مجلة حكمة
هل الأدب هو أهم سلاح للبروباغندا؟ - نيك روميو / ترجمة: هديل الدغيشم

هل الأدب هو أهم سلاح للبروباغندا؟ – نيك روميو / ترجمة: هديل الدغيشم

1445378770490-cached
نيك روميو


اعتقد ستالين أن الأدب هو أهم سلاح للبروباغندا، لذا وكما يظهر أن وكالة المخابرات المركزية قد نشرت “الدكتور جيفاغو” سرًا في الاتحاد السوفيتي، وفقًا لسياستها الجديدة في ذلك الحين.

وقد وصف قائد السوفيت، جوزيف ستالين، الكُتّاب بأنهم “مُهندسي الروح البشرية”

ويزعم بأن “ما تنتجه الأرواح أهم مما تنتجه الدبابات”  ويعتقد ستالين بصراحة أن الأدب كان أداة سياسية قوية، وقد كان عازمًا على إعدام الكُتّاب الذين تُصنف أعمالهم بأنها خيانة للاتحاد السوفيتي.

إن مشاعر ستالين تجاه الأدب قد تبدو مجرد أوهام مضطربة لرجل ديكتاتوري، ولكن لو أمعنا النظر، قد نجد تعليقًا مشابهًا من رئيس الأعمال السرية لوكالة المخابرات المركزية: “تختلف الكتب عن كل أنواع البروباغندا الإعلامية، أولًا لأن الكتاب الواحد قادر على تغيير فكر القارئ وتصرفاته بشكل ملحوظ إلى حد لا يماثله تأثير أي وسيط آخر.” واستخدم استعارة عسكرية في تعليقه ووصفه للثقافة، مسميًا الكتب “أهم سلاح للبروباغندا الاستراتيجية”

بغض النظر عن الوصف البلاغي المشترك، إن وكالة المخابرات المركزية لم تستخدم الأسلوب السوفيتي لتبطل تهديدات الكُتّاب الوهمية. ولكن الحكومة الأمريكية، وتحديدًا وكالة المخابرات المركزية، قد كانت منذ فترة طويلة مهتمة بحماس لاستخدام الأدب لإثبات الإيديولوجيات الأمريكية وتدمير الشيوعية خارج البلاد.

ربما تعتبر حادثة رواية بوريس باسترناك “الدكتور جيفاغو” أفضل مثال على هجوم وكالة المخابرات المركزية باستخدام الثقافة الأدبية. وقد نُشرت مؤخرًا بعض ملفات الوكالة المتعلقة بتلك الحالة، ولاقت اهتمامًا كبيرًا من وسائل الإعلام في الشهر المنصرم. ولكن الموضوع غُطي بشمولية أكبر في كتاب شيّق وجديد لـ بيتر فن وبيترا كوڤي، والذي يحمل عنوان “قضية جيفاغو: الكرملين، ووكالة المخابرات المركزية، ومعركة الكتاب الممنوع” ورُويت القصة بأكملها؛ فكيف أن مساعدة “الدكتور جيفاغو” على تمزيق الاتحاد السوفيتي تركت آثارًا مثيرة للفتنة، على حاضر ومستقبل الصراع الثقافي.

بدأ بوريس باسترناك بكتابة “الدكتور جيفاغو” على ورقة بيضاء عام ١٩٤٥ تقريبًا، كان قد ورثها من صديق ميت- شاعر جورجي قد عُذّب وأُعدم من قبل الحكومة السوفيتية-. فأرسلت أرملة الشاعر تلك الورقة إلى باسترناك، وفي تبجيله لتحدِ صديقه الأدبي، كتب باسترناك رواية تخالف الأوامر الرسمية في كتابة الأدب، إذ أنها تعظم “الرجل السوفيتي” والثورة.

كاد العمل أن يكون تقديسًا للرأسمالية أو “أسلوب الحياة الغربي” ولكن بعض فقراته شككت صراحةً بأن سفك الدماء في الثورة كان مبررًا، وكانت أجزاء كثيرة منه غير مبالية بالسياسة، إلى حدٍ ما. وبطبيعة الحال، كانت خطورة فشل الإشادة بالنظام توازي خطورة الرغبة في مسائلته، ولذا قلق مسؤولوا الحزب الشيوعي الموكلون بالإشراف على القضايا الثقافية من منع نشر “الدكتور جيفاغو”.

