مجلة حكمة
هل للأدب أي قيمة عليا تتجاوز الترفيه؟ - ماريو فارغوس يوسا / ترجمة: نورة العوهلي

هل للأدب أي قيمة عليا تتجاوز الترفيه؟ – ماريو فارغوس يوسا / ترجمة: نورة العوهلي


ماريو فارغوس يوسا مُتحدثًا في 1985 م عن إحدى مقالاته الواردة في مُؤلف “مُلاحظات في شأن موت الثقافة”


لقد نما التزامي الباطني بالكتابة عبر الفكرة القائلة بأن الأدب يتجاوز حيزهُ الفني ليحتضن عالمًا من القيم الأخلاقية والمدنية. وهذا ما شكّل لي الدافع الحقيقي خلف الكتابة. وهذا ما يحوّلني -وياللحسرة- إلى ديناصور محشور ببنطال ضيق مُحاط بأجهزة الكمبيوتر(1).

رُغم ما تُخبرنا به الإحصائيات عن كوننا لم نشهد عصراً تُنشر فيه الكتب وتُباع كعصرنا الحالي، لا يزال من العسير أن ألتقي بأحدٍ ما لا زال يؤمن بأن للأدب أي قيمة أعلى تتجاوز الترويح عن لحظات المللMario Vargas Llosa الممتدة على مقاعد الحافلات أو القطارات, وأن للطموح الأدبي أفقٌ تتّسع خارج مجرد تحوله إلى نص سينمائي أو تلفزيوني. لقد اتجه الأدب للأضواء. وهذا ما يجعل من ناقد أدبي مثل جورج ستينر يؤمن بموت الأدب. ويدفع روائي آخر مثل    فيديادر سوراجبراساد نيبول لأن يصرح بأنه لن يكتب رواية أخرى بسبب ما تثيرهُ فيه التصنيفات الفنية الروائية من القرف.

وسط كُل هذا التشاؤم حول الأدب, لابد أن نُذكّر أنفُسنا دوماً بأن الناس لا زالوا يخشوْن الكاتب، ولنا مثال في إعدام الكاتب النيجيري كين سارو ويوا من قبل حكومة بلاده العكسرية المُجرمة (2). وانظر أيضاً إلى اضطهاد البنغلادشية تسليمة نسرين (3), وإلى الفتوى الصادرة بحق الكاتب سلمان رشدي. وانظر إلى ما يفعله الأصوليون الإسلاميون في الجزائر من قطع لحناجر الصحفيين والكتّاب. وأولئك الذين موّلوا محاولة الاغتيال التي كادت أن تودي بحياة الروائي نجيب محفوظ. تأمل في كل تلك السجون الممتلئة بالكتّاب في كوريا الشمالية وكوبا والصين ولاوس وبورما وفي كل البلدان التي تسودها حركات الرقابة.

 في الوقت الذي يتحول فيه الأدب إلى هواية دون أي قيمة حقيقية في البلدان التي يتم وصفها بالمُتحضرة والمتمدنة والتي تنعم بجو أكثر حرية من غيرها في ظل أنظمة ديمقراطية, يُصبح الأدب على درجة من الخطورة وأداة طرح أفكار هدامة في البلدان التي لا تنعم بالدرجة ذاتها من الحرية. إن الكُتّاب الذين تعتريهم خيبة الأمل تجاه الأدب عليهم أن يفتحوا أعينهم على الجزء الأكبر من المعمورة الذي لازال يقاتل من أجل الحرية. هذا من شأنه أن يمدهم بالشجاعة.

وجهة نظري كلاسيكية بهذا الخصوص: أعتقد أن على الأدب أن يحتوي مشكلات عصره.  على الكاتب أن يحيط نفسه بإيمان راسخ بأن ما يكتبه سيساعد الآخرين بأن يكونوا اكثر حرية. أكثر تأثرا وبصيرة، دون أن يقع تحت وهم أن تلك الكتابات بحد ذاتها ستقضي على العنف أو الظلم وستجلب الحرية. لقد وقعتُ بشخصي في هذا الوهم، ورأيت العديد من الكُتّاب الذين أُكبرهم يقعون في الخطأ ذاته بل وقد يسّخرون موهبتهم في خدمة أكاذيب أيديولوجياتهم أو جرائم حكوماتهم. 

