مجلة حكمة

نشوء الأجداد – كاسپاري


لعل كبار السن هم السر الذي يكمن وراء نجاح جنسنا البشري.

– R. كاسپاري

 

– بــاختصار –

   بشكل عام يعمّر الناس حاليا إلى أن يصبحوا أجدادا، ولكن نصاب الأمور لم يكن دائما على هذه الحال.

   فالتحاليل الحديثة لأحافير الأسنان تشير إلى أن الأجداد كانوا نادري الوجود عند الشعوب القديمة، مثل شعوب الأستريلوپيتيسين australopithecinesوالنياندرتاليين (البشر البدائيين) neandertals. وشاع وجود الأجداد للمرة الأولى قبل نحو000 30 سنة، وذلك حسب ما تشير إليه بقايا الأوروبيين المعاصرين الأوائل.

   وقد تكون هذه الزيادة في أعداد كبار السن هي القوة الدافعة وراء التضخم الهائل في ظهور أنواع جديدة من الأدوات وأشكال الفنون التي انتشرت في أوروبا في الفترة الزمنية ذاتها تقريبا. وقد تفسِّر أيضا كيف تفوقت الجماعات البشرية المعاصرة على المجموعات البشرية القديمة مثل النياندرتاليين.

 

 

أثناء صيف عام 1963، وعندما كنت في سن السادسة من العمر، سافرت عائلتي من بيتنا الكائن في فيلادلفيا إلى لوس أنجلوس لزيارة أقارب والدتي هناك. وكنت أعرف جدتي حق المعرفة لأنها ساعدت والدتي على السهر على رعايتي ورعاية أَخَويَّ التوأمين اللذين لا يصغرانني إلا بثمانية عشر شهرا فقط. وعندما لم تكن جدتي تعيش معنا كانت تقطن مع والدتها، التي التقيت بها للمرة الأولى في ذلك الصيف. وأنا أنحدر من عائلة مُعمِّرة، فقد ولدت جدتي عام 1895، أما والدتها فولدت في ستينات القرن التاسع عشر، وعاشت كل منهما نحو مئة عام. وقد عشنا مع رَأْسَيْ العائلة هاتين عدة أسابيع. ومن خلال الحكايات التي كانتا تقصَّانها على مسامعي تعرَّفت على جذوري الأسرية وعلى موقع انتمائي في الشبكة الاجتماعية التي امتدت على مدى أربعة أجيال متعاقبة. وقد جعلتني ذكرياتهما أرتبط شخصيا بالحياة التي كانت سائدة في نهاية الحرب الأهلية وفترة إعادة الإعمار، وأيضا بالتحديات التي واجهها أجدادي وسبل تحمُّلها ومجابهتها.

قصتي هذه ليست فريدة من نوعها، فكبار السن يؤدون أدوارا جوهرية في حياة المجتمعات البشرية التي يوجدون فيها في جميع أنحاء المعمورة، فهم ينقلون الحكمة ويقدمون الدعم الاجتماعي والاقتصادي إلى أسر أبنائهم وإلى المجموعات الأكبر من ذوي القربى. في زمننا المعاصر، فإن استمرار عيش الناس إلى أن يصبحوا أجدادا يُعدُّ من الأمور الروتينية المألوفة في الحياة. فمتى أصبح وجود الأجداد أمرا سائدا، وكيف أسهمت ديمومتهم في التأثير في تطور البشر؟

يشير البحث الذي أقوم به إلى جانب زملائي إلى أن الأشخاص الذين تقدَّمتْ بهم السن إلى أن صاروا أجدادا أصبحوا شائعي الوجود مؤخرا نسبيا في فترة ما قبل التاريخ، وأن هذا التغيير حدث في ذات الوقت تقريبا الذي نشأت فيه التحولات الثقافية نحو أشكال السلوك ذات الملامح المعاصرة الجليّة – التي تشمل الاعتماد على نوع من التواصل المتطور المستند إلى الرموز الشبيهة بذلك النوع الذي يُبنى على أساسه الفن واللغة. وتشير هذه الاكتشافات إلى أن العيش إلى سن متقدمة كانت له تأثيرات عميقة في الأحجام السكانية والتفاعلات الاجتماعية والوراثة عند الجماعات البشرية المعاصرة الأولى، ويمكنها أن تعلل أيضا سبب نجاحهم وتفوقهم أكثر من المجموعات البشرية القديمة، مثل النياندرتاليين (البشر البدائيين) neandertals.