وكان أمرًا يسيرًا على الاتحاد السوفيتي، إلا أن باسترناك استطاع تهريب نسخة من المخطوطة ووسائل اتصال الناشر إلى زائر إيطالي. وفي كتاب “قضية جيفاغو” روى كوڤي وفِن قصة رحلة الكتاب المعقدة، منذ بدايتها وحتى رأى النور. فقد حصلت دار نشر إيطالية على حقوق الرواية، وكان باسترناك أيضًا قد أعطى نسخًا لأصدقاء زائرين من فرنسا وإنجلترا. ومن جهة أخرى، زورت السلطات السوفيتية توقيعه وأرسلت إلى دار النشر الإيطالية رسالة تطالب فيها بإعادة المخطوطة، ولكن باسترناك أسرَّ نواياه الحقيقية لزوار إيطاليين، وأرسل ملاحظات خاصة بالفرنسية، قائلًا للناشر أن يتجاهل أي محاولات للتواصل بأي لغة أخرى. أراد أن ينشر الكتاب بغض النظر عن أية مضاعفات.

أصبحت وكالة المخابرات المركزية معنية بالرواية، بعد فترة ليست بطويلة من نشرها الأولي عام ١٩٥٧. وعندما أُنشئت النيابة عام ١٩٤٧ منحها الكونغرس السلطة لتتولى “مهام وواجبات أخرى متعلقة بالمخابرات ذات تأثير على الأمن الوطني” وبالطبع أتاح هذا التفويض المبهم للنيابة توسعة سلطتها حتى وصلت للمجالات الثقافية.

رسم كوڤي وفِن لوحة جذابة للثقافة الأدبية في وكالة المخابرات المركزية في  خمسينيات القرن العشرين؛ فمثلًا غادر أحد أعضاء الفريق ليصبح محررًا روائيًا في مجلة بلاي بوي، ومن شأنه ليسمع بأن رئيسه في النيابة قد يرسل قصة باسم مستعار. ومن خلال عدد من المنظمات الأساسية، ومن ضمنها شركة بيدفورد للنشر في مدينة نيويورك، اشترت النيابة عددًا من الكتب، وطبعتها، ونشرتها، وأفسحتها بنجاح،  بهدف تعزيز “الإدراك الروحي للقيم الغربية” وتضمن ذلك روايات لكُتّاب مختلفين مثل جورج أورويل، وألبير كامو، وفلاديمير نابوكوف، وجيمس جويس. وكما بيّن كوفي وفِن، أن بيدفورد أفسحت كتابًا كان عبارة عن مذكرات كاذبة من عميل مزدوج للسوفيت والولايات المتحدة. وحصلت بيدفورد على ما يقارب مليون كتاب للقراء على مر خمسة عشر عامًا، وذلك عن طريق تهريبها في كل شيء، من علب الطعام وحتى صناديق المستلزمات النسائية. واستمر برنامج وكالة المخابرات المركزية المسؤول عن ترويج الأدب حتى سقوط الاتحاد السوفيتي.

أفسحت وكالة المخبرات المركزية كتابًا تحت اسم “شركة بيدفورد للنشر” وكان عبارة عن مذكرات كاذبة من عميل مزدوج للسوفيت والولايات المتحدة.

وربما أدرك بعض موظفي وكالة المخابرات المركزية مدى السخرية داخل كيان وكالة ذات إدارة قوية وممولة، ولها ثقافتها الأدبية، إلا أنها استخدمت طرقًا سرية لنشر روايات جورج أورويل. وكانت الحكومة الأمريكية تحاول التلاعب بثقافة الاتحاد السوفيتي لتساعد المواطنين السوفيت بأن يعوا خطورة الحكومة الجائرة التي تتلاعب بثقافتهم. (وبطبيعة الحال، لم يريدوا أن يعلم أحد عن اهتمامهم بالأمر.)

وإضافة إلى ما سبق، فإن وكالة المخابرات المركزية رأت “بروباغندا هائلة ” في “الدكتور جيفاغو”. وبالاشتراك مع وكالات مخابرات ألمانية، استطاعوا الترتيب لطباعة نسخة روسية من الرواية بشكل غير قانوني، والتي نُشرت في معرض بروكسل العالمي عام ١٩٥٨. واستخدمت الوكالة أيضًا مطابعها الخاصة في واشنطن لطباعة نسخ مصغرة بحجم الجيب، فكانت النسخ المصغرة أسهل للتهريب.

وبالطبع حققت السلطات النتائج المرغوبة، سلبيها وإيجابيها. فإن السعر المذكور للنسخة الروسية في السوق السوداء في موسكو قارب قيمة المعاش الأسبوعي. وعندما فاز باسترناك بجائزة نوبل للآداب عام ١٩٥٨، اتهمته السلطات السوفيتية بقسوة بأنه خائن ومتواطئ مع أحبائه الغرب. ولكن احتشد الكُتّاب من حول العالم للدفاع عنه، وسمعة الكتاب السيئة أضحت سببًا لزيادة المبيعات.

وكانت الجهود الأمريكية نحو البناء الثقافي أدق بشكل عام منها عند السوفيت، فوكالة المخابرات المركزية سعت إلى الترويج عوضًا عن منع نشر الكتب وانتشارها، ولم تهدد الوكالة الكُتّاب أو ترغمهم على دعم وتشجيع إيديولوجية بعينها.