على الأدب أن يُورط نفسه في حياة الشارع, في الجزء المخفي من التاريخ, كما كان يفعلُ في الماضي, دون أن يفقد متعته. هذه هي الطريقة الوحيدة التي يستطيع بها كاتبٌ ما أن يُساعد معاصريه وينقذ الأدب مما يبدو أحيانا كإدانة له بالضعف.

إذا كانت مُهمة الأدب تقتصر على خلق الترفيه, فهذا يضعهُ في منافسة شديدة الصعوبة مع الشاشات, الكبيرة منها والصغيرة, فالوهم الذي يصنعه الكاتب بالكلمات يحتاج إلى تفاعلٍ حاضر من القارئ, مجهودِ خيالي, بل وأحيانا قد يحتاج قارئٌ للأدبِ المُعاصر إلى مجهودٍ مُضاعف تتضامن فيه الذاكرة والقدرة على الربط والإبداع. لا يحتاج جمهور شاشات التلفزة والسينما إلى مثل هذا المجهود, لأنهم أمام صورة. هذا يجعلهم كسالى وأكثر بعدا عن أي مجال ترفيه يتطلب مثل هذا النوع من التحدي العقلي.

أقول هذا دون أن يكون لدي أي عداء مع الإعلام المرئي. فأنا نفسي أعترف بإنني مُدمنٌ للسينما وأشاهد  فيلمين إلى ثلاثة أسبوعيا بالمعدّل, كما إنني أستمتع بمشاهدة برامج التلفاز النوعية. إنما ومن تجربة شخصية، علي الاقرار بأن كل الأفلام التي استمتعتُ بمُشاهدتها لم تُرشدني إلى فهم المتاهات النفسية لدى الإنسان كما فعلت روايات دوستويفسكي, ولم تُساعدني كفاية في كشف آليات تفاعل المجتمع كما فعلت روايات تولستوي وبلزاك، أو نجحت في تصوير القمة والقاع في التجربة الإنسانية مثل ما قام بذلك توماس مان أو وليام فولكنر أو كافكا أو جيمس جويس أو مارسيل بروست.

الشاشات مُفعمةٌ بالإثارة بشكل فوري ولكن تأثيرها يسرع زواله. هي تأسرنا ثم تطلق سراحنا سريعا. مُفارقة الأدب أنه يأسرنا لمدى الحياة. إنها لنوع من الإهانة أن تُصنّف أعمال الكُتّاب الذين ذكرتهم كمثيرة للتسلية. ذلك لأنه رغم ما تثير تلك الأعمال من إثارة قصوى, يبقى تأثيرها الحقيقي كامناً في إثارة ذاكرتنا على مدى أطول. إن وميضاً لا يزال بداخلي لإنني لن أكون الشخص نفسه, بحسناتي وسيئاتي, ولن تكون قناعاتي هي ذاتها, بشكوكي ويقينياتي, لولا كل تلك الكتب التي قرأتها. لقد شكّلتني تلك الكتب, غيّرتني, صنعتني. ولا تزال تفعل كل ذلك وأنا ماضٍ بالحياة التي أقيسها بها. لقد علّمتنى تلك الكتب أن المظهر السيئ للعالم لا يُفترض به أن يمنعنا من فعل ما نحن قادرين على فعله لمنعه من أن يتحول إلى ما هو أسوأ، وإننا نستحق القدر ذاته من الاحترام في ظل كل اختلافات ثقافاتنا وأعراقنا ومعتقداتنا, كممثلين شركاء في الكوميديا الإنسانية. كما علّمتني أيضاً لماذا يندر أن نستوعب مثل هذا الأمر. لا شئ كالأدب الجيد ينجح في اكتشاف جذور الوحشية التي يستطيع الإنسان أن يطلقها.

