مجلة حكمة
ايتيقا الحياة علم الأخلاق

من ايتيقا الحياة الجيدة إلى أخلاق الإلزام – عمر بوجليدة


استهلال:

لم يشرع “ريكور” في معالجة المشكلة الأخلاقية بوصلها بالمجال العملي – في كامل سعته – إلا بعد دروس “لوفان” عن دلاليات الفعل (1972).هاهنا يظهر أن الأولوية المنعقدة لمفهوم الفعلl’action كانت تجد تسويغا إضافيا في الارتباط المترسخ يسيرا يسيرا بالفلسفة الأخلاقية والسياسية. فتدخلاته في فترات الستينات والسبعينات – مقال المفارقة السياسية paradoxe politique عرض عن فلسفة “اريك فايل” E.Weil السياسية – ظلت محكومة بالطابع العرضي على صعيد الفلسفة الأخلاقية والسياسية.

في التقاطع بين الأخلاق والسياسة:

ولأجل أن يتجنب “ريكور” أي مقاربة وعظية لمشكلة الأخلاق والسياسة وتجنب الحكم المسبق بحق التصدّر بينهما يؤكد أنه ليس يمكن مقاربتهما إلا بمصطلحات التقاطع بدلا من التبعية، وعندئذ نستبين بؤرتين غير متطابقتين، وكل منهما تطرح مشكلة أصيلة وتخلق حيزا مشتركا نتيجة لتقاطعهما، وإن كل ذلك لمما يوضح أن اهتمام “ريكور” إنما ينصّ على التقاطع بين دوائر ثلاث : اقتصادية، سياسية وأخلاقية. فمن البين أنه ينتظر من المقارنة بين الاقتصادي والأخلاقي وسيلة لتخصيص السياسي حتى يتمكن من وضعه في مواجهة أفضل مع الأخلاقي. وسنوضح التفاعل بين الأخلاق والسياسة مشددين على الجانب العملي وتطوره خصوصا علاقة الفعل وامتداداته الأخلاقية والسياسية. أرى حقا علينا أن نشير الآن إلى أنّ ريكور يميّز بين الأخلاق وأخلاق الواجب. الأولى أتتنا من “أرسطو” وهي تتعلق بكل ما هو جيد وحسن وخيّر ويجعل الحياة طيبة. أما الثانية فتتعلق بكل ما نعتبره كعمل إجباري فيه إلزام وإكراه ويقوم على معيار صلاحيته الكلية القابلة للتعميم وقد جاءنا مباشرة من”كانط” (Kant) زمن الأمر المطلق عنده.

إن الأولوية في هذا الميدان تظل للأخلاق أي لهذه الأمنية الأساسية التي تستهدف غاية معينة أي أنها غائية منطلقة من الرغبة: فلنسم : استهدافا أخلاقيا، استهداف الحياة الخيرة الجيدة مع الآخر ومن أجله في مؤسسات عادلة. فالحياة الحسنة الجيدة للذات تنطلق من القدرة على تحديد أهداف معينة واختيار الوسائل الكفيلة للوصول إليها.

وتنطلق مثل هذه الحياة من قدرتنا على العمل عن قصد وفكرة التقدير لذاتنا التي تتحكم في خياراتنا. إن تقديرنا لما نفعله ورضانا عنه هو المعيار للعمل الخيّر والجيّد لهذه الحياة التي نريدها. يتضح لنا في ضوء ما تقدم أن الذات لا تعيش وحدها بل تكتشف سريعا البنية الثنائية الحوارية للعيش : إنها تكتشف الآخر L’Autre، وهذا يتطلب ليس فقط اهتمامي بالآخر بل العناية به ورعايته، تقديرا للذات، ينعكس احتراما للآخر. نحن هنا في العناية أمام علاقة بين الأنا وأنت أي ضمن مواجهة مباشرة تحكمها المساواة كما في الصداقة L’amitié. غير أن هناك من ليس لي احتكاك به مباشر، الذي هو أي إنسان : العلاقة هنا تحكمها فكرة العدالة. فماذا يعني القيام بالعدالة ؟

