مجلة حكمة
قراءة الأدب

هل تجعلك قراءة الأدب أكثر أخلاقية – بولا م. ل. مويا / ترجمة: أمينة محفوظ


“هل تجعلك قراءة الأدب أكثر أخلاقية؟” كان هذا هو السؤال الذي وجهته بروفسورة الفلسفة ديبرا ستاز إلى ثلاثة من أعضاء الهيئة -أنا وديفيد كيد وجوشيوا لاندي- في احتفالية الذكرى الخامسة والعشرون لمركز ستانفورد للأخلاقيات في المجتمع في بداية الشهر الحالي. كانت الإجابة على السؤال “لا” قاطعة، لأنه وكما أقرت ديبرا ستاز في ملاحظاتها التمهيدية ” الماركيز دي ساد قرأ وكتب الكثير من الروايات.” لا، لأنه وكما ذكّر جوشيوا لاندي بروفسور الفرنسية في جامعة ستانفورد الحضور بأن الطُغاة والنازيين استمتعوا أيضا بأعمال سوفوكليس وويليام شكسبير وفيودور ديستوفيسكي وهيرمان هيسه. ولا، لأنه بحسب ملاحظتي هناك تقليد طويل الأمد يرى بأن قراءة الأدب مفسدة عظيمة ويمتد حتى الرواية الحديثة الأولى – دون كيشوت لميغيل دي سيرفانتس والتي فكرتها أن دون الذي لا مثيل له ” أصبح متعلقا جدا بالقراءة لدرجة أنه قضى لياليه، من الغروب حتى الفجر، وأيامه كلها من بزوغ الشمس حتى غروبها في القراءة، وهكذا مع القليل من النوم والكثير من القراءة جفّ دماغه مما دفعه إلى فقدان عقله ليصبح مجنونًا بالكامل”. بطبيعة الحال، لا يمكن التأكد من قدرة قراءة الأدب على دفعنا للجنون كما لا يمكن أن نضمن ما إذا كانت ستجعلنا أكثر أخلاقية. كما ألمح لاندي ساخرًا ” النتائج تتباين”.

على أية حال، ” الأخلاق ” مصطلح مراوغ وزلق. لذا فإن أي مجموعة من الأشخاص المتباينين بشكل معقول سيشعرون بالحرج أثناء محاولاتهم لوضع تعريف بديل لهذا المبدأ، إذ يوجد خلاف عميق بين أشخاص من مجموعات مختلفة في داخل الولايات المتحدة عن ماهية الأخلاق. لأن ما تعتبره مجموعة من الناس أساسي بشكل كبير (أنا كائن بشري مستقل ولدي الحق في اتخاذ القرارات الشخصية في كل ما يحدث لجسدي)، هو بالنسبة لمجموعة أخرى لاأخلاقية عميقة (أن الإجهاض ابن عم القتل). مما يعني أنه وإن تماثلت نتيجة قراءة عمل أدبي ما لكل الأشخاص، فسيبقى الخلاف محتدا حول النتيجة التي يمكن اعتبارها أكثر “أخلاقية” من غيرها.

الأدب يساعدنا على تحديد ما نعتبره أخلاقيا في المقام الأول

إذن، إذا كانت الإجابة على السؤال المطروح عمّا إذا كانت قراءة الأدب تجعلنا أكثر أخلاقية هي بالنفي الصريح. لماذا نقوم بطرحه في الأساس؟ ولماذا حضر العديد من الأشخاص هذه الندوة لتأمل هذا السؤال والتفكير فيه؟  قد يكون لهذا علاقة بالقلق _ المنتشر بعد أن تم إغلاق بعض أقسام الأدب خلال العقد الماضي_ من أن يظهر بأن الأدب عديم ” فائدة” مما يعني أن نضع في الاعتبار إمكانية الاستغناء عنه. إذ أن الأدب كما يزعم نُقادّه، لا يساهم في دفع العجلة فكريًا واقتصاديًا بالإضافة إلى أن تأثيراته لا يمكن قياسها بسهولة. ومما يزيد الطين بلة، أنه لا يساهم في التعليم العملي للطلاب الذين يضعون على رأس أولوياتهم الحصول على وظيفة. ومن المفهوم أن ينزعج أولئك الذين يدرسون الأدب منا في الجامعات من تلك التوجهات، وقمنا بالرد بشتى الطرق. فالبعض مثل ريتا فليسكي في (استخدامات الأدب، 2008) ومارجري غاربر في (استغلال الأدب والإساءة إليه، 2011) وجوشيوا لاندي (كيف تصنع الأشياء بالأدب، 2012) توجهوا لتلك المشكلة من خلال نشر كتب تتحدث عن جدوى الأدب.

