مجلة حكمة
نظرية القانون هل ثمة ؟

هل ثمة نظرية القانون ؟ – جوزيف راز / ترجمة: إسلام عوض عبد المجيد


نظرية القانون

لك أن تسأل “لما لا؟” بالفعل بعض التحدي قد يجعل التنظير بشأن القانون ممكن، إذا كان ذلك يعني “الاشتباك مع السجالات النظرية السابقة”. ولكن الفكر الذي يمكن ان يمثل نظرية قانون A Theory of Law والذي طرح افتراضات صحيحة، من الناحية المنهجية، بشأن طبيعة القانون، لم يتفادى الاعتراضات عليه من أكثر من جهة. كذلك اي من هذه الاعتراضات ليست موفقة تمامًا. إلا انه من خلال اختبار بعضها سوف نحظى بفهم أفضل لما يمكن ان تكون عليه نظرية القانون ، وكيف يؤسس لقبولها[1].

وسوف استخدم مصطلح “نظرية القانون” بالمعني الضيق للإشارة إلى تفسير طبيعة القانون، ولهذا المعني انعكاس فلسفي على الفكر القانوني وتاريخه. لكن اختيار هذا المعنى الضيق لـ نظرية القانون لا يعني انني انازع في ملائمة سائر البحوث النظرية الأخرى، وبعضها كان قد استهواني في مناسبات عدة، او أنكر عليها كونها نظريات قانونية[2]. ذلك وان اختياري استخدام مصطلح “نظرية القانون” بهذا المعني التفسيري الضيق هنا محض ارتياح منهجي.

لهذا وكما نفهم هنا نظرية القانون سوف نقدم وجهة نظر عن طبيعة القانون. والاطروحة التي ادافع عنها ان نظرية القانون لكي تكون مقبولة عليها ان تلبي شرطين: الأول، ان تتضمن افتراضات سليمة بشأن القانون، والثاني، ان تفسر ما هو القانون.

والحقيقة ان كل النظريات تهدف لان تكون مقبولة، او على الأقل ان تكون مقبولة أكثر من النظريات المنافسة لها. ولفهم ماهية النظريات بشكل عام، علينا أن ندرك اولًا ما تتطلبه نظرية ما لكي تكون مقبولة، وهو ما يعني بالضرورة معرفة ما تفتقر إليه مثل هذه النظرية لتحقق هدفها. وعندما نناقش ما هي النظرية القانونية A Legal Theory افترض اننا معنيون بفهم خصائص النظريات المقبولة برمتها والمستوفاة الشرطين المذكورين. وسوف نناقش هذين الشرطين في المبحثين الثاني والثالث من هذه الورقة. ونهدف في المبحث الأول توضيح العلاقة مابين اطروحتنا كما ذكرت فيما سبق والطريقة التقليدية لفهم مهام النظرية القانونية كتفسير لمفهوم القانون. في المباحث التالية (من الرابع إلي السادس) سنقوم باختبار الصعوبات العديدة التي تتعلق بما إذا كان هناك نظرية قانون بشكل عام، نظرية تصح أينما وكلما وجد القانون. وتنشأ هذه المشاكل، التي نقوم باختبارها، بسبب طبيعة المفاهيم المتغيرة، واعتماد القانون على هذه المفاهيم، كما تنشأ من خلال الزعم باستحالة فهم الثقافات الغريبة بواسطة مفاهيم غريبة.

الجوهر والمفهوم

ما العلاقة مابين مفهوم الشيء وطبيعته؟ المفاهيم كمواضيع دراسة فلسفية، تهدف للتحليل المفاهيمي او التفسير ولهذا تعتبر خلق فلسفي (Raz 1998: 254–5). ولنأخذ مثال لاستخدام المفهوم غير فلسفي (الاقتباس التالي من قاموس اوكسفورد الإنجليزي Oxford English Dictionary): “تقنيات اختبار مفاهيم المنتج في البرامج الاعلانية يمكن ان تكون مهمة كما كانت البحوث الفيزيائية الجديدة بالنسبة للصناعات الكيمائية والمعدنية” هنا “مفاهيم المنتج” تعني فكرة عن إمكانية المنتج. ويعتبر ذلك نواة مشتركة مابين الاستخدامين الفلسفي والغير فلسفي حيث يتعلقان بالكيفية التي يتخيل بها الناس موضوع او ظاهرة معينة.

 المفاهيم هي اذًا المجاز الذي يتوسط مابين الكلمات والعبارات وما تفصح عنه (ومن الان وصاعد سوف استخدم المعني الفلسفي لمصطلح “مفهوم” ولن اتردد في تصحيحه عند الاقتضاء) بعض الكتاب يبالغون في التقريب ما بين الكلمات والعبارات وبين معناها. وبعض زملائهم يركزون على طبيعة موضوع الشيء الذي يعبر عنه المفهوم. مثلًا عندما كتب ج. رايلي G. Ryle عن مفهوم العقل The Concept of Main او هـ. ل. أ. هارت H. L. A. Hurt عن مفهوم القانون The Concept of Law كانا يقدمان تفسيرًا متقدمًا لطبيعة كلًا من العقل والقانون. فيفتح ريلي كتابه بقول: “هذا الكتاب يقدم ما يمكن وصفة مع التحفظ بانه نظرية العقل”. (Ryle 1949: 9) ويفتتح هارت بقول: “ما اسعي اليه في هذا الكتاب علاوة على فهم القانون والاكراه والأخلاق ان اوضح كيف ان هذه الظواهر الاجتماعية مرتبطة على اختلافها”. (Hurt 1961: v) بالنسبة لهم كما بالنسبة لعديد من الفلاسفة الاخرين لم يكن هناك فرق بين تفسير المفهوم وطبيعة الشيء الذي يعبر عنه المفهوم. وقد يزعم البعض ان لا يوجد تضاد مابين الطريقتين في إدراك المفاهيم، ووجهة النظر هذه تعود على الأقل لبداية القرن العشرين وازدهار “التحليل المفاهيمي” كمنهج رئيسي في البحث الفلسفي والذي كان كثيرا ما يكون مساوي لتحليل معاني الكلمات والعبارات.

ووجهة النظر التي اطرحها هي ان بعض الصواب في كلا المنظورين. إلا ان كليهما خاطئ ومضلل. حيث ان المفاهيم هي تخيل الجوانب من العالم، التي تقع ما بين الكلمات ومعانيها من ناحية، وطبيعة الأشياء التي تنطبق عليها من ناحية اخرى.

ويقدم القانون مثال سهل لعدم التطابق مابين مفاهيم ومعاني (الكلمة). في كتاب هارت مفهوم القانون لا يفسر ولا يهدف لشرح كلمة قانون. فليس لديه ما يقوله بشأن القانون الإلهي او قوانين الرياضات، المنطق او الطبيعة وغيرها من القوانين ولا اعتقد ان هذا يعتبر تفسير جزئي للكلمة، فالقانون كلمة ليست غامضة، ومفهوم القانون لا يفسر أي من هذه المعاني. فعندما نستخدم كلمة “القانون” في السياق القانوني تحمل نفس المعني في السياقات الأخرى. كما انه ليس من المعقول ان نفكر ان هناك معني احادي يفسر من خلال قائمة من البدائل، كما إذا قلنا ان “القانون” يعني ما يعنيه في السياق القانوني او ما يعنيه في سياق الرياضيات إلى أخره. فالكلمة تستخدم في كل هذه السياقات للإشارة إلى قواعد من سماتها الدوام والعمومية وتفضي لنوع او اخر من الضرورة.

وعادة هؤلاء الذي يقدمون تفسيرات لمفهوم القانون، مثل هارت، يعنون بذلك تفسير المؤسسة الاجتماعية Social Institution المعروفة، ومن الجائز ان تحتوي اللغة على كلمة تشير إلى هذه المؤسسة الاجتماعية وإلي شيء غيرها كذلك، وقد يكون مجرد صدفة ان ليس لدينا نظير هذه الكلمة. ورغم ان لدينا تفسيرات تاريخية-فكرية جيدة عن لما “القانون” له ما له من معني. إلا ان الحال لا يتغير، إذ يظل تعبير “القانون” ليس (متطابق مع) مفهوم القانون كما سعي هارت وفلاسفة اخرين لتفسيره.

وبالطبع نحن نعبر عن المفهوم واستخدامه وما يشير إلى بواسطة الكلمات. ومع ذلك قد لا نحتاج لاستخدام كلمة “القانون” للإشارة اليه. حيث نستطيع الحديث عن القانون على سبيل المثال من خلال التحدث عن التشريعات Legislature والقواعد التي تقرها الدولة، ويمكن ان نفعل ذلك في العديد من الحالات بطرق اخري عديدة. الأهم ونحن نعتمد على السياقين اللغوي واللالغوي ان نتأكد اننا نتكلم عن النوع الصحيح من القانون وليس القوانين العلمية وغيرها من القوانين. فحيث يوفر السياق المعني لن تكون هناك حاجة لان تكون المفاهيم محددة بكلمات او عبارات معينة.

وسوف اطرح افتراضيين بشـأن المفاهيم: الأول هو افتراض ان تفسيرها ممكن من خلال تفسير ما يفهم منها. حيث تفسير مفهوم محدد يكون من خلال تعين شروط حقيقة فهم الناس له. والثاني، افتراض ان المفاهيم تختلف عن بعضها البعض من خلال المعلومات المطلوبة لفهما، ومن خلال المهارات والقدرات المتضمنة في حيازتها. وهذه الافتراضات أحيد بها عن معني “المفاهيم” العادي حيث اضعه في الإطار الذي يستخدم عادة في الكتابات الفلسفية. والاستخدام الفلسفي ليس موحدًا وسيكون من المنطقي ان نحتفظ بحرية ان نحيد كذلك عن هذا النوع من الاستخدام في أي حالة يقتضي فيها الامر ذلك.

 وامثال هارت ورايلي وولائك اللذين يركزون على العلاقة الوثيقة مابين المفاهيم وطبيعة الأشياء هم ملتزمون ضمنًا بالرأي القائل بان الفهم الكامل للمفاهيم يتضمن معرفة وفهم الخصائص الجوهرية لموضوع المفهوم. وسوف اتابع هؤلاء في معادلة إحكام المفاهيم المطلق من خلال معرفة وفهم جميع خصائص الموضوعات الجوهرية وهلم جرا.

فهل يمكن الاعتراض على وجهة النظر هذه، من حيث ان أحد المفاهيم المحكمة قد يتطابق مع مفهوم محكم اخر؟ ليس بالضرورة. هذا الاعتراض جائز فقط إذا قمنا بتفريد المفاهيم بحسب شروط احكامها. دعني اشرح هذا.

مفهوم المثلث متساوي الأضلاع ومفهوم مثلث متساوي الزوايا ليسا نفس المفهوم، ومع ذلك خصائص مفهوم المثلث متساوي الأضلاع الضرورية متوافرة بالنسبة للمفهوم الاخر (المثلث متساوي الاضلاع حالة خاصة من حالات المثلث متساوي الزوايا “المترجم”). ويمكن القبول بان الاحكام المطلق لهذين المفهومين يتضمن معرفة انهما ينطبقان على نفس النوع من المثلثات، لان لهما نفس شروط الاحكام. إلا انهما ينطبقان على النوعين من المثلثات بطرق ولأسباب مختلفة؛ بالنسبة للأول لأنه متساوي الاضلاع وبالنسبة للأخر لأنه متساوي الزوايا.

 كيف يظهر هذا الفرق نفسه؟ بالدرجة الاولي من خلال حقيقة ان المفاهيم منفصلة ليس فقط من خلال شروط إحكامها ولكن ايضًا من خلال شروط وجودها. يمكن للمرء أن يكون لديه مفهوم المثلث متساوي الاضلاع بدون إدراك ان جزء من طبيعة هذا النوع من المثلثات ان تكون متساوية الزوايا. ولا خلاف على ان فهم المرء للمفهوم قد يكون ناقص إلا ان فكرة الفهم الكامل، كما شرحتها فيما سبق، تصبح ملحة جدًا حيث ان معظم المفاهيم التي لدينا نفهمها بإحكام ناقص. ما لا يمكن للمرء ان يفشل في معرفته، إذا كان لديه مفهوم المثلث متساوي الاضلاع، هو ان هذا المفهوم لا ينطبق على المثلثات متساوية الزوايا. هنا يختلف المفهومين (المثلث متساوي الاضلاع والمثلث متساوي الزوايا في المثال المذكور) انهما يختلفان فيما لهما من شروط الحد الأدنى. بالطبع اللذين لا يعرفون ان المثلثات متساوية الزوايا تنطبق فقط على المثلثات ذات الضلعين المتساويين على الاقل ليس لديها احكام كامل Complete Mastery للمفهوم. ولكن إذا كان أحدهم لا يعرف ان ذلك ينطبق فقط على المثلثات التي لها زوايا متساوية فهذا الشخص ليس لديه مفهوم على الاطلاق.