يستفاد من هذه الخاصية أن رغبة العيش الجّيد لا تتوقف على العلاقات الشخصية بل تتخطى ذلك للمطالبة بمساواة غير تلك القائمة بين صديقين، أي العدالة التي تعني أن يحصل كل واحد في جماعة معينة على الإنصاف أي على نصيبه الذي يستحقه. هكذا يتبرّر لنا تبررا مضاعفا الحوار المتجدد الذي يقيمه “ريكور” مع “أرسطو” وخاصة كتابه “الأخلاق إلى نيقوماخوس” في كل تحليله لهذه الرغبة في الحياة الجيدة الطيبة vie bonne، ولكي نرى مدى صلاحية مثل هذا الهدف لابد من مواجهة مع أخلاق الواجب الكانطية.

إن هذا يتطلب أمكانية تعميم المبدأ الذي يتحكم في تصرفاتنا أي عقلنته عن طريق وضع معيار له. وإنه لذو دلالة أن يصبح استهداف الحياة الجيّدة عقلا عمليا ووجه الدلالة هنا أنه لا يقول لنا ما يجب عمله ولكنه يحدد المعيار الذي يجب أن يخضع له تصرفنا، وهذا المعيار هو إمكانية جعله عاما كليا أي صالحا لكل الناس، ذلك أن الصيغة الأولى ظلت صورية شكلية أما الأخرى والمتمثلة في الإنسان كغاية في حدّ ذاتها تضيف شيئا مهما إلى فكرة احترام الآخر والعناية به كما كان الحال في الأخلاق.

فما تريد أخلاق الواجب أن تشدّد عليه هنا هو قضية العنف، هذا العنف المتأتي أصلا من إرادة الاستغلال : فلماذا لا نحبذ القيام بما هو خير تجاه الآخرين ؟ ولم لا نجد متعة في إكبار كرامة المضطهدين في التاريخ ؟

يبدو أن ما كان في الأخلاق اهتمام وعناية قائمة على احترام الآخر، يصبح هنا مع أخلاق الواجب، هذا الواجب الأخلاقي الذي يقينا من السقوط في عنف الاستغلال أو التهديد بالعنف واللجوء إليه. لقد شكلت واقعة النزاع، واقعة العنف انزياحا glissement خطيرا : فقد أجبرتنا على المرور من ايتيقا الحياة الجيدة إلى أخلاق الإلزام والمنع وهو ما يمكن تسميته مأساوية الفعل. ولنفهم من مأساوية الفعل أن الأمر يتعلق بنزاعات الواجبات كما تعرفها التراجيديا اليونانية، في هذا الصدد يمثلان التزامات متضادة تولد صراعا يستحيل تسكينه، فالمأساوي يستبعد كل تسوية نظرا لتشبث كل واحد من الأتباع بواجب مطلق ومقدس. ويمكن الخلوص إلى القول بأن تمني العيش في كنف مؤسسات عادلة إنما يتعلق بنفس المستوى من السلوك الأخلاقي، مثله مثل الرغبة في تحقيق الذات ومثل التبادل في الصداقة إذن فالسؤال الأخلاقي الأول ما عاد : ماذا عليّ أن أفعل ؟ بل، كيف يمكنني أن أحيا حياتي ؟ كيف تعمر هذا الأفق المفتوح مشاريع حياة وآمال في السعادة ؟

في فكرة العدالة قاعدة أخلاقية والعدالة المؤسسة:

