مجلة حكمة
نحن بحاجة إليك كيركجارد (في ذكرى ميلاده الـ ٢٠٠) - جوليان باجيني، ترجمة: سارة

نحن بحاجة إليك كيركجارد (في ذكرى ميلاده الـ ٢٠٠) – جوليان باجيني / ترجمة: سارة اللحيدان


 إنه عاصفة رعدية مثيرة في قلب الفلسفة، ولإثارته قيمة أكثر من أي وقت مضى

‎كنت قد وقعت في حب كيركجارد في سنوات مراهقتي، ومنذ ذلك اللحين بقي مصاحبا لرحلتي الفكرية، ليس بشكل حرفي وإنما حينًا يكون معي وحينًا يتربص بي‫.‬ ربما يكون ذلك عائد إلى عدم توائمه مع الآخرين ممن احتفظت بصحبتهم‫.‬ لقد درست في المدرسة الأنجلو‫-‬أمريكية للفلسفة التحليلية التقليدية، حيث ازدهر الأدب، وعُرضت المفارقات المقصودة للوجوديين العالميين بنوع من الشك والازدراء الصريح‫.‬ ففي باريس ربما تقدم رولان بارت بإعلان موت المؤلف، ولكن الفلاسفة في لندن كانوا يعيشون سنوات عابثة في الخفاء، وذلك حتى تكون نقاشاتهم حاضرة بنفسها عنهم.

‎مزعجة هي فكرة الفناء حينما تكتشف أن عظماء الطفولة هم في عداد القدماء الآن‫.‬ لكن بالنسبة لي ذكرى الخامس من مايو الذكرى الـ ٢٠٠ لميلاد سورين كيركجارد هي ذكرى لخلوده‫.‬ إنها لكلمة غريبة تستخدم لمفكر عاش يستشعر موته في داخله وهو لم يصل لميلاده الثالث والأربعين‫.‬ كان كيركجارد زعيم السخرية والمفارقة قبل أن يصبح وضيعا لفرط استخدامها‫.‬ كان وجوديا قبل قرن من ظهور جان بول سارتر، ومتدينا لما بعد الحداثة أكثر من كونه مابعد حداثي، وموحّدا بهجمات عميقة على الدين لأبعد مدى مقارنة بملحدي اليوم‫.‬ لا يصل سورين لمفكري اليوم، فهو لايعد مفكرا على شاكلتهم وإنما مفكرا سرمديا، من غدت أعماله وثيقة الصلة بكافة الأعمار ، ومع هذا لم يقدّر لها أن تتناغم مع أي فئة.

‎من اليسير جدا أن تلحظ سبب وقوعي في حبه‫،‬ فقبل ‫أن تفعل ‬سنوات من التدريب  الأكاديمي مفعولها من الجفاف، أغرم الشباب والشابات بالفلسفة والإنسانيات عبر انتشار أفكار مثيرة وآفاق أوسع للفهم‫.‬ هذه الحماسة على أي حال، غالبا ما يقابلها توبيخ من الفئة الناضجة‫.‬ أتذكر انغماسي في قسم الفلسفة الصغير لمكتبة مدرستي، وجدت فيها على سبيل المثال مقدمة عن كانط لستيفن كورنر ١٩٥٥‫.‬ ولم أفهم منه ابتداء ولا ختاما، لكن الغريب أن ذلك لم يثنيني عن الفلسفة، بل بقيت تلك الفكرة مغرية أكثر من ضآلة الحقيقة التي واجهتني.

‎لم يكن كيركجارد بمثابة واحة في تلك الصحراء، بل عاصفة رعدية تثير العواصف في قلبها‫.‬ إن اكتشافي له في سن السابعة عشر جعل الفلسفة والدين الإنساني والحماسة ليست بالقاحلة ولا بالجرداء‫، ذلك ‬لأنه كان شخصية معقدة بسيرة مضطربة‫.‬ حتى أن اسمه انبثق من ظلمة الرومانسية فـ ‫”‬سورين‫”‬ النسخة الدانماركية للاسم اللاتيني سيفيروس، والذي يعني ‫”‬شديد‫”‬ ‫، “جاد”، “صارم”، بينما “كيركجارد” تعني ساحة الكنيسة وارتباطها بالمقبرة‬ أمر معروف.