إن الخطوة الأولى لمعرفة متى أصبح وجود الأجداد عنصرا أساسيا في المجتمع هي تقييم الفئات العمرية النموذجية للسكان في الماضي – ما هي نسبة الأطفال والبالغين ممن هم في سن الإنجاب وآباء البالغين الأصغر سنا؟ غير أن إعادة بناء الديموغرافيا السكانية القديمة هي قضية شائكة لعدة أسباب: أولها، عدم وجود سجل أحفوري يحفظ مجموعة سكانية بأكملها، وليس في متناول علماء المستحاثات (الأحافير) سوى شظايا من بقايا الأفراد. وسبب آخر هو أن البشر الأوائل لم ينضجوا بالضرورة بنفس معدل نضوج البشر المعاصرين. وفي واقع الأمر، تتفاوت معدلات النضوج حتى بين المجموعات السكانية المعاصرة. ولكن هناك عدد قليل من المواقع تحوي في نفس طبقات الرواسب أعدادا من الأحافير البشرية التي تكفي لتمكين العلماء من تقدير موثوق به لعمر المتوفى من خلال البقايا – وهذا يعد مفتاحا لفهم تركيبة المجموعة البشرية في مرحلة ما قبل التاريخ.

 

 

 

 

 

 

ويوجـد أحد هـذه المـواقـع في مأوى صخري يقع في مدينة كراپينا بكرواتيا على بعد 40 كيلومترا شمال غرب مدينة زغرب. فمنذ قرن ونيِّف قام عالم الأحافير الكرواتي <G .D. كرامبرگر> بالتنقيب في هذا الموقع ووصف شظايا بقايا نحو 70 شخصا من الإنسان النياندرتالي الموجودة فيه والتي جاء معظمها من طبقة يعود تاريخها إلى نحو 000 130 سنة خلت. وقد وُجد العدد الأكبر من الأحافير في أماكن قريبة من بعضها. إن التجمع السريع والواضح للرواسب في الموقع وحقيقة أن بعض البقايا تشترك في سمات مميزة ومحددة وراثيا، كل ذلك يشير إلى أن العظام في مدينة كراپينا تقارب بقايا قبيلة واحدة من قبائل الإنسان النياندرتالي. وكما يحدث غالبا في سجل الأحافير، فإن الأسنان هي أفضل البقايا المحفوظة في مدينة كراپينا وذلك بسبب محتواها العالي من المعادن الذي يحميها من التآكل. ولحسن الحظ، فإن الأسنان هي أيضا واحدة من أفضل أعضاء الهيكل العظمي لتحديد عمر المتوفى، الذي يمكن التوصل إليه من خلال تحليل مدى تآكل السطح والتغيرات الأخرى المرتبطة بالعمر في بنية الأسنان الداخلية.

 

 

 

 

 

 

اكتشافات التقدم بالعمر(**)

   إن التحاليل التي أجريت على الأسنان المتحجرة لمئات الأفراد على مدى ثلاثة ملايين سنة تشير إلى أن العيش للوصول إلى مرحلة الأجداد أصبح شائعا في مرحلة متأخرة نسبيا من التطور البشري. وقد قيمت كاتبة هذا البحث وزملاؤها نسبة البالغين الكبار (ممن وصلوا إلى عمر الأجداد) إلى نسبة البالغين الشباب في أربع مجموعات من الأسلاف البشرية – الأستريلوپيتيسين australopithecines والأعضاء الأوائل من جنس إنسان هومو Homo والنياندرتاليين والأوروبيين المعاصرين الأوائل – ووجدوا أن النسبة لم تزدد إلا بشكل متواضع فقط على مسار التطور البشري حتى قرابة 000 30 سنة خلت، حيث بدأت بالارتفاع إلى نسب عالية جدا.

 

في عام 1979، وقبل أن أبدأ بحثي في نشوء الأجداد، نشر <H .W. وولپوف> [من جامعة ميتشيگان] بحثا قيَّم فيه أعمار الأشخاص النياندرتاليين الموجودين في كراپينا عند وفاتهم، وذلك استنادا إلى بقايا أحافير أسنانهم الموجودة في الموقع. فالأضراس (الأسنان الطاحنة) تطلع(1) على التوالي. فباستخدام أحد أسرع الجداول لطلوع الأسنان عند البشر المعاصرين اليوم كدليل، قدَّر <ويلفورد> أن الأضراس الأول والثاني والثالث للإنسان النياندرتالي قد نشأت في أعمار تقارب سن السادسة والثانية عشرة والخامسة عشرة على التوالي. ويزداد تآكل الأضراس بوتيرة ثابتة جرَّاء المضغ خلال حياة الفرد، ولذلك عندما يظهر الضرس الثاني يكون الضرس الأول قد خضع لست سنوات من الاستهلاك، وعندما يظهر الضرس الثالث يكون الضرس الثاني قد تعرض للاستهلاك لمدة ثلاث سنوات.

