مجلة حكمة
تجديد الخطاب الديني الإصلاح الديني

نقد خطاب الإصلاح الديني: مدخل مستقبلي – محمد العربي

IMG_4989


 يفرض صعود الحركات الأصولية بما أحدثته من صخب وعنف عارم في منطقة الشرق الأوسط وغيرها أسئلة حول مئال حركة الإحياء والتجديد في العالم الإسلامي التـي بدأت منذ ما يوازي القرنين، على نحو جعل يذهب إلى أن الإسلام نفسه يعاني من مأزق حقيقي، وإنه إذا كانت المسيحية في العصور الوسطي قد عانت من تسلط الكنيسة وهيمنته على الاجتماع والسياسية على نحو أعاق تحرير المجتمعات الأوروبية بعقود، فإن الإسلام يعاني اليوم من مرض هو الأصولية[1]، وعلى الرغم من أن الشواهد الحالية تؤيد هذا المذهب وتدعمه، إلا أن هذا التوصيف لا يفتأ إلا أن يتحدث عن عرض لمآزق أوسع تساهم في تعميق أزمة العالم الإسلامي التـي طالت واستدامت على الرغم من حدة التقلبات التاريخية والاجتماعية التـي تعرضت إليها مجتمعات العالم الإسلامي على مدار قرنين. خاصة أن العالم كله يشهد منذ أربعة عقود وربما أبعد من ذلك صحوة الأصوليات، بحيث لا تعد الأصولية الإسلاموية إلا جزءًا من مشهد عالمي أوسع. كما أن العالم قبل صعود الأصوليات الدينية شهد، موجة عنف رهيبة في الحربي العالميتين تسببت فيهما أصولية علمانية كانت تضع القومية والانتماء العرقي محل المقدس. وبالتالي لا يمكن أن تكون الأصولية وحدها لصيقة بالإسلام أو بكفرة الدين وحدها. ويذهب كاتب هذه الورقة إلا أن أخطر ما يواجهه الفكر الإسلامي[2] اليوم وهما نزعتا الماضوية والتسيس اللتين تعتبر أكبر مولد للأصولية بتجلياتها العنفية أو الرجعية.

  • الماضوية: لقد تأسس الإحياء الإسلامي في نهاية القرن التاسع عشر على أساس إعادة التعريف بأصول الدين والشريعة بما يتجاوز الترسبات الاجتماعية التـي تسببت في خلط الدين بالتقاليد الاجتماعية على نحو جعل فهم الدين مشوشًا لدى المجتمعات الإسلامية الحديثة. بيد أن هذا المبدأ جعل الفكر الإسلامي في المراحل التالية عبارة عن جدلية كبرى بين ثنائيتين هما الأصالة والتجديد أو المعاصرة أو الحداثة، وفي حين انتصر أباء الإحياء الإسلامي الأوائل لفكرة الموائمة بين التقاليد الدينية والثقافية في عمومها مع حركة الحداثة التـي بدا وأن غزوها للعالم الإسلامي أمرًا حتميًّا، نجد أنه في الفترات التالية خاصة مع مرحلة ظهور الحركات الإسلامية السياسية ثم صعودها العنيف سياسيا واجتماعيًّا أصبح التغليب للتقليد مع رفض الحداثة كفكرة مع التعامل الذرائعي مع أدواتها.

