مجلة حكمة
هل الفلسفة بديل للعلاج النفسي؟ - بوريس هنسلير / ترجمة: محمد المهذبي

هل الفلسفة بديل للعلاج النفسي؟ – بوريس هنسلير / ترجمة: محمد المهذبي

 


تتمتّع الفلسفة بشعبيّة قلّ أن عرفتها في الماضي. فكتابات أرسطو وأمثاله صارت تقدّم إجابات لكلّ وضع من أوضاع الحياة، بعد أن باتت النصوص الكلاسيكيّة معينا لنصائح الشعور بالسعادة. يمجّد بعض الفلاسفة اختصاصهم إلى درجة اعتباره بديلا لـ العلاج النفسي . فكيف ينبغي علينا أن ننظر إلى كلّ ذلك؟

 

         من أنا؟ وإذا ما عرفت فكم هناك من “أنا”؟ هل سأصبح أكثر رصانة كلّما تقدّمت في السنّ؟ لماذا يغدو الحبّ مستعصيا، وكيف يتحقّق رغم ذلك؟ تلك بعض الأسئلة التي يعالجها الفيلسوفان الألمانيان ريشارد دافيد برشت وفلهيلم شميدت في كتاباتهم. ومن الواضح أنّهم يخاطبون جمهورا كبيرا، فكتاب بريشت لوحده ” من أنا ؟ وإذا ما عرفت فكم هناك من أنا” تجاوزت مبيعاته المليوني نسخة في البلدان الناطقة بالألمانية.

         ليس الطلب متعلّقا بالكتب الفلسفيّة وحدها. فالكثير من الناس يستشعرون الحاجة للحديث في المسائل الفلسفيّة. ظهرت في السنوات الأخيرة مشاريع مختلفة تقع تحت باب “العيادة الفلسفيّة”، سواء أكانت في شكل محادثات فرديّة أو محاورات جماعية. وتضمّ “الجمعية الدولية الناطقة بالألمانية للممارسة الفلسفيّة” مائة وخمسين عضوا. أمّا الاتّحاد الأمريكي المعروف باسم “الجمعية الوطنية للاستشارات الفلسفية” (1) فيشمل حوالي أربعمائة عضو، أي ضعف ما كان عليه العدد قبل سنتين. وهناك في ألمانيا مقاه فلسفيّة، وكذلك الفلسفة للأطفال والرحلات الفلسفيّة ومجلاّت فلسفيّة للعموم مثل “المجلّة الفلسفيّة” و”هواء الأعالي” (2).

         لماذا يهتمّ كلّ ذلك العدد بالفلسفة، وهي اختصاص اعتبر لوقت طويل مفرطا في التجريد، وفي الابتعاد عن مشاغل الحياة اليوميّة؟ هل تساعد الفلسفة أولئك الذين يشعرون بفراغ داخليّ؟ ألا يملك علم النفس إجابات على أسئلتهم؟ هل تلقّى الفلاسفة التدريب اللاّزم من أجل العناية بأولئك الناس؟ أم إنّهم، مع اكتساب الفلسفة لدرجة من الشعبيّة، يقدّمون وعودا بأشياء لا يقدر اختصاصهم على تحملّها؟

         ومهما يكن من أمر فإنّ ريشارد دافيد برشت يؤكّد أنّ اهتمام الجمهور الواسع بالمسائل الفلسفيّة ليس في الواقع ظاهرة جديدة. نشر بريشت مؤخّرا المجلّد الأوّل من كتابه المؤلّف من ثلاثة أجزاء تحت عنوان “تاريخ الفلسفة”، يقارن فيه بين عصرنا والعصر الذي نشط فيه مفكّرون يونانيّون مثل أبيقور وما سمّي بالرواقييّن،(3) وهم الفلاسفة الأوائل الذين فهموا موضوعهم صراحة باعتباره مساعدة على الحياة. يعتبرهم برشت مؤسّسي أدب تدبير شؤون النفس ونصائح الحياة.