ومن خلال حساب العمر بالرجوع إلى الوراء، يمكن للمرء أن يستنتج، على سبيل المثال، أن الضرس الأول الذي استهلك لمدة 15 عاما يعود إلى شخص نياندرتالي يبلغ من العمر 21 عاما، والضرس الثاني الذي استهلك لمدة 15 عاما يعود إلى شخص يبلغ من العمر 27 عاما، والضرس الثالث الذي استهلك لمدة 15 عاما يعود إلى شخص يبلغ من العمر 30 عاما. (يحتمل الشك في هذا التقييم بنسبة سنة واحدة فقط زيادة أو نقصانا). وطريقة التسلسل الزمني هذه القائمة على زمن تآكل الأضراس لتحديد العمر عند الوفاة مأخوذة عن تقنية طورها في عام 1963 الباحث في علوم الأسنان <W .E .A. مايلز>، وهي تعمل بشكل أفضل على عيِّنات بأعداد كبيرة من الأحداث، الموجودة بأعداد وفيرة في موقع مدينة كراپينا. فأسنان كبار السن الذين قد تكون تيجان أسنانهم متآكلة إلى درجة كبيرة لا يمكن تقدير أعمارهم بشكل موثوق به، وحتى في بعض الحالات قد تكون الأسنان متآكلة بالكامل.

 

 

 

نتائج الثقافة هي وليدة العصر(***)

   إن زيادة ملحوظة في بقيا(2) البالغين بدأت في أوروبا قبل نحو000 30 سنة خلت قد تعلل التحول الثقافي الكبير الذي أعقبها هناك، حيث إن التقنيات البسيطة نسبيا للعصر الحجري القديم الأوسط مهَّدت لصناعة الأسلحة المتطورة والفنون في العصر الحجري القديم الأعلى. والقطع الأثرية (التحف) المعروضة أدناه تمثل التقاليد الثقافية لكلا العصرين.

العصر الحجري القديم الأوسط

 

مجحف حجري ذو حدين من موقع كومب گرينال الأثري بفرنسا

 

حجر صوان (في اليسار) ومجحف scraper حجري ذو حد جانبي (في اليمين) من موقع موستييه الأثري بفرنسا

العصر الحجري القديم الأعلى

 

 

 

تمثال ڤينوس من السيراميك من موقع دولني ڤيستونيس الأثري بجمهورية التشيك

 

قلادة سن ذئب من موقع أبري كاستانيت الأثري بفرنسا

 

إزميل burin حجري من موقع قرية براسيمپوي الأثري بفرنسا

 

آلة فلوت عظمية من كهف الصخرة الجوفاء الأثري بألمانيا

 

 

مجحف حجري ذو حدين من موقع كومب گرينال الأثري بفرنسا

 

حجر صوان (في اليسار) ومجحف scraper حجري ذو حد جانبي (في اليمين) من موقع موستييه الأثري بفرنسا

 

 

 

تمثال ڤينوس من السيراميك من موقع دولني ڤيستونيس الأثري بجمهورية التشيك

 

قلادة سن ذئب من موقع أبري كاستانيت الأثري بفرنسا

 

إزميل burin حجري من موقع قرية براسيمپوي الأثري بفرنسا

 

آلة فلوت عظمية من كهف الصخرة الجوفاء الأثري بألمانيا

 

مجحف حجري ذو حدين من موقع كومب گرينال الأثري بفرنسا

 

حجر صوان (في اليسار) ومجحف scraper حجري ذو حد جانبي (في اليمين) من موقع موستييه الأثري بفرنسا

 

 

 

تمثال ڤينوس من السيراميك من موقع دولني ڤيستونيس الأثري بجمهورية التشيك

 

قلادة سن ذئب من موقع أبري كاستانيت الأثري بفرنسا

 

إزميل burin حجري من موقع قرية براسيمپوي الأثري بفرنسا

 

آلة فلوت عظمية من كهف الصخرة الجوفاء الأثري بألمانيا

 