 

المشكل في هذه الثنائية بين التقليد والحداثة، المهيمنة ضمن ثائيات أخرى على الفكر الإسلامي الحداثي على نحو يجعله فكرًا دائريًّا بامتياز ، أنها جعلت قضايا الماضـي على اتساعه الأفقي المكاني والرأسـي الزماني على رأس أولويات المفكرين المسلمين المعاصرين بشكل طاغٍ ويتجاوز الإمكانيات المفترضة أن يحملها التراث لإنارة السبيل أمام أبناء الحاضر، بحيث أصبح عبءً أكثر منه موردًا لإثراء النقاش حول ما يعترض من موضوعات. لقد أصبح أبناء القرن الخامس عشر الهجري يتجادلون فيما كان يتجادلون فيه أسلافهم في قرون غدت مستخدمين نفس اللغة مستلهمين نفس الحجج، متغافلين عن الكثير من القضايا التـي تؤرق حاضرهم وتهدد مستقبلهم، وعلى مستوى حركة جزء كبير من المجتمعات الإسلامية، تمثل الطائفية الدينية والمذهبية استعادة لحروب وصراعات الماضـي بشكل يجعل من العسير الخروج من هوة هذه الصراعات.

وترتبط هذه النزعة أيضًا بهيمنة النصوصية على الفكر الإسلامي، وأعنـي بها أن جدليات الفكر الإسلامي الكبرى وقضاياه إنما هي صراع محض بين نصوص ونصوص، وقلما انفتح هذا الفكر على التغيرات الحادثة في المجتمعات الإسلامية المعاصرة، وإن حدث فإنه إنما يتناولها بتحيزات مسبقة تفرضها النصوص على نحو جعل الهوة تتسع بين النص والاجتماع. ومن الصعب إنكار أن جزءًا كبيرًا من كتابات المفكرين الإسلاميين دفعتها حوادث وتحولات اجتماعية وسياسية، غير أن هذا لم يدفع الفكر الإسلامي في عمومه إلى فهم التحولات الحادثة في مجتمعاته.

تمثل الأصوليات الدينية وهي فرع من الإسلاموية أو الإسلام السياسـي أخطر تجسيد للنزعة الماضوية، إذ أنها تحاول القفز على تحولات المجتمعات الإسلامية وصراعاتها وتاريخي في محاولة لبناء ماضٍ تاريخي متصور لا توجد إمكانياته أو دواعيه ولا سبل تحقيقه، كما أنها تحاول إعادة تشكيل الحاضر عبر فهم محدد للنصوص الدينية دون أن تدرك لا الواقع الذي أنتج النصوص ولا الواقع الذي تحاول إعادة تشكيله قسرًا. لقد راحت الأصوليات الدينية تستثمر في الأزمات البنيوية التـي تعاني منها المجتمعات الإسلامية والتـي جعلت منها فريسة للاستعمار والاستعمار الجديد الذي حاول ترسيخ تخلف هذه المجتمعات، فأصبحت تعكس الارتباط العضوي بين البنية غير العادلة للنظامين الدولي والإقليمي وفشل المجتمعات الإسلامية في إصلاح بناها ونظمها الداخلية.  ويمكننا القول أن هناك عكسية بين صعود الأصولية كتجسيد سياسـي وعنفي للزعة الماضوية وعدم قدرة الفكر الإسلامي المعاصر على تجاوز صراعات الماضـي والحاضر وبناء تصور عن مستقبل الإسلام كدين وحضارة ومجتمعات.

  • التسيس: ونعنـي بهذا غلبة مبحث السياسة على ما سواه من مباحث في الفكر الإسلامي المعاصر، فعلى الرغم أن الإحياء الإسلامي قد بدأ في ظل حقبة الاستعمار وإدراك نخب العالم الإسلامي الثقافية أن الهوة بين مجتمعاتهم والمجتمعات الغربية تتسع لصالح الأخيرة، إلا أن رواد الإحياء الإسلامي لم يختزلوا جهدهم الفكري في الدخول في صراعات سياسية أو محاولة التأسيس النظري لنظام سياسـي إسلامي. لقد بدأ التحول الفعلي نحو ارتكاز الفكر الإسلامي على السياسة وحدها مع ظهور حركات الإسلام السياسـي والقائم على إعادة تأسيس التنظيم السياسـي في المجتمعات الإسلامية على خطوط متصورة لما يسمى الدولة الإسلامية والتـي سيكون من شأنها فرض الإسلام وشريعته بقوة الدولة، بحيث تحل الدولة المركزية الحديثة محل كل الوظائف القديمة التـي كان يقوم بها المجتمع الإسلامي.