وبمتابعة هذا الخط النظري سوف اوضح ان تفسير المفهوم له أربع جوانب:

  1. وضع شروط المعرفة التي يتضمنها احكام المفهوم وهي معرفة كل الخصائص الجوهرية لما يعبر عنه هذا المفهوم.

  2. شرح الفهم المتضمن في الاحكام الكامل للمفهوم.

  3. شرح شروط الحد الأدنى من حيازة المفهوم Possession of a Concept بما في ذلك الخصائص الجوهرية وغير الجوهرية التي يعكسها المفهوم ومعرفه ما هو ضروري للشخص ليكون عنده مفهوم على الاطلاق بما في ذلك حالات عدم اكتمال احكامه للمفهوم.

  4. تفسير القدرات الشخصية المطلوبة لحد ادني من حيازة المفهوم[3].

الجانب الأول من هذه الجوانب يحدد ما يعبر عنه المفهوم. إلا ان كل هذه الجوانب تحدد هوية المفهوم.

واستخدم هنا كما في مواضع اخري من هذا البحث “شروط الحد الأدنى لحيازة المفهوم” باعتبارها استجابة جزئية لأفكارنا العادية، وجانب نسبي من نظمية هذه الأفكار، حيث تسمح للناس ان تعرف شيء عن المفاهيم دون ان يكون لديهم هذا المفهوم. فمثلا يعرف المرء ان (ص) هو حيوان بدون ان يعرف مفهوم (ص). فيمكن للمرء ان يعرف ان البنفسجي لون او ان الثعابين تضع بيض دون ان يكون لديه مفهوم عن البنفسجي او الثعبان. ويظهر هذا المثال الأخير ان المعرفة قد تكون غير كافية لتوافر الحد الأدنى من حيازة المفهوم فمعرفة هؤلاء قد لا يتوافر معها حتى احكام المفهوم (غير الكامل).

فالإشارة الي معرفة الخصائص غير الجوهرية من بين الشروط الممكنة للحد الأدنى من حيازة المفهوم والمقصود انها تسمح للناس ان يكون لديها معرفة كافية لاستخدام المفهوم بشكل سليم في ظروف حياتهم، لكن ذلك ليس صحيح في كل الحالات. فقد تعتمد على حقيقة ان البجعات التي تصادفها بيضاء باعتبارها حاسمة فيما يتعلق بتحديد هوية البجع. وكذلك قد يكون هذا جزء من الحكم بان لديهم المفهوم[4].

هذه الاعتبارات تسمح بان يشير الناس لمفاهيم دون ان تتملكها. وهذا يبدو واضح لأسباب مستقلة كذلك. فالإشارة إلى المفاهيم لا تحتاج الالمام بأي من خصائصها الضرورية. على سبيل المثال لو ناقش أصدقائي مفهوم القسوة بالأمس يمكنني ان اشير اليه لاحقًا بنجاح دون الحاجة لشيء أكثر مما دار بنقاشهم. وتسمح نفس هذه الاعتبارات بان يكون لدي الناس مفهوم وتعجز في نفس الوقت عن ملاحظة عدم تطابقه مع مفهوم اخر او تعتقد انهم شيء واحد رغم انهم اثنين (فالحد الأدنى من شروط حيازة مفهوم “الماء” ومفهوم “ماء النساء “هي نفسها على الرغم من انهما مفهومين غير متطابقين وشروط احكامهما الكاملة مختلفة).

ومن الممكن لأي شخص ان يخترع او يطور مفهوم جديد. وبعض المفاهيم التي تبزغ بهذا الشكل تجد طريقها إلى الثقافة العامة، وعادة ما تعدل أكثر او اقل على طول الطريق. ولكن معظم المفاهيم موجودة بشكل مستقل عن أي من مستخدميها. ومعظمنا تعلم المفاهيم بدلا من اختراعها او تطويرها. وهذا بطبيعة الحال. فنظرًا لثراء مفاهيمنا وحدود قدراتنا فليس من الممكن لاحد ان يخترع او يعدل إلا هامش كسري منها. ودورنا في تبادل الآراء بشأنها سيكون هو الدفاع عنها نفسها. وحقيقة ان معظم المفاهيم مستقله عن أي منا لا يعني على الاطلاق انها مستقلة عنا جماعيًا. فالشروط التي تحدد هوية مفاهيم معينة هي البنية المثالية المنبثقة من الممارسة المفاهيمية، ومن خلال استخدام هذه المفاهيم بشكل عام. فهذه الشروط لا تحتاج ان تعكس ممارسة أي من الافراد. وفي حين ان من المستحيل ألا يعرف أحد على الاطلاق شيء عن وجود مفهوم ما، من الجائز ان ما من أحد يحوز فهم او معرفة كاملة وسليمة عن المفهوم، في الواقع عن أي مفهوم، بما في ذلك مفهوم “المفهوم”[5].

وعلاوة على ذلك بينما ان شروط حيازة المفهوم على ما هي عليه بسبب الممارسة المفاهيمية، إلا ان ذلك لا يكون من خلال تعقب ما استخدامه الافراد او ما يقصدون استخدامه، نستطيع تحديد المفهوم، ما عدا الاشارة إلى معرفتنا بماهية المفاهيم، ويرجع ذلك جزئيا إلى حقيقة ان، مع استثناءات نادرة، عندما يستخدم الناس مفهوم او يقصدون استخدامه (يعبر المرء عادة باستخدام الكلمة التي يستخدمها الاخرون، الخ) وتحديد القصد يعتمد عادة على افتراضات (قابلة للدحض) باستحضار مظاهرها. (فاذا كنت تسير إلى الباب فانت تقصد ذلك، ما لم تعوق ظروف ما هذا الافتراض؛ فاذا قلت “سوف افتح الباب” فانت تعني ما يقصد عادة عندما يتم نطق الجملة في ظروف مماثلة، مالم تعوق ظروف ما تحقق هذا الافتراض). وبالمثل عندما تنطق بكلمات للتعبير عن مفهوم فانت تعبر عن المفهوم الذي عادة يستخدم عندما تستخدم هذه الكلمات في نفس الظروف ما لم يعوق تحقق ذلك ظروف ما. ومعرفة المفهوم تفترض مسبقًا تحديد استخدام المفهوم. وقصد المتكلم من استخدام المفهوم يتحدد بالرجوع إلى الافتراضات التي عادة تستلزمها مثل هذه المعرفة.

وتظهر الملاحظات السابقة (1) كيف يمكن ان يكون لدي الناس فهم ناقص للمفاهيم (2) كيف يمكن ان يخطئ الناس بشأن المفاهيم، بما في ذلك (3) الخطأ في تعريف المفاهيم، حيازتها واستخدامها.

وهذه الملاحظات التي اطرحها هنا تمهيدية أكثر منها جزمية Dogmatically والمقصود منها هو توضيح لماذا تفسير المفهوم قريب من تفسير طبيعة الشيء الذي يعبر عنه المفهوم (أنظر فيما سبق الشرط الأول من شروط تحديد المفهوم) ومع ذلك كيف تختلف المهمتين (انظر باقي الشروط). وتوضح كذلك ما أحاجي بشأنه وهو ان المهمة الأساسية لـ نظرية القانون ليست إلا تفسير طبيعة القانون. حيث ان تفسير مفهوم القانون ليست إلا مهمة ثانوية بالنسبة لهذه النظرية وذلك نتيجة لحقيقة ان جزء من مهمة شرح طبيعة القانون هو شرح كيف ينظر الناس للقانون، وبالتالي فان القانون الموجود في بلد ما، سيكون لدي سكانه مفهوم ما عن القانون، ومن المناسب محاولة معرفة ما إذا كان القانون يتأثر بمفهومه من عدمه.

هل يغير القانون طبيعته؟

النظرية تتضمن الحقائق الضرورية، وبالنسبة للقانون فقط الحقائق الضرورية هي تلك المتعلقة بطبيعته. وعندما نتحدث عن “طبيعة القانون”، او طبيعة أي شيء اخر، فإننا نشير إلى تلك السمات التي تعتبر جوهر القانون وتجعله على ما هو عليه. انها الخصائص التي بدونها القانون لن يكون القانون. وذلك كما يفسر قاموس اوكسفورد الإنجليزي ان طبيعة الشيء تتضمن “مميزات او خصائص الشيء؛ تلك الخصائص الجوهرية المتأصلة والغير قابلة للتجزئة والمتصلة بالشيء وتعطيه سماته المحددة.”

وسمات القانون العالمية Universal characteristics of law، بطبيعة الحال، هي خصائصه الجوهرية المتوافرة به أينما وكلما وجد. وعلاوة على ذلك سمات القانون العالمية ليست نتاج الصدفة، وليست نتاج ظروف اقتصادية او اجتماعية معينة، ولكن لان بدونها لن يكون هناك قانون. وهذا لا يعني ان العديد من المؤسسات الاجتماعية والنظم المعيارية التي تتقاسم الكثير من سمات القانون ليس لديها خصائص القانون الجوهرية. وبمسح التنظيمات الاجتماعية بمختلف الدول وعلى مر العصور، سنجد ان العديد منها يتشابه مع القانون بطرق مختلفة، ومع ذلك إذا افتقدت هذه التنظيمات إلى سمات القانون الجوهرية، فإنها لا تمثل أنظمة قانونية.

وهذه الطريقة في النظر إلى الأمور قد تثير الشكوك حول صحة ما بدأت به هذا البحث، فتبدو الفرضية التي اطرحها خاطئة بوضوح. وهي فرضية ان طبيعة القانون – في الواقع يجب ان تكون – غير متغيرة. (إذا كانت التنظيمات الاجتماعية والنظم المعيارية ليس لديها خصائص القانون الجوهرية فيعتبر هذا دليل على تغير طبيعة القانون من بلد لبلد ومن زمن لزمن، في وقت يعتقد فيه المؤلف ان القانون لم يكتسب طبيعته او خصائصه الجوهرية كنتيجة لأي ظروف اقتصادية او اجتماعية مهما كانت “المترجم”). فهل هذا صحيح؟ بالتأكيد سيكون هناك اعتراض يقول بان طبيعة القانون تتغير في حقيقة الامر. وبالتفكير في القانون والثقافة القانونية في عصر الإمبراطورية الرومانية او في البلدان الاوربية في عصر الاقطاع او في حقبة الحكم المطلق سنجد ان للقانون معاني مختلفة باختلاف تلك الحقب. وكذلك فكرة القانون في الحقبة الغربية الحديثة تختلف عما سواها من حقب. فما هو جوهري في القانون بأحد هذه الحقب قد يغيب في سائر الحقب الأخرى. و نظرية القانون الذي تأخذ بهذه الحقائق للتدليل على طبيعة القانون المتغيرة، من وجهة نظرنا، لا يمكن ان تكون نظرية جيدة.

ولكن هل يمكن حقًا ان تتغير طبيعة القانون؟ بدون شك يمكن ان يتغير قانون أي بلد وبالفعل تتغير القوانين. وعلاوة على ذلك مؤسسات وممارسات البلد، التي تشكل قانونها قد يغيب عنها بعض خصائص القانون الجوهرية.  وذلك لا يعني ان القانون يغير طبيعته ولكن يعني ان هذه البلد او تلك ليس لديها نظام قانوني (رغم ان من الممكن ان يكون لدي هذه البلد مؤسسات ليست على خلاف القانون في بعض او حتى في العديد من الجوانب).

كيف نعرف ان القانون لا يغير طبيعته؟ الحقيقة هذا السؤال لا طائل من الإجابة عليه.

 فمن خلال إتباع الممارسة الفلسفية الراسخة أستخدم مصطلح “طبيعة القانون” والمصطلحات المتعلقة مثل “الخصائص الجوهرية” لتعين هذه الخصائص الضرورية لأي (نظام) قانوني حتى يمكن وصفه بهذا الوصف. وهذه الممارسة تنحرف بكلمة “طبيعة” في بعض الأحيان إلى الاستخدام غير الفلسفي في اللغة الإنجليزية. لكن المهم انها ليست معلقه على الأسئلة المصطلحية. والسؤال هو هل للقانون خصائص جوهرية يمكن فهما. وإذا كان فهل فهم هذه الخصائص يفرض بدوره قواعد معينة لفهم ما هو القانون؟

وهذا الرد على الاعتراض بشأن ان هذا البحث مبني على افتراض خاطئ ليس نهاية المطاف. إذ يقود مباشرة لانتقاد جديد. يقود للاتهام بالتعسف، الاتهام بحجب نقاط هامة. فاستخدام مصطلحات “الخصائص الجوهرية” “وطبيعة” التي اقتراح استخدامها غامضة. ومن ثم فان طبيعة القانون، في الواقع تتغير مع الوقت، وهذا كله مما يعيق تطوير نظرية او وجهة نظر فلسفية عن القانون.