وأشار بحث <وولپوف> إلى أن الإنسان النياندرتالي الموجود في موقع مدينة كراپينا قد فارق الحياة وهو لا يزال في ريعان شبابه. وفي عام 2005، بعد بضع سنوات من مباشرتي البحث في نشوء طول العمر، قررت إعادة دراسة هذه العيِّنة باستخدام أسلوب جديد. لقد أردت التأكد من أننا لن نفوّت فرصة معرفة أعمار كبار السن بسبب معوقات طريقة التسلسل الزمني القائمة على زمن تآكل السن لتحديد العمر عند الوفاة. ومن خلال العمل مع <J. رادوڤيج> [من متحف التاريخ الطبيعي الكرواتي في زغرب] وآخرين في جامعة ميتشيگان، إضافة إلى عدد من الطلبة الجامعيين من جامعة سنترال ميتشيگان، وضعت طريقة جديدة غير مُتلفة – باستخدام تصوير مقطعي حاسوبي ثلاثي الأبعاد وعالي الدقة – لإعادة تقدير عمر الأشخاص الموجودين في موقع كراپينا عند الوفاة. ونظرنا بشكل خاص في درجة نمو نوع من الأنسجة ضمن الأسنان يسمى العاج الثانوي(3)، إذ إن حجم العاج الثانوي يزداد مع تقدم السن ويوفر طريقة لتقدير عمر الفرد عند الوفاة عندما يكون تاج السن متآكلا لدرجة كبيرة بحيث لا يمكن أن يخدم كمؤشر جيد للدلالة على العمر.

والنتائج الأولية التي توصلنا إليها إضافة إلى صور المسح الإلكتروني التي قدمها معهد ماكس پلانك للأنثروبولوجيا التطورية في لايبزيگ، دعَّمت نتائج <وولپوف> وأثبتت صحة طريقة التسلسل الزمني القائمة على زمن التآكل أن البشر النياندرتاليين في موقع كراپينا كان لهم معدل وفيات عالٍ بشكل ملحوظ إذ لم يعش أحد منهم بشكل عام بعد الثلاثين من العمر. (وهذا الاستنتاج لا يعني بالضرورة أن جميع البشر النياندرتاليين لم يعيشوا بعد سن الثلاثين، فقد كانت هناك عيِّنات لبعض الأفراد من مواقع أخرى غير موقع كراپينا تدل على أن أعمارهم كانت نحو الأربعين عند الوفاة.)

يعتبر نموذج الوفاة في كراپينا بمقاييس اليوم من الأمور التي يصعب تخيلها. فبعد كل شيء، يعتبر سن الثلاثين بالنسبة إلى معظم الناس هو الحياة في أوج ريعانها. وفي الماضي القريب، كانت قبائل القناصين – جامعي الغذاء(4) تعيش أكثر من ثلاثين عاما. ومع ذلك، فإن الإنسان النياندرتالي في كراپينا لم يكن فريدا من نوعه بين البشر الأوائل. فالمواقع القليلة الأخرى للأحافير البشرية التي تحوي أعدادا كبيرة من الأفراد المحفوظين، مثل موقع «سيما دي لوس هيوسوس» الذي يقارب عمره 000 600 سنة في أتاپيويرا بأسبانيا، تُظهر نماذج مشابهة لتلك الموجودة في كراپينا. ففي هذا الموقع كان للناس معدل وفيات عال جدا بين الأحداث والناشئة، إذ لم يعش أحد منهم بعد الخامسة والثلاثين من العمر وقلائل جدا هم الذين وصلوا إلى هذا العمر. ومن الممكن أن تكون الأحداث المأساوية أو الظروف الخاصة التي تحجَّرت فيها البقايا قد أسهمت بشكل أو بآخر في حفظها بشكل أفضل من الحفاظ على الأفراد الأكبر سنا في هذه المواقع. غير أن الاستطلاعات الواسعة لسجل الأحافير البشرية وللمواد الموجودة في هذه المواقع الغنية بشكل استثنائي، والمواقع الأخرى التي تحوي عددا أقل من الأفراد، التي قمت بها مع زملائي تشير إلى أن الوفاة في ريعان الشباب هي القاعدة وليست الاستثناء. وبإعادة صياغة كلمات الفيلسوف البريطاني <Th. هوبز>، فإن الحياة في مرحلة ما قبل التاريخ كانت في الواقع بغيضة وبهيمية وقصيرة الأمد.

ظهور الأجداد(****)

هذه الطريقة الجديدة للتصوير المقطعي الحاسوبي الثلاثي الأبعاد والعالي الدقة، لديها الإمكانية لتوفير صورة عالية الدقة والوضوح لأعمار الأفراد كبار السن في المجموعات البشرية المتحجرة الأخرى. ولكن قبل بضع سنوات، وقبل التوصل إلى هذا الأسلوب كنت مع <S- هي لي> [من جامعة كاليفورنيا] جاهزين للبدء بالبحث عن دليل للتغيرات في طول العمر على مسار التطور البشري. وقد استعنا حينها بأفضل طريقة متوفرة، وهي طريقة التسلسل الزمني القائم على زمن التآكل.