إنه من اللافت للنظر أن المحور الرئيس في العادل يمر عبر العلاقة بين فكرة العدالة من حيث هي قاعدة أخلاقية والعدالة بما هي مؤسسة. فـ”ريكور” يناقش مطولا نظرية العدالة عند الأمريكي “راولز” Rawls ويتوقف عند إشكالية رفع الظلم عن الناس وإرادة الإنصاف القائمة على النظريات التعاقدية. ذلك أن “راولز” يقدم الجواب الأكثر اتساقا الذي تمّ اقتراحه في الحقبة المعاصرة : كيف نمرّ من المبدأ الأول للأخلاقية إلى العقد الاجتماعي الذي تتخلى بموجبه مجموعة من الأفراد عن حريتها الخارجية لتسترجعها كأعضاء في الجمهورية ؟ غير أن كل هذه النظريات تفترض مسبقا أن لا تفعل مع الآخرين ما لا تريد الآخرين أن أن يفعلوه معك، وقد برزت عند “كانط”: “افعل كما لو كان على قاعدة فعلك أن ترتفع عن طريق إرادتك إلى قانون كلي للطبيعة”. غير أن أخلاق الواجب تصطدم بواقع حيرة الإنسان، ذلك أن الوضع البشري هو في عمقه الأخير وضع مأساوي، إن الاعتراف بالذات ثمنه هذا التعلم الشاق المكتسب خلال رحلة طويلة عبر هذه الصراعات الدائمة ذات الطابع الكوني.

هذا التعلم الغريب الذي تتلقاه الأخلاق من المأساوي (=تراجيديا أنتيغوني/ سوفوكليس) (Sophocle/Antigone) يقود “ريكور” للعودة إلى “أرسطو”، ففي الظروف المأساوية يبقى المرشد لاستهداف الحياة الجيدة ما دعاه “أرسطو” الفطنة/تدبر/تعقل (Prudence-Phronesis) أو الحكمة العملية المتصلة بالتجربة والتبصر، ومن هنا كانت أسبقية أخلاق الرغبة في العيش الجيّد. إن الحكمة العملية تتطلب على صعيد العيش معا ما يسميه “ريكور” المحاججة الأخلاقية القائمة على فتح جدل تناقش فيه أمور الشأن العام كالحكومة الجيدة والديمقراطية. ففي دراسة له تحت عنوان “من الأخلاق إلى الاتيقا وإلى الاتيقيات” يرسم الدائرة الأكثر اتساعا لاستكشافه، وهو يعني الطريقة التي يهيكل بها اليوم مجمل الإشكالية الأخلاقية : فما وجه صحة القول بأننا مسؤولين عن أفعالنا، وأننا بهذه الصفة نكون القائمين بها ومدعوين لذلك إلى جبر الأضرار الناجمة عنها وتحمل العقوبة ؟ ما وجه الصواب في اعتبار الإنسان ذاته كائنا قديرا ؟

إن مسألة الأصل القانوني: من هو صاحب الحق ؟ لا تتميز في آخر التحليل عن مسألة الأصل الأخلاقي : من هو الجدير بالتقدير والاحترام ؟ وإن مسألة الأصل الأخلاقي لتحيل بدورها على مسألة أخرى ذات طبيعة أنثربولوجية. ما هي السمات الأساسية التي تجعل الذات قادرة على التقدير والاحترام ؟

إنه مسعى ارتدادي يقود من الحق إلى الأخلاق ومن الأخلاق إلى الأنثربولوجيا ومن التركيز كبداية على نوعية السؤال : من ؟ وفعلا يفحص صور السؤال من ؟ هذا الطريق يقودنا إلى أن نهتم بالتوسطات بين الأشخاص والمؤسسات التي تؤمن انتقال الفرد من راشد إلى صاحب حق كامل (= لعلاقته الحميمة بمفهوم الهوية الشخصية أو الجماعية) بقوة القانون يكون بمقدوره التعبير عن ذاته على المستوى الأخلاقي والقانوني والسياسي. يتمثل الرهان المشترك للجدل في معرفة ما إذا كان من الممكن أن نصوغ على الصعيد الإيتيقي Ethique والقانوني Juridique والسياسي Politique والاجتماعيSociale مبادئ كلية مشروعة بصرف النظر عن اختلاف الأشخاص والمجتمعات والثقافات القادرة على تطبيقها ودون حصر متعلق بظروف التطبيق الخاصة ولا سيما بجدة الحالات التي ظهرت في العصر الحديث.

