مجلة حكمة
العروبي

مناقشة هادئة لـ “الطرح العروبي” الجديد في السعودية: أزمة هوية وطنية أم أزمة خطاب؟ – أحمد العوفي


لا يمكن للمراقب للشرائح الفاعلة في ساحة التبادل الثقافي في السعودية أن يخطئ ملاحظة مُدخل جديد في الحوارات الدائرة. هذا المُدخل يتمثل في مجموعة من الكتاب السعوديين الشباب ومن المهتمين بالشأن العام الذين يميزون أنفسهم كـ”عروبيين” ويقدمون خطاباً قومياً تبشيراً لا يتوقف على لافتات أيديولوجية بل يعمل بوضوح كأفكار موجهه لمواقفهم من القضايا العامة محلياً والأحداث الهامة اقليميا. ومهما كان حجم هذه الظاهرة محدودا وأيا كان مدى تأثيرها إلا أنها سجلت حضورا مستفزا استدعى ردودا وجدلا سواء في صورة سجالات مكتوبة أو حوارات في مواقع التواصل الالكتروني تأخذ عادة طابع الحدة.

المناقشة التي أقدمها هنا ليست “دحضاً” لوجود لهوية عربية كما أنها لا تنطلق من نزع البعد الهوياتي من الظاهرة السياسية. ما تعنى به هذه السطور هو تأكيد عدم ارتهان الحديث عن الهوية العربية والابعاد الثقافية للظاهرة السياسية بالصياغات والاسئلة المغلوطة التي يقدمها بعض المعبرين عن هذا الطرح العروبي محلياً. سيتضح ذلك من خلال تتبع الخلل في هذا الخطاب سواء ذلك الذي ينبع من قراءات الاختزالية للواقع أو من أحكام معيارية مرتبكة في نقاط أساسية أستتبعها باستعراض تصور يتخلص من الإشكاليات التي يختلقها بعض متبني هذا الخطاب.

رؤية “العروبيين”

على الرغم من تنوع آراء المنتسبين لهذا الخطاب في بعض القضايا وعدم الوضوح الذي يلف تعاملهم مع قضايا أخرى (كالموقف من الدولة الوطنية) إلا أنه بالإمكان إيجاز أبرز الأفكار التي تدافع عنها المجموعة بحماسة في النقاط التالية (هنا أتناول بشكل محدد الكتابات القومية الشابة محلياً كما يقدمونها بغض النظر عن امتداداتها في الفكر العروبي في المحيط الأوسع):

أولاً: ينطلق تبرير العروبيين للانتماء العربي كهوية سياسية من محاولة تفادي التصورات القومية الكلاسيكية التي تعطي قيمة جوهرانية للرابطة القومية. أي أنهم يشددون على أنه ينبغي علينا أن نكون “أمة عربية” ليس إحياء لأمة وجدت دائماً في التاريخ ولا لأن شيئا ما في اللغة يحتم علينا ذلك بل لأن رابطة سياسية تكونت خلال المائة وخمسين سنة الماضية تتغذى بالتاريخ والذاكرة المشتركة تجعل “العرب” يدركون أنفسهم كجماعة من البشر تتمايز عن غيرها الأمر الذي يدفعهم للتضامن ولإدراك مصير مشترك لوجودهم كـ”جماعة سياسية”. وهنا يستعينون بأطروحة بنديكت أندرسون التحليلية فيما يدعوه بـ “الجماعة المتخيلة”. أي أن التبرير للعروبة كهوية سياسية لديهم يستند (أو يُفترض أن يكون كذلك) على معطيات أو مؤشرات من الواقع والتاريخ الحديث.

ثانياً: يؤكد بعض متصدري الخطاب بشكل متكرر على أن التبرير للعروبة يجب أن لا يخضع لخيارات المصلحة فليس بالإمكان تحديد المصلحة قبل تحديد الجماعة التي تُبتغى المصلحة لها. فعلى حد تعبير أحدهم “الجماعة السياسية دائمة والمصلحة متغيرة”، وأن على الفرد العربي “التزام سياسي” اتجاه لهذه الجماعة السياسية.

ثالثاً: الدولة بالضرورة منحازة لهوية معينة إذ أنها في أبسط خصائصها تميز بين مواطنيها وبين غير المواطنين في الحقوق والواجبات علاوة على أنها تكرس عناصر ثقافية معنية تعكس تاريخ ورموز “الأمة” التي تعبر عنها.

