مجلة حكمة
وأد الاطفال - ساندرا

وأد الاطفال – ساندرا نيومان / ترجمة: حميد يونس

لا يوجد شيء يعادل قتل الطفل رعباً، مع ذلك فان وأد الأطفال ما زال ممارسة واسعة الانتشار في التاريخ البشري. فما الذي يدفع الأبوين لقتل طفلهم؟


إن كان هناك شيئاً لا زلنا نتفق عليه في عصر الاستقطابات السياسية الذي نعيشه، فذلك ان حياة الطفل مقدسة لا يمكن المساس بها. حيث أن القتل الجماعي والقصف الجوي والكوارث الطبيعية التي يكون ضحيتها الاطفال تعتبر أكثر شناعة من القتل الذي يطال البالغين فقط. لذلك حين اقترح فيلسوف الاخلاق الاسترالي “بيتر سينجر”، من الناحية النظرية، أن حياة الاطفال أقل قيمة قياساً بحياة البالغين بدعوى إن وعي الطفل لم ينضج بعد، لاقت آراءه دعوات غاضبة مضّادة طالبت بفقدانه لوظيفته. إن ثقافتنا تفترض أنه لا يوجد حب أعظم من الحب الذي يكنّه الوالدين لطفليهما، ولا توجد جريمة تعادل في اثمها من قتل الأطفال الابرياء. ولذلك، من العقلاني جداً ان نفترض ان التوجه الأبوي محدد وراثياً، وإلا ما الذي يكون أكثر الحاحاً للتطور الطبيعي من حماية النسل أو الذرية من الأذى؟

الشيء المحير في هذا الخصوص أن وأد الأطفال في التاريخ البشري يعتبر وسيلة شائعة ومقبولة في سياق التنظيم الأسري، وإن براءة الاطفال تعتبر أقل حظوة للفوز ولا تشفع لهم أن قورنت بالنتائج ، بل على الارجح ان الاطفال سينظر اليهم أكثر قبولاً كقرابين للآلهة المتعطشة لدمائهم. وبذلك تشير الادلة ان الخوف على الاطفال والنزعة الى حمايتهم تعتبر أمر حتمي وثابت في الدماغ البشري، وان هذه النزعة موجودة جنب الى جنب مع الميل الى قتلهم بعد ولادتهم بوقت قصير.

من المعروف أن الحيوانات التي تعاني من الحبس تقوم بقتل بعضها، بل حتى بافتراس صغارها. بل ربما من الخطر ان تشتري هامستر صغير لطفلك، لأن هناك افتراض شائع ان إجهاد هذه المخلوقات وعزلها ليلياً يدفعها الى الهوس بالقتل. نعم، في حديقة الحيوان، نجد بعض الاصناف تقتل ذريتاها وكأن الوأد هنا هو ردّ فعل مرضي لإجهاد غير طبيعي.

وقد اتضح، على أي حال، ان الكثير من الحيوانات في البراري تقوم بقتل صغارها روتينياً، وبشكل وحشي في الغالب، لغرض التخلص من موقفها الضعيف. ففي أحد الدراسات التي اجريت في النرويج على الفئران، وجد ان نجاة الصغار ترتبط ارتباطاً قوياً مع كفاءة الوالدين، فالأنثى الخائفة ذات الترتيب الأدنى تأكل اكثر من 60% من صغارها، بينما الانثى غير الخائفة وذات الترتيب الأعلى تقوم بإرضاع 100% من صغارها. انثى الكنغر، مثال آخر، حيث انها وتحت مطاردة مفترسها، تقوم بإخراج صغيرها من جيبها ومن ثم ترميه في طريق الحيوان المفترس. وبين الحيوانات الأساسيات، شهد الباحثون ظاهرة تقشعر لها الابدان، حيث تقوم أنثى بسرقة مولود أنثى اخرى وتستخدمه كـ”دمية حيّة”، مما يؤدي، في بعض الاحيان، الى موت الصغير نتيجة المعاملة القاسية أو نتيجة الجوع.