في حين توجه آخرون إلى الطرق التجريبية لإثبات آثار القراءة العملية. وهذا هو ما قدم كيد على طاولة المناقشة، وهو مرشح لنيل الدكتوراه في علم النفس الاجتماعي في “المدرسة الجديدة”. أجرى كيد، بالتعاون مع المشرف على رسالته إيمانويل كاستنو، سلسلة من التجارب النفسية الاجتماعية والتي صُممت لتوضح أن قراءة الأدب القصصي تتحدى القراء معرفيا ويمكن لنا التأكد من قدرته على التأثير في القارئ وفائدته المُحتملة إلى درجة مثيرة للاهتمام، ونشر وصف مفصل لدراستهما في مجلة ” علوم ” أكتوبر الماضي. لاحظ “كيد” أن قراءة الأدب القصصي _بعكس قراءة الأدب الغير قصصي، وأنواع الخيال الرائجة، أو حتى عدم قراءة أي شيء_ يتطلب من القراء الجمع بين مُختلف تيارات المعلومات في وقت واحد، وفي الوقت نفسه يُبرز الذاتية الإنسانية رغم وجود وجهات النظر المتعددة. إن الأدب القصصي يشوش على السيناريوهات الاجتماعية التي نتخذها كمسلّمات، وذلك من خلال دفعنا في وسط مواقف غير مألوفة، ومن خلال لفت انتباهنا إلى أشخاص ربما لا نعتبر أن لهم وجود أو لا نتفاعل معهم إلا بشكل سطحي عابر ويخلو من أي انخراط. وجدا بأن قراءة الأدب القصصي من شأنه أن يعزز قدرة الشخص موضع التجربة، ولو لفترة معينة، على الأداء بشكل أفضل في الاختبارات الاجتماعية والنفسية لكل من نظريتيّ العقل المعرفية والوجدانية. مضمون الدراسة هو أن قراءة الأدب القصصي قد تزيد من قدرات الشخص على فهم واستيضاح مشاعر الآخرين ونواياهم _هي مهارة أساسية للملاحة الناجحة أثناء خوض بحر من العلاقات الاجتماعية المعقدة في عالم متعدد الوجوه والثقافات كعالمنا. أو كما يقترح كيد يمكن للقراءة ببساطة أن تزعزع ما ألفه القارئ من تمحوره حول ذاته.

بصرف النظر عمّا إذا كان الأدب أخلاقيا أو ذو فائدة، فإنه كما أميل لتقديمه، يتناسب بشكل تام مع استكشاف معنى كونك كائنا ذو خُلق في موقف اجتماعي تاريخي معين. تقدم لنا أعمال الأدب القصصي انخراطا لغوي رسمي ومبدع – في صورة أداة منطوقة أو مكتوبة – مع التوترات الاجتماعية السياسية الواقعة تاريخيا -وجغرافيا- على مستوى التجربة الفردية. هو تمثيل أساسي يصل إدراك الكاتب (وبالضرورة القارئ) لـ ” عالم المعنى ” الخاص به. لأن الأعمال القصصية تُشرك عواطفنا وتتحدى تصوراتنا، فإن كلاهما ينعكسان ويساعدان في تشكيل ما نعتبره أخلاقيا في المقام الأول. ما يهم هو أن هذا هو الحال بالنسبة للكاتب والقارئ في الوقت نفسه.

تأمل رواية سولا لـ توني موريسون. ففي مقابلة تليفزيونية أدارتها من بيسي جونز عام 1985، صاغت موريسون السؤال الذي حفز رواية سولا: ” إذا كنت صديقا مقربا لأحدهم كما في سولا، مالذي يعنيه هذا؟ ماهي الخطوط التي لن تقوم بتجاوزها؟ ” وفي جزء آخر من نفس المقابلة، عبرت موريسون عن رأيها بأن الكتابة عبارة عن طريقة لاختبار الوازع الأخلاقي لشخصياتها بغية معرفة كيف سيكون تفاعلهم مع المواقف الصعبة: ” أعتقد بأن هدفي هو أن أرى بصورة حقيقية وواقعية مِمَّ يتشكل هؤلاء الأشخاص، فأقوم بإقحامهم في مواقف يواجهون فيها الإكراه والألم، إنني بذلك أتحداهم لإظهار الحيل التي يملكونها وعندما أراهم في مواقف تهدد حياتهم أو أرى بأنهم قد راهنوا على كل شيء وقدموا كل ما لديهم أعرف حينها حقيقتهم.” ولأن موريسون ترى الكتابة على عملية بحث أخلاقي وأبستمولوجي، فهي لا تكتب عن الشخصيات العادية البسيطة أو الأحداث اليومية المتكررة، بل تسبر أغوار القضايا الصعبة والمواقف ” حيث يحدث أسوأ مما يتوقع”. وتعقب موضحة: ” هكذا أدرك ما هو بطولي. وهي الطريقة نفسها التي أعرف من خلالها كيف ينجو أشخاص كهؤلاء سُحقوا أو لم يُسحقوا، وما كانت الحضارة عليه. ولأن الحضارة بقت من شأننا الخاص، غدا وجودنا هنا منفرا للغاية.” إن عملية كتابة الرواية هي أشبه ما تكون سبيلا للتقصي حيث تكون الإجابة صادمة حتى بالنسبة لكاتب القصة نفسه.

