مجلة حكمة
اللغة الإنجليزية كيف هيمنت اللغة الإنجليزية على العلوم الحديثة؟ - مايكل جوردن / ترجمة: روابي الدوسري

كيف هيمنت اللغة الإنجليزية على العلوم الحديثة؟ – مايكل جوردن / ترجمة: روابي الدوسري

mgordin-sm
د. مايكل جوردن، بروفيسور التاريخ في جامعة برينستون

كان اتصال العلوم ببعضها يتم بعدة لغات في الماضي. لكن اللغة الإنجليزية قد سيطرت على ذلك في الوقت الحالي. كيف حدث هذا؟ وما ثمن ذلك؟

إذا كنت تستطيع قراءة هذه الجملة، فباستطاعتك التحدث مع عالِمة. ربما ليس عن تفاصيل بحثها، لكنكما تتشاركان لغة عامة. إن الأغلبية الساحقة من التواصل في العلوم الطبيعية مثل – الفيزياء والكيمياء والأحياء والجيولوجيا- يتم اليوم باللغة الإنجليزية، في المطبوعات والمؤتمرات ورسائل البريد الإلكتروني والسكايب، المعلومات التي تجول في قاعات البحث العلمي في كوالالمبور، مونتفيديو، حيفا، إلى جانب العلوم المعاصرة كل ذلك أصبح بلغة واحدة، فكل شخص يستخدم اللغة الإنجليزية سيستبعد لغة أخرى تقريبا. قبل قرن من الزمان، كان غالبية الباحثين في العلوم الغربية يعرفون بعض الإنجليزية على الأقل، لكنهم أيضا يقرأون ويكتبون ويتحدثون بالفرنسية والألمانية وبعض الأحيان بلغات ثانوية أخرى، مثل: اللغة الروسية الناشئة حديثا أو الإيطالية التي تلاشت سريعا.

ربما تبدو شخصية متعدد اللغات للعلم الحديث في الماضي مفاجئة. هل هو أكثر فعالية من أحادي اللغة؟ كم سيستهلك من الوقت لتعلم قراءة وكتابة ثلاث لغات بالترتيب لتوليف اشتقاقات للبنزين!! إذا كان كل واحد يستخدم نفس اللغة سيكون هناك احتكاك قليل ناجم عن الترجمة- كأقدمية النزاع حول من اكتشف أمرا لأول مرة، وذلك عندما تظهر النتائج بلغات مختلفة- وأيضا سيكون هناك هدر أقل في طرق التدريس. من خلال هذه النظرة، ستتقدم العلوم المعاصرة بنسبه مذهله وذلك بسبب تركيزنا على العلم بغض النظر عن الأشياء السطحية مثل اللغة.

يسهل الحفاظ على هذه المرحلة إذا كان المتحدث قد نشأ وهو يتحدث الإنجليزية، لكن هذه اللغة ليست اللغة الأم للغالبية العظمى من علماء اليوم. إذا أخذنا بالاعتبار الوقت الذي يقضيه أكثرهم في تعلم اللغة، نجد أن هيمنة اللغة الإنجليزية ليست بفاعلية العلوم متعددة اللغات- بل هي بلا فعالية على نحو مختلف. إن تعلم اللغات والترجمة مستمر على نطاق واسع، لكن ذلك لا يحدث في المملكة المتحدة، أستراليا، أو الولايات المتحدة. فقد أُزيل الفارق ولم يُسطّح.

إن علماء اليوم محاطون بمتحدثي الإنجليزية، والتحرك السريع، إلى جانب انخفاض ثورة البحث العلمي التي قللت من الذكريات الانضباطية. ألم يكن العلم على هذا النحو منذ الأزل؟ لا، لم يكن كذلك، العلماء الكبار هم من يستحضره على هذا النحو فقط. يفترض العلماء أو الانسانيين في الغالب أن العلم بالإنجليزية قد استبدل الألمانية، مسبوقة بالفرنسية ثم اللاتينية في مجد تجلى بداية فجر العلوم الغربية، والتي أدركوها باللغة اليونانية. إن فهم تاريخ العلم كسلسلة من تحولات أحادية اللغة له جاذبية سطحية معينة. لكن هذا ليس صحيحا، ولم يكن كذلك أبدا.

يمكن أن نلاحظ، وعلى نحو لافت، وجود نظامين لغويين أساسيين في العلم الغربي وهما متعدد اللغات وأحادي اللغة. وقد ظهر الأخير حديثا وبرز في العشرينات ليقهر نظام التعدد اللغوي القديم في السبعينات. العلم يتحدث الإنجليزية، لكن الجيل الأول الذي نشأ في نظام أحادي اللغة لازال موجودا. لنفهم كيف حدث هذا التغير المهم، نحن بحاجة للبدء من القِدم.