وربما أكثر وأد يدعو الى السخرية، هو ما يمارسه طير البلشون الثلجي، حيث أن الانثى تضع في العادة ثلاث بيضات، وإن البيضة الثالثة تحصل داخل جسم الأم على نصف الجرعة المعتادة من الهرمونات. مما يجعلها اقل عدوانية مقارنة بالأخريات. لذلك حين يكون الطعام وفيراً، تقوم الفراخ الضخمة بإقصاء شقيقاتها الخاملة، وان كان الطعام قليلاً، فأنها تقوم بالتهامهنّ.

إن العبرة الاخلاقية من هذه القصص لا تعني بالضرورة أن الحيوانات شنيعة. لكن، ومن منظور تطوري، نستلهم ان بعض صغار الحيوانات يمكن الاستغناء عنها. فالضغط التطوري لا يعني امتلاك العدد الأكبر من النسل أو الذرية بقدر ما يعني امتلاك العدد الأمثل في الوقت الأمثل من النسل المعافى.

وبطبيعة الحال، إن البشر لا يرمون بصغارهم ليشتتوا انتباه مفترسيهم، ومن النادر ان تجد امرأة تقوم باللعب بطفل امرأة اخرى، ناهيك عن قتله بسبب الإهمال. وأننا لا، ولا نطمح، ان نجد امرأة تقوم بولادة ثلاثة اطفال لغرض استخدام احدهم ذخيرة طعام للبقية. لكن وأد الاطفال يمكن اعتباره شبيهاً بحالة الفئران في الدراسة النرويجية. على مرّ التاريخ، قد ارتبط الوأد بالفقر وانخفاض مستوى حال الصغير، وبينما من النادر ان يأكل الوالدان طفلهما، الا ان الوالدين، تقريباً دوماً، من يتخذ القرار في قتل الطفل، ومن يقوم ايضاً بإتمام ذلك.

وشبيهاً بالوأد لدى الحيوانات، فأن الوأد عند البشر يعزى سببه رئيسياً الى غريزة البقاء، والضحايا الاطفال يتشاركون بنفس الخواص في كل مكان؛ من اليونان القديمة وحتى بوليفيا الحالية، فأن الاطفال حديثي الولادة هم الاكثر عرضة وبالأخص ان كان الطفل مشوّه او خديج سابق اوانه، أو ان كانت الأم تمتلك مسبقاً اطفال آخرين، او ان يكون الطفل غير شرعي، او(في بعض الاستثناءات) ان يكون الطفل انثى. ان هذه المعايير بقيت هي هي بغض النظر ان كان الأب أو الأم او المجتمع برمته هو المسؤول عن تحديد مصير الطفل في ان يعيش او ان يموت. فقد وجد في دراسة لأمهات منطقة “تاميل نادو” القروية في الهند، ان نسبة وفيات الاطفال تتضاعف بين البنات بمعدل اربع مرات، خاصة ان كانت الام تمتلك بالفعل طفلة واحدة في اقل تقدير.

في كثير من الأحيان، يقتل حديثي الولادة والرضع الذين يتوقع منهم الموت بغض النظر عن السبب. فعلى سبيل المثال، ان بعض شعوب القطب الشمالي يقومون بقتل حديثي الولادة الذين ماتت أمهاتهم أثناء الولادة ولا يوجد لديهم من يعيلهم. أما الاطفال المرضى والمشوهون فأنهم دائماً معرضون للقتل للسبب ذاته، بل ان العديد من الثقافات لديها خرافات تزعم بأن هؤلاء الاطفال ليسوا بشراً حقيقيين؛ ففي أوروبا القرون الوسطى، كان يطلق عليهم بأسم “تشانجلينغ” او المتحولون؛ وفي أفريقيا “أبناء ساحرة” أو ‘ابناء الارواح”. وبذلك يكون من السهل الاستغناء عنهم أو قتلهم دون شعور بتأنيب الضمير.