رابعاً: “نحن” العرب نعاني من أزمة في الهوية تتصدر – بل وتسبب لدى البعض- في مشاكلنا السياسية. وليس ضرورياً أن تأخذ الهوية السياسية العربية شكل الوحدة الشاملة في دولة من المحيط إلى الخليج. إذ يمكن أن تبقى الدول دون هوية خاصة بحيث تظل دولة كالمغرب مثلاً تحكم “الشعب العربي” في منطقة جغرافية تسمى المغرب.

خامساً: “الإسلام دين وليس هوية سياسية” والرابطة الإسلامية تخلق هوية مفتتة سياسياً سرعان ما تتحول إلى هويات طائفية.

وهنا لن أقوم بصياغة هذه المناقشة الأطروحات على طريقة “تفنيد الحجج” بل سأتناولها بالنقاش في ثنايا النقاط التالية التي تمثل إشكاليات عريضة يعاني منها الخطاب:

1- التعامل القَلِق مع الدولة والهوية الوطنية (“القطرية”):

ليس غربياً أن يكون موقف القومي العربي الكلاسيكي محسوماً تجاه الدولة “القطرية صنيعة الاستعمار”، أن يعاديها ويحملها كل آثام التاريخ وتبعات التخلف فحسبها جرماً أنها ” تفتت الأمة العربية الخالدة”. سيكون في عداءه هذا في أتم الاتساق مع خطابه وتبريراته لوجود هذه الأمة كحقيقة ثابتة خارج تغيرات التاريخ. إلا أن هذه الدولة “القطرية” وهويتها ستسبب إرباكاً حقيقياً للعروبيين المعنيين بالمناقشة هنا؛ إذ أن الهوية “القطرية” لا تمثل عائقاً للمشروع سياسياً فحسب بل إن حقيقة وجود هذه الدولة وهويتها يهدد تماسك خطابهم فكرياً. إن مجاراة المقولات السوسيولوجية في مجال القومية دون ادراك مآلاتها يدخلهم في مأزقين من التناقض والانتقائية تتمثل في:
1. محاولات الرفض الملتوية للهوية القطرية. ففي ذات الوقت الذي ُيلحق فيه العداء للظاهرة “القطرية” سيراد لها أن تستمر كمؤسسات مفرغة من الهوية (مقولات مثل: دولة قطرية بدون هوية قطرية). وهو الأمر الذي يتضارب مع تأكيدهم المستمر على استحالة وجود دولة دون هوية ودون تمييز في جدالاتهم مع الطرح السياسي الليبرالي.
1. و المأزق الآخر والأهم يتجلى في التبرير”التخيلي ” الانتقائي للهوية العربية كهوية سياسية وحيدة. فحين يقول العروبيون أن القومية العربية هي الأمة (بأل التعريف) لأنها حاضرة في المخيلة الجمعية ما الذي يمنع الهوية القطرية -إذا حضرت في المخيلة- من تكتسب ذات الشرعية وأن تكون أساساً لأمة؟

أجد من المفيد أن نبدأ تتبع خيوط الخلل هنا انطلاقا من معطياتٍ استعان بها أحد المتحمسين لهذا الخطاب. إذ في دعمه لفكرة استمرار الهوية العربية رغم هزيمة “الأيديولوجيا القومية” وظّف هذا الكاتب مسح ميداني رعاه كرسي السادات للسلام بجامعة ميرلاند الأمريكية وركز في مجادلته على الأرقام التي تخدم حجته فيها أهمل أرقام تلك التي لا تصب في صالحها. فبالعودة إلى البيانات التي يقدمها مسح 2008 ربما سيهمّ البعض معرفة أن نسبة من اختار الهوية العربية كهوية أساسية (الأكثر أهمية) تحل ثالثا (20%) بعد الانتماءات الوطنية (39%) والهوية الاسلامية (%36). أي أن عدد المبحوثين الذين اعتبروا انتمائهم الوطني يسبق الانتماءات الأخرى أكبر من عدد الذين قدموا انتماءهم العربي الأمر الذي يظل مستمرا في مسوح عامي 2009 و2010 وكذلك في مسوح محكمة اخرى أجريت على دول عربية. ولا يمكننا اذا اخترنا الاستعانة ببيانات هذا المسح أن نتجاهل سؤال أوثق صلة بموضوع النقاش لم يورده الكاتب حيث سُئل المبحوثون عن “مصلحة من ينبغي على حكوماتهم أن تقدم عند اتخاذ قرار ما”. فجاءت نسبة من اختار مصلحة دولهم (38% 50% 31%) على التوالي خلال الثلاث سنوات بينما (29% 22% 23%) قدموا مصلحة العرب. من بين كل هذه المعطيات التي يقدمها المسح كانت الطريقة الوحيدة الذي يظهر فيها نسبة من يعطوا الهوية العربية أولية أعلى هي دمج نسب السؤال الذي يسأل عن الهوية الأكثر أهمية والسؤال الذي يسأل عن ثاني هوية من حيث الأهمية، كما أن المسح الوحيد الذي يظهر هذه النسبة المركبة للخيار الهوية العربية مساويا لخيار الهوية الاسلامية هو مسح 2008 والذي أورده المقال رغم توافر مسحيين أحدث تظهر فيهما نسبة الأولى أقل.

