مجلة حكمة
هيغل لتشارلس تايلر

هيغل لتشارلس تايلر

IMG_1686
غلاف كتاب هيغل لتشارلس تايلر

Charles Taylor, Hagel, Cambridge: Cambridge University Press, 1975


 يُعتبرُ كِتاب هيغل لتشارلس تايلر ، المنشور في 1975 علامة فارقة في الدراسات الهيغلية، إذْ شكّل انحرافاً عن الاهتمام التقليدي بهيغل، الذي كانت الماركسية غير البروليتارية قد أيقظَته في هيغل. ونقصد بهذا الاتجاهات الدِّراسية التي كانت أعمال لوكاتش وكورش ومدرسة فرانكفورت قد دشّنتها، مُحيلةً نظرَ المُهتمين إلى مساهمات هيغل في تصورات “الاستلاب” و”التوسط” و”الصنمية” وغيرها من الأبعاد الثقافية الاستلابيّة للحداثة وللعقلعلى أنّ هذه الأسئلة لا مُفكَرٌ فيها في الفسبكة الموريتانية، إذْ هي علامة عدم ديمقراطية وتبرمٌ بالرأي الآخر، وكأي “الرأي الآخر” لا يَضُمُّ التبرم. والموريتانيون يعتقدون أن الديمقراطية من الأخلاق الخالِصة، وليست أخلاقاً عملية. أي أنّها ليست إجراءات لتنظيم التدافع بين المجموعة في المجال المشترك (وليس بالضرورة في المجال الخاص؛ أو تلك الاتجاهات الفرنسية، ذات الهمّ الماركسي أيضاً، كأعمال جان هيبوليت وألكسندر كوجيف، مؤوِّلاَ هيغل الأبرز، واللذين أعاداهُ إلى العصر عن طريق زعم هيوبوليت، أن هيغل “لنا نحن الفرنسيون”. بشكلٍ مغاير لهؤلاء فكتاب تشارلس تايلور هو مروقٌ من أفق الحرب الباردة حتى قبل الخروج الكرونولوجي منها لأنّه كتاب صرف الاهتمام إلى بعدين غير مطروقين في حينه كثيراً لهيغل:

البعد الأول هو النظر إلى الهيغلية بصفتِها مساهمة في حلِّ معضل الذات في الفلسفة الغربية، واقتراح أشكلة جديدة لمعضلة الحداثة وما بعد أو ما قبل الحداثة. فيبيِّنُ تايلور في الفصلين الأوليين كيف أن الفلسفة الغربية شهدت صراع “الذات الكونية” مع “الذات المغلقة” وأن الهيغلية هي وضع هذين المسارين المختلفين في جدلية تسبرهما معاً. إن معضلة الفلسفة الغربية ليست صراعَ الحداثة مع الخرافة، كما يُبيِّنُ تايلور كثيراً، برغم وجود هذا الخطاب تأسيسياً في فلسفة الحداثة. بل إن الصِّراع هو بين مفهومين للذات: المفهوم الأول هو الذات المفتوحة على الكون، التي تتلّقّى إلهامها من الأصوات الكونية، من القدر والألوهة والوحي، وتقلُّبات النجوم، وهي في اتصال دائم مع الأرواح؛ والإلهامُ والرؤى مصدرٌ أساسيٌ لها. أما الذات البديلة التي ظهرت معَ عصرِ الأنوار فهي ذات لا ترى شرعيتها إلاّ بغلقِ المنافِذ الكونية عن الذات وسدِّ مجالات الإلهام والشرعية خارج الذات الواحدة. فهي ذاتٌ ديكارتية بيكونية تصلُ للعالم وتسيطرُ عليه من خلال إسكان صوته وإسباغ صوتها الذي وصلت إليه بالتأسيس العقلي، بالتحرُّر من العالم الاجتماعي وبالسيطرة على الطبيعة.

إنّ هيغل، برأي تايلور، هو ناطق، ومُتجاوِزُ، هذه التمفصلات، وهو من يرى أن المشروع الحديث هو مشروع أنطولوجي يكمن ليس فقط في جعل مفهوم الذات التي تحدِّدُ نفسها بنفسها تعريفاً أوحدَ للذات، بل هو تحقيق هذه الذات وجعلها الذات المعيارية والوحيدة في العالم. غير أنّ هيغل ينزع أبعد من هذا التقرير، إذ يُرسي معضلة أخرى في الحداثة، وهي معضلة الذات المنغلقة على ذاتِها، فهي بزعمها الحصانة من الطبيعة ومحاولة السيطرة عليها، لا تنجو من عدم التأثر بالطبيعة، وهو المشروع الذي أرادت نفيه. وهكذا يُقرِّرُ هيغل أن معضلات الذات الحداثية هي صراع الذاتية والموضوعية. وهكذا يُصبح متاحاً لهيغلِ تشارلس تايلور أن يرسم تمفصلاً سياسياً بين مشروع يرى نسف كل العوائق الاجتماعية أمام تحرُّر الذات وبين آخرَ يرى لجم الذات بقوة المجتمع: إنّه الصراع، الذي سيغدو بعد ذلك تقليدياً بين المجتمعيين والفردانيين. ورغم أن هذا “الهيغل” يرى أن صراع الحداثة الأهم ليس الانقسام “الحزبي” ما بين التجريبية والمثالية، وإنما بين الرومانسية والعقلانية، إلاّ أنّه يرى استحالة نفي أي المشروعين لنظيره، رغم أن الجدليّة الهيغليّة قامت، كما هو ذائع، وإن كان خاطئاً أحياناً، على النفي والتجاوز. ولا بدّ من خلاصة على مستوى الثقافة، لا على مستوى الذات، وها هو البعد الميتافيزيقي الذي يُشار إليه غالباً في مساهمة تايلور.

البعد الثاني هو البعد الميتافيزيقي لهيغل، الذي كانت الدراسات المذكورة قد هجرته. فيُعيد تايلور تأسيساً للميتافيزيقا الهيغيلية من خلال استعادة مفهومه للمطلق. وبدوره يُعيد تعريف هذا “المطلق” على أنّه “وضع الروح لذاتها”: وبهذا المعنى فهيغل يُقدِّمُ تفسيراً لكيفية تلاحم التصورات الاجتماعية للذات، والتجارب الفردية مع الوعي.

معلومٌ أن تفسير تشارلس تايلور لهيغل أثارَ جدلاً واسعاً في الدراسات الهيغلية وقد رفضه معظم دارسي هيغل اللاحقين أمثال روبرت بيبين، صاحب التأويل الكانطي لهيغل، وسلافوي جيجيك، الذي يعيد التأويل الماركسي والمادي الجدلي لهيغل، وكلاوس هارتمان، صاحب التأويل المنطقي لهيغل. لكن ما لا يمكن إنكاره هو أن كتاب تايلور أعاد تعريف طبيعة ميدان مقاربة هيغل. وبعده صار ممكناً تقسيماً الصراع على تأويل هيغل باعتباره صراع ميتافيزيقيين يقودهم تايلور، وغير ميتافيزيقيين هم البقيّة

 

 

مراجعة: أبو العباس ابراهم