بدون أدب ملتزم, سيكون من الصعب احتواء كل هذه المآسي في الحروب والمجازر والصراعات الإثنية والدينية وتشرد اللاجئين و العمليات الإرهابية، والتي تهدد جميعها بالتصاعد محطمة للأمل الذي بزغ حين تداعى جدار برلين. إن البلادة التي اعتلت الإتحاد الأوروبي وهو يَشْهد على الأحداث التراجيدية في البلقان حيث فَقد ٢٠٠٠٠٠ إنسان حياتهم- وتمت شرعنة التطهير العرقي بالانتخابات- من شأنها أن توقظنا من سبات إرادتنا الجمعية التي خُدّرت بشعور عامٍ من الرضا الكاذب. رغم إنه أحيانا ما يقع الخطأ في فهم أهدافه ودوافعه, يجيد الأدب إزالة الغمامة, والتعبير عن حالة السخط في وجه الظلم, وكشف مساحة الامل في أحلك الظروف.

 

الكلمةُ المكتوبة لديها مسؤولية خاصة اتجاه هذه الأمور لأنها تجيد إيصال الحقيقة أكثر من أي وسيط إعلامي آخر. هذه الوسائط الإعلامية المختلفة مُقيدة أكثر بأغلال تحول بينها وبين الغوص في عمق الأمور والتعبير بحرية. التطور الهائل الذي مكّن نشرات الأخبار من نقلنا إلى بؤر الأحداث في كل القارات يحوّلنا إلى جمهور يسترق نظره إلى العالم الذي أضحى مسرحاً واحدا شديد الضخامة, ويمكن القول على وجه أكثر دقة , أن العالم أضحى فيلماً. هذه المعلومات التي نستقيها عابرة جدا, بارزة جدا, وسطحية جدا. تجعلنا نشاهد التاريخ كما لو كنا نشاهد فيلما خياليا. تباعدنا عبر تمويه الجذور والسياقات الحقيقية وراء الأحداث التي يتم تصويرها،وذلك من شأنه أن يدين سلبيتنا إتجاه قبولنا لهذا التصوير و تخاذلنا الأخلاقي والنفسي أمام تلك البرامج التلفازية التي لا تحفل سوى بترفيه المُشاهد.

 يصوّر هذا بدقة مدى رغبتنا في تجاوز الواقع. ولا ننكر أن تلك مُهمة الأدب أيضًا. ولكن الأدب من الناحية الأخرى لا يجعل الواقع غير حقيقيًا. إن تحويل التاريخ  الحقيقي للأوطان إلى محض خيال فني يبدد المواطنة, يدفع الفرد المتمدن للشعور بكونه مُعفى من أي مسؤولية مدنية, ويشجعه على الاعتقاد القائل بأن التدخل بالتاريخ المكتوب هي مهمة مُستحيلة. سيصنع ذلك عالمٌ خال من المتمدنين حتى لو احتفظنا بشكليات الديمقراطية. عالمٌ حافل بالمتفرجين الخاضعين ببلادة تطمح الدكتاتوريات لصنعها.

 

مُعضلةٌ أخرى مع الوسائط الإعلامية هي في كُلفة الإنتاج المرتفعة. تقف هذه المشكلة التي يواجهها المنتجون وراء اختيارهم لأي موضوع وتفضيلهم للطريقة التي تُعرض بها القصة. هذا الجوع للنجاح لا يقف وراءه غرور صانع الفيلم، بل هو شرط أساسي لصنع فيلمٍ ما أو الذي يليه. إن موائمة الإعلام لا تنبع فقط من الحاجة إلي إيصاله لأكبر جمهور محتمل, بل لسيطرة الدولة – حتى في أكثر المجتمعات ليبرالية- على الوسائط الإعلامية ذات التأثير المباشر على تشكيل رأي الأفراد في مجتمع ما. ولا يشترط لحدوث هذا أن تكون تلك القنوات خاضعة للرقابة بشكل صريح, بل تنتج مواءمتها من كونها خاضعة للرصد والإشراف الحكومي، للأنظمة والقوانين، مُثبطاً ذلك إياها من استهداف قضايا معينة والاقتصار على مهمة صنع الترفيه.