‎خبِر كيركجارد الحب الشديد وكان مخطوبا لريجينا أولسن التي يصفها في يومياته ‫”‬ ملكة السيادة على قلبي‫”.‬ مع هذا، وبعد أربع سنوات من الخطوبة، قام بفسخها عام ١٨٤١، والذي يظهر أنه لم يكن مؤمنا باستطاعته أن يوفي بالتزام الزواج كما يتطلب منه‫.‬ لقد أخذ الحب والفلسفة والإله على محمل الجد، لدرجة أنه لم يرى كيف سمح بدخول هذه الثلاثة جميعا في داخله‫.‬ كان رومانسيا ثائرا عاش سريعا وتوفي شابا على سلسة من الكلمات والأفكار أكثر من الجنس والخمر‫.‬ تدفقت الكتب من قلمه خلال الأربعينات ففي سنة ١٨٤٣ وحدها نشر ثلاثة كتب قيمة، ‫”‬إما‫/‬أو‫”‬، ‫”‬خوف ورعدة‫”‬، و‫”‬التكرار‫”.‬ حاز كيركجارد على الشرط الضروري لأي مثقف رومانسي عظيم ألا وهو الرفض من قبل الزمن والمجتمع.

‎كل ذلك على أي حال كان يختبئ داخل ظلال من الملنخوليا العميقة‫.‬ فقد توفي خمسة أخوة له من أصل سبعة، ثلاثة منهم خلال السنتين نفسها التي عانت والدته فيها حتى قضت نحبها‫.‬ هذه المآسي ملأت والده الصارم تدينا، فقد آمن بأنه عوقب على لعنه الآلهة في أرض جوتلاند ظنّا منه أنه لم يبالِ بقسوة الحياة وشقائها في مزارع الخراف الصغيرة‫.‬ عندما أخبر والد سورين عن هذه الحادثة، بدا أن الولد تبنّى اللعنة جنبا إلى جنب مع خطايا والده الشاب‫.‬ مع هذا، وإلى جانب هذه الملنخوليا المؤذية، كان سورين ساخرا بطرافة‫، و‬ناقدا لاذعا في الدنمارك ذلك الوقت، وقد دفع ثمن ذلك عندما احتوت مجلة الكورسير ورقة ساخرة ضمت هجوم عدد من الشخصيات عليه، والسخرية من طريقة مشيته ‫(‬كان يعاني من انحناء عموده الفقري‫)‬ فيصدر صوت فرقعة أثناء مشيه‫.‬

‎حصل كيركجارد على وضع يلائمه كشخصية مثقف رومانسي مرفوض من المجتمع‫.‬ وقد ذهب كاتب سيرته والتر لوري إلى أبعد من ذلك ليلمح أنه كان مسؤولا لوحده عن تراجع شعبية سورين‫.‬ كانت هناك سخرية تلقى عليه وهي أن الآباء الدنماركيين كانوا يقولون لأطفالهم ‫”‬لاتكن سورين‫”.‬ وفي يومنا هذا، لايزال سورينسن‫-‬ابن سورين‫-‬ ثامن اسم شعبي في الدنمارك، بينما اسم سورين الذي كان الاسم الأول لايقع حتى في قائمة الخمسين‫.‬ ومثلما أن بريطانيا مليئة بأكثر من جونسون، لكن لا وجود إلا لجون. كل ذلك كان أكثر من كاف لأرسم صورة فارغة وكبيرة عنه في سن السابعة عشر‫.‬ ففي معركة العواطف الفكرية كيف يمكن ‫لـ (اللغة، الحقيقة والمنطق‬١٩٣٦‫) أ.ج لير‬، أو ‫(‬ الكلمة والهدف ١٩٦٠‫)‬ لويلارد فان أورمان كوين أن تتنافس مع ‫(‬المرض سبيل للموت ١٨٤٩‫)‬ أو ‫(‬ مراحل على طريق الحياة ١٨٤٥‫)‬ لكيركجارد، مايهمنا على أي حال، هو لماذا استمرت معي هذه المسألة حتى مع كوني ‫(‬ كما آمل‫)‬ ملحدا وأقل تأثرا.