على قدر ما ينطلق الإسلام السياسـي من حديث عن شمولية الإسلام ولا زمانية الشريعة وإمكانية تطبيقها في كل زمان ومكان، فإنه يختزل الإسلام إلى مجرد أيديولوجيا تتساوى مع غيره من رؤى دنيوية متصارعة حول مركز السلطة السياسية الهائلة التـي تتمتع بها الدولة المركزية الحديثة، بحيث تصبح الدولة وسلطتها هي مركز الدين ومناط الشريعة لا الفرد ولا المجتمع. ولقد طغت هذه الرؤية على مباحث الفكر الإسلامي الأخرى الذي اختزل بدوره إل مجموعة من الثنائيات التـي ولدتها الإسلاموية وساهمت في تقسيم المجتمعات والنخب الفكرية فيها، وبالتالي توارى الحديث عن التجديد الثقافي والإصلاح الاجتماعي وما يرتبط به من قضايا لصالح الحديث عن التمكين السياسـي وإقامة دولة الإسلام وشعاراتها، والأهم أن المجهود الفكري للنخب الإسلامية انصب على التصارع حول ما يعرف بسياسات الهوية حيث وضعت الإسلاموية تحديًّا أمام المجتمعات الإسلامية التـي جعلت تتشكك في هويتها الحقيقية وما إذا كان إسلامها إسلامًا صحيحًا وما إذا كانت القوميات الفرعية تتعارض مع الانتماء للإسلام كجماعة وأمة، وما إذا كانت علمانية الدولة تتناقض مع إسلام المجتمع. كل هذه القضايا لم تفلح في حل الأزمات الفعلية التـي عانت منها المجتمعات الإسلامية وساهمت ترجمتها السياسية من حيث الصراع بين نظام ما بعد الاستعمار والنظم التقليدية الحاكمة وجماعات الإسلام السياسـي في المزيد من إضعاف هذه المجتمعات وتفكيك الدول، خاصة مع فشل النظم الحاكمة في تحقيق نهضة فعلية وتآكل مشروعيها بحيث أصبحت جماعات الإسلام السياسـي تتغذى فعليًّا على فشل الدول الحديثة.

تمثل الأصولية، خاصة في شكلها الجهادي العنفي، أيضًا ذروة تسييس الإسلام واختزاله إلى برنامج عنف دموي يضع الإسلام في تضاد حاد في العالم والحضارة الحديثة.

إن هاتين النزعتين اللتين تصبان في خلق ظاهر الأصولية الجهادية تغذي كل منهما الأخرى، فبرنامج الإسلام السياسـي على تنويعاته سواء كانت السلمية المؤمنة بالديمقراطية وتلك الجهادية المسلحة أو المقاتلة هو برنامج ماضوي بامتياز يتصور أن التاريخ سيعيد نفسه وأن نهايته لن تأتي إلا بإقامة دولة خلافية عالمية تغزو العالم وتخضعه. كما أن الصراعات المتولدة عن النزعة الماضوية تجد ترجمة لها في تمثيلات الإسلام السياسـي.

  • نقد تجديد الخطاب الديني

لقد آثار الصعود العنيف للحركات الأصولية وتصدرها المشهد الدولي الجدل حول ضرورة التجديد والإصلاح الديني باعتبار أن الجمود الفكري المصاب به الإسلام هو المسؤول عن صعود حركات العنف الجهادي، وتسيد المشهد تياران:

  • تيار يرى أن هناك شـيء ما خطأ في الإسلام نفسه كنظام دينـي اعتقادي يجعل اتباعه غير قادرين على قبول الفصل بين الدين والدولة وأن نصوصه المؤسسة والتأويلات السائدة لها تحض على العنف وكراهية الآخ والرغبة العارمة في ضرورة إخضاعه. ويزعم هذا التيار أن أزمة الإسلام الحقيقية أنه لم يمر بعملية إصلاح دينـي كتلك التـي مرت بها المسيحية الغربية وأجبرت مؤسساتها الكنسية على القبول بسلطة الدولة الحديثة وإقرار الفصل بين الدولة والمؤسسة الدينية، وبالتالي يبغي للإسلام أن يمر بنفس التجربة كي تنزع منه الأصولية والعنف والتطرف.

