مجلة حكمة
إيمانول كانط الحق

إيمانويل كانط: حول ادعاء الحق في الكذب لأسباب إنسانية / ترجمة: حميد لشهب


هناك عدد مهم من نصوص كانط، حيث نجد تأكيده على أن الكذب هو خطأ أخلاقي، كما في مؤلفاته: “دروس الأخلاق”، “أسس ميتافيزيقا الأخلاق”، “نظرية الفضيلة”. فالكذب هو انتهاك خطير لواجب المرء ضد نفسه وصدقه معها. فالإنسان غير الصادق، يعني ذاك الذي يقول عمدا ما لا يفكر فيه، أو في حالات أخرى يقول عكس ما يعتقده، يتخلى على شخصيته (هويته). والنتيجة هي أنه يتوقف على وضعه كإنسان حقيقي، حيث يجتمع فيه الفكر والقول (أو القول والفعل). إنه يصبح شبه إنسان.

يعتبر كانط الكذب مغيضا أخلاقيا، وكيفما كان الدافع له فإنه يكون ظلما. والمتمعن لجوابه على الفرنسي كونستان (Écrits politiques de Benjamin Constant, textes rassemblés et présentés par Marcel Gauchet, Gallimard, Poche, 870 pages, 1997) في النص المترجم التالي، يلاحظ بأن هناك فهم خاص للذاتية عند كانط. فكل البشر، طبقا  له، يولدون “بقيمة جوهرية”، تُسمى الكرامة الإنسانية. وأساس هذه الأخيرة يكمن في كون الناس عُقلاء وقادرون على أخذ قرارات باستقلال تام. إضافة إلى هذا فإن الكذب في نظره يُفسد القدرات الأخلاقية للإنسان ويعيق الآخر في السلوك بعقل وباستقلال، ويعني هذا بأن الكذب هو مس بكرامة الآخر. من هنا، يرفض كانط كل حق في الكذب.

واجب قول الحقيقة في كل الأحوال هو، عند كانط، نتيجة أخلاق الضرورة الحتمية. على الإنسان، حسب هذه الأخلاق أن يسلك طبقا لحكمة غير متناقضة وقابلة للتعميم. والتناقض يحصل مباشرة مع الذي يلتجأ للكذب، ولا يود اعتباره قاعدة عامة. فوجود كذاب، يفترض وجود ساذج (أو سذاجة)، وبمجرد ما ينتبه هذا الساذج ويَعُمُّ الكذب، فإن هذا الأخير قد يقضي على نفسه بنفسه بأن تُفقد الثقة بالتمام بين الناس.

إن أهم ما يجب أن نحتفظ به في ذاكرتنا الواعية من نص كانط هذا، هو تأكيده على أن كل من يحاول التسامح مع الأطروحة القائلة بالحق في الكذب، يساهم مباشرة في إنتاج مجتمع مستحيل ومتفسخ، لأن الحق في الكذب مناقض تماما لمبدأ الحق ذاته. ومن الضروري أن تطول صرامة عدم التسامح هذا الميدان السياسي أيضا، لأنه الميدان الذي “لم يَسْمُ فيه قط قول الحق إلى مستوى الفضائل السياسية” كما قالت مرة هانا أرينت Arendt. فاللجوء إلى الكذب في الممارسة السياسية هو مس فضيح بكرامة المواطن وهدم بَيِّن للعقد الإجتماعي بين الناس. وغض الطرف عن الكذب، هو الذي أوصلنا في المغرب مثلا، إلى ما نحن عليه، حيث أصبح الكذب الآتي من الفوق رياضة شعبية، لها تأثير مقيت على سلوك الشعب. أصبحنا كلنا كذبة، نكذب ونصدق أكاذيبنا، وبهذا وصلنا إلى مستوى استيلاب خطير للغاية، لم نعد أسياد أنفسنا وأحرارا في اختياراتنا، بقدر ما عَمَّ الكذب، ليصبح بُنية من بنيات أساسنا النفسي والإجتماعي والثقافي.

“في نص: “فرنسا في سنة 1797″، عدد 1، “حول التأثير المعاكس/المضاد”، لبنيامين كونستان Benjamin Constant، نجد الآتي في الصفحة 123: “يجعل المبدأ الأخلاقي القائل بأنه من المسؤولية قول الحق، عندما يأخذه المرء كشرط ضروري وفي معزل، كل مجتمع غير ممكن. ونجد البرهان على ذلك في النتائج المباشرة التي توصل إليها فيلسوف ألماني (المقصود هنا هو كانط، إ. م) انطلاقا من هذا المبدأ، والذي ذهب بعيد مؤكدا: بأن الكذب اتجاه قاتل سألنا هل الصديق الذي يلاحق اختبأ في منزلنا، هو جريمة (يعني الكذب)”.