وهناك شيء من الصحة في ذلك الاعتراض كما هناك شيء من الخطأ. كما اعترفت فيما سبق استخدام “الخصائص الجوهرية” “طبيعة الـ …” كما وصفت بإيجاز انه ليس فقط استخدام ما تعنيه هذه المصطلحات بالتحديد في الواقع. فمثلًا يصح القول بان مع صعود الرأسمالية طبيعة الدولة قد شهدت تغيير عميق. او القول في المطلق ان حماية الممتلكات وصون التعاقدات أصبحت وظيفة أساسية للدولة. “فطبيعة (ص)” بعباره اخري غالبا ما تشير إلى خصائص (ص) التي تعتبر عظيمة الأهمية. رغم انها ليست حاسمة بالنسبة لهوية (ص) حيث ان (ص) لن تتوقف عن ان تكون ما هي عليه بدونها. ستكون فقط قد خضعت لتغيير جزري (حيث ستظل الدولة “دولة” قبل وبعد تغير وظائفها الرئيسة “لمترجم”).

عندما يسأل إريما Jeremiah (أحد انبياء بني إسرائيل “المترجم”) هل يغير الحبشي جلده او يغير الفهد بقرشه لونه؟ (Jeremiah 13:23) فهل يفترض ان مثل هذا التغيير مستحيل من ناحية الميتافزيقية Metaphysically او غير متخيل من الناحية المفاهيمية (الفلسفية “المترجم”) (ذلك ان الفهد غير المبرقش هو ليس فهد على الاطلاق. الخ) ام يفترض ان هذه الاستحالة مجرد مسألة واقعية؟ وهذا السؤال لا إجابة له.  فمعظم الآراء والأفكار المتداولة نادرًا ما ترسم حدود التمييز، ما بين الفلسفي وغير الفلسفي، حيث لا يوجد سبب لرسم مثل هذه الحدود. ومع ذلك يظل التمييز ذي أهمية فلسفية. وبالتالي ليس من المستغرب ان الفلاسفة لديهم معني فني للمصطلحات، وسوف احذو حذوهم. والقيام بذلك لا يعتبر إيجابه مسبقة على الأسئلة مثل: هل للقانون طبيعة بمعني الكلمة؟ ولو كان الإجابة بالإيجاب، هل يمكن تسليط الضوء على البحث في هذه الطبيعة؟ مع ملاحظة انه لا معني لاستخدام المصطلحات الفلسفية إلا إذا كانت الإجابة على هذه الأسئلة بالإيجاب. والنقطة الوحيدة التي اجادل بشأنها، حتى الان، هي ان فكرة الخصائص الجوهرية وطبيعة الشيء في حقيقتها أفكار فلسفية وهذا لا يقلل منها في حد ذاتها كما لا يعوق في حد ذاته البحث في طبيعة القانون.

هل للقانون خصائص جوهرية؟

ها قد حان الوقت للعودة إلى ما أحاجي بشأنه: وهو تعريف موضوع نظرية القانون باعتبارها البحث في تفسير طبيعة القانون وهو ما من شأنه عدم الالتفات لما يثار من اعتراضات بارزة على هذه المغامرة. وسبق وقد اعترفت بان جزء من فهمنا المشترك للقانون هو ان طبيعية القانون تتغير مع الوقت (عندما نفهم مصطلح طبيعة القانون بشكل غير فلسفي) سواء مع التغييرات في الممارسات السياسية والاجتماعية، او مع التغيير في الثقافة والفلسفة وبشكل أكثر عمومية مع التغير في فهم أنفسنا ومجتمعاتنا. فهل يظهر هذا ان الفكرة الفلسفية عن طبيعة الشيء وعن خصائصه الجوهرية، غائبة عن حوارنا المشترك، ومن ثم يظهر ان ليس لها تطبيقات، على الأقل لا تنطبق على القانون؟ إذا كان هذا صحيح، فأنه حيث تضع النظرية القانونية لنفسها هدف تعليل طبيعة القانون، فإنها تحكم على نفسها بالفشل الحتمي. وفهم الحجة التي في الواقع تعبر عن ملاقاة النظرية القانونية لحتفها مسألة بسيطة: فمع مرور الوقت كنا سعداء بالعمل بدون تمييز فلسفي مابين الخصائص الجوهرية والغير جوهرية، ذلك ان كلما كان هناك تغير في سمات القانون او فهمنا او طرق فهمنا كان يتطلب ذلك تغيير في مفهومنا عن القانون. وكان ينطبق ذلك على أي تغيير مهما كان التغيير كبير. ولكن هل يظهر ذلك ان ثبات طبيعة القانون وهم؟

وهذه الحجة من ظاهرها ليست سديدة. فبصفة عامة الاعتقاد بان شيء ما له خصائص جوهرية ليس شرط مسبق لوجود هذه الخصائص. فاذا كان سائل ما مكون من   H2Oفهو من ماء وفق طبيعته وخصائصه الجوهرية وسواء اعتقد الناس بهذا ام لم يعتقدوا. وبشكل أكثر تحديدًا ما يهم ليس الفهم المشترك لتعبير مثل “طبيعة القانون” ولا حتى ان مفهوم القانون تغير مع الزمن. ما يهم هو طبيعة المؤسسات التي تعبر عن مفهوم القانون المتعين (أي المفهوم الذي لدينا ونستخدمه). ومن جعل قضيته ابراز ان مفهوم القانون (كما هو في الوقت الراهن) لا يسمح بالتطبيقات (الفلسفية) لفكرة الخصائص الجوهرية على القانون فانه يعترض على ان يكون للقانون خصائص جوهرية من الأساس.

ومن أول وهلة تبدو الأدلة غير مؤيدة لهذا الاعتراض. فجزء من فهمنا للقانون ان المؤسسات الاجتماعية القائمة تمثل نماذج قانونية في حين ان بعضها ليست كذلك[6]. فالتمييز ما بين القانوني وغير القانوني هو جزء لا يتجزأ من الممارسة التي تحدد مفهومنا عن القانون. ونحن نعرف ان لائحة اندية الجولف لا تعتبر نظام قانوني على عكس تشريعات الدول المستقلة التي تمثل نظام قانوني. اعرف ان عمل البرلمان البريطاني هو قانون بينما قرار جيراني بمنع غير المقيمين من دخول شارعنا لا يتمتع بالمشروعية القانونية. وهلم جرا بينما هذا التمييز ليس ملاحظ فقط من خلال الدلالات اللغوية وانما هو مستقر بشكل كاف ومستخدم من قبل المحامين والسياسيين والبيروقراطيين والناس العادية في مجموعة كاملة من السياقات ودائما يشير إلى نفس التشكيلة من الممارسات والمؤسسات. وفي الواقع قد يضيف البعض الحديث الشائع “التغييرات التي تحدث في مفهوم القانون” من شأنها ان تظهر ما ان تحدث ان المفهوم لا يعود ما هو عليه. ونكون بصدد حالة استبدال مفهوم جديد بالقديم على الرغم انهما يتقاسمان نفس المصطلح[7]. وبدلا من تحدي فكرة ان القانون ملحوظ من خلال خصائصه الجوهرية، يتحدثوا بشأن تغير مفهوم القانون لتأكيد فكرة على ما يبدو انها أضحت افتراض مسبق.

وهذا ما يمكن النظر إليه بالطبع كنقطة قليلة الأهمية. حيث يشمل إدراك المفهوم ما يقع بالتحديد تحت مظلة هذا المفهوم وما لا يقع. إلا ان هذا في ذاته لا يظهر ان للقانون خصائص جوهرية، خصائص بدونها لن يكون هناك قانون. كما يقال في الكثير من الاحيان ان مفهوم القانون مفهوم متشابه عائلي Family Resemblance[8]. فليست جميع عناصر التمييز الخاصة بالمفاهيم المتشابه تتشارك نفس الخصائص وبطبيعة الحال ليس لها خصائص جوهرية.

واعتقد ان الحديث عن التشابه العائلي لا يخلو من المبالغة. فالمفهوم المتشابه العائلي يقصد به المفهوم غير المنظوم. وينطبق على العديد من الحالات بفضل تضمنه مجموعة من الخصائص. فنقول أ. ب. ت. تنطبق على حالات اخري بفضل مجموعة من الخصائص المتنوعة، والمتداخلة جزئيًا، ونقول ب. ت. ث. لا تزال تنطبق على حالات غيرها بفضل مجموعة من الخصائص، على الرغم من إزالة بعض الخصائص التي بدأنا بها، ونقول ت. ث. ج. وهلم جرا. واشك ان هناك العديد من المفاهيم من هذا النوع. وبموضع اخر أوضحت ان نموذج Paradigm مفهوم اللعبة Concept of A Game في المحصلة النهائية ليس مفهوم متشابه (Raz 1999: ch. 4). فبينما معني العديد من المصطلحات في اللغات المعروفة لا يمكن استخلاصه من مجموعة الخصائص الجوهرية لتطبيقاتها، عادة يكون لهذه المصطلحات “جذر لغوي” يمكن استخدامه للإشارة إلى مسألة ما او إلى هذه المدرسة الفكرية او تلك.

وإلى حد ما هذا النقاش خارج عن موضوعنا. بالنظر لان فكرة المتشابه العائلي قد طورها ل. فيتجنشتاين L. Wittgenstein بالأساس لغرض معارضة الطريقة النظمية لفهم معاني الكلمات والعبارات. ومع ذلك خصائص القانون الجوهرية التي تُعنَى بها نظرية القانون لا تتطلب معني يتوقف على مصطلح او فئة من المصطلحات. فنحن نبحث في رمزية المؤسسات الاجتماعية ليس في دلالات المصطلحات اللفظية، فبناء رمزية المؤسسات يكون من خلال مرجعية الخصائص التي نأخذها في الاعتبار، او سوف نأخذها في الاعتبار، كخصائص جوهرية بالنسبة لتلك المؤسسات محل التدقيق.

 وغالبًا ما يغيب عن النظرية القانونية التمييز ما بين التدقيق في معني المصطلح والتدقيق في طبيعة المؤسسات. وربما يعود ذلك إلى ان المؤسسات تعتمد على وجود ممارسات معقدة تتضمن على نطاق واسع ممارسات لغوية، عبارة عن مناقشة أمور معينة بالإشارة إلى جوانب من هذه المؤسسات. وبالصدفة قد يحدث ان يكون معني مصطلح ما مشتق حصرًا من وظيفته المركزية بالنسبة لمؤسسة اجتماعية معينة. في مثل هذه الحال ستكون مهمة تفسير طبيعة المؤسسة تكاد ان تتطابق من مهمة تفسير معني المصطلح ولحسن الحظ هذا ليس الحال مع القانون. وبينما يكتب دارسي القانون كما لو كانوا يعتقدون بان مصطلح قانون يشير حصرًا إلى تشريعات الدول ونظام المحاكم وما إلى ذلك، الحقيقة انه خلاف ذلك “القانون” يتداخل في علاقة وظيفية مع العلوم والنحو، المنطق واللغة، وغيرها من المجالات. وعلاوة على ذلك “القانون” كما يهتم به الدراسين مشبع بالمصطلحات الفنية (على سبيل المثال “ملكية الرقبة” “والميراث بلا وصية”) وغيرها من مصطلحات رائجة تستخدم في القانون بمعني فني (على سبيل المثال “أسهم” “سندات” “حقوق ملكية”) تختلف بدورها من نظام قانوني لآخر. وبصفة عامة المصطلحات القانونية ليست أكثر تحديدًا من مصطلح “القانون” نفسه[9].

وليست فقط المصطلحات العامة التي تستخدم في الحديث بشأن القانون في الممارسة المشتركة للنقاش العام. ايضًا لا يجود طريق مفرد للإشارة دائمًا لممارسة القانون الذي تأخذ في الاعتبار حقوق وواجبات الناس، بشأن ما يحق لهم عمله او عليهم تجنبه، مما يتمتعون من منافع او يحذرون من عواقب. والحكم على هذه الحالات وغيرها هو الجزم بمدي توافقها مع القانون او الاخلاق او العرف وهلم جرا. ومن الممكن دائمًا توضيح ما هو الحكم من خلال عبارة واحدة مثل “وفق القانون” او ما مثلها. ولكن الشائع أكثر هو ان نترك ذلك للسياق (وبالطبع نفضل عدم تفكيك معناها) وبناء على هذه الملاحظات يتضح ان المرء قد يتطرق لطبيعة القانون عند تفسير بعض المصطلحات المرتبطة، إلا ان تفسير طبيعة القانون لا يمكن مساواته بتحليل أي مصطلح.