لهذه النظرة جذور عميقة في الأدبيات الاستشراقية لدى العديد من الكتاب الغربيين الذين يؤمنون بتفوق التجربة التاريخية الغربية وحتمية أن تكون مثالاً يحتذى لغيره من النطاقات الثقافية ولا سيما الإسلامن وغالبًا ما يتم تكرار التعبير عن هذه الرؤية بعد كل حادث ترتكبه التنظيمات الإرهابية. بيد أن هذه الرؤية كان لها أصداؤها أيضًا لدى العديد من الكتاب المسلمين، وإن كان بصيغة أقل حدة وهجومية، وقد رأى هؤلاء أن الإسلام بحاجة فعلية إلى إصلاح، وهذا الإصلاح ينصب على التخلص من التراث الفقهي والأحاديث المروية التـي رأوا فيها انحرافًا عن “صحيح الإسلام” كما يعبر عنه القرآن، لقد رأى بعض هؤلاء أن ضرب الصفح عن أحاديث البخاري أو مرويات أبي هريرة أو الاجتهادات الفقهية التراثية التـي يستند إليها منظرو التطرف سيكون كفيلاً بإحداث إصلاح إسلامي شامل.

  • أما التيار الثاني فهو تيار التجديد الدينـي، والذي يرى أن الإسلام ليس بحاجة إلى إصلاح، بل إن المشكلة الرئيسة متعلقة بسوء فهم أيضًا لـ”صحيح الدين” وأن مكمنها هو الرسائل الاتصالية بين علماء الدين والجمهور بحيث تهيمن الرؤى المتطرفة نتيجة مثل هذا الخلل، وبالتالي الأمر لا يعدو إلا أن يكون متعلقًا بما درج على تسميته “تجديد الخطاب الديني”. يرى هذا التيار العريض من الفكر أن لدى الإسلام تراثًا عريضًا من التجديد وأن علينا استلهامه دون الحاجة إلى النظر إلى تجارب أخرى. لقد درجت المؤسسات الدينية الرسمية على تبنـي مسألة تجديد الخطاب الديني مرتكزة إلى إيجاد خطاب أوسع هو “الإسلام الوسطي” باعتباره “الإسلام” بألف ولام التعريف في مقابل التطرف أو الأصولية الدينية.

أقول إنه على الرغم أن هذين الخطابين ظهرا كردة فعل ومحاولة لعلاج ظاهرة التطرف الأصولي، إلا أنهما بشكل أو بآخر قد استبطنا نفس النزعتين السلبيتين المسؤولة عن استيلاد الأصولية وذلك من وجوه عديدة يبدو من خلالها التماثل بينهما وإن بدا متنافرين:

  • أولاً: يفترض التياران مسبقًا أن هناك علاقة ميكانكية بين النص/ الخطاب والاجتماع وأن هناك هيمنة يفرضها الأول على الأخير. وبالتالي لو تم التخلص من بعض النصوص أو تجديد بعضها أو إحلال البعض محل الآخر، سيكون هذا كفيلاً بالتخلص من كافة الظواهر الاجتماعية السلبية وعلى رأسها التطرف والعف باسم الدين. ولا يخفي أن هذا الافتراض وما انبنى عليه من خطابات اختزالي للغاية ويتجاهل الأسباب الاجتماعية والاقتصادية والسياسية البنيوية التـي تولد قراءات بعينها للدين. فضلاً عن أن كل منهما يستبطن صورة صحيحة للدين، ويكاد أن يفي وجود قراءات متعددة للنص.

