مجلة حكمة
من نهاية التاريخ إلى المنعرج الحيوي، مكانة التاريخ الطبيعي في استكشاف كينونة الإنسان - محمد عبدالنور

من نهاية التاريخ إلى المنعرج الحيوي، مكانة التاريخ الطبيعي في استكشاف كينونة الإنسان – محمد عبدالنور


شهدت البشرية انتقالات نوعية عبر تاريخها المديد، إلا أن الإنسانية الراهنة لا تزال في أغلبها حبيسة التاريخين الديني والعلمي، والتاريخان قصيران بما لا يقاس إلى التاريخ الطبيعي الذي يمتد إلى الماضي السحيق بما يفوق خيال الكثير من الناس، ذلك أن التاريخ الطبيعي هو من  المسكوتات التي لم ينطق بها البشر إلا قليلا، إما ذهولا أو إعراضا أو كليهما معا، أو بقيت في الغالب حبيسة المحيط الأكاديمي المغلق على نفسه لمدة لم تكن بالقصيرة، بما لم يفسح المجال لانغراسها في العمق الانتروبولوجي للمعتقد والمخيال الشعبي للبشر.

وطبيعي أن عدم استيعاب الإنسان لامتدادات التاريخ الطبيعي أو تصوره بطريقة غير صحيحة سيجعل تصوره للمستقبل قاصرا، وبلغة رياضية إن تصور أن بداية الكون قريبة سيجعل تصور قرب نهايته أمرا حتميا، لذلك لم تكن أطاريح نهاية التاريخ إلا امتدادا للقصور المتقدّم عن إدراك التاريخ الطبيعي، ورغم أن الفكر الحديث نقل فكرة النهاية عن الفكر الديني وأعطى لها بعدا دنيويا، إلا أنه لم يخرج بها عن منطق استلاب الإنسان ضمن مرحلة محدودة جدا من تاريخه.

وكان ذلك مدخلا إلى الذهول عن مسار تطوره من حالة الكائن غير العاقل إلى الكائن العاقل، فضلا عن إمكان تحصيل تصور ولو غامض عن بدايات ظهور الحياة العضوية، ومن رغم أن الفروض القائمة عن بداية الكون الفيزيائي معروفة و معلومة فإنها لم تساعد المنظور الطبيعي على الانتشار الأفقي في الثقافات ولا الانغراس العمودي في الوعي.

و المعلوم أن العلوم الإنسانية قادرة على تحقيق التركيب ومجبولة على البحث عن الكلي الجامع المانع بين الأشياء بفضل طبيعتها القائمة على الشك والسؤال، فذهن الفيلسوف الحقيقي لن يرتاح إلا عندما يجد تركيبا مقنعا عن علاقة الانفجار العظيم حيث لا حياة وبين التنوع الطبيعي الهائل الذي نعيشه اليوم في اللحظة الكونية الراهنة، فضلا عن أن يسأل عن متى وكيف ظهر هذا الكائن العاقل.

هذا الذهول عن وصل الفيزيائي بالحيوي كان نقطة فارقة في تحقيق التعويق النظري والعملي عن إحداث الصلة بين عوالم بدت في مرحلة ما مستقلة عن بعضها ولا رابط بينها، والتي اتضح اليوم أنها تحتوي بعضها البعض بشكل متدرّج وأن الفارق بينها ليس إلا في الدرجة، فالقوانين الفيزيائية لا تنخرم في الحياة العضوية إنما تعرف تحولا نوعيا فحسب، وكذلك قوانين الاجتماع هي ليست معدومة عند الحيوان، إنما تعرف تحولا نوعيا عند الإنسان؛ هكذا فإن فكرة نهاية التاريخ لها ارتباط عضوي بقصور الإنسان عن إدراك التاريخ الطبيعي للوجود عموما.

القصور عن إدراك التاريخ الطبيعي جعل من الانتروبولوجيا علما استعماريا خالصا قام على فكرة التفاضل الأصلي بين الشعوب، تلك التي صاغتها الفلسفة الحديثة في جدلية السيد والعبد، وإن لم نكن هنا بصدد إلغاء التراتب الذي هو حقيقة أصيلة في الوجود بما فيها التراتب بين البشر أنفسهم، فالتسيد حقيقة انتخابية شبه مطردة، لكن الإشكال في أن الجدلية قامت في الانتروبولوجيا على السيادة الوراثية سواء الوراثة الثقافية أو الوراثة البيولوجية، بينما الأطروحة البديلة قامت على المعطى البيئي، حيث التفاضل ناشيءأساسا من معطيات البيئة الطبيعية المحيطة بكل تفاصيلها بما فيها تراكمات التاريخ نفسه ثقافة وسياسة.

