مجلة حكمة

انكليزي وألماني وإسباني .. وحديث عن القمر – جون اندوني دونيابيتيا، آينا كاسابونسا / ترجمة: زياد الأتاسي


حديث القمر

قهوة. عندما نقرأ هذه الكلمة لا تنشط في دماغنا مناطق دماغية خاصة باللغة فحسب، ولكن مناطق حسية شمية أيضاً. وبالمثل، عند قراءة كلمة “ليلة” تتوسع حدقات أعيننا كما لو أننا في الظلمة، بينما تتقلص عندما نقرأ كلمة “نهار”.

ككائنات اجتماعية، نحن نطور أنظمة لغوية تتيح لنا التواصل فيما بيننا، وهذا التطور لا يحدث بمعزل عن التطور المعرفي والعقلي العام. نحن موجودون، نتكلم  ونفكر. لكن هل نحن ما نفكر فيه أو نتكلمه؟ هل نفكر فقط فيما يمكننا التعبير عنه بالكلمات؟ هل نفكر على نحو مختلف تَبَعاً للغة التي نتحدث بها؟

تؤسس هذه الأسئلة فرضية وورف Whorf عن النسبية اللغوية، والتي تعيش، جنباً إلى جنب مع علم الأعصاب المعرفي، مرحلة ثانية من التألق، وقد أعيد تسميتها حالياً بالنسبية اللغوية العصبية.

تنطلق النسبية اللغوية من فكرة أن اللغة تؤثر في الطريقة التي نتمثل ونتصور بها البيئة المحيطة. وبعيداً عن النقاش الفلسفي المؤيد أو المعارض للعلاقة بين اللغة والتفكير، تُظهِرُ الأدلة في حقل علم الأعصاب المعرفي أن التمثيلات المفاهيمية موزعة في شبكات عصبية تربط  كلاً من العناصر اللغوية وسماتها الحسية.

وعليه، فإن المسألة ليست ما إذا كانت اللغة والمناطق المعرفية الأخرى ترتبط بعلاقات قوية فيما بينها أو لا، إذ إن الدماغ يعالج المعلومات معالجة شاملة أكثر مما يعالجها كوحدات منفصلة، بل هي بالأحرى ما هي حدود هذه العلاقات.

اللغة والتصور

في كل مرة نشير فيها مباشرة إلى شيء محدد أو نتكلم فيها عن مفاهيم مجردة كالأرقام، أو الزمن، أو العواطف، وحتى عندما نكون صامتين نخطط لليوم الذي ينتظرنا، فإننا نستخدم اللغة، وبصفة عامة، اللغة التي نعرفها حق المعرفة. والحال هكذا، ليس من المستغرب أن يؤثر هذا الاستخدام المتواصل للغة لربطنا بالعالم الخارجي وبأنفسنا في كيفية تفكيرنا وفي الطريقة التي علينا أن نتصور العالم بها.

نحن، الناطقين باللغة الإسبانية، على سبيل المثال، نشير دائماً إلى الجنس النحوي للأشياء لأن لغتنا تميز بين المذكر والمؤنث على المستوى الصرفي (morfológico). وهذا صحيح إلى درجة أن هذه الإشارة المستمرة تؤثر، بدون أن ننتبه، في السمات التي ننسبها إلى الأشياء المشار إليها وفي كيفية تصورنا لها.

ليس مصادفة أن تركز واحدة من أكثر أغاني موسيقا البوب الإسبانية نجاحاً في أواخر الثمانينات، “ابن القمر – Hijo de la luna” لفرقة مِكانو Mecano، في قصتها على القمر بوصفه أُمَّاً، وليس كأب. ذلك أن القمر ، وفقاً لجنسه النحوي، يتم تصوره كامرأة (في الإسبانية القمر مؤنث La luna). ما كان أغرب الأمر لو أن الشمس هي التي أرادت أن تكون أمَّاَ (في الإسبانية El sol مذكر)، أليس كذلك؟ ليس كثيراً. ففي لغات أخرى كالألمانية، الجنس النحوي للشمس و القمر هو عكس ما هو عليه في الإسبانية. الشيء نفسه يمكن أن يحدث في الانكليزية، وهي لغة لا جنس نحوياً فيها.

ظاهرة أخرى تتمتع بالمزيد من الأدلة العلمية في حقل النسبية العصبية اللغوية هي تلك الخاصة بتصوّر الفئات تبعاً للغة المستخدمة. فالثقافات المختلفة تستخدم كلمات وفروقاً دقيقة مختلفة لوصف البيئة المحيطة. فمثلاً، تشير كلمةtaza  في الإسبانية إلى كل من Cup  وmug في الانكليزية. في المقابل، تشير كلمتاvaso  و copa الإسبانيتان إلى فئة واحدة بالانكليزية، “glass”.

في الواقع، بيّنَت دراسة حديثة أن للبريطانيين والإسبان تصوراً ضمنياً مختلفاً لبعض أشياء الحياة اليومية هذه وذلك ببساطة لأن اللغتين يمكن أن توجد فيهما كلمات مختلفة للتفريق بين فئاتهما. كما هو واضح، إن هذا لا يقتضي أن البريطانيين لا يستطيعون التمييز بصرياً بينvaso   unوuna copa ، لكن ما تبينه فعلاً هو أنه عند معالجته الأشياء بكلمات مختلفة، يتصور الدماغ هذه الأشياء بطريقة أخرى.

المفردات والكلمات التي نستخدمها للتواصل فيما بيننا وللتفكير لا تؤثر فقط في تصورنا للعالم الذي يحيط بنا فيما يتعلق بأشياء الحياة اليومية، بل أيضاً عندما نتخيل مفاهيم أكثر تجريداً، ومنها على سبيل المثال الألون والزمان، أو في الطريقة التي نتصور بها الأفعال.

