مجلة حكمة
الكرامة الإنسانية

ما الذي يتطلبه منا الإلتزام بمفهوم الكرامة الإنسانية ؟- باتريسيا تشرشلاند / ترجمة: فاطمة الشملان

كيف يمكننا معرفة ما الذي يتطلبه منا الإلتزام بمفهوم الكرامة الإنسانية؟

من كتاب الكرامة الإنسانية والأخلاقيات الحيوية


فلتتأمل بعض الحقائق الجلية. أولا “الكرامة الإنسانية” ليست بمفهوم محدد الملامح، بالطريقة التي بها “الإلكترون” أو “الهيموجلوبين” محددين. كما أنها ليست تقليدية محضة، بالطريقة التي بها ” متر” و “جالون” تقليديين. إنها ليست نوعا من التهذيب كما عبارات الشكر. ولا تتضمن شيئا من الحقائق، كما تفعل عبارة “الأرض تدور حول الشمس”. من المهم لنا إعتبار غيرنا من البشر كمستحقين للكرامة، وأن نعتبر أنفسنا مستحقين للمعاملة الكريمة كذلك. لكن ما تتضمنه العبارة ليس معرفا بشكل قاطع. ولذا يتباين المفهوم-عبر الثقافات وضمن الثقافات وعبر التاريخ وفي الحياة الواحدة للمرء نفسه. بل إنها تتباين بدقة حتى ضمن أولئك الأشخاص أصحاب النية الجيدة والذين هم أنفسهم آية على النزاهة الأخلاقية. على سبيل المثال يرى بعض الأخلاقيين أن الإجهاض منكر أخلاقي بينما يراه آخرون كإلتزام أخلاقي. قد يزعم كلاهما يقينا أخلاقيا؛ ويزعم كلاهما أن ما يعتقده مباركا دينيا.

77877في التاريخ القريب، رأى بعض الأشخاص التطعيم ضد الجدري شنيعة أخلاقية على أساس أنها تنتزع سلطة الرب، بينما اعتبرها آخرون واجبا أخلاقيا في أن يُطّعم كل الأطفال ضد هذا المرض. تطالبنا بعض الكتب المقدسة بقتل أي أحد يُعد ساحرا؛ بينما تنص كتابات أخرى حكيمة بأن حرق المهرطقين واللاعنين شائنة أخلاقية. وفي بعض الحالات، تكون الكتب المقدسة نفسها غير متسقة في السؤال الأخلاقي عن الرق.

يشير التباين في الممارسة الأخلاقية، والذي يرتبط غالبا بالتباين في التفضيلات الدينية، بأننا لا يمكن أن نستقر على ما تعني “الكرامة الإنسانية” من خلال إلتماس أيديولوجية عالمية مشتركة. هل يمكن للفلاسفة توظيف أداة تُعرف ب ” التحليل المفاهيمي” للكشف عن المتطلبات؟ إن الأمر ليس أكثر من قدرتهم على استخدام التحليل المفاهيمي لمعرفة أن النار عبارة عن أكسدة سريعة أو أن معدلات الرهن العقاري سترتفع الشهر القادم. لا يوجد مصدر نهائي غير قابل للخلاف عن حقيقة ما تتضمنه “الكرامة الإنسانية”، حتى عند الفلاسفة، حكماء الكلمة منهم، الذين يملكون امتياز الولوج إليها. لا يوجد “حس” مثبت بطريقة ما إلى مجال معين، لو كان عندنا فقط مدخل، أو عن طريق توظيف المنطق الخالص، لو كنا حذقين كفاية!