ماهي إذا طبيعة القانون؟ وخصائصه الجوهرية؟ ويُقتَرح لمحاولة الإجابة على هذه الأسئلة ان ينصب تركزنا على تفسير طبيعة نوع من المؤسسات الاجتماعية بعينها. وهذا الاقتراح يشير لان مثل هذا التفسير جزء من مهام العلوم الاجتماعية. وهذا بهدي او بدافع اعتبارات تفرضها النظرية التأسيسية في العلوم الاجتماعية. ومن ناحية هذا الاسلوب صحيح إلا انه بما يركز عليه، قد يحفز فهم مضلل لمسألة البحث. انه يجعل بعض الاعتبارات النظرية المجردة تحدد تصنيف المؤسسات الاجتماعية، وفق اعتبارات مثل الاثمار النظري، بساطة العرض، والخلاصات ووجهات النظر او الاناقة في المعالجة.

اعتبارات مثل تلك في الواقع قد تكون ذات صلة بتصنيفات او مفاهيم يتم طرحها من قبل الأكاديميين بغرض تيسير ابحاثهم او عرض نتائجها. وفكرة القانون باعتبارها تعين لنوع من المؤسسات الاجتماعية، ليست مع ذلك جزء من الاساليب الدراسية المأخوذ بها في أي من مناهج التعليم المنضبطة. فهي ليست مفهوم قدمه الأكاديميين لمساعدة في تفسير بعض الظواهر الاجتماعية. بل هي مفهوم متأصل في فهمنا الذاتي لمجتمعاتنا. انه مفهوم شائع في المجتمع ليس في حاجة لتأطير من أي تخصص معرفي. حيث يستخدم من كل واحد منا للإشارة إلى مؤسسة اجتماعية نألفها بطرق ودرجات متفاوتة. وهو يحتل دور محوري في فهمنا لمجتمعنا كما هو الحال بالنسبة للمجتمعات الأخرى.

وإلى حد كبير ما ندرسه عند دراسة طبيعة القانون هو دراسة فهمنا الذاتي. حيث لا يقدم علماء الاجتماع والسياسية وغيرهم من الأكاديميين، في دراستهم للمجتمع، القانون باعتباره مؤسسة اجتماعية متعينة. هذا جزء من وعينا الذاتي الطريقة التي نتصور ونفهم بها مجتمعنا. فالنظر إلى مؤسسات اجتماعية بعينها على انها مؤسسات قانونية هو جزء مما ندرسه عند البحث في طبيعة القانون. ولكن لماذا يجب علينا ان ننساق لذلك؟ أليس ما نهدف له هو دراسة طبيعة القانون بدلًا عن ثقافتنا ومفهومنا عن القانون؟ بلي ولا. نحن نستهدف تطوير فهمنا لطبيعة القانون بحيث ننظر إلى “القانون” باعتباره نوع من المؤسسة الاجتماعية، نوع يتعرف عليه – يتعين – من خلال مفهوم عن القانون. وبالتالي في سبيلنا لتطوير فهمنا لطبيعة القانون يفترض ان نطور كذلك مفهومنا عن القانون.

ابرشية أم عالمية؟

عند هذا الحد قد يثور اعتراض جديد. أليس صحيح ان دراسة طبيعة المؤسسة المتعينة من خلال مفهومنا عن القانون يجعل بحوثنا فيها ابرشية Parochial (أي ضيقة النطاق “المترجم”) أكثر منه عالمية؟ وبالفعل الحديث عن مفهوم القانون، كما أشرنا فيما سبق، يتغير مع الوقت وان ثقافات مختلفة تعرف مفاهيم مختلفة عن القانون. وبالتالي اقتصار مدي البحث في طبيعة القانون باعتباره مطابق لمفهومنا يجعله مجرد بحث ضيق الأفق لجانب من ثقافتنا أكثر منه دراسة عالمية النطاق لطبيعة القانون. وبعيدًا عن ان كلًا من، وكما اوضحت فيما سبق، دراسة طبيعة القانون وفهمنا الذاتي (المغلف بمفهومنا عن القانون) لا يلائمان بعضهم البعض. وقد يذهب البعض ابعد من ذلك إلى ان ليس هناك “طبيعة للقانون من الأساس.” والزعم بان خلاف ذلك تشبث بالأخطاء الجوهرية والموضوعية. وقد يخلص اخرون لان دراسة طبيعة الشيء (القانون) ليست مرتبطة بما لدينا من مفاهيم، كما أوضحت كذلك فيما سبق، وعلى المرء ان يختار أي طريق عليه ان يسلك.

وهذا الاتجاه الفكري شائع رغم انه مضلل. فلنتأمل في ذلك: نحن وغيرنا من الثقافات لدينا مفاهيم مختلفة؛ ليس فقط مفاهيم مختلفة عن القانون. فما الذي يجعل بعضها لبعض مفاهيم قانون بديلة في حين بعضها مفاهيم عن الحكومة والدين، القبيلة وغيرها ولكن ليست عن القانون؟ ما هو وجه الاختلاف؟ ما الذي يجعل “كذا وكذا مفهوم عن القانون” (على سبيل المثال مفهوم العصور الوسطي عن القانون). تجاهل مصادفة ان “مفهوم عن …” يستخدم للإشارة إلى اراء الناس المشتركة بشأن القانون (ماهية مفهوم قانون العصور الوسطي هي وجهة نظر مشتركة عن دور القانون ووظيفته في أوروبا بتلك العصور) مختلفة بحكم اختلافها عن مفهومنا عن القانون. وما هو شائع أكثر هو علاقة التشابه (مفهوم (ص) عن القانون يتشابه جدًا مع المؤسسة الاجتماعية رغم انه ليس تشابه إلى حد بعيد مع ما نفهم من القانون) او الأصل المشترك (مفهومنا عن القانون مطور من مفهوم العصور الوسطي عن القانون. الخ) وما نلاحظه هنا اننا نطلق على مفاهيم غيرنا “مفاهيم عن القانون” فقط إذا كانت ذات صلة مناسبة مع مفهومنا.

ودعونا نقبل بان ما ندرسه فعلًا هو طبيعة المؤسسات المتعينة من خلال مفهوم القانون. وهذه المؤسسات موجودة ليس فقط في مجتمعنا ولكن في غيرها من المجتمعات كذلك. وبينما مفهوم القانون محلي النطاق، حيث ليست كل المجتمعات لديها المفهوم نفسه، ما نقوم به من بحث يمتد لنطاق عالمي لاستكشاف طبيعة القانون أينما وجد. ولكن حتى مع هذا، الاتهام بالنزعة الابرشية Parochialism يمكن ان يثار بشكل أخر. أليس الوضع ان مؤسسة القانون غير موجودة إلا بالمجتمعات التي لديها مفهوم عن القانون (أي لديها مفهومنا عن القانون)؟ وما يسمح بذلك هو ان في وقت سابق تطور مفهوم القانون في الغرب بالحقبة الحديثة، وبعيدًا عن الطابع العالمي للحضارة الإنسانية، نظرية القانون التي تركز على طبيعة القانون، بالمعني الموضح أعلاه، ذات صله بالمجتمعات الغربية فقط. وطبيعة القانون قد تكون عالمية بالمعني الفلسفي الشكلي من خلال تطبيق البحث على كل الأنظمة القانونية القائمة. ولكن مع وجهة النظر تلك ربما يذهب المعترض المتخيل للقول، بان النزعة المحلية بمثابة نصل ذي حدين. فهذا البحث المعمم على كل النظم القانونية القائمة، حال نجاحه، سيجعل مفهوم القانون الغربي الحديث الضيق صالح عالميًا رغم ذلك. وهو مفهوم غير ذي صله بكل الأنظمة القانونية بالمصطلح العادي – غير فلسفي – بما في ذلك قانون الأزتك Aztecs وبلدان أوروبا في القرون الوسطي والامبراطورية الرومانية او الصين في القرن الخامس قبل الميلاد وهلم جرا. بينما البحث الفلسفي يجب عليه ان يستبعد تلك القوانين لأنها لا تتفق مع مفهوم القانون الحديث او الرأسمالي او مابعد الصناعي.

ولكن هذا النموذج من الاعتراض يقوم على فهم خاطئ لمفهومنا عن القانون. فالتغييرات التي حدثت خلال اخر قرنين او ثلاثة من الزمان جعلت هذا المفهوم أكثر اتساعًا واقل ضيقًا. كما اتسعت معرفتنا للعالم واهتمننا بالتاريخ وتفاعلنا مع أجزاء اخري من العالم، ومفهوم القانون تطور بحيث يكون أكثر اتساعًا بشكل لا يمكن انكاره كاستجابة ليس فقط لأهتمانا بتلك المجتمعات، ولكن كذلك من خلال فهمنا لأنفسنا ولمجتمعاتنا، رغم تعارض هذان العاملان. فالسمات التي تبدو محورية بالنسبة لنا ولمجتمعاتنا قد تكون غير متوفرة عند غيرها من المجتمعات. وهذا مهم بالنظر لما لدينا في مجتمعاتنا من نزعة لتشجيع صياغة مفاهيم أكثر محلية (في إشارة ضمنية إلى الاتجاهات ما بعد الحداثية “المترجم”). ويبدو ان هذا العامل يكاد يكون العامل الوحيد ذي التأثير المهيمن على مفاهيمنا وما يوجه الاعتراضات (او يعد صياغتها) على الطموح بشأن عالمية النظريات الفلسفية.

 وبعض المنظرين يأخذون بالنزعة الابرشية فيما يتعلق بوضع خططهم البحثية وتصورتهم النظرية. ومثال على ذلك في مجال النظرية القانونية نجد ر. م. دوركين R. M. Dworkin الذي يفتتح بانه يري نظريته باعتبارها نظرية القانون بكلًا من الولايات المتحدة والمملكة المتحدة. وبالطبع قد تصدق نظريته على نظم قانونية اخري إلا انه لا يطمح لان تكون نظريته عالمية[10]. وهناك سبب واحد يبرزه دوركين لتبرير هذا الطموح المتواضع هو ان مفهوم القانون في حقيقة الامر ليس إلا جزء من ممارسة القانون (Dworkin 1986: ch. 1) ويشير دوركين لان المحاكم تتعرض لبعض قضايا التي تضطر معها لان تتطرق لطبيعة القانون وحدوده. وإنها ترجع إلى النظريات الفلسفية لتقديم إجابة لهذه الأسئلة، والحجج والاجابات التي تطرحها تقف على قدم المساواة مع النقاشات الفلسفية. وهذا لا يعني ان ما تطرحه المحاكم من إجابات مساو في القيمة للنقاشات الفلسفية. حيث قد تكون اقل او ارفع شأنًا. الفكرة ان القضاة مثل الفلاسفة يشتبكون مع المهام نفسها واستنتاجاتهم بمثابة الند: فاذا اختلفوا، قد يكون أي منهم على حق والأخر على خطأ.

ومن المغري تعزيز النقطة التي اثارها دوركين، مضيفًا انه في كثير من الأحيان لن تتطرق المحاكم إلى النزعات النظرية حول طبيعة القانون لان طرفي النزاع القضائي لا ينازعون في أي شيء له علاقة بالخلاف حول طبيعة القانون، ومع ذلك أي قرار قضائي يفترض انه يتضمن وجهة نظر ما عن طبيعة القانون. وهذا مما يبدو بالنسبة لي أبعد مما تسوغه الدلائل. والحقيقة ان تحدي الدفاع عن هذا الرأي الملغم، يفترض من المحاكم التمهيد المسبق بالحجج النظرية لإثبات ان لديها بالفعل وجهة نظر (نظرية) من هذا النوع او غيره. بيد انها قد لا تتبني أي وجهة نظر، ولا حتى ضمنًا، حيث انها لست ملتزمة باي من هذه النظريات[11]. وكما ان المرء لا يستطيع ان يستنتج ان لدي الناس بعض المعتقدات او الاوصاف، فقط لأنه يجب ان يكون لديهم مثل تلك المعتقدات او الاوصاف، يمكن للمحاكم ان تلزم بوجهة النظر القائلة، بأن هناك بعض الاساليب لتبرير القرارات القضائية، إلا أنها بصفة عامة ليست ملتزمة باي من هذه الاساليب بالتحديد.

ومن الحكمة بالتالي عدم تعزيز ملاحظة ان المحاكم تشتبك في بعض الأحيان مع الحجج النظرية حول طبيعة القانون بالنقطة الأخرى التي تفترض ان جميع قرارات المحاكم تفترض مسبقًا وجهة نظر حول طبيعة القانون. وبغض النظر عما إذا كانت هذه الملاحظة صحيحة ومتفق عليها[12]. الدرس الذي يجب ان نتعلمه من هتان الملاحظتان ان دوركين يقترح ان أسس القانون والفلسفة القانونية هي انعكاس ذاتي للممارسة القانونية. وهذا يعني ان الفلسفة القانونية الامريكية جزء من القانون الأمريكي، وعلى الرغم من ان الفلسفة القانونية عندما تدرس في الجامعة الامريكية تظل مرتبطة بالفلسفة القانونية كما تدرس في إيطاليا وكذلك الحال بالنسبة لقانون الملكية الذي يدرس في الجامعة الامريكية مرتبط بقانون الملكية الذي يدرس في إيطاليا. انها دراسات متشابهة لجزء من القانون، إلا انها تمثل مهام دراسية مختلفة: فجانب من جوانب قانون الملكية في إيطاليا قد يكون صواب والعكس في الولايات المتحدة الامريكية. وبالمثل نظرية عن طبيعة القانون قد تكون صحيحة في الولايات المتحدة الامريكية والعكس في ايطاليا. وقد يصادف صحة نفس الحكم في البلدين إلا ان هذا سيكون نتيجة عارضة بسبب تطورات تاريخية مشابهة كان يمكن ان تختلف. ونظريات القانون على هذا النحو هي بالضرورة ابرشية او ضيقة النطاق.

