مقدمة (قراءة في كتاب نحو نظرية للثقافة)
انطلاقا من رؤية تاريخية عالمية الآفاق يقدم الكتاب أطروحة حول الثقافة في التاريخ وثقافة التمركز الأوروبي والتمركز المعكوس، فلاتزال عملية تمفصل أبعاد الواقع الاجتماعي (السياسي والاقتصادي والثقافي) حسب الكاتب من الأمور التي تحكمها الأحكام التجريدية مثل القول إن البناء التحتي يحدد في آخر الأمر طابع المجتمع الاجمالي .وهذا لا يمنع من القول إن العلاقة بين البناءين التحتي والفوقي لا تناظر في النظم السابقة على الرأسمالية ماهي عليه في الرأسمالية .
يرى د. أمين أن جميع أشكال المجتمعات السابقة على الرأسمالية لا تعدو كونها أشكالا لنمط إنتاج وحيد هو نمط الإنتاج الخراجي (من ضمنها الإقطاع الاوروبي) وبناء عليه لا يضع قطيعة تفصل العصر القديم عن العصر الوسيط لأن القطيعة لم تزامن تغيرا أساسيا في الشرق المتحضر بعكس أوروبا التي انتقلت من الهمجية إلى الإقطاع، ويرى أن الفصل يعكس نظرة تعسفية أوروبية التمركز. كما أن هذه القطيعة لا تناسب تحولا جذريا في طابع نمط الإنتاج بل هي تخص مجال الفكر والتكوين الايدلوجي فبما أن النمط الخراجي يتسم بشفافية الاستغلال الأمر الذي أضفى طابعا مقدسا على الايدلوجيا وقد فرض الانتقال التدريجي إلى المجتمع الخراجي ربط هذه العناصر وإلغاء التناقض بينها وإدماجها في بنية ميتافيزيقية إجمالية متماسكة ثم استمر هذا النمط إلى عصرنا الحديث حيث فرضت العلاقات الاجتماعية الرأسمالية الجديدة انقلابا في المستوى المهيمن وحل الاقتصاد محل الايدلوجيا الميتافيزيقية.
السمات العامة لايدلوجيا العصر الوسيط(الخراجية):
يعد العصر الوسيط (الهيلينية والمسيحية والاسلام) عصر الانسانية العمومية فقد تم تجاوز الميثولوجيات المحلية وتبلورت مبادئ مثل أزلية النفس وربطها بمسؤولية الفرد أخلاقيا, إلا أن أهم سمة للعصر الوسيط هي هيمنة الميتافيزيقا(الفكر الغيبي) والميل إلى إقامة بنية عامة ترمي إلى تفسير جميع أوجه تركيب الكون ومثل هذه الدعوات تمثل ميلا دائما في الانسان لأنها ناتج الحيرة الإنسانية وإن كانت عاجزاعن حلها.
لقد فتحت الميتافيزيقا (الاسلامية والمسيحية)الباب واسعا لنقاشات لاهوتية لعل أبرزها التوفيق بين مسؤولية الفرد وقدرة الله اللامحدودة, ومع مجيء الاسلام خلقت حركة التعريب والأسلمة الظروف المناسبة لإنجاز تقدم ملموس فصارت وحدة اللغة والثقافة والدين هي القاعدة الموضوعية التي دفعت قوى الانتاج إلى الأمام، وفي خضم الثورة الثقافية تكونت المدرسية الاسلامية الوسيطة(المعتزلة وأهل الكلام)وحدث الازدهار الميتافيزيقي وبالرغم من أن خصوم هذه المدرسة لطالما طرحوا الحجة القوية وهي أن العقل لا يكفي وحده لكشف الحقيقة المطلقة إلا أن هذا لم يؤدي إلى التساؤل عن جدوى فعالية الميتافيزيقا نفسها. وفي إشارة مهمة يخالف الكاتب النظرة السائدة عند مفكرين عرب في تحليل النزاعات داخل الفلسفة الاسلامية على أنها تعبيرات عن تعارض بين نزعة مادية ونزعة مثالية الأمر الذي ينعكس فيه الصراع بين القوى التقدمية والقوى الاقطاعية الرجعية ويرى بأن لا أساس علمي لها ويفسر ازدهار الحضارة الإسلامية خلال قرونها الأولى ثم ركودها بأن ناتج لتحد خاص هو مقتضيات بناء خراجي على منطقة شاسعة وحينما بلغت عملية التعريب حدا لا رجوع فيه وصار المجتمع متجانسا توقف التحدي وانتهت الحوافز الدافعة للتقدم لذا يصعب إيجاد علاقة بين ازدهار الحضارة الاسلامية في عصرها الاول وبين بزوغ مزعوم لنشأة الرأسمالية فيها.