بَيْدَ أننا واجهنا تحديا رهيبا. فمعظم الأحافير البشرية لا تأتي من مواقع، مثل موقع كراپينا، تحفظ العديد من الأفراد بحيث يمكن اعتبار البقايا انعكاسا للمجموعات السكانية الأكبر التي كانوا ينتمون إليها. فكلما كان عدد الأفراد المعاصرين قليلا في الموقع، ازدادت صعوبة تقدير عمر الأعضاء الأكبر سنا عند الوفاة بشكل موثوق به وذلك بسبب الشكوك الإحصائية المرتبطة بالعيِّنات الصغيرة.

ولكننا أدركنا أنه بإمكاننا التوصل إلى إجابة عن السؤال المتعلق بزمن شيوع الأجداد بطريقة أخرى. فبدلا من السؤال عن العمر الذي عاشه الأفراد طرحنا سؤالا آخر، وهو كم واحدا منهم بلغ سنا متقدمة. وهذا يعني أنه بدلا من التركيز على الأعمار المطلقة، قمنا بحساب الأعمار النسبية وسألنا عن نسبة البالغين الذين عاشوا إلى عمر يسمح لهم بأن يصبحوا أجدادا. وكان هدفنا من وراء ذلك هو تقييم التغيرات طوال فترة التطور، في نسبة كبار السن إلى الشباب – أي ما يسمى بنسبة عجوز-شاب OY ratio. وبين الرئيسات (أعلى رتب الثدييات)، بما فيهم البشر حتى وقت قريب جدا، يطلع الضرس الثالث في ذات الوقت تقريبا الذي يصبح فيه الفرد بالغا ويصل إلى سن الإنجاب. واستنادا إلى بيانات من قبائل الإنسان النياندرتالي وقبائل القناصين – جامعي الغذاء، توصلنا إلى استنتاج أن بَشَر هذه الأحافير طلع لهم الضرس الثالث وأنجبوا الطفل الأول في سن الخامسة عشرة تقريبا. وقد ضاعفنا هذا العمر لتحديد بداية مرحلة الأجداد – كما هي الحال اليوم فإن بعض النساء يمكنهن الإنجاب في سن الخامسة عشرة، وهؤلاء النساء يمكن أن يصبحن جدَّات عندما يصل أولادهن إلى سن الخامسة عشرة وينجبن.

ولأغراض البحث، فإن أي فرد من الجيل القديم يقدر عمره بثلاثين سنة أو أكثر مؤهل لأن يكون بالغا متقدما في السن – متقدم في السن ليصبح جَدًّا. ولكن يكمن جمال طريقة نسبة عجوز-شاب OY في أنه بغض النظر عن عمر النضوج سواء حصل في سن 10 أو 15 أو 20، فإن عدد الأفراد الأكبر أو الأصغر سنا في أي عيِّنة لن يتأثر لأن بداية سن البلوغ adulthood المتقدمة ستتغير تبعا لذلك. وبما أننا كنا نتطلع فقط إلى وضع الأحافير في هاتين الفئتين العمريتين العريضتين، فقد تمكّنا من ضم أعداد كبيرة من عينات الأحافير الأصغر في تحليلنا من دون أن تقلقنا الشكوك في الأعمار المُطْلقة.

لقد قمنا بحساب نسب عجوز-شاب OY لأربعة مجاميع كبيرة من عيِّنات الأحافير بلغ مجموعها 768 فردا تحجَّروا على مدى ثلاثة ملايين سنة. وقد ضم أحد المجاميع الأستريلوپيتيسين اللاحقين – وهم الأقارب البدائيين لأحافير لوسي(5)، التي عاشت في شرق إفريقيا وجنوبها قبل ثلاثة ملايين إلى 1.5 مليون سنة خلت. وكانت المجموعة الثانية تتألف من الأفراد الأوائل لجنسنا، إنسان هومو، من أرجاء الكرة الأرضية الذين عاشوا قبل مليوني إلى نصف مليون سنة مضت. والمجموعة الثالثة كانت للبشر النياندرتاليين الأوروبيين قبل نحو 000 130 إلى 000 30 سنة مضت. والمجموعة الأخيرة تتألف من الأوروبيين المعاصرين من العصر الحجري القديم الأعلى، الذين عاشوا ما بين000 30 و 000 20 سنة مضت وخلفوا وراءهم آثارا ثقافية متطورة.