يضحد هذا الفيلسوف (بنيامين كونستان) في الصفحة 124 هذا المبدأ بهذه الطريقة: “من الواجب قول الحقيقة. فمفهوم الواجب ملتسق بمفهوم الحق/القانون. فالواجب هو ما يطابق عند موجود ما (إنسان إ.م) حق الآخر. وحيثما لا وجود للحقوق، فلا وجود للواجبات. فقول الحقيقة هو واجب إذن، لكن فقط اتجاه أولائك الذين لهم الحق لمعرفة الحقيقة. وليس لأي إنسان الحق في معرفة حقيقة تُؤذي الآخر”.

يكمن الإستنتاج الخاطئ prôton pseudos هنا في هذه المقدمة: “إن قول الحقيقة هو واجب، لكن فقط اتجاه الذين لهم الحق في معرفة الحقيقة”.

بدء، لابد من ملاحظة كون تعبير الحق في معرفة الحقيقة هو كلمة دون معنى. على المرء أن يقول: للإنسان الحق في حقيقته، يعني له الحق في الحقيقة الذاتية في شخصه. موضوعيا قد يعني الحق في معرفة الحقيقة بأن الأمر يرتبط، تماما كما هو الأمر فيما يخص ما هو لي وما هو لك، بإرادته، ما إذا كان من الواجب أن يكون مبدأ ما صحيحا أو خاطئا، وهذا ما قد يقود إلى منطق غريب.

الإشكالية التالية الآن: هل من حق الإنسان، في المواقف التي لا يكون بإمكانه فيها تجنب الجواب بنعم أو بلا، أن يكذب. والإشكالية الثانية هي: ألا يكون مضطرا في شهادة معينة له، حيث يفرض عليه بطريقة غير عادلة الكذب، للإحتماء من عدوان عليه أو على شخص آخر.

إن قول الحقيقة في الشهادات التي لا يمكن للمرء تجنبها هي واجب شكلي للإنسان ضد الكل، حتى وإن نتج عن هذا له أو لشخص آخر أكبر ضرر. ألا أظلم ذاك الذي فرض علي بطريقة ظالمة. عندما أحرف شهادتي، فإنني أقوم من خلال ذلك بما يمكن تسميته كذلك كذبا (حتى وإن لم يكن ذلك في المعنى القانوني)، وفي العمق فإنني أُلبس الواجب بلاباس الظلم: أقوم بكل ما في وسعي لكي لا تكون لشهادتي أية صحة، ومن خلال هذا تسقط كل الحقوق المؤسسة على عقود وتفقد كل قوتها، وهذا ما يُعتبر أكبر ظلم يمكن إلحاقة بإنسان ما.

إن تعريف الكذب، كشهادة غير صحيحة بسابق الإصرار ضد إنسان آخر، لا تحتاج لإضافة كونها قد تسيئ لشخص آخر، كما يُطالب القانونيون بذلك في تعريفهم للكذب. إنه (أي الكذب) يضر دائما بالآخر، وإذا كان الأمر لا يتعلق بشخص، فإنه يتعلق بالإنسانية كلها، لأنه يقضي على مصدر القانون.