         “كان أبيقور نوعا من “الغورو” الروحي الذي أنشأ جماعة وأراد العيش بين ظهرانيها حياة طيّبة”، يقول برشت. “وبسبب ذلك ناصبته الفلسفة الأكاديمية العداء. غير أنّ البحث عن المعنى كان ردّ فعل منطقيّ على فلسفة أفلاطون وأرسطو وهي فلسفة أقرب إلى التفاؤل وإلى الفلسفة السياسيّة، نظرا إلى كونها رسمت يوتوبيات أكبر للحياة المشتركة بين البشر. تلت ذلك فترة من الاستفاقة حيث لم تعد تنفع الرؤى الاجتماعيّة. وفي مثل تلك الحقبة نجد اليوم أنفسنا من جديد.”

         بدأت تلك الفترة حسب تقدير بريشت في السبعينيات من القرن الماضي، عندما أدرك الكثير من الناس أنّ احتجاجات الستّينيات لم يكن بمقدورها التأثير في الرأسماليّة على المدى البعيد.  تبخّر الأمل في عالم أفضل وأكثر عدلا، واستفاق الناشطون السابقون. انصرفوا عن المشاكل الاجتماعيّة وبدأوا يهتمّون بسعادتهم الخاصّة. ” اتّجه الكثيرون أوّلا إلى فلسفات الشرق الأقصى أو إلى الفلسفات الباطنية”، يقول بريشت. ” اعتبرت الفلسفة الغربية الكلاسيكيّة أصعب من أن يتمّ تقديمها للجمهور، ولكنّ الأمر تغيّر بالتدريج. ومنذ ذلك الوقت بدأ الاهتمام بها في الازدياد.” ومن الأسباب الأخرى لذلك نجد أيضا تراجع أهميّة الكنائس والأديان.

ويرى فلهلم شميدت المسألة بشكل قريب من ذلك:” لم يعد للناس معايير، وهي المعايير التي وضعها الدين، أو حفظتها التقاليد أو فرضها الاتّفاق إلى حدّ الآن، أي إنّه عليهم توجيه أنفسهم بأنفسهم.” والنصائح التي تمنع قرّاءها من التفكير لا ترضي الكثيرين. يقول شميدت إنّ كتبه هي للرّاغبين والقادرين على التفكير بأنفسهم.

         وفي الوقت الذي خسر فيه الإيمان من أهميّته لدى شرائح واسعة من الناس، يلاحظ المرء في الوقت ذاته أصوليّة دينية متنامية. يرى الفيلسوف ميشائيل هامب الأستاذ بالمدرسة العليا الفدرالية التقنية بزوريخ، بدوره في ذلك سببا للاهتمام الجديد بالفلسفة الغربيّة. فالمرء صار يتّجه عن وعي إلى أصول التنوير الغربي ومثله العليا.

         يذهب بعض الفلاسفة بعيدا إلى حدّ الزّعم بأنّ الفلسفة هي البديل لعلم النّفس ولـ العلاج النفسي على وجه التدقيق. ويعتبر المؤلّف الكندي لو مارينوف، الذي ألّف كتبا مثل “أفلاطون وليس البروزاك !” (4)، أنّ مشاكل عديدة للنفس تجد أسبابها في كوننا نشكّك في معنى الحياة. إنّ علماء النفس والأطبّاء النفسيّين يختمون بسرعة مفرطة معالجتهم للاضطرابات النفسيّة ويصفون علاجا نفسيّا أو أدوية. ولكنّ معظم المشاكل العقليّة لا تحلّ لا من الناحية العاطفية ولا من الناحية البيوكيميائية، بل فلسفيّا.

نشر ألان دي بوتون كتابا، سنة 1998، يربط فيه الفلسفة والأدب والفنّ بالصيغ الأكثر انتشارا لأدب النصائح ذي المسحة النفسيّة: “كيف يمكن لبروست أن يغيّر حياتك. مدخل”. إثر ذلك بعشر سنوات أسّس دي بوتون في لندن “مدرسة الحياة” (5) التي تسعى إلى تنمية “ذكائنا العاطفي” بمساعدة الثقافة. تقدّم المدرسة دروسا من قبيل ” كيف يبقى المرء متماسكا”، ” كيف يكون المرء عنصرا قياديّا جيّدا”، أو ” كيف يتواصل الإنسان عند الحبّ بشكل أفضل”. وبإمكان الزائر أن يشتري من المتجر الخاصّ بتلك المدرسة كتبا تحمل مثل تلك العناوين إلى جانب حاملات مفاتيح كتبت عليها أقوال فلسفيّة أو علبا من العسل اليونانيّ. تحت العنوان الكبير “العلاج” تقدّم “مدرسة الحياة” فضلا عن ذلك علاجا نفسيّا تقليديا وكذلك نصائح فلسفيّة حياتية بهدف المساعدة على نموّ الشخصيّة.