تصف موريسون عددا من العلاقات في تقصيها لـ ” الحدود التي لا يمكن تخطيها ” في سولا، يمكن اعتبار البعض منها ناجحا بدرجات متفاوتة والبعض الآخر ملتوٍ ومنفّر. ولكن العلاقة الأكثر أهمية في الرواية هي الصداقة التي تجمع نيل وسولا. وخلال فصول الرواية تنهار الصداقة التي تجمع كل من نيل وسولا بشكل كلي، ليس بسبب عدم اكتراث سولا بنيل ولكن لأنها تخلط بين اهتماماتها الشخصية واهتمامات نيل. بالتأكيد ارتباط سولا بنيل قوي للدرجة التي تظن معها ” أنهما حنجرتان وعين واحدة ” (147).  حين تمارس سولا الجنس كشخص راشد مع جود زوج صديقتها نيل، فإنها تفعل ذلك دون خجل أو بقصد الأذى. ولا تدرك أنها تخطت حدًا كان موجودًا بينهما إلا بعد أن مارست الجنس مع جود –وبالتحديد بعد أن رفضت نيل مسامحة سولا على تعديها على زواجها ومشاعرها. وبذا لا يشير سؤال موريسون: ” ماهي الحدود التي لا يمكن تخطيها؟ ” إلى الإلزام الأخلاقي مثل: ” لا يمكن لصديقة أن تمارس الجنس أبدًا مع زوج صديقتها ” فحسب وإنما إلى الحدود التي تشكلنا وتجعلنا ذات وذات أخرى. وتستكشف موريسون كأخلاقية بحد ذاتها تستكشف الديناميكية التي تبرز عندما تخفق الذات في تعرف على الآخر على أنه آخر- أي كفرد منفصل ومتفرد ذو احتياجات ورغبات مشروعة وأساسية منفصلة تمامًا عن احتياجاته هو.

” الحدود ” بين الذات والآخر والتي يجب ” ألا يتخطاها ” الشخص هي – كالكثير من الضرورات الأخلاقية والمعنوية – محددة تاريخيًا وثقافيًا، وليست عالمية. فكما يوضح الأخصائيون في علم النفس الاجتماعي هازيل ماركس وشينيبو كاتياما، هناك الكثير من النماذج الثقافية للذات، البعض منها أكثر استقلالية من بعضها الآخر (انظر الثقافة والذات أو صدام لماركس وكونر 2013). ونتيجة لذلك، يمكن يكون لتصرف يعد تعديا بظلم على استقلال الفرد في سياق اجتماعي ثقافي معين (مثال: أن يختار أبويك زوجكِ\ زوجتك) أن يُعتبر مناسبًا تمامًا أو مُفضلًا في سياق آخر. وبدلًا من أن يقلص هذا من إنجازات موريسون، فإن حقيقة التنوع الثقافي الاجتماعي تظهر كإضافة مهمة لتزيد من قيمة مشروعها. كيف سنتمكن بدون كل هذا من تقدير هذه الحدود في موقف معين- إلا إن استكشفنا واستقصينا؟ وماهو أفضل من الأدب لنقود هذا الاستكشاف خلاله؟ يمكن أن نجمع أشخاصا حقيقيون لنقوم بالتجارب نظريًا، ويمكن أن نضعهم في مواقف ” حيث يحدث شيء فظيع حقا ” في سبيل أن نعرف ” ما هو البطولي “. لكن هذا بكل تأكيد غير مسموح به أخلاقيا ومعنويا في مجتمعنا. في هذه اللحظة، يظل الأدب المساحة الأكثر أهمية التي يتمكن الكُتّاب والقرّاء من خلاله على حد سواء من اختبار الأسباب المعقدة واللانهائية التي تدفع الناس- ككائنات تقع في وجود لا مفر لها منه-  للتفكير والتصرف بطريقة التي يفعلون.

المصدر