  • ثانيًا: كلا التصورين يستبطن صورة ماضية للتجربة الدينية ويحاول فرضها على أزمة الواقع.

  • ثالثًا: لا يخلو الخطابان من تسيس، فإذا كان الأول يعبر عن مصالح سياسية متعمقة الجذور للصراع التاريخي بين القوى الغربية مع الإسلام كنطاق استراتيجي وهو الصراع الذي أفرز الاستشراق ورؤاه، وكذلك ع الصراع المستحدث بين فئات عريضة من المفكرين العلمانيين وقوى الإسلام السياسـي والتقليدي على السواء، فإن الخطاب الثاني مرتهن بمصالح المؤسسات الدينية التقليدية وعلاقاتها بالدول القائمة، ومن الملاحظ أن هذا الارتهان دفع الحديث عن تجديد الخطاب الديني ليؤشر فقط عن مجابهة الأصولية التـي تحملها قوى الإسلام السياسـي المناوئة للنظم السياسية القائمة، وبهذا دائمًا ما يضع خطاب هذه المؤسسات “الإسلام الوسطـي” في مقابل “الإسلام السياسـي” وكأنه لا توجد أية أزمات أخرى.

على أساس هذا النقد، يمكننا القول أن الخطاب السائد غير قادر على تقديم استراتيجية ناجعة للتعامل مع أزمة الأصولية كونه يعيد إنتاج النزعتين اللتين تغذيانها.

  • التفكير المستقبلي كمدخل للإصلاح الديني

ومن هنا يبدو التفكير المستقبلي استراتيجية فاعلة في علاج أزمات الإسلام المعاصر، وأهم ما تحمله هذه الاستراتيجية من إمكانات: إنها تعيد تعريف الدين لا باعتباره وظيفة عضوية لأي تجمع إنساني تهدف إلى تكييف الأفراد في سياق المجتمع كما تنظر التيارات المادية الوظيفية إلى الدين على نحو إيجابي أو سلبـي، أو باعتباره السبيل الأوحد للخلاص الأخروي على النحو الذي يرتكز عليه الخطاب الدعوي أو التبشيري، بل هو نطاق حيوي من القيم التـي تمنح الإنسان الأمل للتطلع إلى المستقبل كما رجاء الخلاص في الآخرة. يقول المفكر المغربي الراحل وعالم المستقبليات الكبير الدكتور المهدي المنجرة “إن الإسلام أولاً وقبل كل شي رؤيةن ومشروع اجتماعي ونظام لقيم مجتمعية ثقافية..”[3] ومن هنا تعاد قراءة شمولية الإسلام وعالمية قيمه في سياق أوسع من عمليتـي التسييس والتوظيف، بحيث يمكن إعمالها لصناعة مجتمعات أفضل وفاعلة في صياغة مستقبل الوجود الإنساني.

وبهذا المعنـى تتجاوز تجديد الخطاب الديني في سياق الإصلاح مجرد الصراع على النصوص وعلى احتكار تفسيرها سواء كانت هذه التفسيرات تقدمية أم رجعية، بل يصبح مرتبطًا بإصلاح اجتماعي أشمل وأعمق قادر على تحفيز الإمكانات التحررية في الدين بحيث يسبق الاجتماع ومقتضاياته على النص وقراءاته.

 كذلك يحفز التفكير المستقبلي على إطلاق “العقل التاريخي” وهو العقل اللازم لقبول تغير العالم واختلاف المجتمعات، وبالتالي تعدد البدائل المتاحة أمام الإنسان في حاضره ومستقبله على نحو يغنيه عن الهروب إلى الماضـي أو استعارة النماذج التاريخية التـي لم يعد لها مكان في عالمه الحاضر أو مستقبله المأموله. ووفقًا لهذه الاستراتيجية الفكرية تصبح المجتمعات الإسلامية، كما الفرد، على إيمان بقدرته على صناعة مستقبلها من خلال إعادة تشكيل حاضرها. وبهذا تتضمن المستقبلية نظرتين متلازمتين الأولى إلى المستقبل المرغوب والثاني إلى الحاضر المتغير.   