فالتاريخ الطبيعي هو جملة العوامل المحرّكة للإنسان سواء كانت باطنة كالوراثة أو محيطة به كالبيئة، لذا وجب الوقوف هنا من أجل تمييز أساسي متعلق بدلالة المعطى الوراثي، ذلك أن الوراثة حاضرة في الحالين، الأولى حال التمييز الاعتباطي بين الأنواع (مثل الإنسان والحيوان) وحال التمييز داخل النوع (مثل التمييز العرقي والديني والطبقي)، والحال الثانية الفهم السببي المتدرج للعلاقة بين عالمي الإنسان والحيوان، ففي الأولى تحضر الوراثة كمحدِّد نهائي وغير متحرك انطلاقا من سوء فهم صريح للتطور، وهو ما تملثه السبنسرية الاجتماعية -التي سمّيت خطأ بالداروينية الاجتماعية-، وهو ما تجلى سياسيا في حركات التطرف القومي التي ظهرت في أنحاء العالم أو ما يعرف بالتمركز الإثني لمجتمع أو حضارة ما.

أما في الحال الثانية فإن الكلام عن الوراثة لا يتعدّى أن يكون إدخالا للعنصر البيولوجي كعامل رئيس في الفهم السببي للسلوك الاجتماعي، دون إغفال العنصر البيئي الذي يجعل من الوراثة الحتمية عنصر نسبي ذو علاقة جدلية مع المحيط الطبيعي، فالبيئة هنا عامل حاسم في ترويض العامل الوراثي، أعني أن البيئة بمعناها الشامل هي الحاضن الذي يأذن بإظهار الموروثات الجينية أو إخفائها، ما يجعل السلوك الإنساني حقيقة غير واعية تنطلق من غرائزية لا تخرج عن نطاق حب البقاء، إخلاف النسل، التكيف والسعي للتسيّد.

ويمكن إيجاز فكرة نهاية التاريخ من المنظور الانتروبولوجي في وهم اعتبار الإنسان الحديث نفسه الشوط الأخير والأعلى في سلم التقدّم، انطلاقا من اعتبار الشعوب البدائية مادة للغزو واستعمار أرضها وانتهاء إلى اعتبارها شاهدا أداتيا على أصل الحياة الإنسانية قبل تحوّلها إلى التعقّد والتطور، أي باعتبارها شعوبا مسخرة في خدمة الأسياد أو أداة لاستكشاف الحياة كما كانت منذ البداية، إلا أن الأمر تحوّل بعد “المنعرج الحيوي” إلى وضع جديد من شقين: الأول قام على فكرة التقدّم متاح لكل الشعوب، والثاني قام على فكرة المساواة بين كل الشعوب.

بذلك جاءت فكرة التقدّم حلا للتفاوت التاريخي بين المجتمعات، استنادا أن مسارات التقدّم ليست واحدة لاختلاف الظروف التاريخية والطبيعية، أما فكرة المساواة فانطلقت من اختبارات الذكاء التي أبانت عن أن ذكاء البدائيين أحسن من إنسان المجتمع الحديث، ما يعني أن الاختلاف ليس وراثيا بالمعنى السبنسري.

والذهول عن التاريخ الطبيعي أفضى إلى التركيز على السلوك الواعي، أو ما سمي في الأدبيات الفلسفية والاجتماعية بالفعل القصدي، أي أن الأهداف التي يتوخاها الفاعل من جملة سلوكاته اليومية تنتهي به إلى أهداف خطّها بنفسه، وذلك ما شكل جوهر مفهوم العقلانية كتخطيط واع ومسبق لنتائج تتحقق بشكل شبه حتمي، إلا أن العقلانية انزاحت في أحد تجلياتها إلى أن لا تكون إلا تعبيرا قصديا عن الغريزة الكامنة في الإنسان واكتشاف المنطق الداخلي للموجودات، وهو ما سينسحب أيضا على بقية الموجودات التي تحمل منطقها الداخلي، أو قل عقلها الذي به تسلك مع العالم في إطار ما يسمى بـ”السلوك الحيوي” للكائنات العضوية.