في القرن الخامس عشر في أوروبا الغربية كان هناك مجالين من مجالات التعلم، وهي: الفلسفة الطبيعية والتاريخ الطبيعي، والتي أصبحت تعرف في القرن التاسع عشر بمسمى “العلم الطبيعي”، قد كانت في أساسها مشاريعا متعددة اللغات. هذا ما كان الحال عليه بغض النظر عن حقيقة أن لغة التعلم في أوجّ العصور الوسطى، وعصر النهضة كانت باللغة اللاتينية.

هذه الحالة الاستثنائية للغة اللاتينية لا تعارض نظام متعدد اللغات؛ بل تثبته. كان ذلك معلوما عند أيّ عالم نهضوي، أو فيلسوف سكولاستي للعصور الوسطى المتأخرة، بأن الفلسفة الطبيعية باللاتينية قد تمتعت بتاريخ يعود إلى أيام المجد الروماني. (فقد كتب كلاّ من سيشرون و سينيكا أعمالا مهمة في هذا المجال). لكن هؤلاء العلماء والفلاسفة أنفسهم، علموا أن اللغة السائدة للمعرفة في العصور القديمة وحتى نهاية العصر الروماني لم تكن اللاتينية، بل الهلنستية اليونانية. وعلموا أيضا أن الكثير من علوم الفلسفة الطبيعية قد أُنجزت بالعربية أكثر من أي لغة كلاسيكية أخرى. لقد أسهمت ترجمة الأعمال الفلسفية الطبيعية من العربية إلى اللاتينية بولادة نهضة العلم في الغرب، فقد كان في علم المثقفين أن العلم مشروع متعدد اللغات.

هكذا كانت الحياة، بغض النظر عن الغرابة النادرة للآباء المتحمسين (الفيلسوف ميشيل دي مونتين كان واحدا منهم)، لم يتعلم أحد اللاتينية كلغته الأولى، والقليل استخدمها شفهيا. فالمعرفة كانت باللاتينية ولكن كل من استخدمها – مثل ايرازموس – استخدمها بجانب لغات أخرى كانوا يستخدمونها في التواصل مع الخدم والعائلة والرعاة. اعتبرت اللغة اللاتينية ناقلة للفكر، وكانت تستخدم كجسر للتواصل اللغوي. وقد استبعدت على أساس طبقي لأنها تتطلب تعليما طويلا، لكنها عبرت التقسيمات السياسية والطائفية بسهولة: كان البروتستانت يستخدمونها كثيرا أكثر من الكاثوليك، واُستوردت أواخر القرن الثامن عشر داخل الأرثوذكسية الروسية كلغة علمية لأكاديمية سانت بطرسبرغ للعلوم الحديثة.

ربما الأهم من ذلك، أن اللاتينية لم تكن اللسان الأصلي لدولة محددة، وكان بإمكان العلماء في انحاء أوروبا والمجتمعات العربية استخدامها بقدر مساو، إذ لا أحد يملك هذه اللغة. لتلك الأسباب، أصبحت اللاتينية أنسب ناقل للفكر بعد ادعاءات حول الطبيعة العالمية. لكن كل متعدد للغة يختار لغة تناسب الجمهور في المناقشة. فعند الكتابة لعلماء كيميائيين عالميين، استخدم السويديون اللاتينية، وعند المناقشة مع المهندسين اختاروا اللغة السويدية.

في القرن السابع عشر، بدأ هذا النظام بالتدهور في خضم ما كان يطلق عليه اسم ((الثورة العلمية)). نشر غاليليو غاليلي اكتشافه لأقمار المشتري باللاتينية في Sidereus Nuncius عام 1610، ولكن أعماله الرئيسية الأخيرة نشرت باللاتينية، وعندما سعى لمزيد من الجمهور المحلي لرعايته ودعمه قام بتغيير اللغات. وظهرت الأصول الرياضية للفلسفة الطبيعية لإسحاق نيوتن عام 1687 باللاتينية، ولكن كتابه (البصريات) الذي صدر عام 1704كان بالإنجليزية وترجم للاتينية عام 1706.