وهكذا قيل أن هناك بعض التآمر الدائم  بين  الأعمال الثقافية لقوتي الحرب الباردة العظيمتين.

وبالطبع حققت السلطات النتاىج المرغوبة، سلبيها وإيجابيها.

وصف كوڤي وفِن اجتماعًا يجمع باسترناك بحزب بيروقراطي، حين فقد الآخر أعصابه وثار “لديكم جانبكم الإنساني، أستطيع أن أرى ذلك، ولكن لماذا ترددون هذه العبارات البالية؟ “الناس، الناس!” وكأنه شيء تستطيعون إنتاجه من جيوب ملابسكم ببساطة.” وكان محتجًا ضد غطرسة العقيدة الرسمية، وهي إيمانهم بأن بعض العامة شديدي الخضوع يمكن استغلالهم لنهايات معدة مسبقًا. وبعد ذلك، وانطلاقًا من عملية وكالة المخابرات المركزية لطباعة ونشر نسخ بحجم الجيب من “الدكتور جيفاغو”. حققت الوكالة ما رمت إليه تمامًا؛ شيء يمكن أن يخرج من جيب البنطال ليشكّل آراء عامة الناس.

ولم يفكر باسترناك في روايته كسلاح لحرب فكرية، وإنما أشار إليها أنها “سعادتي وجنوني النهائيين،” وبالكاد تُقال عبارة كهذه عن شخص يرى بأن الكتاب قنبلة ثقافية. وظن أن العمل كان أكبر من مجرد أداة لنقل رسالة معينة، وكان محبطًا بسبب الطريقة التي اقتبس فيها الإعلام العالمي بعض القطع ليظهر بأنه كان ناقدًا للنظام. أراد أن يُعامل كتابه كرواية، وليس كمنشور.

ومن ناحية أخرى، كانت وكالة المخابرات المركزية مسرورة بتركيز الإعلام على المقاطع التي تقاوم الشيوعية، وأدركت الوكالة أيضًا أن رمزية الوضع جعلت الاتحاد السوفيتي يظهر -على الأقل- بشكل سيئ كما ظهرت الرواية نفسها. وقبِل باسترناك جائزة نوبل، إلا أنه عاود رفضها بشدة بعدما شهد ضغطًا لا يحتمل، عليه وعلى أحبائه، من حزب رسمي. وهكذا صنعت صورة الكاتب النبيل رغم اضطهاده، والناقد الشجاع للنظام الفاسد، مثالًا عظيمًا للصحفيين، وشهرة فظيعة للاتحاد السوفيتي.

وكما دوّنت الواقعة بأكملها في “قضية جيفاغو” فهي تدل على ضعف محاولات وكالة التجسس في الحرب الثقافية. إذ أن الوكالة قد أفسحت عدة أعمال، ولكن لم يُقرأ أيًّا منها على نحو واسع إلى يومنا هذا، وحتى الكُتّاب السوفيت الذين أشادوا بالإيديولوجية الرسمية كان لهم نصيبهم من النسيان، إلا أن “الدكتور جيفاغو” بقيت مألوفة، والتدخل الحكومي الذي يسبق إنشاء الأدب يوشك على الفشل، فإن وكالة المخابرات المركزية لم تبدِ اهتمامها وتعلقها بـ “الدكتور جيفاغو” إلا بعد كتابتها. ولو أنهم وجدوا كاتبًا روسيًا ورشوه ليكتب كتابًا ضد السوفيت، فإنه على الأرجح لن يصبح موضوعًا أدبيًا وإعلاميًا حساسًا حول العالم. إن النتاج الأدبي الحقيقي أشد تأثيرًا من أفضل جهود حكومية لبناء الثقافة.

ولذا يبدو أن نشر ودعم هذه الأدوات الثقافية التي تروج لاهتمامات وطنية، استراتيجية أكثر تأثيرًا، (وتستحق التفكير بها) في وقت تبدو فيه وكالات المخابرات مهووسة بجمع البيانات والأدوات، والترصد، وإطلاق طائرات التجسس. إن نشر رواية قد يكون تصرفًا غريبًا من وكالة تجسس، ولكنه يعكس استراتيجية مختلفة للغاية؛ فالاعتماد على الفن والفكر بدلًا من القوة لتحقيق أهداف الأمن. ولكي يكون الفن فنًا، فإنه يجب أن يكون أكثر من مجرد أداة سياسية.

قدمه باسترناك نفسه بأفضل صورة: “ليس صحيحًا أن الناس يعظمون الرواية بسبب السياسة، هذا هراء، بل إنهم يقرؤونها لأنهم أحبوها.”

 


المقالة الأصل