لم تدعم الثقافات الأولى فكرة ان تكون هذه الجرائم قاسية، ففي كتاب بين الميلاد والوفاة (2014) تروي الكاتبة ميشيل تي كينغ قصة عن امرأة صينية في القرن السادس عشر لأبنها البالغ عن وأد طفل حين كانت شابة:

” طوال سنين حياتي لم احمل أي أسرار تثقل عليّ كاهلي، الا ان الشيء الوحيد الذي لا زلت احمله يعود الى الرابعة والعشرين من عمري، أنجبت طفلة، وأغرقتها. حتى الآن أنا نادمة لما فعلت. في ذلك الوقت، كنا فقراء جداً الى درجة أننا لم نكن نمتلك شيئاً يعتدّ به في منزلنا. ما الجدوى من تربيتها؟ سيكون الأمر عبئاً لا اكثر؛ لن يكون الأمر جيداً لي، ولا محموداً لها. لذلك اعتملت في داخلي فكرة إغراقها. فقدت دماً غزيراً اثناء الولادة، لم اكن باستطاعتي النهوض، لذلك أمرت خادمة في منزل أجدادك، كانت تدعى سي كوسي، لتقوم بإغراقها. لقد وضعتها في المياه الضحلة، لكنها لم تمت الليل بطوله. كنت هائجة جداً، بعد ذلك أجبرت نفسي على النهوض، أغلقت الباب لكي تغرق. اشحت نظري، وأغمضت عيني ثم فعلت ذلك. لم أكن استطيع النظر. واحسرتاه! كيف تمكنت من القيام بذلك الشيء القاسي؟”.

يستسهل الآباء قتل الطفل حديثي الولادة بأقناع بأنفسهم أنه ليس طفلاً بعد. وهذه النبرة ليست بالتأكيد نبرة شخص معتل اجتماعياً ولا تعود لإنسان بليد، وغالباً ما يكون قرار قتل الرضيع كنوع من رواية “اختيار صوفي”، حيث يتنافس الطفل على موارد محدودة مع اخيه الأكبر سناً. ومثل هذا السؤال غير المألوف تطرحه مارجوري شوستاك في كتابها نيسا: حياة وكلمات امرأة من الكونغ (1990)، حيث تستذكر السيدة نيسا ولادة شقيقها في كالاهاري وتقول:

بعد ان ولد، ووضع في مكانه، وبكى، قمت بالترحيب به؛ “مرحى بأخي الصغير! مرحى، لدي أخ صغير! سنلعب في أحد الايام سويةً”. الا ان امي أجابت؛ “ماذا تظنين انك فاعلة؟ لم تتكلمين معه بهذه الطريقة؟ انهضي الآن وعودي للقرية واجلبي معك عصا الحفر”. قلت؛ “ماذا لديك لتحفريه؟”. فأجابت؛ حفرة، سأحفر في الارض لأدفن هذا الطفل… سأدفنه في الارض لتعودي للرعاية مرة اخرى، انت نحيلة جداً..”.

وكما توّضح في هذا المجال، فأن الآباء يستسهلون قتل الرضيع وحديث الولادة عن طريق إقناع انفسهم انه لا يعتبر طفل حتى الآن، وان فكرة الطفل قبل- الانساني غالباً ما تتشكل في الطقوس. في اثينا الغابرة، لا يمكن قتل الطفل بعد ان يكون له أمفيدروميا خاصة به، وهو حفل يهدف الى منح اسم للطفل بعد الولادة بسبعة ايام. وفي وقت مبكر في الدول الاسكندنافية، لم يكن من الجائز قتل الطفل بعد التعميد أو بعد اعطاءه الطعام. بل في كلّ العالم المسيحي، أعتبر التعميد نقطة فاصلة؛ بل حتى وقت متأخر من القرن السابع عشر، كانت سجلات التعميد تظهر رجحان مريب للأطفال الذكور. حيث ان العديد من الاطفال الاناث كان يتخلص منهنّ بهدوء قبل ان تثار حولهنّ الشكوك.وتجدر الإشارة هنا إلى أن حديثي الولادة هم من كانوا محور الوأد في تلك الثقافات المحرمة. ولم يكن هناك عرف لوأد الآباء الفقراء لأبنة كبيرة لغرض افساح المجال لطفل آخر، ولا وأد طفل معاق من اجل إفساح المجال لآخر معافى.