عندما تتحوّل نصوص كيركغارد إلى واجب منزليّ

تناول عالم النفس الأمريكي صامويل كناب بالتحليل ما هو معروض عالميا في مجال الاستشارة الفلسفيّة واستنتج وجود اتّجاهين: الاستشارة بالمعنى الضيّق والاستشارة بالمعنى الموسّع. يهتمّ الفلاسفة الذين يقدّمون الاستشارة بمعناها الضيّق بمشاكل لا يشملها العلاج النفسي ، مثل القضايا الأخلاقية والميتافيزقيّة والسياسيّة أو مسائل ذات طابع منطقي محض. يأتي الحرفاء إلى الاستشارة لأنّهم وجدوا أنفسهم في العمل أمام معظلة أخلاقية، أو لأنّهم يتساءلون عن رؤيتهم للكون أو يريدون معرفة ما يعنيه ذلك. أمّا الفلاسفة الذين يقدّمون الاستشارة في معناها الأوسع فهم يقترحون خدماتهم بشكل صريح على أنّها بديل لـ العلاج النفسي . إنّهم يعالجون أزمات الحياة والمخاوف والاكتئاب بأنواعه.

لقد استولى كلّ مقدّمي النصائح من الفلاسفة بالفعل على تقنيات العلاج النفسي . فالمحادثات تدوم ساعة تقريبا وتتمّ أسبوعيا أو كلّ أسبوعين في غرفة عيادة. يستمع المستشارون ويتحدّثون بهدف ضبط التصوّرات اللاّعقلانيّة لحرفائهم. ويقدّمون لحرفائهم إضافة إلى ذلك أعمالا فلسفيّة بهدف قراءتها في البيت.

” أنا أقدّم بانتظام مقتطفات من نصوص تناسب مشاكل الحرفاء”، يقول أوليفر فلوريغ الذي يعمل مستشارا فلسفيّا ومعالجا لمشاكل النطق وممارسا لـ العلاج النفسي بمدينتي هايدلبرغ وكمبتن (6). “فعلى سبيل المثال كان لي حريف في أواخر الثلاثينات من العمر. أنهى دراسته ولكنّه لم يكن يعرف كيف ينظّم حياته. هل يجب عليه أن يتزوّج صديقته؟ كيف ستتطوّر الأمور في العمل؟ كان يريد الحصول على أفضل الإمكانيّات وعدم ارتكاب أيّ خطأ في اختياراته. قدّمت له نصّا حول “داء الاحتمالات” لسورين كيركغارد. يتعلّق الأمر في النصّ بضرورة وجود المعوّقات وبإمكانية ارتكاب أخطاء بمجرّد أن يدخل المرء في الحياة الملموسة. “استطعنا أن نتحدّث في الموضوع وأن نجد بذلك مخرجا من المشاكل.”، يقول فلوريغ.

يبحث الفيلسوف عن تناقضات في تفكير حرفائه. يتساءل فلوريغ ” ما هي الحجج المتوفّرة لما يتخّذه المرء من مواقف؟ هل هي مناسبة وجيّدة بعد المراجعة؟” عندها يعيد الحريف التفكير في الموقف ويخفّف من حدّته”. يتعلّق الأمر في مرحلة ثانية بما هو مناسب ومساعد. يمكن للناس أن يصبحوا مرضى بسبب البحث عن معنى للحياة إذا لم يجدوه، وتنشأ عن ذلك اضطرابات نفسيّة. غير أنّ الأساس الذي يقفون أمامه هو فلسفيّ أوّلا.”

تسائل الفلسفة القيم والمواضعات والتقاليد. توماس بوليدنيشك من مدينة مونستر هو في المقام الأوّل مختصّ في علم النفس العلاجي، غير أنّه بنهاية الثمانينات ثمّ التسعينات بدأ يتحوّل بالتدريج إلى الفلسفة، عندما لاحظ تغيّر أنواع متاعب مرضاه. ” تفطّنت إلى نوع من تعب الذات. لقد فقد الدين والتقاليد تأثيرهما الملزم لدى الناس. وحلّ محلّهما الفراغ، ولم يكن لعلم النفس المرضي إجابات على ذلك. إنّ حريّتنا اليوم ليست مهدّدة من قبل القمع، بل من قبل التفاهة.”