وسواء كانت ابرشية ام لا، هذه الحجة لا تثبت انها كذلك. وربما ليس من قبيل المبالغة القول بان ما من مسألة نظرية من الفيزياء الفلكية إلى الاقتصاد مرورًا بالتفسير الإنجيلي إلا ويمكن ان تكون متعلقة ببعض القرارات القضائية او غيرها. وهذا لا يظهر ان أي من هذه المعارف جزء من القانون الأميركي في أمريكا او القانون الصيني في الصين. والحقيقة ان المسألة النظرية المعينة هي مادة لتقرر المحاكم بشأنهما بشكل يظهر فقط ان المحكمة تهدف لان تستخلص العناصر الصحيحة من القضية. وهذا لا يظهر بالاشتباك مع حجج الاقتصاد او علم الاجتماع او الكتاب المقدس فالمحكمة لا تستطيع ان تغير خلاصات تلك الفروع المعرفية، وفي الواقع انها لا تجعل من بعض هذه الاستنتاجات في الاقتصاد وعلم الاجتماع صحيحة وهلم جرا.  ولن تتغير هذا الاستنتاجات إذا كان في أي دولة أخرى قد اتخذت محكمة قرارا، استنادًا على خلافها ومن ثم لن يكون الطعن في مثل هذا القرار خطأ وهكذا دواليك.

 وكل هذا واضح بما فيه الكفاية، ولكن هل يختلف الحال مع النظرية القانونية؟ فبينما لا تتمتع المحاكم باي سلطة خاصة على الاقتصاد والعلوم السياسية فهل تتمتع بهذه السلطة الخاصة فيما يتعلق بمفهوم القانون؟ الإجابة على هذا السؤال تتوقف على تجانس نفس السؤال مع فكرة الالتزام Undertaking. قد تتمحور القضية حول ما إذا ما كان سوف يلتزم شخص بأداء خدمة لآخر أم لا. فهل من سلطة القانون تحديد ما يعتبر التزام بالقيام بشيء ما؟ نعم ولا. فالمحاكم لها سلطة ان تقرر ما إذا كانت التشريعات الوطنية تنص على ان هذا التعهد او ذاك ملزم. إلا ان فكرة التعهد لها وجود خارج المجال القانوني ومن ثم المحاكم ليس لها ان تقرر ما يعد تعهد بهذا المعني. وانا لا اقصد ان هناك ما يمنع ان تُكوِن المحاكم وجهة نظر يمكن التعويل عليها بهذا الشأن. وهو ما قد يستلزمه المشرع مثل ما إذا كان المدعي يطلب تعويض لا يمكن الحكم به إلا إذا قد أخل المدعي عليه بالتزام قطعه على نفسه. والنقطة التي اثيرها هنا هي ان إذا ما اخذت المحاكم قرار خاطئ فهذا القرار لن يغير طبيعة الالتزام، كما لم يغير الاخذ بأسانيد اقتصادية خاطئة النظرية الاقتصادية.

 رغم ذلك يختلف الحال في مثال الالتزام عن الحال في مثال الاقتصاد، فخطأ القرار القضائي في المثال الاول ربما يكون اول خطوة نحو بزوغ معني فني خاص بالالتزام في النظام القانوني المعني. وربما يكون ذلك حتى ولو بدون تعمد من المحكمة او حتى إذا كان ينصرف قصدها ببساطة لان تستخدم “الالتزام” بالمعني العادي للكلمة. وينطبق على مفهوم القانون ما ينطبق على مفهوم الالتزام. بالطبع على خلاف مفهوم الالتزام ينطبق مفهوم القانون على القانون فقط. إلا ان المفهومين ينطبقان ليس فقط على القانون في ثقافتنا ولكن على القانون في البلدان المختلفة، اليوم وكما كان في الماضي وفي المستقبل. وينطبق كذلك على القانون المتخيل وفي الحالات الافتراضية. وباختصار هو مفهوم ليس للمحاكم سلطة خاصة بشأنه. فعندما يصدر قرار متضمن حكم صحيح فهذا يعتبر اجتهاد من المحكمة مثلما الامر مع الالتزام او المنازعة الاقتصادية. وإذا عجزت المحكمة فهذا يأذن ببزوغ معني فني للمصطلح في النظام القانوني. ولكن هذا لا يقود إلى تغيير في فكرة القانون نفسها. ولهذا يعتبر الادعاء بان النظرية القانونية ابرشية او ضيقة النطاق لأنها جزء من الممارسة القانونية ادعاء مضلل. فالنظرية القانونية ليست جزء من الممارسة القانونية على الأقل ليس بالقدر الكافي للبرهنة على طبيعة “القانون” ضيقة النطاق.

هل ثمة قانون بلا مفهوم عن القانون؟

وهناك حجة اخري على ابرشية طبيعة النظرية القانونية وهذه الحجة تزعم ان ليست ثمة قانون في المجتمع الذي ليس لديه مفهوم عن القانون. ومنذ ان أقررت بان مفهوم القانون (أي مفهومنا عن القانون) ضيق النطاق وان ليس كل المجتمعات التي لديها “قانون” لديها مفهومنا عن القانون، فيترتب ان ليس كل تلك المجتمعات لديها مؤسسات معترف بها كقانون من منظور مفهومنا عن القانون. و نظرية القانون التي تهدف لان تفسر طبيعة المؤسسات والممارسات التي تعتبر قانون من منظور مفهومنا عن القانون ليست عالمية إلا بالاسم فقط. وهذا نفسه ينطبق على كل ما يعترف به كقانون من منظور مفهومنا الذي لا يعترف بالعديد من الأنظمة القانونية لأنها لا تتبني مفهومنا عن القانون، حيث ليست ثمة قانون بدون مفهوم عن القانون.

وعلينا ان نميز ما بين نسختين من هذا الحجة. الاولي تزعم انه ليست ثمة قانون في المجتمعات التي ليس لديها مفهوم عن القانون. ووفق ذلك المجتمعات التي لديها مفهوم ما عن القانون يمكن ان يكون لديها مؤسسات وممارسات تضاهي مفهوم القانون (من منظورنا). والنسخة الأخرى من الحجة وهي الأكثر تطرفًا، تزعم ان المجتمعات التي لديها مفهومنا عن القانون فقط يمكن ان يكون لديها مؤسسات وممارسات تضاهي مفهوم القانون من منظورنا. وما نستخلصه من النسخة المتطرفة أن تظهر اعتراض على إمكانية ان يكون هناك نظام قانوني لدي المجتمعات التي ليس لديها مفهومنا عن القانون حيث لا يفهم النظام القانوني كمؤسسة إلا من خلال مفهومنا. وهذا الزعم غير محتمل ويمكن تفنيده بسهولة، فبالأزمان الغابرة مصر على سبيل المثال في القرن الرابع قبل الميلاد لم يكن لديها مفهومنا عن القانون إلا انها عرفت المؤسسات القانونية.

وحتى الزعم الأقل تطرفًا – بانه ليست ثمة قانون في المجتمعات التي ليس لديها مفهوم ما عن القانون – على الأرجح انه ليس صحيح. وسنكرس بقية هذا المبحث لاختبار هذا الزعم الأخير من خلال ثلاث فرضيات هي:

الاولي، ان مفهوم القانون (مفهومنا نحن) ليس إلا مفهوم محلي بمعني انه محصور في مجتمعات بعينها دون سواها.

والثانية، ان ليست ثمة قانون في المجتمعات التي ليس لديها مفهوم عن القانون (بيد انها ليس في حاجة بالذات إلى مفهومنا عن القانون).

والثالثة، ان نظرية القانون تكون مقبولة، حال كونها تأخذ في اعتبارها بشكل صحيح نوعية المؤسسات المصممة من خلال مفهوم القانون، وينطبق ذلك فقط على المؤسسات المتعينة في الثقافات التي تحوز مفهوم عن القانون يصمم نوع من المؤسسات التي تفسرها النظرية.

وهذه الفرضيات معًا تقود لاستخلاص ان هناك العديد من نظريات القانون المقبولة، كل منها ينطبق على نوع مختلف من المؤسسات الاجتماعية، المنبثقة من مفاهيم مختلفة عن القانون. والنظرية التي تنطبق على المؤسسات المنبثقة من مفهومنا عن القانون تنطبق فقط على المجتمعات التي لديها او (كان لديها) مفهومنا عن القانون.

ولقد أقررت بالفعل ان اول هذه الفرضيات تقوض النسخة المتطرفة من الحجة التي تعترض على الفرضية الثالثة. ولدحض النسخة الأقل تطرفًا من الحجة علينا اظهار ان ما من سبب يجعلنا نقبل بالفرضية الثانية. وتقويض الفرضية الثانية من شأنه تقويض الفرضية الثالثة لارتباطهم. إذا دعنا نختبر الفرضية الثانية وخلاصتها ان النظرية القانونية تفهم كدراسة لطبيعة المؤسسات المتعينة كقانون بواسطة (مفهومنا) عن القانون صالحة فقط في النظم القانونية المكافئة والتي لديها مفهوم (ما) عن القانون. وسوف أرد على ذلك بأن هذه ليست الحالة الوحيدة التي يكون فيها المجتمع محكوم بالقانون.

وهذا يعني ان بداخل نظرية القانون توتر ما بين الأبرشية والعالمية. فمن ناحية تعتبر ابرشية او ضيقة النطاق بالنظر لأنها تفسر المؤسسات المصممة وفق مفهوم محلي عن القانون من نتاج الحضارة الغربية الحديثة. من ناحية اخري تعتبر عالمية لأنها تنطبق على القانون أينما وكلما يمكن تصوره، ووجودها لا يفترض مسبقًا وجود مفهوم عنها، في الواقع لا يفترض مسبقًا أي من المفاهيم القانونية.

ويطرح هارت في كتابه مفهوم القانون، وصف مُرضِي عن القانون حيث يتطلب بالضرورة شرح كيف يمكن إدراك وفهم القانون من وجهة نظر الناس الذين يعيشون تحت حكمه. وفي الاستخدام الاصطلاحي – وسوف اتجنب بشكل عام الانجرار إلى التفسيرات المتنوعة والمربكة – يري هارت ان النظام القانوني لا يوجد في بلد ما لم يكن على الأقل جزء من سكانه لديهم موقف داخلي من القانون، ويري القانون من وجهة نظر داخلية او يقبل بالقانون كدليل لسلوك الناس – وهذا وصف بديل لنفس الموقف. وادعاء هارت السابق ربما يعد الطرح المركزي في نظريته عن القانون التي على قبولها واسع النطاق يثير فحواها من وجهة نظرنا الكثير من الخلاف. واعتقد ان هارت كان محق في إصراره على طبيعة القانون، بصفة عامة، وجودها معروف ومرهون بموقف الناس من القانون، والذي عادة ما يؤثر في حياتهم.

وأقول “عادة” لان من الممكن ان يتجاهل بعض الناس القانون، بحث لا يكون مؤثر في وجودهم. ولكن هذه الحالة غير طبيعية على الاطلاق وتعتبر حالة نادرة، لأن جوهر القانون يفترض ان يكون الناس واعون بكينونته وان يكون ملائم لان يقتدوا به. وربما يكون واقع الحال خلاف ذلك. إلا ان هذا يعتبر اخفاق في المنظومة القانونية ويظهر انها لا تؤدي وظائفها كما يجب.

ولا أجد أي شيء مشكلة في إضفاء الطابع الشخصي Personalizing على القانون كما فعلت في الفقرة السابقة. فنحن نشير إلى القانون باعتباره الالتزام بالفروض والواجبات والتمتع بالحقوق والمميزات وما إلى ذلك. وهذه التعبيرات ليست مجازية. فالأعمال القانونية، احتمالاتها ومقاصدها، ليست إلا انعكاس هذه الاعمال والاحتمالات والمقاصد على أولئك الذين يشغلون مناصب قانونية، وفق القانون، ونحن نعرف متي وكيف تكون اعمال ومقاصد واتجاهات، القضاة، المشرعون، وغيرهم من أصحاب المناصب القانونية. فهم يعبرون عن القانون وعندما يمارسون اختصاصهم يظهر جليًا انهم يطلبون ويتوقعون من عموم الناس ان تفهم القانون وان يكون مرشد لهم.