ومع أننا كنا نتوقع اكتشاف تزايد في طول العمر مع مرور الوقت، لكننا لم نكن مهيئين لإحراز نتائح مبهرة كالتي توصلنا إليها. فقد لاحظنا اتجاها بسيطا نحو تزايد طول العمر مع الزمن في جميع العينات، لكن الاختلاف بين البشر الأوائل والبشر المعاصرين والبشر من العصر الحجري القديم الأعلى، كان ظاهرا في زيادة كبيرة في نسبة عجوز-شاب OY تصل إلى خمسة أضعاف. ومن ثمّ، فإنه بالنسبة إلى كل عشرة شبان بالغين من الإنسان النياندرتالي ممن قضوا في أعمار تتراوح بين 15 و 30 سنة، يوجد فقط أربعة بالغين أكبر سنا ممن عاشوا حتى تجاوزوا سن الثلاثين؛ وفي المقابل، بالنسبة إلى تصنيف الوفيات فإن لكل عشرة شبان بالغين من العصر الحجري القديم الأعلى الأوروبي، كان هناك نحو 20 جدًّا محتملا. ولمعرفة ما إذا كانت الأعداد الكبيرة لمواقع الدفن (للمقابر) التابعة للعصر الحجري القديم الأعلى قد تعلل العدد الكبير لكبار السن في تلك العيِّنة، قمنا بإعادة تحليل عيِّنات العصر الحجري القديم الأعلى التي لدينا وذلك باستخدام تلك البقايا التي لم تدفن. ولكننا حصلنا على نتائج مماثلة. والخلاصة التي لا مفر منها هي أن معدل البقاء على قيد الحياة للبالغين ارتفع في مرحلة متأخرة جدا من التطور البشري.

 

بيولوجيا أم ثقافة؟(*****)

والآن وبعد أن تأكدت مع <لي> من أن عدد الأجداد ارتفع في مرحلة ما من تطور البشر المعاصرين تشريحيا، يواجهنا سؤال آخر مفاده: ما الذي أحدث هذا التغيير؟ لقد كان هناك احتمالان: إما أن تكون سمة طول العمر واحدة من مجموعات السمات المضبوطة وراثيا التي ميَّزت البشر المعاصرين تشريحيا من أسلافهم، أو أنها لم تأتِ مع ظهور التشريح المعاصر وكانت عوضا عن ذلك نتيجة لتحول لاحق في السلوك. والبشر المعاصرون تشريحيا لم يندفعوا في المشهد التطوري ويصنعوا الفنون والأسلحة المتطورة التي تحدد معالم الثقافة الخاصة بالعصر الحجري القديم الأعلى. لقد نشؤوا قبل أولئك الأوروبيين من العصر الحجري القديم الأعلى بزمن طويل، قبل ما يزيد على 000 100 سنة مضت، وطوال ذلك الوقت كانوا هم ومن عاصرهم تشريحيا من النياندرتاليين القدماء يستخدمون ذات التقنيات البسيطة الخاصة بالعصر الحجري الأوسط. (يبدو أن أعضاء كلتا المجموعتين قد انخرطوا في صناعة الفن والأسلحة المتطورة قبل مرحلة العصر الحجري القديم الأعلى، ولكن هذه التقاليد كانت سريعة الزوال مقارنة بتلك التقاليد الدائمة والثابتة التي ميَّزت الفترة التي لحقتها.) ومع أن دراستنا أشارت إلى أن الزيادة الهائلة في أعداد الأجداد كانت فريدة بالنسبة إلى البشر المعاصرين تشريحيا، إلا أنها لم تكن قادرة وحدها على التمييز بين التفسير البيولوجي والتفسير الثقافي، لأن البشر المعاصرين الذين أجرينا الدراسة عليهم كانوا معاصرين تشريحيا وثقافيا. فهل يمكن إرجاع طول العمر إلى البشر الأوائل المعاصرين تشريحيا الذين لم يكونوا بعد معاصرين سلوكيا؟

للإجابة عن هذا السؤال قمت مع <لي> بتحليل بقايا البشر من العصر الحجري القديم الأوسط الموجودة في مواقع أثرية في غرب آسيا يعود تاريخها تقريبا إلى الفترة ما بين 000 110 و 000 40 سنة مضت. وقد شملت العينة التي درسناها كلا من البشر النياندرتاليين والبشر المعاصرين الذين لهم جميعا صلة بذات القطع الأثرية البسيطة نسبيا. وقد مكننا هذا الأسلوب من مقارنة نسب عجوز-شاب OY لمجموعتين مختلفتين بيولوجيا (العديد من العلماء يعتبرونهما نوعين منفصلين) عاشتا في ذات المنطقة، وكانت لهما التركيبة الثقافية المتشابكة ذاتها. وقد اكتشفنا أن البشر النياندرتاليين والبشر المعاصرين من غرب آسيا كان لديهما نسب عجوز-شاب OY متطابقة إحصائيا، مما يلغي فكرة أن التحول البيولوجي هو الذي يفسر الزيادة في بقاء البالغين على قيد الحياة التي رأيناها عند الأوروبيين من العصر الحجري القديم الأعلى. فقد كان لدى هاتين المجموعتين من غرب آسيا نسب متعادلة من أعداد كبار السن بالنسبة إلى أعداد الشباب مما يضع نسب عجوز-شاب OY الخاصة بهما بين تلك النسب التي تعود إلى البشر النياندرتاليين والبشر المعاصرين الأوائل من أوروبا.