ويعتقد أوليفر فلوريغ بدوره أنّ المجتمع يتّجه أكثر فأكثر إلى الفلسفة بسبب فراغ عقليّ يدور حول نفسه. “لقد عملت في أماكن مختلفة، ولاحظت أنّه كلّما كان الوسط تقليديّا إلاّ وقلّ ظهور التساؤلات عن المعنى. في ميونيخ مثلا كانت هي الموضوع الأساس للاستشارات. الناس اليوم كثيرا ما يكونون في حلّ من الالتزامات العائليّة أو الدينيّة، وإذا لم يجدوا أيّ إشباع في عمل ذي معنى فإنّهم يستشعرون فراغا مؤكّدا. يلاحظون كذلك أنّه لا يكفيهم على المدى البعيد الالتقاء بالأصدقاء في نهاية الأسبوع حول قهوة لاتي ماكياتو.”

اعتبر ألبير كامو القرن العشرين قرن الخوف. رأى أنّ الخوف ليس مشكلة تخصّ نفسيّة الأفراد بل على العكس فإنّ النفسيّة نتيجة للمخاوف الحداثيّة. كذلك يأوّل سفن سيغال من جامعة ماكاري بسيدني كتابات كامو. المرض العقلي هو انسحاب من الحياة الحديثة أو إقصاء منها. لا تهتمّ الفلسفة باضطرابات الشخصيّة مثلما يفعل علم النفس، بل بانهيار المواضعات التي تهيكل الحياة اليومية. يكتب سيغال: ” انطلاقا من تلك النقطة فإنّ غاية الاستشارات الفلسفيّة ليس علاج النفس بل سبر اضطرابات المواضعات القائمة وإنشاء إطار بديل، بحيث يعود المعنى إلى الحياة اليومية من جديد.”

ذلك هو الوضع على المستوى النظري. ولكن ليس من السهل دائما التمييز بوضوح، على المستوى العملي، بين التساؤلات النفسانية والفلسفيّة. ولذا فإنّ ممارسي الفلسفة يناقشون منذ سنوات إلى أيّ مدى يجوز للفلسفة الاقتراب من العلاج النفسي .

يدافع بيتر راب الكندي الممارس عن فكرة أنّ العيادة الفلسفيّة مناسبة حتّى للناس الذين يعانون من اضطرابات نفسيّة، حسب معايير التشخيص الطبّي النفسي، سواء أكانت اكتئابا هوسيّا أم اضطرابا لاحقا لصدمات أو فصاما. يجب على الاستشارة الفلسفيّة أن يكون لها غاية علاجية، حيث أنّها تسعى إلى فهم معاناة الناس والتخفيف منها. وبما أنّ الفيلسوف يعرف مثلا الواحديّة (7) –وهي الحالة المتمثّلة في أنّ عقل الشخص وحده يبدو مؤكّد الوجود وأنّ كلّ ما هو خارج ذهننا غير مؤكّد- فإنّ الفيلسوف، حسب بول ج.غيبس حتّى هو المناسب بشكل خاصّ، لفهم تصوّر العالم لدى المصاب بالفصام ومساعدته. يجب إدخال الشكّ إليه حتّى يقبل معقوليّة الواحديّة.

ترى عالمة النفس والفيلسوفة إيمي فان دورتسن أنّ الحرفاء الذين يأتون بحثا عن علاج وجودي، يعرفون ما يتعلّق الأمر به، أي بتجارب الحياة الكبرى. انطلاقا من ذلك تكون مسؤولية الاختيار ملقاة على عاتق الحرفاء، حتّى يقولوا إن كانوا يحتاجون إلى تدخّل نفسي أو فلسفيّ.