‎إذا كان كيركجارد معيارك الخاص، فسوف تحكم على أي فلسفة لا على أساس مدى قوة حجتها، بل على قدرتها على تلبية حاجات البشر الأساسية ومحاولتهم لجعل هذا العالم منطقيا‫.‬ تفخر الفلسفة بكونها تحديا لكل الافتراضات ولكن، غريب بما يكفي أنها تناست في القرن العشرين أن تسأل لماذا سألت ذلك السؤال الذي سألته‫، ف‬قد ورثت المشاكل من الأجيال السابقة وعوملت كألغاز يلزم حلها‫.‬ كان كيركجارد بمثابة لقاح ضد هذه المدرسية الفارغة كما وضعها في يومياته عام ١٨٣٥‫:‬

 

مالغرض من كشف مايسمى بالحقيقة الموضوعية، والعمل على كافة الأنظمة الفلسفية وامتلاكك القدرة على مراجعتها جميعا وعرض التناقضات لكل نظام إن تطلب الأمر‫..‬ مالفائدة من ذلك إذا كانت الحقيقة تقف أمامي، عارية وباردة، لاتهتم ما إذا لاحظتها أم لا، فلا تمدّني بقشعريرة خوف، ناهيك عن ثقة متفانية؟

‎عندما بهرت على سبيل المثال بالمشكلة الفلسفية للهوية الشخصية، استأت أيضا من عدم رغبة أو قدرة عديد من الكتاب على تجسيد موضوع يبين سبب اهتمامنا بالمشكلة‫.‬ فبدلا من أن تكون مشكلة وجودية، تكون في الغالب منطقية أو ميتافيزيقية، بتمرين تقني يحدد الشروط الضرورية للتعرف على شخص واحد من موضوع واحد ولكن من وجهة نظر مختلفتين زمنيا.

‎حتى عندما عملت على شهادة الدكتوراة في موضوع يتعلق بتقليد تحليلي أنجلو‫-‬أمريكي، كنت قد تسللت لكيركجارد من الباب الخلفي‫.‬ بالنسبة لي، عرّف سورين المشكلة بشكل أوضح من أي شخص آخر‫.‬ فهو يقول بأن البشر مقيدون بين نموذجين أو ‫”‬ميدانين‫”‬ للوجود‫.‬ النموذج ‫”‬الجمالي‫”‬ هو عالم فوري لما هو هنا والآن‫، أما‬ النموذج ‫”‬الأخلاقي‫”‬ فهو المتعالي، وهو العالم الأبدي‫.‬ ولايمكننا العيش في هذين العالمين، ولايمكننا إشباع حاجاتنا كلها بما أن ‫”‬ الذات مكونة من اللانهائية و المحدودية‫”‬ و ربما تكون هذه طريقة قطعية للقول بأننا وجدنا عبر الزمن، في الماضي والمستقبل، لكننا أيضا محاصرون في فخ اللحظة الحاضرة.

‎ربما تكون الحدود ‫”‬الأخلاقية‫”‬ واضحة جدا عند العقل الحديث‫.‬ إن الحياة الأبدية مجرد وهم ، فكلنا بشر فانون، مجرد مخلوقات من لحم ودم‫.‬ وإن إيماننا بأننا عائدون هناك يعني أن نعيش منكرين للحيوانية التي نملكها‫.‬ لذلك قام العالم بتبني المزيد من ‫”‬الجمالية‫”‬، لكن هذا فشل في إرضائنا أيضا‫.‬ فإذا كانت اللحظة هي كل مالدينا، فكل مابوسعنا فعله هو السعي للحظات ممتعة، لحظات تتلاشى بمجرد ظهورها لتتركنا في فراغ وطمع من تجاربنا العابرة الماضية‫.‬ إن العالم المادي يقدم فرصا لاحصر لها للإشباع الفوري دون إرضاء تام، لذا أصبحت الحياة سلسلة من الانحرافات‫.‬ ولاعجب أن هناك توقا روحيا في الغرب‫، فالناس يحنّون للأخلاق لكنهم لايستطيعون رؤية ما وراء الجمالية‬.