وعلى أية حال سواء كان اختيار هذا الرقم من بين كل الأرقام المتوفرة في البيانات تجميلا للحجة أم أن للكاتب مبرراته فإن القيم المتقاربة هذه تعطينا دلالتين مهمتين:
الأولى: أن الهوية العربية ما زات حاضرة -كما يؤكد العروبيون محقين- .
الثانية: أن موضوع الهوية أعقد من التسطح الذي يدفع بـ العروبة في اجابات مبسطة كهوية سياسية قومية وحيدة يتوجب على العربي الاختيار بينها وبين هوية “قطرية” “مفتعلة” يقوم الأفراد بخلقها في عبارات توحي أن هناك ما هو أصيل وما هو مصطنع ما هو أصل وما هو استثناء وأن مواطن الدولة عربي حتى يقوم “بإعادة تعريف نفسه” كأن ثمة خيار سياسي بين أن يكون عربيا أو “قطريا” يفرض عليه.

في الحقيقة إذا كان التبرير للعروبة مبني على “التخيل” (وفق مفهوم بندكت اندرسون)، فإن هذه الأرقام ان كانت تشي بشيء في هذا الصدد فهو أننا لسنا ازاء أمة عربية متخيلة فقط بل هناك أيضا قوميات “قطرية” مصرية مغربية تونسية..الخ تتمظهر في ذات الزخم. فليس بوسعنا ان قبلنا بالأرقام كمؤشر لتأييد حضور الانتماء العربي ألا نرى روابط أخرى تُمثَّل هي الأخرى بقيم مقاربة (ان لم تكن أعلى). إنه واقع مركب لكنه كذلك ليس لأن ثمة جدلا حول الشكل السياسي الأنسب الذي يعبر عن “القومية العربية” بل لأننا شهدنا ونشهد نشوء نزعات قومية متعددة ومتوازية.

لكن لماذا التركيز على الحديث عن الهوية كما هي في الواقع بينما العروبيون يناقشون اشكالية مختلفة: اشكالية معيارية؟ أي لماذا الحديث عما هو “كائن” بينما الدعوة إلى العروبة مسكونة بـ”ما ينبغي أن يكون”؟ بالفعل لن يكون للنقد هنا أي أهمية تذكر إذا كانت الأطروحة العروبية هذه تنطلق من تبريرات ما فوق تاريخية، أي تلك التي تفترض جوهر ثابت ميتافيزيقي أو عرقي يتجاوز الزمن ويجعل من الأمة حقيقة في حد ذاتها. إن تجاوز الخطاب القومي لهذا التصور القومي الكلاسيكي للأمة هو ما يطرح التساؤلات؛ إذ يقدم العروبيون “الأمة العربية” كمعطى تاريخي ظهر عبر تطورات سياسية واجتماعية معينة مكتسبةً ديمومتها من استمرار الشعور بها وادراك وجودها من قبل الداخلين في تعريفها أو أولئك المتميزين عنها. بناء على هذه المقدمات، ينتقل الحوار من التبشير الرومانسي بأمة خالدة ذات تاريخ مأسطر إلى محاولة التأكيد على وجود هذه الأمة من خلال حضورها في المخيلة الجمعية من عدمه، أي بالإحالة الى واقع فعلي. فاذا كانت فكرة القومية العربية تستمد مشروعيتها من كونها حاضرة في المخيلة فما الذي يبرر اعتبار الانتماء السياسي “القطري” والذي سجل ذات الحضور في تلك المخيلة “مفتعلا”؟ ما الذي يجعل الأولى “أمة” دون الثانية إذا كان شرط وصفها بالأمة ألا وهو الجماعة المتخيلة متحقق في الحالتين؟ إذا اتفقنا أن الأولى صناعة تاريخية ما الذي يجعل سمة الصناعة في الثانية سلبيا ومنفرا؟ الطريق الأسهل التنصل من هذا الاشكال هو الاستخفاف بالهويات الوطنية والذي تمارسه -الى هذا الحد أو ذاك- الأطروحات العروبية بشكل مستمر. وهو في الحقيقية يعبر عن قراءة رغبوية تخفق ادراك الواقع والتعاطي معه.