فمهما كانت الصلة بين التخطيط والأهداف وثيقة باعتبارها خلاصة الفعل العقلاني للإنسان إلا أن الاختيارات الواعية ذاتها محكومة بظروط تغيب عن إدراكه، بمعنى عدم قدرته على إحصاء المعطيات الموجهة لسلوكه إلى حيث لم يتوقع أو يرغب فيما يسمى بالنتائج غير المقصودة للأفعال، وما يعرف في الاقتصاد السياسي الكلاسيكي بـ”اليد الخفية”، وبذلك يبقى الفعل الإنساني وعلى وعيه العالي خاضعا للمجهول الذي يحرّكه والذي يمتد إلى أصول وراثية عميقة، تسعى اليوم البيولوجيا السلوكية لبيان أبعاده.

أخيرا فإن انفتاح الوعي الابستمولوجي الإنساني على التاريخ الطبيعي ذلل كثيرا سبيل الخروج من حالة الانسداد التي أدى إليها فكر النهايات، ذلك أن حصر الوعي العقلاني والاتصال اللغوي والعلاماتي عند الإنسان أغلق منافذ الوعي على تصور حدوث الأثر البراغماتي بين الإنسان وبقية الكائنات، الحيوان أولا والنبات في مرتبة ثانية، وانتباه الوعي الإنساني إلى ذلك شكل ما أُسميه بـ”المنعرج الحيوي الذي سيمكّن مناستبصار ممكنات مستقبلية جديدة تعد بآفاق فكرية ومعرفية واعدة.

فواضح إذن أن المنعرج الحيوي كان النتيجة الأساسية التي حصلت بفضل التنبه إلى حقيقة التاريخ الطبيعي، حيث شكّل الحدث مراجعة جذرية لأطروحة العقد الاجتماعي التي كان يعتقد أنها نتاج لاحق للوعي البشري، إلا أن الاستقصاء في السيمياءالعضوية أكّد أن الاجتماع يمتد في التاريخ الطبيعي إلى الحياة الحيوانية التي لا تعدم الخصائص الاجتماعية من قبيل الإيثار والتعاون بل وحتى النظام والأخلاق، وبهذا يكون العقد الاجتماعي حالة طبيعية تمتد إلى ما قبل مرحلة ظهور الإنسان في الوجود.

تأكّد الإنسان إذن وبفضل المنعرج الحيوي أن الفارق بين عالمه وعوالم الوجود الأخرىليس إلا في التدرج، بما يجعل من تعميم هذا الإدراك على فهم الفوارق بين الشعوب أَولى، وهو ما حصل بالقوة وسيحصل بالفعل، وإن لم تظهر بوادره الواضحة بعد، وأن ذلك سيكون خطوة أولى للتخلص من سيطرة هاجس النهايات، حيث سيصبح الكدح المعرفي والفعلي دائرا حول حقيقتين: أن مبدأ الوعي كامن خارج الإنسان في الوجود، وأن مبدأ الاجتماع كامن أيضا خارج المملكة الإنسانية.

ومن ثم كان حريا به أن يعيد الاتصال بعوالم أخرى لمزيد استكشاف لأصالته الوجودية بعد أن كان يبحث عنها إما مثاليا في أركان العقل التأملي وإما عند الشعوب في نائي جزر البدائيين، ما سيجعل من دراسة الاجتماع الحيواني انتروبولوجيا تأصيلية ومنطقاتأسيسيا للعلوم الاجتماعية.

وعن ذلك أيضا سيدخل التفاعل بين الإنسان والحيوان ضمن منطق تحليل السلوك الاجتماعي، ذلك أن عوالم محدثة ستنشأ لتكشف عن حالة تطورية غير مسبوقة، إنها حميمية التفاعل بين الإنسان والحيوان، وهو ما سيشكل زحزحة لمعتقد التكوين الأصلي للنفس الإنسانية.

أخيرا فإن الإشكال سيطرح حول الحدود التي سيكون تفاعل الإنسان بالحيوان ضمنها مفيدا في استعادة إنسانية الإنسان بما هو فجر لطموح إنساني جديد؟ ذلك ما ستكون الإجابة عنه مفصلية في إعادة بناء نموذج تصوري للإنسان عن نفسه يحقق كينونة الإنسان الحقة، وسيؤدي التاريخ الطبيعي دور الأداة الرائدة في البحث عن إنسانية الإنسان التي شاخت بفعل الذهول عنه!