‎في أحد الأقوال المأثورة، قبض كيركجارد على معنى الضياع والعالم الذي علينا اختياره، بقوله‫:‬ ‫”‬اليأس اللامحدود هو افتقار للمحدودية، واليأس المحدود هو افتقار للامحدودية‫”.  هنا عرّف سورين ما أخذته على أنه مركز حيرة الوجود الإنساني، أعني كيف تحيا بطريقة تمضي فيها عدالة الجمالية والطبيعة الأخلاقية لكلا الطرفين.‬

‎‫ لقد أظهر كيركجارد أن أخذ الدين على محمل جدي ‬يتفق مع كونه ضد الدين تقريبا في كل أشكاله، وكان حلّه لهذه المفارقة أن تنغمس في رأيه تماما‫.‬ لقد اعتقد أن شخصية المسيح‫-‬ رجل إله، محدود كليا ولانهائي كليا في الوقت عينه‫-‬ وهو السبيل الوحيد لعقلنة الوضع البشري‫، ليس لأن هذه الشخصية تشرح مفارقة الحياة المركزية، بل لأنها تجسدها. ولتصبح مسيحيا فالأمر يتطلب “نقلة إيمانية” من دون خيط نجاة سببي أو دلالي‬.

‎أعظم توضيحات كيركجارد لذلك، كانت روايته لقصة إبراهيم وإسحاق في ‫(‬خوف ورعدة‫).‬ كان إبراهيم غالبا مايؤخذ كنموذج للإيمان لأنه وثق بالله حق الثقة، لدرجة أنه أعدّ ابنه الوحيد للتضحية به استجابة لله‫.‬ هنا يجعلنا كيركجارد ندرك أن إبراهيم قد فعلها إيمانا ليس لأنه استجاب لأمر صعب، بل لأنه رفع السكين على ابنه تحديا للمنطق والأخلاق‫، فليس هناك‬ من رجل عقلاني كان سيقوم بما قام به إبراهيم‫.‬ وإذا كان ذلك امتحانا، فمن المؤكد إذن أن طريقة تجاوزه بأن تظهر لله أنك لن تقتل متعمدا، حتى ولو كان في ذلك مخاطرة بإغضاب الله‫.‬ ولو أنك سمعت صوت الله يأمرك بأن تقتل، فالأحرى أن ذلك سيكون أكثر منطقية من أن يُحكم عليك بالجنون أو خداع الشياطين لك حينما يكون فقط اتباعا لأمر الله‫.‬ لذلك ترك إبراهيم في نقلته الإيمانية المنطق والأخلاق بعيدا.

‎مُلهمة تلك النسخة الإيمانية الحديثة التي ظهرت في تلك المقارنة‫.‬ فلربما يهذي المدافعون عن الدين اليوم بكلام عن قوة الإيمان وحدود المنطق، ومع هذا هم أول من يعترض عندما يُنظر للإيمان والمنطق بأنهما على خلاف‫.‬ بعيدا عن رؤية الدين كنوع جريء من الثقة، يُرى المدافعون عن الدين الآن بأنهم أقرب لرؤية الإلحاد كأمر يتطلب إيمانا مثل الدين‫.‬ وقد رأى سورين بوضوح أن هذا النوع من الإيمان ليس امتلاء معرفيا يقرّب الفجوات التي خلّفها المنطق، بل قفزة جنون عبر هوّة خالية من المنطق تماما.

‎لم يكن سبب ذلك أن كيركجارد كان مذنبا بلاعقلانيته الفوضوية أو ذاتيته السببية‫، بل لأنه كان صارما بشدة بتطبيقه للمنطق الذي كان قادرا على دفعه لحدوده. فقد ذهب لأبعد من المنطق حينما كان المنطق عاجزا عن التقدم، تاركا المنطق خلفه، فقط عندما رفض المنطق أن يمضي أماما‬.