فالوضع المأساوي الآخر، يتمثل في تعقد العلاقات الاجتماعية الذي يضاعف الأوضاع التي تدخل فيها القاعدة الأخلاقية أو الحقوقية في صراع مع العناية بالأشخاص. ففي صياغة الأمر الكانطي الثاني نلاحظ كيف يحاط احترام الأشخاص باحترام الإنسانية، إلا أن الأمر لا يتعلق بالإنسانية بمعنى عموم الناس وإنما بالخاصية المميزة لإنسانية يفترض فيها أن تكون مشتركة بين كل الثقافات التاريخية. إلا أن الممارسة الطبية مثل الممارسة الحقوقية لا تفتأ تضع الحكم الأخلاقي في مواجهة أوضاع لا يمكن فيها إرضاء المعيار والشخص في نفس الآن. ففي القضايا المستعصية التي تطرحها حالات بداية ونهاية الحياة على الإيتيقا الطبية ،توجد أسباب وجيهة لتأكيد أن كل حياة جديرة بالحماية منذ بداية الحمل. وإذا تجاوزنا عتبة الاحترام المطلق للحياة والذي تطالب به الفطنة القانون، فإن الاختيار يكون هاهنا بين السيئ والأسوأ. فلا أحد يجهل الوضعيات الحرجة التي تدفع إلى تفضيل حياة الأم على حياة الجنين، وحينئذ نكون إزاء قضية للنقاش العمومي وللحجاج الذي يضع في اعتباره خصوصية الحالات. إلا أنه يمكن الإشارة كذلك إلى الحالات. التي لا يكون فيها الاختيار بين الخير والشر وإنما بين الرمادي والرمادي، والمثال في ذلك : هل يجب أن نخضع إلى نفس القوانين الجزائية مراهقين جانحين وراشدين يفترض فيهم إن يكونوا أكثر مسؤولية ؟ أي سن يجب تعيينها للانتقال إلى الرشد القانوني أو إلى الرشد السياسي ؟

وليس هذا معناه أن ايتيقا الحكمة لا تعرف غير أوضاع مأساوية بل ما يعنيه أن مبادئ تبرير قاعدة أخلاقية أو قانونية يترك قضايا التطبيق على حالها، فمفهوم التطبيق هو الذي يجب النظر فيه للموازاة بينه وبين التصديق، فمفهوم التطبيق يأتي من حقل غير حقل الأخلاق أو القانون وإنما يأتي من مجال تأويل النصوص وبخاصة النصوص الأدبية أو الدينية. ففي مجال التفسير التوراتي وفقه اللغة الكلاسيكي تشكلت فكرة تأويل من حيث هي مختلفة عن فكرتيّ الفهم والشرح ومنذ نهاية القرن الثامن عشر وخاصة مع “شلا يرماخر”، ومع “ديلتاي” لاحقا بلغت التأويلية أقصى مداها. لقد كانت تقترح قواعد تأويل صالحة لكل أنواع النصوص المفردة، وهكذا لم يكن مجهولا أن تطبيق المدوّنات القانونية كان يتطلب صياغة ضرب من الهيرمينوطيقا هي الهيرمينوطيقا الحقوقية.

هكذا يتبين لنا أن “ريكور” إنما يحاول أن يوضّح أن التاريخ تشكّله تجارب وانتظارات الناس الذين فعلوا وتألموا ومن ثمة يستخلص أنّ التوتر القائم بين أفق الانتظار وفضاء التجربة يجب أن يحافظ عليه. فمن جهة لا بد من مقاومة إغراء الانتظارات اليوتوبية الصرف، فليس بإمكانها سوى تيئيس الفعل، ذلك أنها لعجزها عن الرسوّ في التجربة الجارية لا تستطيع توضيح طريق صالح، على الانتظارات أن تكون محددة أي نهائية ومتواضعة نسبيا. والحرص كانطي مرة أخرى على أن يكون كل انتظار أملا بالنسبة للإنسانية، فالإنسانية ليست جنسا إلا لكونها تاريخا.

خاتمة:

صحيح ” أننا غير واثقين من قدرتنا اليوم على تحديد مهمة مجتمع مدني societé civille يدير الحق بصفة كونية. لكن علينا أن نقاوم تقليص فضاء التجربة، وذلك بمناهضة نزوع النظر إلى الماضي بأنه الكامل، المتعذر تغييره، علينا أن نعيد فتح الماضي وأن ننعش فيه احتمالات لم تكتمل: منعت أو دمرت.