وبالمقارنة بالنياندرتاليين الأوروبيين، فإن نسبة أكبر بكثير من النياندرتاليين (والبشر المعاصرين) في غرب آسيا عاشوا ليصلوا إلى مرحلة الأجداد. وهذا الأمر لم يكن غير متوقع – فالبيئة الأكثر اعتدالا في غرب آسيا كان لها الأثر في تسهيل فرص العيش والبقيا أكثر من الظروف البيئية القاسية في أوروبا العصر الجليدي. وإذا سلَّمنا بأن البيئة المعتدلة في غرب آسيا هي التي تبرر ارتفاع نسب بقاء البالغين على قيد الحياة التي شهدناها عند شعوب العصر الحجري القديم الأوسط، فإن طول العمر عند الأوروبيين من العصر الحجري القديم الأعلى هي نتيجة أكثر إثارة للعجب والدهشة. وعلى الرغم من العيش في ظروف أكثر قسوة وخشونة، كان لدى الأوروبيين من العصر الحجري القديم الأعلى نسبة عجوز-شاب OY تبلغ أكثر من تلك التي لدى البشر المعاصرين من العصر الحجري القديم الأوسط.

لا نعلم على وجه الدقة ما الذي قام بفعله هؤلاء الأوروبيون من العصر الحجري القديم الأعلى على الصعيد الثقافي حتى تمكن العديد منهم من البقاء أحياء إلى أن وصلوا إلى سن متقدمة. ولكن مما لا شك فيه هو أن هذه الزيادة في بقاء البالغين على قيد الحياة بحد ذاتها كانت لها آثار بعيدة المدى. وكما أظهر كل من <K. هوكس> [من جامعة أوتا] و<H. كابلان> [من جامعة نيو مكسيكو] وآخرين في دراساتهم التي أجروها على عدد من مجموعات الإنسان القناص – جامع الغذاء في الزمن المعاصر، فإن الأجداد يقومون بشكل روتيني بتوظيف مواردهم الاقتصادية والاجتماعية في خدمة أبناء ذريتهم مما يسهم في زيادة عدد نسل أولادهم وبقيا أحفادهم. والأجداد أيضا يعززون الروابط الاجتماعية المعقدة – كما فعلت جدتي عندما رَوَتْ لي الحكايات عن أسلافي مما كان له الأثر في تعزيز أواصر العلاقة مع أقربائي الآخرين من أبناء جيلي. ومثل هذه المعلومات تشكل حجر الأساس الذي يبنى عليه النظام الاجتماعي البشري.

وكبار السن ينقلون أيضا أنواعا أخرى من المعرفة الثقافية – من المعلومات البيئية (على سبيل المثال، ما هي أنواع النباتات السامة أو أين يمكن إيجاد الماء أثناء فترات الجفاف) إلى المعلومات التقنية (كيفية نسج سلَّة أو كيفية صناعة سكين من الحجر، ربما). وقد أظهرت الدراسات التي كان من روَّادها <P. ستريملنگ> [من جامعة ستوكهولم] أن التكرار هو عامل حاسم في نقل القواعد والتقاليد لأي ثقافة. وتمتلك الأسر المتعددة الأجيال مزيدا من الأعضاء لضمان إيصال الدروس المهمة. ومن ثم، من المفترض أن يقوم طول العمر برعاية التراكمات عبر الأجيال المتعددة ونقل المعلومات التي من شأنها أن تشجع على تشكيل نُظم القرابة المتشابكة والشبكات الاجتماعية الأخرى التي تمكننا من تقديم المساعدة وتلقيها عندما تشتد قسوة الحياة علينا.