ينتقد الفلاسفة الذين ينظرون إلى استشاراتهم على أنّها بديل للعلاج النفسي، اعتقاد خبراء العلاج النفسي اليوم في أنّ كلّ ابتعاد عن المعيار السائد عرضا من أعراض الاضطراب نفسي. يذهب الفيلسوف ماركوس غابيرييل، من مدينة بون، في كتابه “الأنا ليس مخّا” بدوره ذلك المذهب، عندما يكتب أنّنا يتمّ اختزالنا، حسب علماء الأعصاب، إلى أتباع “لرعود النورونات تحت غشاء الجمجمة”. يشير الفيلسوف سام براون بكلّ ثقة في المقابل إلى أنّ الفلاسفة،  بخبرتهم في التفكير النقدي يعتقدون في رؤيتهم للعالم أنّ كلّ الاضطرابات العقليّة يمكن أن تفهم باعتبارها نتيجة أخطاء في التفكير الفلسفي.

يضاف إلى ذلك أنّ الفلسفة ليست ملاذا للشعور بالطمأنينة. فهي لا تنشد جلب الاستقرار إلى النفس. يقول الفيلسوف توم ستيرن من يونيفرستي كولدج بلندن، إنّه درس الفلسفة لأنّها تعالج المسائل المعقّدة التي يطرحها هو، من قبيل : هل هناك إله؟ كيف يمكنني إدراك ذلك؟ وإلى أيّ مدى تكون المعرفة ثابتة، حين يدرك المرء أنّ حالة المعرفة ربما ستكون مختلفة تماما بعد مائة عام؟ ” تنشد الفلسفة البحث عن الحقيقة. لا يتعلّق الأمر بشيء مريح، أو مطمئن” يقول ستيرن. ” بمجرّد أن تكون الفلسفة أمرا حسنا فهي شاقّة ومتحدّية. وإذا كان لي من نقد أوجّهه مثلا إلى “مدرسة الحياة” فهو التالي : معالجتها للمسائل الفلسفيّة تبدو لي مفرطة في التبسيط. فإذا احتاج المرء إلى كبار المفكّرين، من أجل البحث عن السلوان مثلا، فلا بدّ أن تظهر إمكانيّة أن يؤدّي أحد أولئك المفكّرين إلى فتح العينين (إيقاظ) ويصل المرء إلى خلاصة مفادها أنّه قد لا يكون هناك مجال للسلوان أصلا.” إنّ الفلاسفة المحترفين لا يقدّمون أنفسهم أبدا على أنّهم أشخاص حكماء، بإمكان النّاس اللجوء إليهم طلبا للنصيحة كلّما تعلّق الأمر بحياتهم. ” ولماذا يجب علينا فعل ذلك؟ فهو ليس ما درسنا من أجله.”

ريشارد دافيد برشت، الذي يعتبر نفسه مشكّكا في العلاج النفسي ، يقول:

” لا ينبغي للفلسفة أن تتّخذ نفس الدور الذي لعلم النفس، إنّها فنّ تعلّم التفكير العميق في الحياة، أي حول الحياة وليس حياتي أنا. وذلك أمر آخر يختلف عن كون المرء يعاني من مشاكل كبيرة. إنّ التفكير المتعمّق لا يؤدّي بالضرورة إلى تخليص الناس من همومهم، بل قد يفضي إلى تفاقم الاكتئاب.”

” إذا كان المرء يبحث عن شريك للتفكير في مسائل فناء الكون، في مواضيع مثل الموت، في القرارات الأخلاقيّة، فسيكون الفلاسفة عندها هم الأشخاص المناسبون”. تقول عالمة النفس أنطونيا بارك، الحاصلة في ذات الوقت على التأهيل الجامعيّ في الفلسفة، ” بدراستي للفلسفة ما كان بوسعي أن أكون قادرة أصلا على تقديم العلاج. هناك في علم النفس العلاجي مهمّة واضحة تتمثّل تحديدا في معالجة الاضطراب النفسي. الهدف هو السيطرة أو التخفيف من الآلام أو المنغّصات التي تسبّبت في ذلك الاضطراب. ومن أجل ذلك يتّخذ المرء خطوات هادفة ومتعاقبة، تؤدّي إلى حصول تغيير لدى المريض.