وفقًا لهذا المعنـى، هناك العديد من المشروعات الفكرية التـي تقترب من هذا المفهوم المستقبلي للإصلاح الدينـي بشكل أو بآخر، إلا أنها وللأسف الشديد لاقت تضييقًا من التيار العام للثقافة الإسلامية عززه الاستبداد السياسـي والتخلف الاجتماعي.

إلا أن العقود الأخيرة أيضًا شهدت صحوة في المشروعات الفكرية التحررية التي تعالج أزمات الإسلام على نحو يتجاوز الثنائيات القاتلة والتفكير الماضوي والمسيس، ومن بينها مشروع حميد داباشـي عن لاهوت التحرير الإسلامي[4] والذي يعالج على نفس خطوط علي شريعتـي الإمكانية التحررية في الثقافة الإسلامية وإمكانية تلاحمها مع النضال العالمـي في مواجهة عدم عدالة النظام الدولي ثقافيا واقتصاديًّا، وكذلك مشروع عالم الاجتماع الإيراني آصف بيات عن ما بعد الإسلاموية[5] التـي يقوض من خلالها الأسس الاجتماعية المنتجة لعملية تسييس الإسلام، وفي الوقت نفسه يحاول صياغة مشروع فكري يؤسس لاستراتيجية واعية “..لتخطي الإسلاموية في المجالات الفكرية والسياسية، إنها تمثل جهدًا لدمج التدين بثقافة الحقوق، والإيمان بالحرية، والإسلام بالحرية الفردية. إنها محاولة لقلب مبادئ الإسلاموية رأسًا على عقب بالتأكيد على الحقوق بدلاً من الواجبات، والتعددية بدلاً من الأحادية، والتاريخانية بدلاً من النصوص الجامدة، والمستقبل بدلاً من الماضي. وعلى الرغم من تفضيلها للدولة المدنية غير الدينية، فإنها تسعى لإدراج دور للدين في المجال العام”. بيد أن أهم المشروعات الفكرية التـي تناولت الإسلام من خلال آليات التفكير المستقبلي كان مشروع المفكر البريطاني المسلم ضياء الدين ساردار والذي صاغه تحت عنوان “المستقبليات الإسلامية”[6]

  • ماهية المستقبليات الإسلامية وتجديد الخطاب الديني [7]

حاول ساردار في أكثر من عمل تطور منظور علمي لدراسة مستقبل الإسلام كحضارة وثقافة من خلال إعادة تفعيل أسسه، أطلق على هذا المنظور “المستقبليات الإسلامية” ويقول إن هدفها “إن هدف المستقبليات الإسلامية وضع طريق للخروج من المأزق الحالي، وتطوير رؤى للإدارة وبدء التغيير، ووضع خطط بديلة مستقبلية مرغوبة للأمة الإسلامية. يتطلب مشروع المستقبليات الإسلامية قطيعة فاصلة مع الفكر الإسلامي التقليدي والمعتمد على التقليدية المتصلبة والفهم أحادي البعد للعالمين الحداثي وما بعد الحداثي، ويتطلب أيضًا فهمًا جريئًا ومبدعًا للتحديات التي تواجه الأمة الإسلامية”

ونقطتا الانطلاق في هذا المشروع، هما دراسة الأحوال المتردية للعالم الإسلامي، ودراسة أسباب تقدمه وانهياره. وأيضًا الإيمان بالفرص والتحديات التي تطلقها عملية العوملة المستمرة والتي لا فكاك منها، ولا سبيل أمام مسلمي العالم إلا الانخراط فيها بإيجابية، وبثقة. يقول ساردار إن التعددية هي أهم سمات عصر العولمة، ويرى أن “التعددية أو التنوع ليسا فقط جوهَري الاستمرار في الطبيعة، لكنهما أيضًا حجرا الأساس للمجتمعات المستقرة والثقافات الحيوية. فالثقافات الأحادية ليس لها مكان في المستقبل”.