‎كل ذلك كان ثقيلا على نفسي كمراهق فقد معتقده الديني‫.‬ أظهر كيركجارد أن البديل الوحيد الجدي للإلحاد أو اللا أدرية لم يكن مما يمرر عامة للدين، بل هو التزام عميق ترك المعايير العادية للدليل والإثبات خلفه تماما‫.‬ ربما لهذا كان أكثر المعجبين بكيركجارد هذا اليوم من الملحدين‫.‬ كان مسيحيا ورغم ذلك احتقر ‫”‬المسيحية‫”‬ فلكي تكون مسيحيا يعني أن تخاطر بحياة مخلوق على عبثية المسيح القائمة، وتلتزم بمعيار أخلاقي لايمكن أن يصل إليه أي إنسان‫.‬ إن هذا ثابت، وبطريقة ما، هو جهد عبثي لأن تكون دائما مالم تكنه أبدا‫.‬ لايمكن أن يكون هناك أمر أكثر اختلافا من النظرة التقليدية لما يعني أن تكون مسيحيا‫:‬ فأنت تولد وتعمّد لهذا الدين، وتذهب بإخلاص إلى الكنيسة لتشارك أسرارك‫.‬ إن المسيحية المؤسساتية إيمان تعبيري، فقد قضى المسيح الكثير من الوقت ينتقد رجال الدين في عهده ولم يبني قط هياكل بديلة‫.‬ يُرينا كيركجارد أن أخذ الدين بجدية يتوافق مع كونك ضده تقريبا في كافة الأشكال، وهذا مايجب على ملحدي ومؤمني اليوم أن يلحظوه.

‎من دون شك كان من الممكن أن يكون كيركجارد مسليا ومفزعا على حد سواء فيما يخص نقاشه عن الدين اليوم‫.‬ كان سيرى كيف أن كلا الجانبين يتحركان بشكل جماهيري، يتمسكون برأي تشكل بشكل جماعي دون رغبة في الخروج على الإجماع المحلي‫.‬ لقد دافع العديد من المسيحيين عما يحدث من تمرير للمسيحية في الثقافة ذلك الزمن‫، في الوقت الذي كان يجب أن يكونوا مشككين بأن كنائسهم هي من يمثّل التعاليم لمؤسسيها. وكان العديد من الملحدين مذنبين بالتفافهم حول الطوطم مثل تشارلز داروين بمنهجه العلمي، كما لو كانت تلك هي الأركان التي تقوم عليها النظرة العلمانية بدلا من كونها مجرد مركز اهتمام حالي‬.

‎إن آراء كيركجارد عن الدين ليست هي السبيل الوحيد التي ينتقد فيها ‫”‬عصرنا الحاضر‫”‬ بشكل غريب بالنسبة لنا‫، وربما كان الأمر ذاته لقراء المستقبل. ‬كتب عام ١٨٤٦‫” إن جوهر عصرنا هو مابين فهم وتأمل دون عاطفة، ينفجر لحظة وسط حماسة تتوقف بخبث وسط ارتياحنا”، إن العاطفة بهذا المعنى هي بمثابة استحضار ‬ل‫ذات‬ المرء‫ بأكملها و ما يفعله ‬متضمنا ذلك المنطق‫.‬ أما الشيء الأكثر شيوعا لهذا اليوم هو الذات التعاطفية، حيث يصبح كل شيء عن مشاعرك أو قصة شخصية‫، وربما موضوعية منفصلة تكون فيها الدوافع والمصالح للباحثين غير ذي صلة. أصر كيركجارد على المضي خلف خيار تلك الموضوعية/الذاتية، ليلحظ أن العمل الفكري النزيه يتطلب محاولة صادقة لرؤية الأشياء كما هي وإدراك أصيل للكيفية التي تتشكل بها طبيعة المرء ومعتقداته وتحيزاته داخل تصوراته الحياتية‬.

‎تطورت هذه الرؤية بشكل أكبر عما كانت عليه أعماله تحت اسم مستعار، فهناك العديد من كتب كيركجارد المهمة لاتحمل اسمه، ‫(‬ ختام ملحق غير علمي‫ ١٨٤٦) كانت تحت اسم يوهانس كليماكوس، أما (خوف ورعدة ١٨٤٣) فقد كتبت تحت اسم يوهانس سيلينيتو، ‬و‫(التكرار ١٨٤٣) تحت اسم ‬قسطنطين قسطنطينوس، بينما ‫(‬ إما‫/‬ أو ١٨٤٣‫)‬ فقد حررت تحت اسم فيكتور إرميتا‫، و‬هذه ليست مجرد أشياء عارضة لهزلية مابعد الحداثة‫.‬ إن مافهمه كيركجارد بوضوح هو أنه ليس هناك نظرة موضوعية ‫”‬محايدة‫”‬ يمكن من خلالها الحكم على طرق العيش البديلة وفهم العالم، بدلا من ذلك أنت بحاجة للدخول في الفلسفة لترى الحسنات والحدود بصورة حقيقية‫.‬ فعلى سبيل المثال، لمعرفة لماذا لاتكون ‫”‬جمالية‫”‬ الحياة اليومية قادرة على إرضائنا، تحتاج لترى كيف يعيش الآخرين حياة غير رضيّة‫.‬ لذلك كتب كيركجارد من وجهة نظر أناس عاشوا اللحظة ليرينا كيف تركهم ذلك العيش في فراغ، وبالمثل إذا أردت فهم  استحالة العيش في طائرة أبدية في حياة إنسانية محدودة‫، انظر للحياة من وجهة نظر امرىء يحاول أن يعيش حياة أخلاقية‬.