لقد كان واضحا للجميع أن الثورات العربية ثورات وطنية بامتياز اذ لم يخرج التونسيون خصوما لـ”الدولة صنيعة الاستعمار” انما خرجوا لـ”أجل” هذه الدولة مع استحضار رموز وطنية مكثفة .. خرجوا لتونس عربية؟ لتونس اسلامية؟ ربما، لكن الأكيد في جميع الحالات أنها تونس. يمكننا لذهاب إلى أبعد من ذلك بالقول أنه حتى في الدول المفككة بنيوياً ظل التلبس بالخطاب الوطني معياراً طاغياً يصعب تجاوزه؛ بمعنى أنه برغم إهتراء البنية يظل التشبث به ولو مراوغةً مهماً لكسب المعركة السياسية. ففي سوريا يتمسك كلا طرفي النزاع بتمثيله ودفاعه عن “سوريا” و”السوريين” وكذلك يتوسل السياسي الطائفي بالحديث عن مصلحة لبنان الوطن أو العراق الواحد ليدافع عن أجندته. ما الذي يدفع هذا السياسي لأن يسوق مشاريعه ومطالبه بلغة وطنية سوى أن هذه اللغة تكسبه قبولا وفاعلية سياسية؛ أي أن هناك شرائح مستهدفة ورأي عام يرى قيمة معيارية في اللغة الوطنية تدفع السياسي لاستثمار هذه القيمة لمصالحه ومصالح كتلته.

ليس غريباً أن نشهد ظهور خطاب الاحتراب الهوياتي في دول منهارة تطحنها الحرب، ما يثير العجب فعلاً -إذا استبطنا مقدمات العروبيين- هو أنه في ظرفٍ كهذا تظل الكتلة الأكبر التي تقاتل النظام تتحدث باسم سوريا في حين تهمش وتلفظ ولو جزئياً على الأقل التنظيمات التي ذات الطموحات العابرة للحدود كالدولة الإسلامية في العراق والشام. إذا كان الأمر كما يصور البعض أن هذه الحدود باقية فقط لبقاء الأنظمة التسلطية فإننا نتوقع انهيارها مع تضعضع هذه الأنظمة ونتوقع ألا نرى معارضة تتحدث برابطة وطنية، وهما الأمران اللذان لم يحدثا. الانهيار المؤسف الذي نشهده في دول الهلال الخصيب إن دل على شيء فإنه يدل على أن التعريف الوطني مازال ذا معنى أساسي بالرغم من تداخل التضامن العربي والإسلامي والولاءات الطائفية معه على شكل دعم أو مشاركة فعلية على الأرض.

وإذا كنا هنا نوضح كيف أن أضعف الأمثلة مع النظرة المتفحصة تعطي مؤشرات لوجود الرابطة الوطنية فإن النماذج الأكثر رسوخاً تقدم دلائل تجعل التقليل من وزنها مجرد تمنّي أكثر من أي شيء آخر. ففي مصر على سبيل المثال يمكن تتبع ظهور رابطة وطنية مصرية في حقبة تاريخية تسبق أو تزامن بوادر ظهور دعوات قومية عربية في نهايات القرن التاسع عشر الميلادي. الأمر ذاته يتكرر في المغرب التي يمكن تتبع جذور تشكل الهوية الوطنية فيها منذ مطلع القرن الماضي. أو حتى عند الحديث عن حركات التحرر كحالة الجزائر مثلا التي وإن كانت لا تنفصل عن سياق التضامن العربي والإسلامي فإنه لا يمكن إغفال البعد الوطني فيها والذي يتم دائما التعامي عنه والتركيز فقط على حالة التضامن العابرة للحدود.