والإسلام كما يراه ساردار ذو نزعة مستقبلية نجدها قارة في نصوصه الأصلية وفي تراثه، فيقول “إن الإسلام بطبيعته رؤية كونية متوجهة نحو المستقبل؛ فالقرآن يأمر المؤمنين بأن يكونوا واعين بتاريخهم كما بمستقبلهم “وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ” سورة يس: الآيه 45. إن فكرتيْ المستقبل والمحاسبة مرتبطتان في الإسلام بمفهوميْن رئيسيْن؛ هما: الآخرة، والخلافة أي الأمانة التي حملها الإنسان“. ويضيف “لا يؤكد الإسلام[8] على وعي المؤمنين بالمستقبل فحسب، ولكنه يؤكد أيضًا على ضرورة أن يقوم المؤمنون بتشكيل مستقبلهم بفاعلية. وبسبب طبيعة معتقدهم، فإن المسلمين مطالبون بالانخراط في العالم وتغييره؛ إن القرآن يحث المسلمين باستمرار على النضال من أجل تغيير أنفسهم، وبالنضال من أجل تغيير العالم حتى يصبح مكانًا أكثر عدالة وسلامًا ومساواة للإنسانية. “وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى،  وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى،  ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاء الْأَوْفَى” (سورة النجم، 39:41). ولهذا، نجد أن جوهر الشريعة هو الاجتهاد والتي تتعلق أساسًا بتشكيل وإعادة تشكيل المستقبل”.

تجديد الخطاب الديني

وعلى الأساس يستخلص ساردار مبادئ منظور المستقبليات الإسلامية؛ وهي:

  • انخراط الإسلام في العالم المعاصر باعتباره نظرة عالمية تعمل شبكتها المفاهيمة كمنهجية لعلاج المشكلات وإنتاج إمكانات وخيارات مستقبلية من أجل المجتمعات المسلمة”.

  • امتزاج المسلمين في حضارة واحدة تجمع مواردهم لحل أزمات بلدانهم وتحقيق الأهداف المشتركة، و بهذا سيصبح المسلمون قادرين على تجاوز الاهتمامات الضيقة للدول القومية المفتتة، والتهميش البالغ نحو تكوين مستقبل حيوي وحي لأنفسهم.

  • – تعددية وتنوع الإسلام هما حجرا الزاوية لتشكيل حضارة إسلامية حيوية ومزدهرة في المستقبل.

يرى ساردار أن هذه المبادئ هي الوجه الثاني لنقد الفكري الإسلامي المعاصر “من الواضح أن مبادئ المستقبليات الإسلامية هي عن المستقبل بقدر ما هي نقد للفكر الإسلامي الحالي. عندما تحمل اهتمامات المستقبل على المواقف المعاصرة، فغالبًا ما يتولد نقد، هذا النقد في حد ذاته يصبح برنامجًا للحركة. إن مهمة مبادئ المستقبليات الإسلامية هي تمكين المجتمعات الإسلامية من الإدارة الخلاقة لخصائص عصرنا العالمية؛ وهي: التغير، والتعقد، والتناقض، والتصارع. إن عملية إدارة هذه الخصائص والتي تحسن الحاضر، ترتبط بتفعيل هذه المبادئ التي سوف تشكل المستقبليات المحتملة والمرغوبة للأمة الإسلامية. ويتطلب الواقع الحالي القيام بمجموعة من الخطوات البرجماتية الأولية؛ فيجب تطوير فهم جديد ومعاصر للإسلام بما يحوله من إيمان مجرد، على النحو الذي اختزل إليه، ليصبح رؤية عالمية متكاملة ذات شبكة من المفاهيم والتحليلات الأخلاقية. على الدول الإسلامية أن تعيد بناء أنفسها وتتغير شيئًا فشيئًا إلى حضارة دينامية معاصرة وعالمية”