ويصف هارت الموقف الداخلي الضروري بالنسبة لأصحاب المناصب القانونية وما يتوقعون من غيرهم، من خلال التركيز فقط على تحديد موقفهم من الجوانب المتعلقة بجوهر القانون وكينونته. ولا يجد هارت تناقض مابين واقع ان أصحاب المناصب القانونية ومن سواهم في كل مجتمع يتبنون وجهة نظر داخلية إزاء القانون وما بين طابع القانون العالمي. ومن زاوية هو محق فمثل هذا التناقض غير قائم. ولكن بينما وجهة نظره تنسجم مع تأكيدي على ابرشية طبيعة مفهوم القانون او كونه ضيق النطاق إلا انه لم يكن واع بما يتضمنه ذلك.

والسؤال هنا: هل إدراك الناس القواعد القانونية هو إدراك بها كقواعد ام إدراك بها كقانون؟ بعبارة اخري هل عليهم ان يحوزوا مفهوم عن القانون من اجل ان يكونوا في مجتمع سياسي يحكمه القانون؟ يفترض هارت، وبالطبع هو محق، ان مفهوم القانون متاح للجميع، فاغلب الناس لديهم إلى حد ما إلمام بهذا المفهوم. ولقد حدد بعض خصائص باعتبارها غير مختلف عليها بحيث تحتل موقع القلب من فهمنا المشترك لمفهوم القانون. ومن وجهة نظره ان المفهوم يعمق إدراكنا من خلال ابراز بعض ما يتضمنه تصورنا المشترك عن القانون.

ولكن حيازتنا للمفهوم، من المنطقي انها مستقله عن واقع المجتمع السياسي الذي نعيش فيه تحت حكم القانون. وكان من الممكن ان يكون لدينا نفس مفهوم القانون إذا كنا نعيش في حالة الطبيعة. ولعلنا في حينها كنا لنستخدم هذا المفهوم لفهم الفارق ما بين المجتمع الخال من القانون الذي نعيش فيه وحال البلدان الأخرى التي تعيش تحت نظام القانون، والفارق ما بين الدولة والمجتمع القائمين وما قد يكونا عليه او يصبحوا عليه. وعلى خلاف ذلك يبدو ان هارت غير ملتزم بالرأي القائل بان العيش في مجتمع يحكمه القانون يتطلب إدراك مفهوم القانون بشكل يتجاوز إدراك القواعد التي في الحقيقة تشكل تشريعات المجتمع الذي نعيش فيه.

وانا بالطبع أوكد هنا ان مفهوم القواعد او تنويعات هذا المفهوم ليست مفهوم عن نوع من الظواهر الاجتماعية التي نتناولها باعتبار انها قانون، فهي ليست بديل عن مفهوم القانون. وبالقطع كلمة “قانون” ضمن أشياء اخري، تُعِين القواعد والمعايير Rules and Norms ومن المحتمل ان يكون مفهوم القواعد منبثق من مفهوم القانون الذي لا يفصل القانون الطبيعي عن القانون العرفي ولا أي منهما عن القانون المعياري. إلا ان هذه الخصائص ليست كافية لتجعل القواعد مفهوم من عائلة مفهومنا عن القانون “فالنموذج” الذي يعين أنماط من الأنظمة المعيارية والمؤسسات الاجتماعية بخلاف معيار او قاعدة مفردة. وبمجرد ان نقبل بان مفاهيم القانون ليست إلا مفاهيم عن أنظمة معيارية/ مؤسسات اجتماعية، فيكون من السهل ان نري حقيقة ان الافراد في مجتمع يحوز مفهوم عن القواعد لا تظهر في ذاتها ان هؤلاء الافراد لديهم إدراك أولي لجانب من مفهوم القانون، إلا إذا كان هذا المفهوم الاخير قائم في نفس الوقت. صحيح المرء لا يمكنه ان يحوز مفهوم عن النظام القانوني دون ان يحوز مفهوم عن القواعد وهو المفهوم الذي يمثل إدراك أولي لطبيعة النظام القانوني. إلا ان الافراد لا يمكن ان يحوزوا إدراك أولي عن مفهوم ما إلا إذا كان هذا المفهوم قائم بالفعل. فالإحكام غير الكامل هو إحكام لشيء ما يمكن إحكامه بشكل كامل في الوقت نفسه. وبالتالي اثبات ان ليست ثمة قانون بدون ذوات لديها مفهوم عن القواعد. من ثم لا يمكن القول بان هارت يري انه ليست ثمة قانون بدون مفهوم عن القانون.

على النقيض من ذلك نظرية دوركين عن القانون تفترض ان إدراك مفهوم القانون أمر ضروري لوجود القانون في أي مجتمع. فبالنسبة له القانون هو ممارسة تفسيرية تتوافر فقط في المجتمعات التي تدرك طبيعة هذه الممارسة وخاصية كونها تفسيرية، وبالتالي تحوز مفهوم عن القانون[13]. وفي هذه الشأن موقف هارت هو الموقف الصحيح. فإدراك مفهوم القانون ليس شرط مسبق لمجتمع يحكمه القانون. وسأوضح هذه الفكرة من خلال مثال واحد فقط.

فالديانة اليهودية غنية ومتنوعة بقواعدها وممارستها ولقد احتكمت إليها الجاليات اليهودية Jewish Communities المستقلة في مراحل مبكرة ومتأخرة على السواء، من مراحل تطورها، في العديد من جوانب الحياة، وفي شتي بقاع الأرض.  ومتي وجدت او قد توجد جالية يهودية ثيوقراطية بشكل مستقل ستكون خاضع لحكم الشريعة اليهودية. إلا ان مفهوم القانون ليس جزء من الديانة اليهودية، وحيث تواجدت تلك الجاليات في الماضي غالبًا ما توجدت في مجتمعات لا يحوز اعضائها مفهوم عن القانون. والفكر والمذهب الديني اليهودي أكثر بكثير من القانون، حيث يتضمن نظام يشمل، علاوة على القانون، الأخلاق، والدين؛ وتلك المساحات رغم تداخلها في نظرنا تعتبر متميزة. ولا يجود تقسيم داخل مذهب اليهودية الأرثوذكسية يلتقط الفروق التي تشير إليها “مفاهيمنا” عن القانون، الاخلاق، والدين. ولا شك ان الجاليات اليهودية الثيوقراطية لديها نظام قانوني رغم انها تفتقد لمفهوم عن القانون او أي من جوانبه (حيث لم تتعلم ذلك من غيرها من الثقافات).

واعتقد ان هذا ينطبق كذلك على بعض الأنظمة الدينية الأخرى. “فمفهومنا” عن القانون على الأرجح غريب عن الثقافة الإسلامية الثيوقراطية، ولكن سيكون من السخف ان نعتقد ان إيران، على سبيل المثال، ليس لديها نظام قانوني، او ان نظامها القانوني معتمد على ما اكتسبه الإيرانيين من مفهوم عن القانون قبل ثورتهم الإسلامية، او من خلال انفتاحهم على تشريعات البلدان الأخرى. على خلاف ذلك الاستنتاج الصحيح، وبيد ان مفهوم القانون منتج ثقافة بعينها (يقصد الثقافة الغربية الحديثة “المترجم”) ليس متاح لأبناء الثقافات السابقة، إلا ان هذا لا يظهر ان هذه الثقافات ليس لديها قانون.  فوجود القانون يتطلب إدراك أعضاء المجتمع (على الأقل بعضهم) ان مجتمعهم موجه من خلال القواعد، وإدراك بالمنازعات المتعلقة بفحواها، وبالادعاءات المتعلقة بخرقها، والتي تخضع لحكم المؤسسات الإنسانية، وإدراك ان هذه القواعد او بعض منها – وهذا ليس ضروري في كل الحالات – هي نتاج المداولة ما بين الناس او المؤسسات. ولكن هذه الخصائص لا يتفرد بها القانون، بل على العكس هي خصائص مشتركة مع غيره من الهياكل الاجتماعية مثل المؤسسة الدينية او نقابات العمال والعديد من الجمعيات متنوعة الأنشطة. وبالتالي إدراك هذه الخصائص لا يفترض مسبقًا إدراكها باعتبارها من جوانب النظام القانوني. ولا شيء اخر في مفهوم القانون يتطلب من الناس ان تدرك الهياكل الاجتماعية باعتبارها نظام قانوني لكي تشكل تلك الهياكل نظام قانوني. ولاحظ رغم ان هناك تباين ما بين مثال الشريعة اليهودية الذي استخدمته والحجة الأكثر تجريدًا التي اطرحها. فان هذه الحجة تقوض الفرضية الثانية المذكورة فيما سبق، وهي فرضية ان القانون لا يوجد إلا في المجتمعات التي لديها مفهوم ما عن القانون، وذلك على أساس ان (1) الاستنتاج السليم بشأن ان القانون يوجد فقط في المجتمعات التي على الأقل جزء من سكانها يقبل بالقواعد وتوجيها لمجتمعهم لا يستخلص منه صحة الفرضية الثانية؛ (2) وما يظهره مثال الشريعة اليهودية ان مفهومنا عن القانون لا ينطبق على الأنظمة القانونية المغايرة التي ليس لديها مفهومنا. وقد لا يظهر المثال في حد ذاته ان مفهومنا عن القانون يتطابق مع ممارسات النظم القانونية القائمة بالمجتمعات التي ليس لديها على الاطلاق مفهوم عن القانون. وهذا سيكون من الصعوبة بمكان ان يدلل عليه بمثال. إلا انه بالنظر لمجمل الحجة ليس هناك سبب للاعتقاد بخلاف ذلك.

وبالتالي يمكننا ان نخلص إلى ان اتهام نظرية القانون بانها ابرشية او ضيقة النطاق، وهو الاتهام الرائج بالفعل، لأنها لا تنطبق إلا فقط على البلدان التي تحوز مفهومنا عن القانون او البلدان التي تحوز مفهوم ما عن القانون ليس إلا اتهام باطل. فالقانون من الممكن ان يوجد لدي الثقافات التي لا تنظر إلى مؤسساتها الاجتماعية باعتبارها مؤسسات قانونية، بينما تهدف نظرية القانون لان تأخذ في اعتبارها القانون أينما وجد بما في ذلك المجتمعات التي لا تحوز مفهوم عن القانون.

عن الاستحالة المزعومة لفهم الثقافات الغريبة

لقد جادلت بأنه على خلاف النظرية القانونية، مفهوم القانون ابرشي او ضيق النطاق. ومع ذلك نظرية القانون تنمو فقط بالمجتمعات التي لديها مفهوم عن القانون. ولكن هذا الاستنتاج، ولو صح على الاطلاق، ينطبق على كافة الأنظمة القانونية بما في ذلك الأنظمة القانونية القائمة بالمجتمعات التي لا تحوز مفهوم عن القانون.

وهذا الاستنتاج محل نقد من اتجاه مختلف بعض الشيء. فالحقيقة ان المفاهيم تبزغ من داخل ثقافة في منعطف معين ينظر لها عادة باعتبارها اثبات لأطروحات بعض الفلسفات الراديكالية مثل النسبية وما بعد الحداثة او النزعة العرقية. وعلى وجه الخصوص تحمل في طياتها عجزنا المبدئي عن الفهم، او عدم فهمنا الكامل للثقافات الغريبة. والحقيقة هذا لا يكشف عن الكثير، فبالتأكيد هذه المفاهيم لا تنطبق فقط على الظواهر الموجودة بالثقافات التي انتجت هذه المفاهيم. فعلي سبيل المثال فكرة “المستوي المعيشي” ربما لم تكن متاحة للناس بالعصور الوسطي في أوروبا. ولكن لا يوجد شيء في هذه الحقيقة يبطل النقاش بشأن تأثير حرب الوردتين (1455- 1485) على المستوي المعيشي للناس في لانكاشير Lancashire. فالناس يتمتعون بمستوي معيشي سواء كانوا يدركون فكرة المستوي المعيشي ومقياسها ام لا يدركون. وينطبق الشيء نفسه على العديد من الافكار الاقتصادية.

وبعض المفاهيم مختلفة. فالهدايا ليست هدايا، إلا إذا أعطت عن قصد على هذا النحو، فلا يمكن ان يكون هناك تبادل للهدايا بين ناس ليس لديهم مفهوم عن الهدايا. وكما رأينا شيء من هذا ينطبق على القواعد فالناس لا تسترشد بالقواعد إلا إذا كانت مدركه لكونها قواعد. لكن وهذه هي النقطة الحاسمة، ليس عليهم ان يدركوا القواعد باعتبارها قواعد “قانونية” للاسترشاد بها رغم انها في الواقع قانونية (أي ذات طبيعة قانونية “المترجم”).