إضافةً إلى الدوافع الأيديولوجية المفهومة، يمكن اعادة هذا التعامي والخلل السائد في تصور الدولة “القطرية” إلى قصور في مفهوم القومية ذاته. إذ كثيرا ما يتم اختزال القومية في تمظهراتها الصاخبة وفي الأحداث الساخنة التي ترتبط بها. لذلك وضمن اتجاه نقدي حديث في دراسات الاثنية والقومية، يلفت باحثان بارزان أمثال روجر بروبيكر ومايكل بيلينغ الانتباه إلى الجزء الأصلب من القومية ألا وهو “المنسي” الذي تحول إلى مقولات وممارسات لا تلفت انتباها. إن هذا البعد العميق من القومية ليس “الراية التي يلوح بها في حماسة واتقاد لكنه العلم المعلق على مبنى حكومي من غير أن يلحظه أحد” كما يعبر بيليغ برمزية. هذا البعد الذي لا يرافقه شعور عارم ولا يبرره وعي فلسفي يكمن كخطاب في الخلفية يوجه سلوكنا السياسي. نأخذ على سبيل المثال لا الحصر الطريقة التي يتعامل بها السعوديون مع مشكلات العمل والبطالة -حيث تطل علينا القومية (الوطنية) بوجهها القبيح – فأيا ما كان الطرح متسامحا ومنافحنا عن العمال إلا أنه يخضع لتصنيفات “السعودي” في مقابل “الأجنبي” ويرتبط بمصلحة السعودي العاطل عن العمل. أي أن “السعودي” المتفاعل مع الموضوع وإن لم يكن متضررا سيفكر أولاً في معاناة السعودي العاطل الذي لا يعرفه ربما بشكل مباشر إنما يرتبط به كعضو في الجماعة المتخيلة. إن طغيان التمييز الهوياتي الوطني يطال أثره حتى أولئك الذين ينحازون إلى العامل “الأجنبي” فلكي يدافع عن حقوق هذا العامل عليه أن يمرر حجته عبر هذا المعيار الطاغي فيسعى جاهدا لإثبات أن الاهتمام بالآخرين “الأجانب” لا يضر “بالسعودي” العاطل عن العمل.

فشل في فهم الدولة الأمة “Nation-state”؟

كما سبق أن ذكرت، ثاني نقاط الارتباك في تعامل “العروبيين” مع الدولة الوطنية هو الرفض للهوية “القطرية” مع الإبقاء على الدولة جغرافياً. وفي الحقيقة هذا الإشكال يمكن مناقشته في سياق اضطراب نظري أعم في تصور دولة الأمة يسود الخطاب. وسأحاول اختصار هذه الإشكالات في الأربعة نقاط التالية:

أ- الهوية “الوطنية” المفرّغة

كبديل واقعي -أو مرحلي لدى البعض ربما- للوحدة العربية الشاملة تحت ظل دولة واحدة يردد بعض العروبيون فكرة مفادها أنه يمكن القبول والعمل من خلال الدولة “القطرية” على شريطة أن تظل هذه الدولة وحدة إدارة جغرافية تمثل “الشعب العربي” في الإقليم الخاضع لها. والفرد في هذه الوحدات ينتمي إلى أمة واحدة وهي الأمة العربية بالإضافة إلى الانتماء “اللاهوياتي” الذي سماه أحدهم بـ”الانتماء للدولة القطرية” ، أو يتم في هذا السياق هنا أحياناً استخدام تعبير “هوية وطنية” لتطابق الهوية العربية وتفرغ من أي عنصر تمييز.

مثل هذا الطرح لا يعدو أن يكون تلاعباً لغوياً للهروب من مأزق نظري. ما الذي يعنيه أن “أنتمي” دون هوية؟ الانتماء في حد ذاته فعل تمييز، فعل هووي يحدد الـ”نحن” التي أنتمي إليها. انتمائي للمجموعة “س” بالضرورة يميزني عمن لا ينتمي إليها وإن كنا نتشارك الانتماء إلى “ص”. وهذا يعني أنه بمجرد حصول هذا الانتماء سياسياً فإنه سيعبر بالضرورة عن هوية سياسية.