بديل للعلاج أم مبالغة في تقدير الذات

تستند المناهج التطبيقيّة في العلاج السلوكي المعرفي إلى بديهيّات تجريبيّة، تقول بارك:

” ممارسو العلاج النفسي يمتلكون خبرة طويلة وراءهم. لا يستطيع الانسان ببساطة اختبار شيء ما في محادثة حتّى وإن كان شديد الذكاء. من المهمّ قبل ذلك القيام بتشخيص معلّل. يمكن أن تكون لدى المرضى نزعات انتحارية، أو هم كثيرا ما يعانون من مشاكل كبيرة في وضعهم الصحّي، في العمل أو في علاقاتهم. إنّهم يحتاجون إلى علاج مختص.”

تقول بارك أيضا:” أعتقد أنّ هناك مثلما كان الأمر في الماضي، انتقاص من شأن العلاج النفسي . فأنا لا يمكنني مثلا إقناع نفسي بالخضوع إلى عمليّة جراحيّة من قبل شخص غير مختصّ في الجراحة، فقط لأنّه يتمتّع بتدريب جيّد في مجال آخر. ثمّ هناك أيضا إدانة للأمراض النفسيّة، وأنا أرى الخطر الكامن في أنّ الناس يفضّلون الاتّجاه بمشاكلهم إلى الفلسفة أو إلى الاستشارة الفلسفيّة من أجل اجتناب تلك الإدانة. إذا ما اعتقد الفلاسفة أنّه بإمكانهم ليس فقط تقديم التفكير بل بديل للعلاج، فإنّ ذلك حسب رأيي مبالغة في تقدير الذات أو قصور في إدراك معنى العلاج.” وتنقص الاستشارة الفلسفيّة، فضلا عن ذلك، الإطار القانوني ومراقبة الجودة التي تحمي الناس. فلا نجد حتّى مبدأ واجب كتمان السرّ المهني.”

يدرك الكثير من الفلاسفة الممارسين في ألمانيا تلك الحدود ويقولون إنّهم لا يقدّمون الاستشارة للأشخاص الذين يعانون من اضطرابات نفسيّة. ولكنّ ذلك لا يعني أنّهم يدركون دائما معنى الاضطرابات النفسيّة. فليس كلّ المستشارين لديهم خلفيّة نفسانية مثل توماس بوليدنيتشك أو أوليفر فلوريغ. تبقى أعراض الاضطرابات النفسيّة في أفضل الأحوال فضفاضة. وحده شخص ذو تكوين نفسي بمقدوره إدراك ذلك، وفهم إن كان المريض يدرك الواقع مثل معظم الناس الآخرين أو إنّه ينشئ واقعه الخاصّ، مثلما كتبت عالمة النفس والفيلسوفة بياتريس أ. بوبسكو من جامعة بودابست.

يخطئ الناس في الأصل عندما يلتجئون إلى الاستشارة الفلسفيّة، كلّما أصيبوا بمشاكل عقليّة من أيّ نوع كانت: حين يكونون في حالة حزن، اكتئابيّين، خائفين، عنيفين، بلا أمل، أو عندما يشعرون بانعدام القيمة، يعانون من الرهاب أو من نوبات فزع أو لديهم اضطرابات هوسيّة. المسائل الفلسفيّة هي من قبيل كيف يتعامل المرء مع التقدّم في السنّ، كيف يفكّر المرء في المال، في تنظيم العائلة، أو كيف ينظر إلى الأخلاق، إلى القيم وإلى السياسة.

يصف عالم النفس صامويل كناب بعض الأمثلة التي تبيّن مدى صعوبة ذلك التمييز: الحرفاء الذين لديهم اضطرابات توحّد خفيفة يمكن أن يظهروا بمظهر الذكيّ والنابه، ولكن لديهم مع ذلك بقع معرفية بيضاء، يمكن كشفها فقط بواسطة فحوص نفسيّة حرفيّة. وإذا ما واجههم المرء بغرابتهم المنطقيّة، فإنّ ذلك قد يضعهم في الحرج ويجرحهم نفسيا، دون أن تستفيد قدراتهم المعرفية من ذلك. والحرفاء العصابيون بدورهم ذوو حساسيات عاطفيّة غير متوازنة، يميلون إلى استعمال آليات دفاعية، بمجرّد وضع قناعاتهم موضع المساءلة. وبصفة عامّة فإنّ المواجهة مع حقائق غير مريحة، مثلما تطالب بذلك الفلسفة، يمكن أن تتسبّب دائما في ردود أفعال خطيرة. إنّ الفلاسفة هم، بسبب تكوينهم ليسوا في وضع يسمح لهم بإدراك ذلك مبكّرا والتصرّف بناء عليه.