قد يُعاقَب على هذه الأكذوبة اللينة عن طريق الصدفة، انطلاقا من قوانين المواطنين، وما يمكن أن يفلت عن طريق الصدفة للعقاب، يمكن أيضا أن يُحكم عليه انطلاقا من القوانين الخارجية كظلم. فإذا أَعَقْتَ بأكذوبة إلقاء القبض الفوري على قاتل، فإنك تكون مسؤولا قانونيا على كل النتائج التي قد ترتب عن ذلك. أما إذا احتفظتَ على الحقيقة بصرامة، فإن القانون العام سوف لن يؤذيك، كيفما كانت النتيجة. قد يغادر المُلاحَق البيت حيث التجأ دون أن ينتبه إليه أحد، في الوقت الذي تكون فيه أنت قد أجبت بنعم عن سؤال المُلاحِق ما إذا كان المُلاحَق يوجد في بيتك، وبمغادرته تلك ينجو من الملاحقة، وبذلك لن تقع جريمة قتل. لكن إذا كذبت وقلت بأنه ليس في البيت، ويخرج باالفعل من المنزل (حتى وإن لم تكن تعلم بذلك) ويلتقي به المُلاحِق وهو خارج ويمارس عليه جريمته، فسيكون من الحق محاكمتك كسبب لقتل هذا الشخص. إذا قلت الحقيقة كما تعرفها، فقد يحدث أن يلاحق الجيران الذين يمرون في ذلك الوقت قرب المنزل المُلاحِق وهو يبحث عن ضحيته، وبهذا يُعرقل حدوث جريمة القتل هذه. فمن كذب كيفما كانت نيته في هذا الأمر، فإنه يكون مضطرا لتحمل مسؤوليته اتجاه المحاكم الوطنية ويُعاقب: وحتى وإن لم يكن من الممكن التنبأ دائما بما قد يحدث، لأن قول الحقيقة هي واجب، يجب النظر لها كأساس لكل الواجبات المؤسسة على التعاقد، فإنه قد يقضى على قانون الحقيقة ويُزَعْزَع إذا ما خصص له المرء ولو قدر رضئيل من الإستثناء.

إن قول الحقيقة  (الصدق) في كل ما يشرحه المرء هو إذن أمر عقلي مقدس، غير مشروط ولا يجوز تقييده بأية مصطلحات.

إن ملاحظة السيد كونستان Constant مُفَكَّر فيها جيدا وصحيحة في نفس الوقت، حول تشويه مثل هذه المبادئ الصلبة والتي تضيع في أفكار محبطة؛ يقول في الصفحة 123 في الأسفل: “في كل مرة يظهر فيها عدم إمكانية تطبيق مبدء بُرهن على صحته من قبل، فلأننا نجهل المبدأ الوسيط الذي يحتوي على أداة التطبيق”. ويستشهد في الصفحة 121 بمبدأ المساواة كأول حلقة في السلسلة الإجتماعية. في الصفحة 122: “لا يمكن لأي إنسان كان الإنخراط إلا في القوانين التي شارك فيها. وقد يطبق هذا المبدأ في مجتمع ضيق بطريقة مباشرة، ولا يكون في حاجة لكي يصبح قابلا للتطبيق لمبدأ وسيط. لكن في تركيبة مختلفة، في مجتمع كبير جدا، لابد من إضافة مبدأ جديد، مبدأ وسيط يضاف إلى ذلك الذي ذكرناه هنا. ويتمثل المبدأ الوسيط في إمكانية الأفراد المشاركة في تشكيل القوانين، سواء مباشرة أو عن طريق ممثليهم. وكل من أراد تطبيق المبدأ الأول في مجتمع كبير دون استعمال المبدأ الوسيط، سيُحدث فيه بالتأكيد اضطرابا. ولن يُبرهن هذا الإضطراب، الذي يشهد على جهل أو سخافة المُشَرِّع، أي شيئ ضد هذا المبدأ”. ويستنتج في الصفحة 125 التالي: “لا يجب التخلي أبدا على مبدأ اعْتُرِف بأنه صحيح، كيفما كانت مخاطره الظاهرية”. (ومع ذلك فإن هذا السيد الممتاز (يقصد به كونستان، إزم) قد غادر هو نفسه المبدأ المطلق للحقيقة، بسبب الخطر الذي يحمله معه للمجتمع، لأنه لم يكتشف أي مبدء وسيط، يُمكِنُه من حمايته من هذا الخطر، ولا نجد هنا بالفعل أي إدخال لمثل هذا المبدأ.

إذا أردا المرء الإحتفاظ على أسماء الأشخاص كما ذكرت هنا، فإن “الفيلسوف الفرنسي” يخلط الفعل المتعلق بالقول بأن شخص ما يضر بشخص آخر، بقوله للحقيقة، التي لا يمكن لذاكرته تجنبها، مع الذي يقترف في حقه ظلما. كان من الصدفة فقط أن قول الحقيقة أضر بالذي اختبأ في ذاك البيت، ولم يكن ذلك فعلا حرا (في المعنى القانوني للكلمة). تتمثل نتيجة حق مطالبة الآخر بالكذب لصالحه في كونه حقا تدور حوله خصامات قانونية. لكل إنسان ليس فقط الحق في قول الحقيقة، بل أيضا من مسؤوليته المطلقة القيام بذلك فيما يخص الشهادات التي لا يمكنه تجنبها، حتى ولو أساءت له أو لشخص آخر غيره. إنه يتصرف إذن وكأنه ليس هو سبب معاناة ذاك الذي يعاني، بل أن هذه المعانات وقعت صدفويا. لا يكون المرء هنا حرا في اختياره، لأن قول الحقيقة هي واجب ضروري (عندما يكون مضطرا للكلام). لا يعتبر”الفيلسوف الألماني” المبدأ المذكور في الصفحة 124 كمبدء له: “إن قول الحقيقة هو واجب فقط اتجاه أولائك الذين لهم الحق في الحقيقة”: أولا لأن التعبير غير دقيق هنا، ذلك أن الحقيقة ليست ملكية أحد، يمكن منحها أو نزعها؛ وثانيا لأن واجب قول الحقيقة (الوحيد الذي يتعلق الأمر به هنا) لا يقوم بالتمييز بين الأشخاص الذين يستحقونه أو الذين لا يستحقونه، لكنه واجب مطلق، يطبق على كل الحالات.