ولا شيء من هذا مفاجئ للتفكير. والاهمية الحاسمة لان بعض المفاهيم في الواقع مثل القانون ليست جوهرية فقط لفهم الممارسات والمؤسسات القائمة في مجتمعاتنا ولكن كذلك لفهم المجتمعات الأخرى. وتتعارض محاولاتنا لفهم الثقافات المختلفة عنا بشكل جزري. فمن ناحية لفهم المجتمعات الأخرى يجب علينا اتقان مفاهيم تلك المجتمعات حيث لن نستطيع فهما إلا من خلال الطريقة التي يفهمون بها أنفسهم. لكن من الناحية الأخرى لا يمكننا فهم الثقافات المختلفة إلا من خلال إقامة صلة مابين ممارستهم وعادتهم ونظائر ذلك عندنا. فلن نستطيع استيعاب مفاهيمهم إلا بالمقارنة مع مفاهيمنا. كيف يمكن حل هذا التعارض؟ الذي يقودنا إلى مأزق يتحتم علينا معه الاعتراف باستحالة فهم الثقافات لغربية.

ومع ذلك، هذا التشاؤم غير مبرر. حيث يمكنا تلبية شروط فهم الثقافات الغريبة. فبينما نجد ان هناك توتر مابين الحاجة لفهم الثقافات الغريبة من وجهة نظر بعض مفاهيمنا، بالنظر لأنها ثقافات لا تعرف نفس هذه المفاهيم، وبين الحاجة لفهم تلك الثقافات كما تفهم نفسها من وجهة نظر مفاهيم لا نعرفها، ومع ذلك هذا التوتر لا يصل لدرجة تناقض. وبعيدًا عن كون هذه الشروط لا يمكن التوفيق بينها، نجدها شروط مرتبطة. فحيث يتطلب فهم الثقافات الغريبة حيازة المفاهيم التي تسد الفجوة ما بيننا وبينها، يتطلب كذلك معرفة المفاهيم التي تنطبق على ممارسات الثقافات الأخرى كما تنطبق على ممارستنا. والاعتماد على مثل هذه المفاهيم ضروري لتصبح تلك الثقافات الغريبة مفهومة من جانبنا. كما ان تلك الثقافات مطالبة بتمكينا من استيعاب المفاهيم التي لا نتقاسمها.

دعونا إذا نختبر هذا الرأي المخالف لمقابلة المتشائم. الحقيقة إذا ما كانت بعض الثقافات لا تحوز كل ما لدينا من مفاهيم والعكس فإنها تعتبر ثقافة غريبة. فإذا اعتمدنا على المفاهيم التي لا تحوزها تلك الثقافات، كما نفعل في العادة، فان محاولتنا محكوم عليها بالفشل. فهذا لا يلبي شرط فهم الثقافة الاخر، وهو ان على المرء ان يفهم أبناء هذه الثقافة بالطريقة التي يفهمون بها أنفسهم. وهذا الشرط الذي يتطلب، كما تتضمن حجتنا، فهم الثقافات الغريبة من الداخل حيث ان المفاهيم المتوفرة لدي لأبنائها هي وحدها المفاهيم التي يستخدموها لفهم أنفسهم.

إذا اين يكمن الخطأ في الرأي المتشائم؟ انه يغض الطرف عن الطريقة التي نكتسب أو نتحصل بها على العديد من المفاهيم. فاكتساب المفهوم، من خلال الشروح الصريحة او من خلال ملاحظة كيف يستخدمها الاخرون، هو نتاج مزيج من انشاء روابط ما بين هذا المفهوم وغيره من المفاهيم المعروفة من ناحية، وتعلم استخدامها من خلال التناضح Osmosis عبر استخدامها او ملاحظة استخدام الاخرون لها، ويجري تعين الصواب من خلال وجهة نظر الاخرون عن الخطأ، من خلال ملاحظة ردود فعل الاخرون على استخدام المفهوم بشكل غير موفق وهو الشائع أكثر. دعونا نطلق على هتين الطريقتين، وهما غالبًا ما يكونوا مرتبطتين ولا يمكن التمييز بينهما بوضوح في الممارسة العملية، التعلم من خلال الشرح والتعلم من خلال المحاكاة. في بعض الأوقات نتعلم المفاهيم بهذه الطريقة او بالأخرى. على سبيل المثال مفاهيم الألوان نموذج للمفاهيم المكتسبة من خلال التقليد او من خلال المحاكاة. اما المفاهيم الرياضية، والمفاهيم المجردة عمومًا، فيكون تعلمها من خلال الشروح. وفي الواقع من الجائز ان نفترض ان كل مفاهيمنا التي نستخدمها[14]، خارج مجموعات المتخصصين الضيقة والمحدودة، تعلمناها من خلال المزج مابين المذهبين. فلاكتساب مفهوم اللون الأحمر عليك ان تعرف انه مفهوم عن لون، وهو من مفاهيم الادراك الحسي، فلا شيء يمكن ان يكون اخضر اللون علاوة على انه احمر اللون، وغيرها من الأمور التي بالمثل نتعلمها من خلال الشروح. ولاكتساب مفهوم العدد “اثنين” عليك ان تعرف ان اندماج قطرتين من الماء مما يخلف قطرة ماء واحدة، وليكون عندك معارف اخري على الأرجح عليك اكتسابها جزئيًا من خلال المحاكاة.

وانا لا ادعي ان المرحلة المفردة من عملية اكتساب المفهوم، مثل الحالات التي ذكرتها، يمكن ان تعتمد فقط على أحد المذهبين. فمعظم ان لم يكن كل حالات اكتساب المفهوم، يمكن ان تنجح نظريًا من خلال ايهما. ولكني أقول رغم ذلك باستحالة اكتساب المفاهيم بشكل عام، في حدود الطاقة البشرية، إلا من خلال الجمع مابين كلا المذهبين.

وبعض من يشاركنا وجهة النظر تلك، عن اكتساب المفاهيم، قد يعزز ذلك لديهم الرأي المتشائم بشأن عدم قدرتنا على فهم الثقافات الغريبة. إلا ان هذا يغفل في نظري دور الخيال والتجربة الفكرية في عملية التعلم والفهم. فمن حيث المبدأ يمكنا فهم الثقافات الغريبة لان في إمكانا ان نكتسب مفاهيمها، شريطة ان يكون لدينا حصيلة كافية من المعلومات الأساسية تسمح لنا بالتعلم من خلال المحاكاة، إما المحاكاة الفعلية لمن يزور او ينخرط في الثقافة الغريبة، او من خلال التخيل والارتباط الشغوف والتأمل في طبيعة هذه الثقافة والعادات وغيرها من المعلومات التاريخية. بطبيعة الحال قد تكون المواد المتاحة عن هذه الثقافة غير كافية. وقد يخلف ذلك فجوة في احكامنا لمفاهيم تلك الثقافة وفهمنا لأساليبها. إلا ان مثل هذه القيود على فهم الثقافات الغربية قيود عملية وليست مبدئية.

وعلى ايه حال سيظل فهمنا لثقافات الغريبة غير كامل حتى يمكن ربط مفاهيم تلك الثقافات بمفاهيمنا. لماذا يعتبر ذلك شرط ضروري للفهم؟ فبعد كل شيء، من المتصور ألا يكون أحد من بين أبناء هذه الثقافة الغريبة قد فهم ثقافتنا. فاذا كانوا يفهمون ثقافتهم الخاصة، وبالتأكيد يفهمونها، بدون إقامة صلة مع ثقافتنا فلماذا لا يمكننا ان نفهمهم بالمثل؟ الإجابة المختصرة هي: لأننا على خلافهم نعرف ونفهم ثقافتنا. وبالنظر لوضعيتنا تلك لن يمكننا ان نفهم الثقافات الغريبة إلا من خلال إقامة صلة بينها وبين ثقافتنا. ولنأخذ هذا المثال لشرح ذلك: الناطقين باللغة الفرنسية لديهم إتقان كامل للغة الفرنسية، حتى لو لا يعرفون حرف من اللغة الإنجليزية. على العكس الناطق باللغة الإنجليزية الذي يدرس اللغة الفرنسية كلغة اجنبية عليه ان يعرف كلمات مثل Un Homme, Une Maison, Plaisir، وغيرها، بمعناها في اللغة الإنجليزية[15]. ولن يكون هناك تناظر ما بين من يعرف الفرنسية وبين من يعرف الإنجليزية. إلا فقط عندما يتقن متحدث الإنجليزية اللغة الفرنسية وعلاقتها بلغته الام وحيث يصل لمستوي عالي جدًا من الدقة والاجادة او حيث تؤدي بهم المعرفة الانعكاسية لمعرفة أوجه الشبة والاختلاف بين اللغتين، فهل من المناسب القول بان التعمق في معرفة اللغة الفرنسية حسنت فهمهم للغة الإنجليزية. بالنسبة للناطقين باللغة الإنجليزية العاديين اللذين يدرسون اللغة الفرنسية لأسباب عملية وليس لديهم ميل للتفكر في طبيعتها لا يتحقق مثل هذا التحسن: حيث ان معرفتهم بالفرنسية تحسنت من خلال تنامي قدرتهم على الترجمة من الفرنسية إلى الإنجليزية. إلا ان معرفتهم بالإنجليزية لم تتأثر. وعدم التناظر هذا هو المظهر الرئيسي لما اسميه “مسار التبعية” في الفهم بصفة عامة.  فنحن نفهم الأشياء الجديدة من خلال ربطها بما نفهمه بالفعل، حتى ولو بدا الامر اننا حصلنا على فهم هذه الأشياء بدون استيعاب كيف يرتبط ذلك بما نعرف بالفعل. وعلاوة على ذلك، بطريقة ما وتحت شروط بعينها، الفهم الذي نكتسبه مؤخرًا يعمق او يحسن ما نعرفه بالفعل، وبدون ان تكون هناك حاجة لذلك.

ومسار التبعية في الفهم يُعَبر عنه بعض الأحيان من خلال القول بان أي ما كان ما نفهمه هو “وجهة نظر” شخصية. وبينما لا يوجد خطأ في تطبيق هذا التعبير المبالغ فيه بهذا السياق، إلا انه ممكن ان يؤدي إلى دلالات مؤسفة. بالنسبة للبعض هذا مما يحمل في طياته جملة من الومضات التحذيرية لما يمثل من عراقيل وتشوهات. فاذا كان يمكن فهم الثقافات الغريبة من خلال وجهة نظرنا فهذا يظهر – او كما يزعم هؤلاء – ان لا يمكننا فهما كما هي على حقيقتها، لان فهمنا قاصر ومشوهه. وفي كل الأحوال نحن نفهم الثقافات الغريبة من منظورنا الغربي الحديث، بالاعتماد على افكارنا ومعرفتنا بالتاريخ وبعض الثقافات ليست من الضمن الثقافات التي درسناها. ولهذا فهمنا لهذه الثقافات يختلف عن فهم أبنائها لها، ومن ثم لا يمكن وصف فهمنا لها بالموضوعية تمامًا او بالكمال او بشيء من هذا القبيل.

ومثال اكتساب اللغة الفرنسية بالنسبة إلى الناطقين باللغة الإنجليزية، كان يهدف لدحض هذه الفكرة. وبالطبع من الصعب اتقان لغة ثانية حيث يتم تعلمها بعد ان يكتسب المرء لغته الام. إلا ان هذا ممكن من حيث المبدأ، وتجربة اشخاص مثل كونارد ونوباكو Conrad and Nabokov (اثنين من الكتاب برعوا في أدب الرواية الإنجليزية رغم ان لغتهم الام ليست الانجليزية “المترجم”) تُظهِر ذلك. فلإتقان لغة ثانية يحتاج المرء ان يربطها بلغته الام بخلاف الناطقين بهذه اللغة حيث لا يحتاجون ربطها بلغة اخري. ومع ذلك ومن حيث المبدأ يمكن لكليهما اجادة هذه اللغة. ولقد أوضحت حقيقة ان بينما يصلا لوجهة واحدة، يجب على أحدهم فقط ان يصل لهذه الوجهة، ان تعرف كيف يربط الشخص لغته الثانية بلغته الام من خلال مسار التبعية في الفهم (وتفسير ذلك). ولكن حتى لو فهمنا ذلك لن نكن واثقين من هذا المسار من التبعية لا يؤثر على احتمالات المعرفة الكاملة او موضوعية تلك المعرفة. وهذا موضوع نقاش سأتركه لمناسبة اخري. فدعونا نقيم الاستنتاجات المؤقتة التي وصلنا إليها حتى الان.