بدأ العلماء في أنحاء أوروبا باستخدام مزيج من اللغات، وازدهرت الترجمة إلى اللاتينية والفرنسية لتمكين التواصل وتبادل المعلومات. وفي نهاية القرن الثامن عشر ظهرت أعمال في الكيمياء والفيزياء وعلم وظائف الأعضاء وعلم النبات على نحو متزايد باللغة الإنجليزية والفرنسية والألمانية، وأيضا بالإيطالية والهولندية والسويدية والدانماركية، ولغات أخرى. حتى الثلث الأول من القرن التاسع عشر اختار العديد من النخب المتعلم اللاتينية. (العالم الرياضي الألماني كارل فريدريش غاوس احتفظ بمذكراته العلمية إلى عام 1810بنفس اللغة التي استخدمها القيصر غايوس يوليوس. ولذا ظهرت العلوم الحديثة نتاج تعدد لغات عصر النهضة.

كانت هناك مخاوف من كفاءة السلع في القرن التاسع عشر، وبدأت الصناعة الأوروبية بتغيير نظام تعدد اللغات القديم. وقد بدت العديد من اللغات إسرافا: حيث تقضي جل وقتك في تعلم اللغات بالتدريج، حتى تقرأ أحداثا في الفلسفة الطبيعية، وأنت لن تقوم بأي بحث عنها. في عام 1850بدأ علماء اللغة بحشر اللغة الإنجليزية والفرنسية والألمانية، واحتل كل منها بنسب متساوية تقريبا اجمالي الإنتاج (على الرغم من أن كل علم له توزيع مختلف، وفي نهاية القرن كانت الألمانية المرشح الأوفر حظا في الكيمياء).

اجتاحت القومية الحديثة أوروبا إلى جانب ازدهار التصنيع. وقام الشعراء والمثقفون بتغير اللغة العامة حتى أصبحت حملة الحداثة في القرن التاسع عشر عابرة للقارات. واجه اللغويون تحديات كبيرة في التكيف مع الألسن المنطوقة لسكان الريف، وذلك للمطالبة بأدب عالمي وعلم طبيعي. إن قصة الفنون معروفة على نطاق واسع: فقد ازدهرت اللغة الهنغارية الحديثة، اللغة التشيكوسلوفاكية، الإيطالية، العبرية، البولندية وآداب أخرى في النصف الثاني من القرن. ولكن التقييم العالي لكفاءة العلوم قد روض المراحل الأولية إلى حد ما، ولم يكن هناك لغة مهمة سوى اللغة الروسية (إن لم تكن أقل) كلغة للعلوم المنتشرة. اشتكى أنصار “اللغات الثانوية” باستمرار من الإقصاء، في حين تذمر متحدثين اللغات الثلاثة الكبار من الحاجة إلى تعلم اللغتين الأخريين.

كانت اللغات الثلاث عبئا بلا شك. فقد كان هناك من يدعون إلى لغة واحده فقط لتعلم العلوم، في إشارة لعالمية وحيادية اللغة اللاتينية التي ازدهرت في القرون السابقة. لذلك دعوا إلى “أسبرانتوا” (لغة دولية-المراجعة). وقدموا حججا مقنعة، نفس التي نسمعها اليوم للغة الإنجليزية. أوجدت اسبرانتو عددا قليلا من المعتنقين ذوي المستوى الرفيع، مثل فيلهلم أوشفالد، الحاصل على جائزة نوبل في الكيمياء سنة 1959، وأتو جيسبيرسن اللغوي الدنماركي، لكن هؤلاء كانوا منبوذين إلى وقت قريب بصفتهم حالمين خيالين، حتى تحولت حماستهم إلى مشاريع لغوية-اصطناعية أكثر تطرفا. كان واضحا للجميع أن العلم لم يكن ليوجد دون التعدد اللغوي.

شيء ما، قد تغير تغيرا واضحا. نحن الان نعيش في عالم الأحلام للاسبراتنو. لكن اللغة العالمية للعلوم الطبيعية هي الإنجليزية، اللغة الأم ليعض الدول القوية التي لم تكن حيادية. ماذا حدث لنظام متعددي اللغات في العلوم؟ لقد انهار. ولنكون دقيقين أكثر، نهار منذ زمن بعيد. كانت القومية أبرز الخسائر وذلك عندما اندلعت الحرب العظيمة صيف 1914 بين القوى المركزية (خصوصا ألمانيا، والنمسا-المجر) والحلف الثلاثي (بريطانيا، فرنسا، روسيا). وانضم علماء ألمانيا مع المثقفين في تمجيد اهداف الحرب الألمانية. واكتفى علماء فرنسا وبريطانيا بتدوين المذكرات.