للمرور من ميتافيزيقا القانون (التي تستثني كل شروط التجربة) إلى مبدأ السياسة، الذي يطبق هذا المصطلح على الحالات التجريبية/الواقعية) ويستعمله لحل إشكاليات هذا الواقع، طبقا لمبدأ القانون العام، فعلى الفيلسوف أن يقدم: 1. بديهية، يعني اقتراح مبدء دامغ، ينبع مباشرة من التعريف الخارجي للقانون (توافق حرية كل واحد مع حرية أي أحد طبقا لقانون عام). 2. مُسَلَّمَة للقانون العام الخارجي كإرادة مجتمعة للكل طبقا لمبدأ المساوات، بدونها لن تكون هناك حرية أي أحد. 3. تقديم مشكل يحدد أداة الإحتفاظ على التناسق في مجتمع كبير، مع البقاء وفيا لمبادئ الحرية والمساوات (يعني أداة نظام نيابي)، يكون مبدء السياسة ويحتوي على تشكيله وتطبيق ظهائره، تُستنتج من المعارف التطبيقية للناس، ولا يكون له هدف آخر سوى إدارة ميكانيزم العدل، وكيفية تنظيم هذا الأخير للوصول إلى نتائجه. لا يجب أبدا أن يتكيف القانون مع السياسة، لكن على السياسة أن تتكيف باستمرار مع القانون.

يقول الكاتب (يقصد كانط هنا كونستان: إ. م): “لا يجب أبدا التخلي على المبدأ الذي يُعترف بصحته (وأضيف أنا شخصيا (كلام كانط) إلى هذا: المعترف به قبليا، وبالتالي الدامغ)، كيفما كانت مخاطره الظاهرية”. ما يجب أن يفهم هنا ليس خطر الإساءة (صدفة)، بل بصفة عامة اقتراف ظلم، وهذا ما قد يحدث إذا ما جعلت من واجب قول الحقيقة، التي تعتبر مطلقة وتشكل الشرط القانوني الأسمى لكل شهادة، مبدء ثانويا لاعتبار خاص ما، وحتى وإن لم أُسئ لأي كان في كذبة ما، فإنني أنتهك عموما مبدأ الحق المتعلق بكل شهادة لا يمكن تجنبها (أقوم شكليا وماديا بظلم)، وهذا أفضع من القيام بظلم ضد شخص ما، لأن مثل هذا الفعل لا يشترط دائما مبدء في الموضوع.

من يقبل طلب الشخص الذي يسأله ما إذا كان سيقول الحقيقة في شهادته أم لا، دون أن يشعر بالإهانة بالشك المعبر عنه في هذا السؤال الذي يعتبره كذابا، ويطلب من هذا الشخص مهلة للتفكير في الإستثناءات الممكنة، يكون كاذبا بالقوة (in potentia)، لأنه يُظهر بأنه لا يعترف بكون قول الحقيقة هو واجب في حد ذاته، بل يحتفظ بإمكانية الإستثناء في قاعدة لا تخضع في جوهرها ذاته إلى أي استثناء، وإلا فإنها ستتناقض مع نفسها.

من اللازم أن تتضمن كل المبادئ القانونية التطبيقية الحقيقة الصارمة، ولا يمكن للمبادئ التي تسمى هنا مبادئ الوساطة إلا أن تحدد بطريقة دقيقة تطبيقها في حالات معينة (طبقا لقواعد السياسة)، لكنها لا تقدم بأي حال من الأحوال استثناء، لأنها ستقضي على العمومية التي تشكل جوهر المبادئ”.