يتمتع الوأد بخصائص تميزه عن الجرائم الاخرى، فبينما النساء لا تقوم بجرائم عنيفة بالعادة، الا ان اغلب حالات الوأد تقوم بإتمامها نساء. الاساليب المتبعة في القتل ايضاً مميزة، وان نسبة كبيرة من هذه الحالات، من اليونان القديمة وحتى يومنا الحاضر، اشتملت على التخلي عن الطفل ليترك يموت وحده. وكثيراً ما ميّزت هذه الحالات عن الوأد، بدعوى ان الطفل قد ينجو. وتعليقاً على تعرض الاطفال في تاريخ الأخلاق الأوروبية من أغسطس إلى شارلمان (1869)، يقول ويليام ليكي: ” كان يمارس القتل على نطاق واسع دون التعرض لعقاب، ولطالما لاحظها الكتّاب ببرود وبدون مبالاة. ما عدا ان كان الوالدين فقراءً، فحينذاك ستعتبر الجريمة نكراء يعاقب عليها القانون”.يجب الالتفات الى مصير حديثي الولادة المتروكين في المباني التي يعشش فيها القطط والفئران المهجورة في هذا الزمن المتحضر لتقدر هول وفظاعة هذا الفعل المشين. ومع ذلك، يسمح هذا الفعل للآباء بإيجاد العزاء بأنهم لم يقتلوا اطفالهم، او ان يتخيلوا ان احداً آخر قام بإنقاذهم وتبنيهم، وهذه نظرة شائعة في الفلكلوريات والادبيات حول العالم. أما الامهات اللواتي لم يستطعن التخلص من اطفالهن في العراء، فأنهن يحاولن التخلص منهم بأقل وسيلة عنيفة ممكنة. حتى الوسائل المتبعة في القتل تحددها الثقافات، ففي انجلترا القرون الوسطى، نجد الآباء “يخنقون” و”يجلسون” على أطفالهم، أما في الصين، فأنهم “يغرقونهم”.

ولا تعامل المجتمعات غالباً جريمة قتل حديث الولادة على انها جريمة بالمعنى الحرفيّ للكلمة. وفي اغلب انظمة القضاء، يعتبر قتل حديث الولادة بواسطة أمه جريمة تختلف عن القتل المتعمد، وتعاقب بأقل وطأة، الا ان قتل الطفل بواسطة الأب لا يعتبر كذلك. في نهاية العصور الوسطى، حين كانت هناك محاولات جادّة لقطع دابر الوأد ومعاقبة مرتكبيه، ارتطمت المحاولات تلك بمماطلة العامّة وتسويفهم. فقد رفض الناس التبليغ عن جيرانهم المجرمين؛ حتى الخدامات اللواتي يتشاركن السرير، زعمن الجهل وعدم ملاحظة كون احداهن حبلى. وفي 1624، نصّت انجلترا قانوناً وحشياً في محاولة للحدّ من تمرير الوأد على ان الطفل جنين ميّت، وذلك بمعاقبة أي امرأة تلد دون حضور شاهد او ان يكون المولود حيّاً. وبقي هذا القانون في الكتب لمدّة 180 عاماً، الا ان القليل من النساء قد اقيم عليهنّ دعوى بموجبه، واقل من ذلك من ادين؛ وبين 1730 و1774، على سبيل المثال، حوكمت 61 حالة قضائياً فقط في بيلي القديمة في لندن. ومن أصل 12 حالة قتل ما بين 1680-1688، انتهت تسعة من الحالات بقرار غير مذنب، وصرفت ثلاثة اخريات لعدم وجود أدلة كافية.