ما هو التحليل المفاهيمي؟ لو بالكاد لمس “التحليل المفاهيمي” على كيف يستخدم المفهوم حاليا من قبل الناس العاديين لوُضع التباين والغموض والضبابية والنهاية المفتوحة الكامنة في الاستخدام العام لـ ” الكرامة الإنسانية” مجردا. وعلى هذا النهج فإن التحليل المفاهيمي منظومة أنثروبولوجية في الأساس. على الصعيد الآخر، لو وُظف التحليل المفاهيمي على أمل تبديد كل الغموض والضبابية والاستقرار على ما إذا، على سبيل المثال، يجب أن تُعزا الكرامة الإنسانية إلى البويضة المخصبة، فإن الأمل إذن عقيم. لا توجد تقنية تحليلية خالصة يمكنها أن تنقلك من هنا إلى هناك. يستورد بعض الفلاسفة بشكل مبطن إلى “تحليلهم” قناعة أخلاقية مفضلة، لكن يتجاوز ذلك التحليل المجرد للمفهوم كما يعيش ويتنفس، ويمضي لتمرير منظور أخلاقي معين. وفي تلك الحالة، حري على المرء أن يتجنب تمثيلية التحليل المفاهيمي برمتها ويقوم فقط بتمرير المنظور الأخلاقي بصراحة.

هل هناك أي مصدر من المعرفة الخاصة التي يمكن للفلاسفة أن يتفردوا بالإحتكام إليها؟ لا يوجد. عُرف عن أفلاطون اعتقاده بأن المفاهيم المهمة، وُجدت مكتملة مع كل مضامينها حقا في مضمار الفكر، والتي لقبت لاحقا بشكل هزلي بجنة أفلاطون. واحسرتاه، جنة أفلاطون مجرد خيال كما عرف أرسطو جيدا. المفاهيم جزء من اللغة الحية ومتشربة بالقناعات والارتباطات والتشابهات. إنها تتغير مع الوقت، تختفي أحيانا أو تبعث: إنها فئات تستخدمها العقول كي تجعل العالم منطقيا. إنها ليست حسا أفلاطونيا ثابتا أو جامدا والذي يمكن الوصول إليه عبر عملية شبه سحرية كالفكر الأفلاطوني.

كيف يمكننا إذن حل الخلاف الأخلاقي حول ممارسة معينة؟ هل يمكننا احتضان مبدأ الكرامة الإنسانية العالمية ونستمر في استخدام موانع الحمل ودعم أبحاث الخلايا الجذعية؟ إن حل تلك القضايا هي رقصة اجتماعية مركبة مثل كا النشاطات الاجتماعية. من أجل مقاربة أولية، إنها تتعلق بأناس ذوي نيات حسنة يحاولون الوصول إلى حل عملي. لعل ذلك يبدو دنيويا، إلا أنه يجسد حكمة البشر المتباينة كتلك لأرسطو وجون لوك وبينجامين فرانكلين وجون ديوي ونيلسون مانديلا وكونفوشيوس. إنها تتعلق بالإقرار بأن لا يوجد شخص واحد أو مهنة واحدة أو قطاع ديني واحد أو نص مقدس واحد يمكن الاعتماد عليه لتوفير الإجابة الصحيحة للأسئلة الأخلاقية.

إني أحب أن أقول لطلبتي، بأنه لا يوجد معلم حكيم جالس على قمة جبل يقبض على كل الحقائق الأخلاقية في جيبه. كيف يمكن أن يكون هناك؟ على ذلك المعلم أن يكون عالما بكل الظروف الاجتماعية وكل التقدمات العلمية الممكنة. لا يوجد إنسان واقع في تلك الخانة الامتيازية. كما لا توجد وصفة معينة لكيف يمكن لأناس بنية جيدة العمل سوية لإيجاد حل. لكن لدينا تاريخ نتعلم منه. بالإضافة على أمثلة لما يجب أن تجنبه، لدينا أمثلة حيث لم تطلق حملات صليبية دامية، ولم يحرق مهرطقين، ولم يقطع رأس كافر، ولم تنهب مدينة، ولم يهشم قدوة. يمكننا أن نأمل من تلك الأمثلة أن نتعلم السبل الأخلاقية اللائقة لحل خلافات عن استخدامات تقنيات الطب الحديثة.