فلقد قطعنا بالفعل شوط كبير صوب هدف الكشف عن إمكانية وجود نظرية قانونية. ولقد أصبح ذلك ضروري لان التحدي الذي يواجه إمكانية وجود نظرية يعتمد على فرضيات أوسع نطاقًا. والان علينا ان نخطو خطوة أكبر صوب هدفنا، نظرية قانون تفسر طبيعة القانون. ونحن بحاجة لبحث بعض القضايا المتعلقة بوظائف التفسير. والهدف من هذا البحث هو اثبات الاستنتاج الاولي الذي توصلنا إليه في هذه الورقة (نهاية المبحث السابق) وهو ان النظرية القانونية ذات تطبيق عالمي لان – حال قبول ذلك – يوفر وجهة نظر عن طبيعة القانون أينما وكلما وجد. وموضوعية وعالمية نظرية القانون لا تتأثر بحقيقة ان مفهوم القانون (الذي هو مفهومنا عن القانون) هو ابرشي او ضيق النطاق وليس مشترك بين كل الناس والثقافات التي تعيش او عاشت تحت حكم القانون.

وهذا الاستنتاج يستند إلى زعمنا ان فهم الثقافات الغربية ومؤسستها يجب ان يكون من خلال الطريقة التي يفهم بها أبنائها، أنفسهم ومفاهيمهم ومؤسساتهم، وإقامة صلة ما بين هذا الفهم وبين ما لدينا من نظائر ذلك. وهذا يعني ان لفهم هذه الثقافات يجب علينا ان نحوز مفاهيم تطبيقاتها ليست محدودة بثقافتنا وبشكل ينطبق كذلك على الثقافات الغريبة. وليس لدي شك ان ثقافتنا لديها من الموارد الفكرية ما يجعل هذا ممكنًا، إذا توافرت الإرادة والخيال الشغوف لفهم الثقافات الغريبة، واعتبر ذلك امر مفروغ منه. ولقد حاججت بان ما إذا كانت لدينا هذه الموارد وان هذا الفهم ممكن فسيكون مفهوم عن القانون من هذا القبيل ممكن. وشرحت هذه الحجة من خلال مثال المجتمعات الثيوقراطية وحقيقة اننا نطبق مفهوم القانون على ترتيباتهم المؤسساتية. فمفهوم القانون هو من المفاهيم متجاوزة الثقافات. وهو المفهوم الذي تفهم من خلاله المؤسسات الموجودة حتى بالمجتمعات التي لا يوجد لديها مثل ذلك المفهوم.

وهذا لا يثبت امكانية وجود نظرية قانون من حيث المبدأ، وان كان، فان هذا لن يثبت انها تحقق معرفة موضوعية بأكثر مما يؤدي إلى فهم طائش للثقافات الغريبة، لو كان أفضل طريقة لفهم تلك الثقافات من خلال وجهة نظرنا الذاتية. ولإيجاد إمكانية ايجابية لوجود نظرية قانون علينا اختبار طبيعتها التفسيرية والموضوعية. وعلى ايه حال الأفكار التي طرحتها هنا غايتها انها تزيل سوء الفهم الذي يؤدي بالبعض إلى الشك في إمكانية وجود مثل هذه النظرية.

المصدر


المراجع

Bentham, J. 1970. Of Laws in General, ed. H. L. A. Hart. London: University of London, The Athlone Press.

Dworkin, R. 1986. Law’s Empire. Cambridge, MA: Harvard University Press.

Hart, H. L. A. 1961. The Concept of Law. Oxford: Oxford University Press.

  1. L. A. Hart (ed.). 1982. Essays on Bentham. Oxford: Oxford University Press.

Putnam, H. 1985. The meaning of ‘‘meaning.’’ In H. Putnam, Philosophical Papers, Vol. 2: Mind, Language and Reality. Cambridge, UK: Cambridge University Press, 215-71.

Raz, J. 1995. The problem about the nature of law. In J. Raz, Ethics in the Public Domain. Oxford: Oxford University Press, Ch. 9.

Raz, J. 1996. On the nature of law. Archiv fu¨r Rechts und Sozialphilosophie 82: 1–25.

Raz, J. 1998. Two views of the nature of the theory of law: A partial comparison. Legal Theory 4: 249–82.

Raz, J. 1999. Practical Reason and Norms, 2nd edn. Princeton, NJ: Princeton University Press.

Ryle, G. 1949. The Concept of Mind. London: Hutchinson.

الهوامش

* – Joseph Raz, 2008. Can There Be a Theory of Law? In: The Blackwell Guide to the Philosophy of Law and Legal Theory. Ed: Martin P. Golding and William A. Edmundson. Oxford, Blackwell Press. Ch: 23, pp 324: 342.

**  – أستاذ كرسي توماس م. ماسيوس Thomas M. Macioce بكلية الحقوق، جامعة كولومبيا Columbia Law School. متخصص في الفلسفة القانونية والأخلاقية والسياسية.

***  – باحث حاصل على درجة الماجستير في الحقوق من كلية الحقوق، جامعة القاهرة. متخصص في القانون العام، النظرية القانونية والدراسات السوسيوقانونية.

[1] – استخدم في هذه الورقة المواد والأفكار الواردة في “في طبيعة القانون” (Raz 1996) و”وجهتين نظر في طبيعة القانون” (Raz 1998).

[2] – ومن أبرزها نظريات ملائمة شكل او موضوع المؤسسات القانونية، والنظريات المتعلقة بالمفاهيم والمبادئ التي تحكم مختلف المجالات القانونية (الملكية، قانون التجارة، نظام المسؤولية التقصيرية، العقود الخ)

[3] – وفي هذه الورقة لن اتناول دور القدرة على الاستيعاب في حيازة المفهوم. وافترض هنا ان الاستيعاب متضمن في معرفة العلاقات المهمة ما بين خصائص، الأشياء التي تنطبق المفاهيم عليها، الجوهرية وما بين غيرها من الخصائص. واذكر المهارات والقدرات للإشارة إلى ان لحيازة المفاهيم ستكون القدرات اللفظية والمفاهيمية، التي تظهر نفسها في إعطاء تفسير للمفهوم او استخدامه، ليست كافية. فالأمر يتطلب بعض القدرات غير اللفظية مثل القدرات التي يعكسها استخدام المفهوم استخدام (عملي) صحيح أكثر مما يعكس أي تفسير لهذا المفهوم.

[4] – لاحظ ليست كل الخصائص الجوهرية تستخدم في تعيين حالات ظهور الأشياء. فبعض الخصائص الجوهرية غير ذات جدوى بالنسبة لأي غرض محدد. فمن الخصائص الجوهرية للعبة التنس انها من العاب الكرة التي نشأت بفرنسا في القرن الرابع عشر ولكن عادة لا يمكن تعريف لعبة التنس بالإشارة لتلك الخصية. وعلاوة على ذلك في بعض الأحيان تكون الخصائص المستخدمة في تعيين الأشياء ليست من بين خصائصها الجوهرية. ومن الممكن ان يكون أخص ما يخص الماء بشكل جوهري انه فقط مكون من H2O إلا انه نادرًا ما يستخدم الناس هذه الحقيقة لتعريف الماء. واخيرًا غالبًا ما نستخدم الخصائص غير الجوهرية لتعيين حالات المفهوم، وقد تكون تلك الخصائص علامة وثيقة بحالات المفهوم في جميع الظروف العادية. ولاحظ كذلك انه ما من سبب لافتراض ان بعض الخصائص تستخدم لتعيين النقاط المندرجة تحت المفهوم من قِبل كل من يستخدم المفهوم، فبعض الخصائص تستخدم على هذا النحو وبعضها لا. وفي الواقع قد تكون غير معروفة حتى بالنسبة للأخرين اللذين لديهم احكام مختلف للمفهوم.

[5] – أنظر بشأن هذا المفهوم: ((Putnam 1985

[6] – هنا وفيما سوف يأتي لاحقًا سوف استخدم مصطلح “قانون” كما غالبًا يستخدم للإشارة في بعض الأحيان إلى النظام القانوني وفي أحيان اخري للإشارة إلى حكم القانون او للتعبير عن كيف يكون القانون ذي مغزى معين. وسوف استخدم الكلمة بشكل مبهم للإشارة إلى هذا الاستخدام او ذاك حيث ان الوضوح غير مهم لأغراض النقاش المتضمن بهذه الورقة والكيفية التي يجب ان يفهم بها.

[7]– قارن ذلك بحالة: كيف تغيير معني كلمة “فارس” عن معناها في العصور الوسطي. فيفسر قاموس أكسفورد الإنجليزي معني كلمة “فارس” (ضمن أشياء أخري): 3. (…): هو خادم عسكري او تابع لملك او أحد النبلاء؛ لاحقًا، اعتبر الفارس كذلك خادم لسيدة نبيلة كمرافق لها، وبطلها في الحرب والمسابقات القتالية؛ (…) وهذا منطقيًا هو المعني المباشر التاريخي للكلمة ويعتبر فارس الملك فارس بامتياز بيد يعتبر فارس السيدة النبيلة من درجة اقل 4. رتبة في ترتيب أو نظام. أ. في العصور الوسطي: عادة (كما في 3) خادم عسكري لملك او لشخص ذي مكانة؛ اقطاعي حائز لأرض تحت اشراف من هو اعلى منه رتبة ويخدم في الميدان (كراكب) مسلح بشكل جيد. في النظام الاقطاعي كامل التطور: هو شخص رفع لمرتبة عالية بواسطة ملك او شخص مؤهل لذلك، وهذا التمييز بدأ ليكون مهم عادة فقط بالنسبة لمن كان ميلادهم نبيل وهم اللذين خدموا محترفي السلاح (مثل التُبَاع والإصطبلية) ويمثل هذه خطوة نظامية للترقي حتى بالنسبة لمن هم ارفع مكانة. ولا أحد يمكنه انكار تلك التغييرات التي حدثت لمعني كلمة فارس. لكن مع ذلك ليس هناك أي حرج في الإشارة إلى هذه التغييرات باعتبارها تغييرات في مفهوم فارس فليس هناك ما يدعوا لنري في هذه التغييرات أي شيء اخر أكثر من مفهوم استبدل بمفهوم اخر.

[8]– والبعض يري ان القانون مفهوم غامض وهو سبب اخر يساق لإنكار منطق ان للقانون خصائص جوهرية.

[9] – وليس من الواضح ان أي من الفلاسفة مهما كانت مكانته قد افترض خلاف ذلك.  ومن وجهة نظر ج. بنتام J. Bentham يلزم لتفسير المصطلحات المعيارية النفاذ إليها من خلال تحليل دلالتها اللفظية. أنظر: (Bentham 1970; Hart 1982) إلا ان هذا بغرض اظهار ان القانون ذي دلالة لفظية منطقية. وهذا لا يثبت انه يعتقد ان تفسير القانون هو تفسير معني كلمة قانون في اللغة الإنجليزية. وبوضوح لم يقصد هارت ان يطرح مجرد تحليل دلالي لفظي (Hart 1961: ch. 1). والغريب ان دوركين، الذي لم يقع بدوره في هذا الخطأ، يتهم هارت وغيره كثر بذلك.  وهو الاتهام الذي رفضته. أنظر: (Raz 1995) وفي مواضع اخري كذلك. والعديد من الفلاسفة القانون اقل حساسية لهذه المسألة وبحيث يتجنبوا مناقشتها مباشرة.  والانطباع العام من أعمالهم انهم لا يفكرون بأنفسهم في تحليل الدلالة اللفظية لكمة قانون، والغريب انهم يعزون في ذلك إلى هوبز، لوك، كانط، او هيجل على سبيل المثال.

[10]–  ويورد هذا التعليق كتفسير لوجهة نظر دوركين التي ليست واضحة بشكل كاف.

[11]– وهذه المسألة تتحول جزئيًا إلى الطابع البرجماتي في التفسير (بما في ذلك التفسيرات التبريرية) بما لا يتسع له النقاش هنا.

[12] – خلال ستينيات القرن العشرون شهدت بلدان الكومنولث البريطاني شهدت سلسلة من القرارات القضائية بمشروعية الانقلابات coup d’e´tat والنزعات الانفصالية وما شابه وهو ما أخذ المحاكم في عمق النزاعات النظرية ومما ادي بدوره إلى اثارة مجموعة من النقاشات النظرية في الصحافة.

[13] – وعلى الرغم من ان هذا ممكن فان مجمل نظرية دوركين تتطلب ان يكون اولئك الذين يعيشون في مجتمع خاضع للقانون يحترمون القانون باعتباره تمثيل   instantiatingلبعض تلك المفاهيم التفسيرية او غيرها أكثر من مفهوم القانون على نحو التحديد.

-[14] مثل أسماء المعدات في قطاع البناء، او بعض المصطلحات النظرية في العلوم.

-[15] وهذا على سبيل المثال، ولا يعني ضمنًا انه يجب على الناطقين باللغة الإنجليزية ان يكون لديهم قدرة كاملة لترجمة الفرنسية إلي الإنجليزية للتأهل كمتحدثين بالفرنسية. فقط هم يحتاجون لبعض هذه القدرة.