ان مما يبث في قلوبنا الراحة ان نجد العدد القليل او حتى ندرة هذه الجرائم. ألا ان الحال ليس كذلك. توماس كورام، الذي ساعد في تأسيس مستشفى اللقطاء في لندن في عقد 1730، كان مصدوماً برؤيته، في الطريق اليومي الى محل عمله، العدد الكبير من الاطفال المرميين في اكوام الروث وعلى جوانب الطرقات، احياناً احياء، واحياناً موتى، واحياناً يحتضرون.

حركة مستشفى اللقطاء في القرن الثامن عشر كانت اول محاولة كبرى لحل هذه المعضلة عن طريق التبرع، وانتقلت في انحاء أوربا بدعوى نشر نيّة الناس الحسنة. حتى امهات الاطفال غير الشرعيين، اللواتي قد وصمن في السابق كنساء فاحشات يستحققن اسوء مصير متخيل، قد طلب منهن الآن ان يتركن ذريتهن في المستشفى، مع الحفاظ على هوياتهن مجهولة. وفي مستشفيات فرنسا النابيليونية، كان هناك مكاناً خاصاً ليضعن الطفل بداخله، يقرعن الجرس بعد ذاك لتأتي الممرضة وتأخذ الطفل – وتبقى الأم غير مرئية، وهويتها غير مكشوفة. وفي مستشفى اللقطاء في لندن، تستطيع الأم ان تترك أمارة على طفلها، وبذلك تبقى هويتها مجهولة لكن تستطيع في نفس الوقت ان تطالب بوليدها متى شاءت ان تحسنت الظروف.

بشكل ما، حققت هذه المستشفيات نجاحاً هائلاً. حيث شرعت الامهات بالسفر اميالاً من قراها لكي تترك الأطفال غير المرغوب فيهم. في مستشفى اللقطاء في لندن، كان هنا مشاهد لنساء يتزاحمن ويتشاجرن بغية الوصول للمدخل، فربما يكون الحظ من نصيب من تحصل على مأوى. في باريس 1818، كان عدد اللقطاء المتروكين في المستشفى يعادل ثلث عدد الاطفال المولودين فيها. ولسوء الحظ، اغلب اولئك اللقطاء لم يبقوا على قيد الحياة. ومن أصل 4779 من الاطفال الذين دخلوا الى مستشفى باريس تلك السنة، مات 2370 منهم في غضون ثلاثة اشهر. في عموم أوربا، كانت الاعداد مقاربة. ففي مستشفى القديس بطرسبرغ الفاخر، الذي شيّد على اعتاب قصور اندريه رازوموسكي واليكسي بوبرينسكي، والذي كان يرعى 25000 مريض كحدٍ أقصى، وكان يعتبر فريداً من نوعه، حيث وظّف 600 ممرضة مرضعة وعدد لا يحصى من الامهات الحاضنات من القرى المجاورة. ورغم كل ما سبق ذكره، الا ان نصف رعاياه كان الموت حليفهم في الأشهر الثلاثة الأولى. وأقل من الثلث تمكن من العيش الى عمر السادسة.

إن اتساع ظاهرة ’زراعة الأطفال‘ في القرن التاسع عشر، ساعدت الأمهات في العمل كأمهات حاضنات وبذلك يكون باستطاعتهن رعاية اولادهن بشكل مباشر. وبهذا الشكل أيضاً تستطيع الامهات الرحيل بدون أي عوائق. وقد كان يدفع لزارعو-الاطفال أجراً يومياً مقطوعاً. لكن سرعان ما اصبح هذا العمل سيء الصيت لأن عملية استحقاقه، تصرف بشكل غير ملائم، أما بالإهمال او بالمخدرات. ولم ينخفض العدد الحقيقي لقتل الاطفال بشكل كبير في أوربا حتى شيوع الواقيات الذكرية في القرن التاسع عشر. وبهذا الشكل، توقفنا عن قتل اطفالنا فقط حين لم يعد لدينا عدد كبير منهم.

