانزمان مخرج فيلم” المحرقة” وصديق دي بوفوار الحميم والمحرر الحالي للأزمنة الحديثة. والأمريكي ريتشارد رايت الذي تأثرت أعماله الأخيرة بعمق بفكرة الوجودية. والكاتب الصحفي والناشط آرثر كوستلر وهو صديق سارتر وكامو الذي انتهت علاقته بهما تدريجياً بعد مشاجرة في أحد الليالي حول خلافات سياسية. وتختم الكاتبة بمجموعة من الأصدقاء الأنجلو أمريكيين واللاحقين والمشاهير من الوجوديين مثل ايريس مردوخ و “الشاب الغاضب” كولن ويلسون في المملكة المتحدة ووليام باريت والتر كاوفمان في الولايات المتحدة.

وبعيداً عن الشخصيات البارزة تندفع الكاتبة بيكويل أيضا إلى أبعد من ذلك حيث تناقش تأثير أفكار سارتر على سبيل المثال بشأن القادة السياسيين في جمهورية التشيك خلال ربيع براغ عام 1968. وكذلك تتبع الكاتبة أيضا تأثير كتاب “الجنس الأخر” لمؤلفته دي بوفوار على النساء البريطانيات والأميركيات في مختلف جوانب حياتهن. وأضافت الكاتبة أنها تدرس أيضا تأثير الوجودية على الأعمال الأدبية والسينمائية الشعبية في الخمسينيات والستينيات والسبعينيات. وتشمل على فيلم “الرجل في الحلة الرمادية” و”الرجل الخجول بشكل لا يصدق” و “غزو جسم المختطفين”. وجميع تلك الأفلام بارزة لكونها تعكس صوراً من العزلة والإنسجام. (ويمكن للكاتبة بيكويل بالطبع أن تذكر العديد من الأعمال الأخرى كذلك بالنظر إلى شعبية وانتشار الموضوعات الوجودية وليس فقط في الثقافة الشعبية البريطانية والأمريكية ولكن في العديد من البلدان الأخرى أيضا).

وبناءً على ذلك يعتبر كتاب “في مقهى الوجودية” أكثر من كونه تميهداً لـ”ضوء الوجودية” . فهو أيضاً تحليل دقيق للأفراد وتأثير الشخصيات فيما يتعلق بالأحداث الفكرية المشحونة والمكثفة. وقد تميزت الحقبة التي كتبت عنها بيكويل بالانقسامات والصراعات الايديولوجية العنيفة والقاتلة وكذلك الأحلام الفكرية المحطمة. في فرنسا خصوصا، الانتقال السريع من نهاية فيشي والاحتلال النازي في الحرب الباردة، وصعود القوى العظمى، والوعي بمعركة الهرمجدون الوشيكة نتيجة احتدام المشاعر السياسية لم يسبق لها مثيل. كانت التعاقدات السياسية التي أبرمت قوية وصامدة حتى يومنا هذا، وفي كثير من الأحيان قد يحدث تغيير جذري تحت وطأة التطورات السياسية الجديدة وهذا ما أطلقت عليه دي بوفوار “قوة الظروف”.

ونتيجة لذلك كانت التحالفات كالصداقات يتم عقدها أو فضها على حسب إيقاع التاريخ. فعلى سبيل المثال، ميرلو-بونتي كان مؤيد متشدد للستالينية، مما يشكل تحديا لآرثر كوستلر عندما نشر هذا الأخير روايته العظيمة “الظلام في الظهر” المعارضة للستالينية فقط للابتعاد عن دعم الشيوعية في أعقاب غزو كوريا الجنوبية من قبل كوريا الشمالية. وكان هذا التغيير في منظوره العنصر الحاسم في تمزق الصداقة الطويلة مع جان بول سارتر. ولكن كما أشارت الكاتبة بيكويل أن هناك عوامل أخرى ساهمت في حدوث ذلك. قبول بول ميرلو-بونتي وسعيه للحصول على عمل اكاديمي، وتعيينه في كوليج دو فرانس، مما أثار غضب سارتر الذي يعتبر ممارسة تقدم المهنة على حساب النزاهة الشخصية أمراً برجوازياً. من جانبه، امتعض ميرلو-بونتي من شريكه سارتر لتدخله وعدم رغبته في تقاسم عبء العمل في “ليس تمبز مودرن”، المجلة التي أسساها معاً مع دي بوفوار وغيرهم بعد التحرير. ورغم أنهم بذلوا كافة  الجهود للتصالح إلا أن العلاقة لم تعد كما كانت سابقاً.