‎جعل هذا النهج من قراءة كتب كيركجارد متعة حقيقية بأدبها وفلسفتها‫.‬ والأهم من ذلك، مكّنه أسلوب الاسم المستعار من تحقيق توليفة رائعة من الموضوعية والذاتية‫.‬ نحن نرى الأشياء من وجهة نظر موضوعية، ولأنها على هذا النحو حقيقة، تتحقق فيها شكل من الموضوعية‫.‬ هذا درس بأن عصرنا الحاضر يحتاج لأن يتعلم من جديد‫.‬ إن وجهة النظر الموضوعية الكاملة ليست هي المجردة من الذاتية، بل هي التي تجسد مزيدا من الرؤى الذاتية مادامت هناك علاقة وحاجة.

‎يقدم ذلك أيضا صلة بين الخيال والعقلانية‫.‬ وهو سبب منفصل لايمكن أن يدخل في وجهات نظر الآخرين غير المكتملة موضوعيا، لأنها لايمكن أن تصل لكافة مناطق العالم الحقيقي للتجربة الإنسانية‫.‬ لقد علمني كيركجارد أهمية حضور المنطق الداخلي للمواقف، وليس فقط صمودها أمام التدقيق الخارجي.

‎ربما يكون ذلك أكثر حيوية اليوم من عصر كيركجارد‫.‬ ففي عالم تعددي، ليس هناك أمل من فهم الناس الذين يعيشون وفق قيم مختلفة، لو أننا فقط حكمنا عليهم من الخارج، فنتخيل أنها رؤية موضوعية لكنها في الحقيقة مملوء بذاتيتنا الخاصة‫.‬ لذا، يحتاج الملحدون أن يعرفوا مايعنيه أن تكون متدينا، وليس ببساطة عبر الخوض في نقاشات ضد وجود الله والتي لايكون لها حجر أساس عقدي على أي حال‫.‬ ليس هناك من أحد يمكن أن يأمل بفهم انبثاق الأمم مثل الصين والهند والبرازيل، إلا إذا حاول رؤية كيف يبدو العالم من داخل تلك البلاد.

‎لكن ربما تكون رسالة كيركجارد الأكثر استفزازا أن فهم العالم والعمل على النفس يتطلب وجودك الكامل ولايمكن أن يكون مجرد اقتطاع من سعي أكاديمي‫.‬ لقد كان لعمله وحياته عمق أخلاقي حقيقي، إلى جانب فيض من المرح، والسخرية‫، الأمر الذي‬ يبدو مفقودا في عصرنا هذا، حيث يبدو أننا خائفون من أن نأخذ أنفسنا على محمل جدي‫.‬ بالنسبة لكيركجارد، كانت السخرية هي الأداة التي من خلالها نستطيع أن ندخل في فحص ذاتي دون غطرسة وتكبر ‫”‬ فالشك للعلم، مثل السخرية للحياة الشخصية‫”.‬ إن السخرية اليوم هي أسلوب جاد لتجنب الفحص الذاتي والإيمان بأن المرء أرقى من هذه الأمور، ليس إلا شكلا من أشكال التعالي المتخفي بثياب التواضع‫.‬ ولربما يلحظ أن معظم الشباب القلقين هم الأكثر انجذابا للشاب كيركجارد، لكننا نحن الشباب المعنيون ممن هم بحاجة لنسخة عمرها مئتي سنة أكثر مما مضى.

المصدر