من هنا تأتي مسؤولية الأدب. الحُرية ثمينة, إنما لا يمكن حمايتها في كل قطرٍ ما لم تتم مُمارستها والدفاع عنها. الأدب, الذي يدين بمجده للحرية, يساعدنا على فهم أن الحرية لا تتنزل من سماء صافية. الحرية اختيار, قناعة, سلسلة من الأفكار التي يجب إثرائها واختبارها بشكل مستمر. الأدب يساعدنا كذلك على فهم كيف تكون الديمقراطية أفضل وسيلة يمكننا من خلالها منع الحرب- نظرية كانط أصبحت حقيقة جدا اليوم أكثر من العهد الذي كُتبت فيه- فعلى مدى أكثر من قرن, شُنَت الحروب بين أنظمة ديكتاتورية, أو من قبل أنظمة شمولية ضد أخرى ديمقراطية. يكاد يكون من غير المعلوم أن أنظمة ديمقراطية تشن حروبا على بعضها.

الكاتب المُلتزم بقضية, لا ينبغي عليه التخلي عن مغامراته الخيالية أو اللغوية, ولا عن المخاطرة أو الفكاهة, ذلك بأن مهمته في إمتاع القارئ لا يجب أن تتعارض مع مسؤوليته الاجتماعية. صُنع الفتنة, الإبهار, ذاك ما يصنع قصيدة عظيمة, تراجيديا عظيمة, روايات وأقصوصات على ذات الدرجة من العظمة. لا يمكن لشخصية أو فكرة أدبية أن تسطع دون أن تتمكن أولاً من إبهارنا, كأرنب يقفز من قبعة ساحر. 

 

خلال مَنفاه في فرنسا, حين كانت أوروبا مُهددة بتصاعد النازية, كرّس والتر بنيامين نفسه لقصائد شارل بودلير. لقد ألّف فيه كتابًا لم ينتهي منه, ولكن ما تبَقّى منهُ كان كافياً ليصنع الدهشة حين تقرأه. لماذا بودلير؟ لماذا اختار موضوعه في تلك الحقبة؟. حين نقرأ لبنيامين, سنجد الجواب في ترجمته لمجموعة بودلير الشعرية “أزهار الشر” والتي تصوّر كيفية تطور الحضارة المدنية والمحنة الفردية في المجتمعات. إن صورة بنيامين عاكفًا على بودلير فيما تُحكم دائرة الاضطهاد الخناق عليه حتى كلّفه ذلك حياته, لَهي صورةٌ تُحركنا من الأعماق. في منفى آخر على الجهةِ الأخرى من العالم بدأ الفيلسوف كارل بوبر تعلم الإغريقية والتعمق في دراسة أفلاطون صانعًا مساهمته هو الآخر في مناهضة الاستبداد لينتج عن ذلك مُؤلفه المهم : المجتمع المفتوح وأعداءه.

إن بنيامين وبوبر, الماركسي والليبرالي, مثالين بارزين على كاتبين التزما بقضايا ضمن مَوجات من الأفكارِ التي قاما بتجديدها، وأثبتوا لنا كيف هو من الممكن من خلال الكتابة أن تصارع المحن. لقد أرونا كيف يُمكن للديناصور أن يُنتج خلال الأوقات الصعبة ويبقى مفيداً.

المصدر


(1) إشارة إلى انقراض هذا التوجه الأدبي

(2) بسبب حملته السلمية وانتقاده اللاذع للتجاوزات البيئية التي تقترفها شركات النفط الأجنبية

(3) نتيجة كتاباتها حول المرأة والأديان

الترجمة هي لمُقتطفات من مقال ورد في مُؤلف يوسا “مُلاحظات في شأن موت الثقافة