يعيب كناب على الفلاسفة الذين يتولّون الاستشارة اعتقادهم المتمثّل في أنّ عملهم هو بديل مشروع لـ العلاج النفسيّ التقليديّ، ويعتبره مستندا إلى تفكير نظريّ محض. يقع على عاتق الفلاسفة واجب أخلاقيّ للبرهنة على أنّ عملهم هو في خدمة صالح المجتمع. يجب عليهم البرهنة إمبيريقيّا على أنّ أسبابا فلسفيّة تقف فعلا وراء بعض المشاكل الإنسانيّة وأنّ تلك المشاكل يمكن تخفيفها فعلا باستعمال وسائل فلسفيّة.

ينظر الفلاسفة مثل شميد وبرشت إلى الموضوع بطريقة مشابهة. يقول شميد :” لا نفهم نحن الفلاسفة شيئا من اللاّوعي ولا من تعقيدات الحياة العاطفيّة أو من الصدمات. تساعد الفلسفة على فهم أسس مشكلة ما وضبط الحلول لها. ولكنّنا لا نقول أيّ تلك الحلول يناسب نوعا محدّدا من البشر. يجب على الإنسان الفرد أن يهتدي إلى ذلك لوحده بالاستناد إلى ذكائه.” ولكنّ الأمر يفترض عندها وفي كلّ الأحوال وجود توازن نفسيّ.

 


Was Sokrates zu Ihren Sorgen sagt, بقلم Boris HÄNSSLER ، نشر في مجلّة Psychologie Heute  العدد السادس من سنة 2016.

مراجع :

Richard David Precht : Erkenne die Welt. Eine Geschichte der Philosophie, Band 1 . Goldmann, München 2015.

Wilhelm Schmid : Gelassenheit. Was wir gewinnen, wenn wir älter werden. Insel, Berlin 2014.

Lou Marinoff. Bei Sokrates auf der Couch. Philosophie als Medizin für Seele. Dtv, München 2002.

Markus Gabriel : Ich ist nicht Gehirn. Philosophie des Geistes für das 21. Jahrhundert. Ullstein, Berlin 2015.

Alain de Botton: Wie Proust Ihr Leben verändern kann. Eine Einleitung. Fischer, Frankfurt 2000.

 

ترجمة المقتطفات الواردة بالخطّ الغليظ في المقال بلغته الأصليّة (تحت صور الباحثين المستجوبين):

1.”الفلسفة هي فنّ التفكير العميق في الحياة، أي في الحياة بإطلاق وليس حياتي أنا” ريشارد دافيد بريشت ، (ص 45).

2.”تساعد الفلسفة على فهم أسباب مشكلة ما وتحديد الحلول لها. ولكنّنا لا نقول أيّ تلك الحلول يناسب شخصا معيّنا.” فلهلم شميد (ص. 46).

3.”تنشد الفلسفة البحث عن الحقيقة. ولا يتعلّق الأمر بأمر مريح أو مطمئن.” توم ستيرن (ص.47).

 

هوامش الترجمة:

1) National Philosophical Counseling Association

2) « Hohe Luft »

3) أبيقور (Epicurus) فيلسوف يوناني ( 341-270 ق.م) يرى إنّ هدف الفلسفة هو بلوغ السعادة وإبعاد الألم. أمّا الرواقيون فهم أتباع المذهب الرواقي (Stoicism) الذي ظهر باليونان في القرن الثالث قبل الميلاد تقريبا، تدعو إلى الانسجام الكامل مع الطبيعة.

4) Plato, Not Prozac ! . ذلك هو العنوان بالإنجليزيّة. والبروزاك هو دواء يستخدم لمعالجة الاكتئاب وبعض الاضطرابات النفسيّة الأخرى.

5)School of Life

6) مدينتان ألمانيّتان.

7) الواحديّة أو الذاتويّة ( Solipsism ).

*******

*بوريس هنسلير: كاتب وباحث ألماني.

**محمّد المهذبي: كاتب ومترجم ودبلوماسي تونسي.