تشكل بعد الحرب مجلس الأبحاث الدولي تحت حماية الحلف المنتصر- ويشمل الان الولايات المتحدة ولكن روسيا قد أُقصيت، بعد انحطاطها جراء الثورة البلشفية- وقد بادر هذا المجلس بمقاطعة العلماء من السلطة المركزية. شيّدت بعد ذلك المؤسسات الدولية الجديدة للعلوم في بداية العشرينات والتي أوصدت الأبواب في وجه العلماء المتحدثين باللغة الألمانية. ساهم هذا الاستبعاد الطويل لعقود مقبلة في اندثار الألمانية كلغة علمية رائدة. وتقلصت ثلاث لغات كانت جزءا من أوروبا إلى اثنتين. استجاب الالمان لهذا المأزق بالتزامهم بلغتهم الأم. كان ذلك بداية القضاء على نظام التعدد اللغوي، وكان الأمريكان هم من بدأوا بتحطيمه.

أصبحت ألمانيا دولة مجرمة، إثر نوبة المشاعر المعادية للألمان، والتي تبعت دخول الولايات المتحدة للحرب في ابريل عام 1917. واستبعدت كلا من ولاية آيوا، أوهايو، نبراسكا وأخريات الألمانية التي شاعت إلى جانب اللغة الإنجليزية في الولايات المتحدة (نتيجة لضخامة الهجرة من أوروبا الوسطى). ولم ينشأ الحظر الألماني إلا بعد يوم الهدنة، وفي عام 1923 قيدت أكثر من نصف دول الاتحاد استخدام الألمانية في الأماكن العامة، إلى جانب خطوط الهاتف والبرق، وتعليم الأطفال.

في ذلك العام تلك قلبت المحكمة العليا قوانين القضية الشهيرة لنبراسكا وداء ماير، لكن الضرر كان قد وقع. تدمر بعد ذلك تعليم اللغة الأجنبية، بما فيها الاسبانية والفرنسية، وشبّ جيل كامل من الأمريكيين بما في ذلك علماء المستقبل دون تعرض للغة أجنبية. عندما أصدر علماء الفيزياء الالمان والأستراليين أواسط العشرينات إصدارات حول ميكانيكا الكم الجديدة، استطاع علماء الفيزياء الامريكان قراءة الأوراق الألمانية فقط، وذلك بسبب أن اليانكيين اجتازوا المحيط الأطلسي للدراسات العليا وتعلم اللغة في فايمر بألمانيا.

انحدرت الرحلة لاتجاه آخر. فقد قام هتلر عام 1933 بطرد “اللاأري” ليدمر العلم الألماني. كان علماء اليهود محظوظون بما يكفي للهجرة في الثلاثينات ومواجهة العديد من التحديات. واجه كورنيليوس لانسزوس أحد مساعدي ألبرت أينشتاين صعوبات في النشر باللغة الإنجليزية وذلك بسبب موضوعه ورداءة لغته على الرغم من انه كان يخضع النص للمراجعة مع الأصدقاء الجيدين، أينشتاين أيضا اعتمد على المترجمين والمتعاونين.

في الوقت نفسه، انتقل الفيزيائي الألماني جيمس فرانك إلى شيكاغو وتأقلم في نهاية المطاف مع الإنجليزية، في حين أن ماكس بورن استقر في أدنبره، ونشر اللغة الإنجليزية التي تعلمها بسعادة في أيام شبابه. ذكرت العديد من تلك الشخصيات صراعاتها مع اللغة الجديدة، كما فعل اليوم الكثير من اليابانيين الحاصلين على جائزة نوبل في سيرهم الذاتية، والذين علقوا على أهمية نشرهم الأول بالإنجليزية لتؤسس إنجازاتهم وتنتشر سمعتهم الى ما وراء أرخبيل. ولكن كل ذلك لنتفوق على ذواتنا -ففي العودة للثلاثينات بإيقاف معظم تأشيرات الطلاب الأجانب. وعنى هذا التقييد في الوصول إلى الجامعات الألمانية مزيدا من الإقصاء للغة الألمانية، وقد فعلت هذه العملية الفعاله مع بداية الحرب العالمية.

بعد الحرب العالمية الثانية، أصبحت القصة جزءا من التركيبة السكانية والسياسة الجغرافية. مقارنة بمنهج تعدد اللغات النسبي للإمبراطورية البريطانية المترامية الأطراف خلال القرن التاسع عشر، لم يتوقع علماء الإمبراطورية الامريكية للقرن العشرين الحصول على أهلية في اللغة الأجنبية. بعد الحرب وبعد الحجم الهائل من انتفاضة علماء السوفييت والمهندسين دخلت المملكة المتحدة في المنافسة العلمية. ثم أصبحت اللغة الروسية اللغة الثانية المهيمنة على اللغة العلمية في الخمسينات والستينات حيث كان ما نسبته 25% من إصدارات العالم باللغة الروسية، أما اللغة الإنجليزية فكانت تغطي 60% من الإصدارات. ولكن نسبة الإصدارات الروسية بدأت تنخفض في السبعينات كما أن العلماء أصبحوا يستخدمون اللغة الإنجليزية على نطاق عالمي.