يظهِرُ الدليل العلمي أن اللغة الأم لها أثر عظيم على الكيفية التي نمثِّل بها المحيط  ونستوعب بها الأشياء، ومن ثم تشكيل طريقة التفكير، وجعلها (الأشياء) أكثر تحديداً، وإعطاء شكل محدد للواقع.

اللغة، والتفكير، واللغات الثانية

السؤال الحاسم بالنسبة لبريطاني تعلم الإسبانية هو ما إذا كانت فرصة القمر في أن يكون أمَّاً أكبر من فرصة الشمس. والجواب هو نعم. فعلى الرغم من الأثر الكبير للغة الأصلية في الطريقة التي يعالج بها الدماغ المحيط، فإن تعلم لغة ثانية يمكنه أن يغير الطريقة التي نفكر ونتصور بها الأشياء.

في الواقع، تثبت إحدى الدراسات الحديثة أن الناطقين الأصليين بالانكليزية الذين يجيدون إضافة إلى ذلك اللغة الإسبانية، بدأوا بالربط الضمني بين الأسماء الخاصة للرجال والنساء في الانكليزية وبعض الكلمات الانكليزية، تبعاً لجنسها النحوي في اللغة الإسبانية. هكذا، فهم ثنائيو اللغة الانكليز من المجيدين للغة الإسبانية الارتباط بين “ذرة corn” و باتريك Patrick، أكثر مما فهموه بين شاطىء beach و ويليام William، ببساطة لأن corn هي maiz (مذكر-بالإسبانية) و”شاطىء  beach هو playa  (مؤنث-بالإسبانية).

فضلاً عن ذلك، أثبتت إحدى الدراسات أن تصور الألوان يتغير تبعاً للتعرض للغة ثانية. في اللغة اليونانية توجد مفردتان رئيسيتان للتفريق بين اللون الأزرق الغامق “ble” واللون الأزرق الفاتح “ghalazio”، وهذا ما يجعل المتحدثين الأصليين باليونانية يتصورون هذين اللونين تصوراً مختلفاً، كما يفعلون مع الأزرق والأخضر، مثلاً.

رغم ذلك، أبان اليونانيون المنتقلون للعيش في المملكة المتحدة الذين تعرضوا تعرضاً مستمراً للغة الانكليزية عن فئات أكثر غموضاً. اللغة الانكيزية تستخدم فقط مفردة أساسية للون الأزرق “blue”، وهذه الدراسة أظهرت أن من عاشوا في سياق متحدث بالانكليزية بدأوا برؤية هذين اللونين (باليونانية:ble”  و “ghalazio”) أكثر تشابهاً فيما بينهما، على على غرار ما يفعل المتحدثون الأصليون في المملكة المتحدة.

وهكذا، نرى أن النظام المعرفي مرن إلى حد بعيد، ويتغير على مدى الحياة تبعاً للتجربة. لذا، ليس مستغرباً أن توجد أيضاً، عند تعلم لغة جديدة، إعادةُ تنظيمٍ للشبكات العصبية المسؤولة عن معالجة المعلومات التي تحيط بنا.

الشعور بلغة أخرى

في الأعوام الأخيرة، أوحت الأدلة العلمية بأن التغيرات الوظيفية والبنيوية للدماغ جراء تعلم لغات جديدة يمكن أن تصل حتى إلى تغيير الطريقة التي نعالج بها العواطف في لغات أجنبية.

تظهر كثير من الدراسات الحديثة أن العواطف مرتبطة ارتباطاً كبيراً باللغة الأم وأن معالجة الكلمات العاطفية، وخاصة السلبية منها، بلغة أجنبية تكون منتقصةً إلى حد كبير، وخاصة عندما يكون تعلم اللغة الثانية قد حدث في سياقات مدرسية.

كما بينت هذه الدراسات، رغم أننا لا نعي ذلك بوضوح، أن وقع قراءة جملة ذات شحنة سلبية كبيرة على الناطقين بالإسبانية مثل “عند منتصف النهار، سيحمل الإرهابي المعادي قنبلته السامة إلى آكل لحم البشر المصاب بانفصام الشخصية”، هو أكبر كثيراً من وقعها عند قراءة الجملة نفسها بالانكليزية، على الرغم من إتقان هذه اللغة والفهم الكامل للرسالة.

 

تصور المستقبل

العلاقة بين اللغة والفكر كانت دائماً محط اهتمام الكثير من المتخصصين في علوم مختلفة، وقد بُذِلَت جهود مضنية خلال قرون لفك شيفرة مفاتيح الصلة بين اللغات والعقل البشري مثل دون كيشوت الذي يحارب الطواحين التي خلقتها مخيلته الخاصة.

ولا غرابة في أن كثيراً من الأسئلة التي صيغت في بادئ الأمر ما زالت إلى اليوم بدون جواب، إذ إن الأمر، كما هو في حالة النبيل العبقري (دون كيشوت)، كفاح في سبيل فك شيفرة العلاقة بين إبداعاتنا الخاصة (الأفكار واللغات)، بواسطة النظام نفسه الذي أوجدها (نظامنا المعرفي ذاته).

بكلمات أخرى، إن الصعوبة التي يتضمنها فهم العلاقة بين اللغة والتفكر ملازمة للأدوات الخاصة التي نستخدمها من أجل مقاربة المشكلة، ذلك أننا، في تمرين مستحيل على الهندسة العكسية، نريد أن نفهم جزاً أساسياً من النظام المعرفي مستخدمين في ذلك النظامَ ذاتَه. مثالية|كيشوتية. لكننا اليوم، بفضل علم المعرفة وتقنيات علم الأعصاب، أكثر قرباً من الإجابات.

المصدر