والزيادات في البقيا تُرجمت أيضا إلى زيادات في الأحجام السكانية وذلك بإضافة مجموعة عمرية لم تكن موجودة في الماضي وكانت لا تزال خصبة. والمجموعات السكانية الكبيرة هي دوافع رئيسية لنشوء أنماط جديدة من السلوك. ففي عام 2009، نَشَر <A. پاولّ> وزملاؤه [في جامعة لندن كوليج] بحثا في مجلة ساينس أظهروا فيه أن الكثافة السكانية تنعكس بشكل مهم في الحفاظ على التشابك الثقافي. ويرى هؤلاء الباحثون وكثر غيرهم أن المجموعات السكانية الأكبر كان لها الأثر في تعزيز نمو وتطور شبكات تجارية مكثفة، ونظم معقدة للتعاون، والتعبير المادي عن هوية الأفراد والجماعات (مجوهرات، طلاء الجسم، وغيرها). وعلى ضوء هذه الرؤية، فإن السمات المميزة للعصر الحجري القديم الأعلى – الزيادة الهائلة في استخدام الرموز، على سبيل المثال، أو إدراج مواد غريبة في صناعة الأدوات – تبدو وكأنها كانت نتيجة للتضخم في حجم السكان.

لقد كان يمكن للنمو في حجم السكان أن يؤثر في أسلافنا بطريقة أخـرى أيضا، وذلك بتسريع وتيرة التطور. وكما أكد <J. هوكس> [من جامعة ويسكونسن-ماديسون]، فإن وجود عدد أكبر من السكان يعني مزيدا من التحولات والفرص لوجود سلالات مدجّنة مفيدة تجتاح المجموعات السكانية مع تكرار توالد أفرادها. وقد يكون لهذا التوجه تأثير صارخ في البشر الحديثين أكثر من تأثيره في البشر بالعصر الحجري القديم الأعلى، وذلك بمضاعفة النمو السكاني الهائل الذي صاحب تدجين النباتات قبل نحو 000 10 سنة. وقد تطرق <G. كوكران> و<H. هاربندينگ> [وكلاهما من جامعة أوتا] في كتابهما بعنوان «انفجار العشرة آلاف سنة»، الذي نشر عام 2009، إلى وصف متغيرات الجينات المتعددة – من تلك التي تؤثر في لون الجلد إلى تلك التي تحدد مدى تقبل حليب البقر – التي نشأت وانتشرت بسرعة على مدار العشرة آلاف سنة الماضية، ويعود الفضل في ذلك إلى الأعداد المتزايدة للأفراد القادرين على التوالد.

من شبه المؤكد أن العلاقة بين بقيا البالغين ونشوء تقاليد ثقافية متطورة جديدة، بدءا من تلك التي ظهرت في العصر الحجري القديم الأعلى، كانت عملية إيجابية للتغذية الراجعة feedback. في أول الأمر صارت البقيا، باعتبارها أحد مخرجات شكل ما من أشكال التغير الثقافي، شرطا مسبقا لأشكال السلوك الفريدة والمعقدة التي تميز الحداثة modernity. وهذه الابتكارات بدورها عززت من أهمية البالغين الكبار وبقياهم، التي أدت إلى التوسعات السكانية التي كان لها مثل ذلك الأثر الثقافي العميق والآثار الجينية genetic في أسلافنا. فقد كانوا بحق أكبر سنا وأكثر حكمة.


المؤلفة

 

  Rachel Caspari

<كاسپاري> أستاذة الأنثروبولوجيا (علم الإنسان) في جامعة سنترال ميتشيگان، وتتمحور أبحاثها حول الإنسان النياندرتالي (البدائي)، وأصول البشر المعاصرين ونشوء طول العمر (البقيا).


 

 

مراجع للاستزادة

Older Age Becomes Common Late in Human Evolution. Rachel Caspari and Sang-Hee Lee in Proceedings of the National Academy of Science USA, Vol. 101, No. 30, pages 10895-10900; July 27, 2004

Is Human Longevity a Consequence of Cultural Change or Modern Human Biology? Rachel Caspari and Sang-Hee Lee in American Journal of Physical Anthropology, Vol. 129, pages 512-517; April 2006.

 


(*)THE EVOLUTION OF GRANDPARENTS

(**)Growing Older

(***)Culture Comes of Age

(****)RISE OF THE GRANDPARENTS
(*****)BIOLOGY OR CULTURE?


(1) erupt
(2) survivorship

(3) secondary dentin

(4) hunter-gatherers

(5) لوسي Lucy هو الاسم الشائع لعدة مئات من قطع العظام التي تمثل نحو %40 من الهيكل العظمي لفرد من قبيلة الأستريلبيتيسين، وقد اكتشفت هذه العينة عام 1974 في منطقة هادار بوادي عواش بأثيوبيا. ويقدر أن هذه الأحافير عاشت قبل نحو 3.2 مليون سنة. (التحرير)