عجز الامريكان أو رفضهم لتعلم اللغة الروسية، ناهيك عن تعلم لغات أجنبية أخرى من أجل إدارة علومهم، إضافة لنظام العلم الأمريكي عبر المحيط الأطلسي للناطقين باللغة الإنجليزية ولغير الناطقين بالإنجليزية على حد سواء، قد دفع بالعلوم أن تأخذ طابع اللغة الإنجليزية. إضافة إلى أن رغبة الاوربيين والأمريكيين اللاتينيين وغيرهم للانضمام لهذا النظام الأحادي الجيد كان له دور أيضا. فمنذ أن أشاد اللغويون بهذا المجال توقفت هولندا، والدول الإسكندنافية، والأيبيريون عن النشر باللغة الفرنسية والألمانية وأصبحت اصداراتهم باللغة الإنجليزية. وكان ينظر، وبشكل متناقض، للنشر بغير الإنجليزية على أنه مظهر من مظاهر الخصوصية القومية: لا أحد ينشر بالفرنسية وهو ليس ناطق بالفرنسية، ثم أجريت تعديلات على لألمانية.

وبتقدم الحرب الباردة، فُسر النشر باللغة الروسية على أنه بيان سياسي واضح. واستمر اجيال من العلماء حول العالم بتعلم اللغة الإنجليزية، ولكن هذا التطور الغريب في تاريخ العلوم غالبا لم يسجل على أنه سياسي عميق. وفي بدايات الثمانينات احتلت اللغة الإنجليزية إصدارات العالم في العلوم الطبيعية بنسبة 80% والان وصلت الى 99%.

وماذا في ذلك؟ ربما رواد الكفاءة على حق، والعلم الآن أفضل لأن التواصل أصبح بلغة واحدة، وهذا دليل على نجاح العلم الحديث، ومع ذلك علينا أن نقدر التكاليف. كاد ديمتري مندليف عام 1869 أن يخسر نسبة تطوير الجدول الدوري لأنه نشر باللغة الروسية وليس الألمانية، واليوم النشر في أي مجال بغير اللغة الإنجليزية وفي أي شيء في غير المجلة الرائدة سيتم تجاهله.

يفخر علماء الرياضيات الفرنسيين أحيانا يفتخرون بالنشر باللغة الفرنسية، بينما تساعد الشكليات الناطقين بالإنجليزية في اتباع البراهين. هذا الترف غير وارد بشكل كبير في العلوم التجريبية محدودة الأسئلة. كم عدد الطلاب الواعدين الذين تراجعوا في مهنهم العلمية بسبب صعوبة تعلم اللغة الإنجليزية، وليس صعوبة بحساب التفاضل والتكامل متعدد المتغيرات؟ أصبحت المشكلة أكثر صرامة عندما تحولت الكتب المدرسية في العالم حتى مدارس الثانوية الى اللغة الإنجليزية: فلن تحافظ معايير السوق ببساطة على كتب علم الاحياء باللغة السواحلية او التشيكية. فقد أصبحت العلوم أحادية اللغة المنافس في السوق.

مع ذلك، بمجرد فرض هذا النظام بدا مستقرا نوعا ما. إن من الخطر التنبؤ حول مستقبل لغة العلم عندما يكون الحاضر لا مثيل له. فلم يحدث من قبل أن يكون هناك نظام أحادي اللغة للتواصل العلمي، ناهيك أن تصل إلى كل ركن من أركان العالم، فاللغة الافتراضية أصبحت اللغة الأم في الجيش، والاقتصاد.

يمكننا هنا، وبكل ثقة، المصادقة على أمرين، ألا وهما أولا: أن الحفاظ على النظام الأحادي للغة بهذه الصورة يستهلك مزيدا من الجهد، إضافة لموارد هائلة ستصرف للتدريب على اللغة والترجمة في البلدان غير الناطقة بالإنجليزية. أما الثاني: فهو إذا تلاشت الدول الناطقة بالإنجليزية غدا، فإن الإنجليزية لاتزال لغة ذو أهمية للعلم، وذلك بباطة لأن هناك قصورا ملحوظا. إن الأثر الثابت الذي بنى من خلاله العلماء علومهم الماضية، يدعم كلا من أنظمة التعدد اللغوي القديمة، والنظام أحادي اللغة الحالي.

اسأل أقرب عالمة وسوف تفهمك.

 

 

المصدر