في النهاية، فإن مسألة الإصلاح الديني باعتبارها علاج التطرف العنيف والأصولية الجهادية هي في الأساس مسألة إصلاح اجتماعي ونهضة ثقافية وتطور سياسـي أشمل بكثير من مجرد الحديث عن النصوص أو الخطابات، وبالتالي هي عميلة طويلة المدى وتتطلب تضحيات ربما تكون مؤلمة في كثير من الأحوال، غير أنها واجبة الحدوث حالما اختارت المجتمعات البقاء من أجل مستقبل أفضل لأجيالها القادمة. سيتطلب هذا الاختيار البدء الفعلي في تحديد المستقبل المرغوب ودور الدين في صناعته وإطلاق طاقاته ولن يكون هذا ممكنًا دون امتلاك عقل واعٍ وناقد وواثق من قدرته على المساهمة في صناعة المستقبلي الإنساني.

 


الهوامش (تجديد الخطاب الديني):

[*] ألقيت هذه الورقة كمشاركة من الباحث في مؤتمر نقض أسس التطرف ومقولاته الذي عقدته الرابطة المحمدية للعلماء في المغرب- الرباط في الفترة 20-21 ديسمبر 2015.

[1] عبد الوهاب المؤدب في كتابه مرض الإسلام La Maladie d’Islam والمترجم إلى العربية تحت عنوان أزمة الإسلام السياسـي

[2] من الصعب الحديث عن الدين كوحدة منفصلة تمامًا عن الاجتماع، فحتـى لو كان مجرد نصوص مقدسة وأصول منزهة فهي لا تعمل إلا في سياق اجتماعي وتاريخي يستنطق الكتاب، وبالتالي يسبق الاجتماع على النص ويحدد معانيه حتى لو كان أصل هذا النص إلهيًّا مقدسًا كما في حالة كل الأديان. وعليه، فالفكر الدينـي باعتباره أكثر أشكال الفعل الاجتماعي مباشرًا في التعامل مع النصوص الدينية هو الأكثر التصاقًا بها. وفي حقيقة الأمر، فإن الإسلام، أكثر من أي دين آخر، غالبًا ما تخلتط الإشارة إليه كدين بكونه تراثًا حضاريًّا واجتماعًا إنسانيًّا، وغالبًا ما تعبر التسميات عن تحيزات فكرية مسبقة، فالمدرسة الاستشراقية ذات التراث العريض في التعامل مع الإسلام، غالبًا ما تشير إلى الحضارة الإسلامية وكل منتجاتها ومجتمعاتها على امتدادها الأفقي والرأسي باعتبارها الإسلام بألف ولام التعريف.

[3] المهدي المنجرة، مقتبس من عاصم حسن، استشراف المستقبل من منظور إسلامي، سلسلة أوراق، العدد 18، مكتبة الإسكندرية.

[4] Hamid Dabashi, Islamic Liberation Theology: Resisting the Empire. (London, Routledge 2008).

[5] آصف بيات (محررًا)، ما بعد الإسلاموية: الأوجه المتغيرة للإسلام السياسـي، ترجمة: محمد العربي (بيروت: دار جداول 2016)

[6] Ziauddin Sardar, What Do We Mean by Islamic Futures? In  Ibrahim Abu-Rabi’ ed. The  Blackwell Companion to Contemporary Islamic Thought. (London, Blackwell 2006). P. 562-58

[7] انظر عرضنا لفكر ساردار في “ضياء الدين ساردار: الإسلام ومطارحة المستقبل” على موقع جدلية.

تجديد الخطاب الديني