هناك عدد مهم من نصوص كانط، حيث نجد تأكيده على أن الكذب هو خطأ أخلاقي، كما في مؤلفاته: “دروس الأخلاق”، “أسس ميتافيزيقا الأخلاق”، “نظرية الفضيلة”. فالكذب هو انتهاك خطير لواجب المرء ضد نفسه وصدقه معها. فالإنسان غير الصادق، يعني ذاك الذي يقول عمدا ما لا يفكر فيه، أو في حالات أخرى يقول عكس ما يعتقده، يتخلى على شخصيته (هويته). والنتيجة هي أنه يتوقف على وضعه كإنسان حقيقي، حيث يجتمع فيه الفكر والقول (أو القول والفعل). إنه يصبح شبه إنسان.
يعتبر كانط الكذب مغيضا أخلاقيا، وكيفما كان الدافع له فإنه يكون ظلما. والمتمعن لجوابه على الفرنسي كونستان (Écrits politiques de Benjamin Constant, textes rassemblés et présentés par Marcel Gauchet, Gallimard, Poche, 870 pages, 1997) في النص المترجم التالي، يلاحظ بأن هناك فهم خاص للذاتية عند كانط. فكل البشر، طبقا له، يولدون “بقيمة جوهرية”، تُسمى الكرامة الإنسانية. وأساس هذه الأخيرة يكمن في كون الناس عُقلاء وقادرون على أخذ قرارات باستقلال تام. إضافة إلى هذا فإن الكذب في نظره يُفسد القدرات الأخلاقية للإنسان ويعيق الآخر في السلوك بعقل وباستقلال، ويعني هذا بأن الكذب هو مس بكرامة الآخر. من هنا، يرفض كانط كل حق في الكذب.
واجب قول الحقيقة في كل الأحوال هو، عند كانط، نتيجة أخلاق الضرورة الحتمية. على الإنسان، حسب هذه الأخلاق أن يسلك طبقا لحكمة غير متناقضة وقابلة للتعميم. والتناقض يحصل مباشرة مع الذي يلتجأ للكذب، ولا يود اعتباره قاعدة عامة. فوجود كذاب، يفترض وجود ساذج (أو سذاجة)، وبمجرد ما ينتبه هذا الساذج ويَعُمُّ الكذب، فإن هذا الأخير قد يقضي على نفسه بنفسه بأن تُفقد الثقة بالتمام بين الناس.
إن أهم ما يجب أن نحتفظ به في ذاكرتنا الواعية من نص كانط هذا، هو تأكيده على أن كل من يحاول التسامح مع الأطروحة القائلة بالحق في الكذب، يساهم مباشرة في إنتاج مجتمع مستحيل ومتفسخ، لأن الحق في الكذب مناقض تماما لمبدأ الحق ذاته. ومن الضروري أن تطول صرامة عدم التسامح هذا الميدان السياسي أيضا، لأنه الميدان الذي “لم يَسْمُ فيه قط قول الحق إلى مستوى الفضائل السياسية” كما قالت مرة هانا أرينت Arendt. فاللجوء إلى الكذب في الممارسة السياسية هو مس فضيح بكرامة المواطن وهدم بَيِّن للعقد الإجتماعي بين الناس. وغض الطرف عن الكذب، هو الذي أوصلنا في المغرب مثلا، إلى ما نحن عليه، حيث أصبح الكذب الآتي من الفوق رياضة شعبية، لها تأثير مقيت على سلوك الشعب. أصبحنا كلنا كذبة، نكذب ونصدق أكاذيبنا، وبهذا وصلنا إلى مستوى استيلاب خطير للغاية، لم نعد أسياد أنفسنا وأحرارا في اختياراتنا، بقدر ما عَمَّ الكذب، ليصبح بُنية من بنيات أساسنا النفسي والإجتماعي والثقافي.
“في نص: “فرنسا في سنة 1797″، عدد 1، “حول التأثير المعاكس/المضاد”، لبنيامين كونستان Benjamin Constant، نجد الآتي في الصفحة 123: “يجعل المبدأ الأخلاقي القائل بأنه من المسؤولية قول الحق، عندما يأخذه المرء كشرط ضروري وفي معزل، كل مجتمع غير ممكن. ونجد البرهان على ذلك في النتائج المباشرة التي توصل إليها فيلسوف ألماني (المقصود هنا هو كانط، إ. م) انطلاقا من هذا المبدأ، والذي ذهب بعيد مؤكدا: بأن الكذب اتجاه قاتل سألنا هل الصديق الذي يلاحق اختبأ في منزلنا، هو جريمة (يعني الكذب)”.