من الغريب أن نجد جريمة مروعة ومنتشرة كجريمة الوأد دون ان تترك اثراً كبيراً في التاريخ. ربما لأن غالبية ممارسات الوأد يقوم بها نساء، ولا سيّما النساء الفقيرات. ولطالما طرح الكتّاب وناقشوا الجريمة على انها نادرة وصادمة، أو انها ممارسة شنيعة بين أناس اجانب، رغم ان الواقع عكس ذلك، ولا يزال الوأد موجوداً في الأحياء المجاورة لهم. أحياناً، هناك محاولات جادة لتصحيح التاريخ، ولمناقشته؛ على سبيل المثال، لم تنخرط اليونان القديمة فعلياً في ممارسات الوأد، أو من النادر وجود ذلك، رغم ان المصادر اليونانية عاملت الوأد على انه ممارسة شائعة جداً. وكذلك صرّحت المؤرخة في جامعة اوكسفورد جوزيفين كوين لصحيفة الجارديان حين اجابت عن عملها في التضحية بالأطفال في الحضارة القرطاجية وقالت: “الإحساس بحتمية كسر المحرمات لا زالت قوية جداً، لقد انصدمت من بعض الزملاء الذين سألوا عمّا كنت أعمل عليه، حيث تفاعلوا مع الموضوع برعب وقالوا: “أوه.. لا، غير ممكن، لا بدّ ان يكون هناك شيئاً خاطئ”.

يقودنا عمل كوين عن التضحية بالأطفال الى استثناء مثير للاهتمام لكل “قواعد” وأد الاطفال التي سبق مناقشتها. إذ ا ن استخدام الاطفال كقرابين بشرية كانت تعتبر ممارسة شائعة في جميع انحاء امريكا الجنوبية قبل كولمبس، وفي حضارة قرطاج القديمة. وهنا، لا يحبّذ ان يكون الطفل مشوّهاً او مريضاً. بل العكس، يجب ان تكون الاضحية المقدمة جميلة بشكل استثنائي ولا تشوبها شائبة. بل من النادر ان يكون الطفل المقدم خديج أو حديث الولادة، ومن الممكن ان يقدموا مراهقين. ويشترط في الانخراط بممارسة التضحية بالأطفال الثراء والمستوى الرفيع، وغالباً ما تكون الطقوس فخمة. وتتم عملية اختيار الاضحية بطقوس “انكان كوباشا”، التي تميّزت بأحداث ومهرجانات مهمة في حياة الامبراطور، حيث يحافظ على الضحية وعلى بهرجته داخل الدولة، احياناً لسنوات، قبل ان يقدّم في تلك الطقوس وتحنّط جثته. وكانوا يطعموهم جيداً، حيث حدّد علماء الآثار فترة استغراق إطعام الضحية بعد اختياره عن طريق معاينة شعر المومياوات، ورغم ان ضحايا “انكان” كانوا عبارة عن اطفال فقراء استخدمتهم البيروقراطية الثرية- لكن، بحسب تعبير كوين، فأن القرطاجيين كانوا يقدمون ابنائهم كقرابين، وحيث ان الطقوس كانت باهظة الثمن، فلا بدّ ان يكون الآباء اثرياء ايضاً.

وفي النهاية، فإن هذه الممارسة أمست بعيدة كلياً عنا لنفهمها بصورة متكاملة، مع ذلك، إن افترضنا ان القرطاجيين قد آمنوا لآلهتهم بإخلاص وخافوا من إرادة تلك الآلهة ان تعاقبهم لكفرهم واجحادهم، فإن ذلك جزء لا يتجزأ من الظاهرة نفسها: وإن طفل واحد يضحى به خيرٌ لكي تنجو بقية افراد العائلة.

وبالنظر لانتشار وأد اطفال، يبدو أن هناك اختلاط واضح بين الضرورة البيولوجية والتقاليد الاجتماعية. فقد تبنت بعض المجتمعات علناً الموضوع، واخريات دفعت به الى الظلال، الا ان الجميع تقريباً تقبلوا فكرة قتل الأطفال.  وحتى في البلدان المتقدمة اليوم، قد يسمح قانونياً للمواليد الجدد الذين يحتاجون عناية مكثفة أن يموتوا إن لم يكن يتوقع أن يبقوا على قيد الحياة طويلاً. ومن بين 1000 حالة وفاة في هولندا كل عام، هناك ما يناهز 600 حالة وفاة نتيجة قرارات الآباء والكادر الطبي.

ويستمر الوأد السري الى اليوم؛ ففي عام 1997، أشتبه بـ 5-10 من حالات متلازمة موت الطفل المفاجئ بأنها كانت وأد اطفال مخفيّة. ولا زالت العوامل نفسها في الغالب. فالأمهات تقتل اطفالها المولودين خارج نطاق الزواج، او حين يكون لديهنّ بالفعل اطفالاً، او حين يأتي الاطفال ولا يوجد لهم معيل. وفي دراسة أجريت عام 1998 في جامعة تكساس، وجدت أن معدل وأد التوائم يعادل الضعف تقريباً بقتل الطفل المفرد. لقد اصبح الوأد اليوم اقل انتشاراً مع نظام تحديد نسل أفضل، ومع انخفاض معدل وفيات الاطفال، ومع ظروف الحياة الأسهل. لكن الواعز لا يزال موجوداً، والمنطق الكامن خلفه، لا يزال تحت السطح مخفياً.

يعتقد ان هناك اسباباً ستدفع الى عودة الوأد بشكل اكبر. وقد شهدت السنوات الأخيرة جهوداً متزايدة، لا سيما في الولايات المتحدة، لجعل الإجهاض غير قانوني وتحجيم عمليات تحديد النسل. وتدفع الجماعات الدينية هذه الطروحات في جميع أنحاء العالم، مع نجاح باهر في أفريقيا، حيث تم وصم عمليات تحديد النسل على انها شكل من أشكال الإبادة الجماعية. ويعتقد المؤيدون لهذه السياسات أنهم مؤيدون للطفل نفسه؛ كما تضع منظمة “حياة الإنسان الدولية” وتدّعي حماية “الثقافة الأفريقية المحبّة للحياة”. وها هي النتيجة الحقيقية، على أي حال، في بلد مثل السنغال، حيث ان وسائل تحديد النسل محدودة للغاية، وحيث جميع أشكال الإجهاض تعتبر غير قانونية – وحيث، في نفس الوقت، هناك ما يقارب الواحدة من كل خمس نساء محبوسات في السجن بتهمة وأد الاطفال.

المصدر


[1] لا يقتصر مفهوم وأد الاطفال (infanticide) في هذا المقال على ما اصطلح به عربياً من دفن الطفلة الانثى في القبر وهي حية، ولا على الاصطلاح المشتق من الطب النفسي العدلي المقتصر على عمر معين للطفل دون سن العام الاول، بل يقصد بوأد الاطفال هنا ويعرف على انه قتل الطفل مهما كان عمره وجنسه وهويته ومهما كانت الوسيلة والاسلوب المتبعة (المترجم).

[2] ساندرا نيومان كاتبة واعلامية امريكية، لديها من الكتب رواية بلد نجم الآيس كريم (2014)، وكيف لا تكتب رواية (2008) وعدّة النجاة الغربية (2012).