وبناء على ذلك، هل من الممكن أن “أنتمي لدولة” دون أن تكون لهذه الدولة هوية ما تميزها عن جاراتها (خصوصاً تلك التي تشاركها الرابطة العربية -دائرة “ص”ـ)؟ الإجابة ببساطة: لا. وسنجد تأييد هذه الإجابة على السؤال في أطروحات العروبيين أنفسهم في نقاشاتهم مع الطرح الليبرالي الفرداني حيث يتم التأكيد على استحالة حيادية الدولة؛ إذ أن الدولة تحمل في أصل وجودها دعوى معيارية لتمثيل أمة ما. أبسط وأهم تمظهرات هذه الدعوى هو الفصل بين المواطن وغير المواطن في الحقوق والواجبات. فلماذا يعطى المصري حق التصويت في انتخاب المؤسسات السياسية أو أن تتوجب عليه الخدمة في الجيش الوطني؟ لأنه ينتمي للجماعة التي تدعي الدولة تمثيلها وتسمى: مصر. وليس للأردني الذي يشاركه رابطة اللغة والدين أن يترشح للبرلمان المصري أو يصوت للمترشحين له. هذا تفريق هوياتي بامتياز لابد وأن يترافق مع مخيلة جمعية تجمع المصريين كمواطنين لهم حق في الأرض و لهم على الدولة التي تمثلهم حقوق سياسية. أي أن هويتهم الوطنية بالضرورة ستنطلق من كونهم مصريين لا عرب فحسب.

ما الذي يُدخل الخطاب العروبي في هذه التناقضات عند الحديث عن الدولة وهويتها؟ أتصور أنه امتداد للموقف المرتبك من الهوية الوطنية واجترار رواية تاريخية تربطها بالاستعمار وتصوير تشكل الهوية الوطنية -غير تلك المفرّغة التي يتحدثون عنها- كخصم حتمي لوجود الهوية العربية.

يمكن للهوية الوطنية أن تتضمن في تكوينها بعداً عربياً وإسلامياً من المهم تدعيمه والحفاظ عليه لمبررات عديدة أولها الارتباط الجمعي الحاضر بقضايا تاريخية مشتركة كالقضية الفلسطينية وليس آخرها آفاق التعاون في المجالات الاقتصادية والعسكرية التي تحفزها مثل هذه الروابط. لكن هذا القول يختلف عن الطرح الذي يتحدث بخجل عن هوية وطنية ما يلبث أن يحولها إلى محض جغرافيا أو مرادف لفظي للقومية العربية. إنه بالإمكان تدعيم هذه الأبعاد والمشتركات تماماً كما تمكنت القوى المحافظة عبر تاريخ تركيا الحديث من تدعيم البعد الإسلامي في الهوية التركية (في رواية “غير رسمية” ضاغطة على المؤسسات) تبدّى في مراحل عديدة. ولعل من حسن الحظ أن الهويات الوطنية في المنطقة العربية لا تحتاج لهذا التدافع من أجل خلق هذه الروابط إذ أنها قائمة وحيوية ويدعمها مؤسسياً فضاء إعلامي وثقافي موحد.

ب- “النظام” ليس هو “الدولة”

تتردد في بعض نقاشات العروبيين فكرة أن تعزيز الهوية الوطنية “القطرية” ليس إلا دعماً ومباركةً للاستبداد. هذه الفكرة تقوم على استبطان الخلط السائد -بالرغم من بساطة التمييز- بين “الأنظمة” Regimes و”الدول” States: بين الدولة باعتبارها اطار رمزي من اسم وشعب وجغرافيا واعتراف وبين النظام السياسي (أفراد، قوانين، مؤسسات معينة) الذي يحكم في اطارها. وفي حين أن النظام السياسي يدّعي دائماً ملأ ذلك الإطار إلا أن هناك فاعلين آخرين ينافسونه على تلك المساحة دون رفض الإطار كليةً. الأنظمة السياسية كثيراً ما تتغير إلا أن الإطار يعكس ثباتاً نسبياً وإن أخذ مضاميناً مختلفة. فعلى سبيل المثال مر على الفرنسيين خمس جمهوريات لكنها ظلت فرنسا (بكثير من الجغرافيا) وتعاقب على مصر استعمار ملكية وانقلاب عسكري وجمهورية اشتراكية ثم نظام ليبرالي فثورة لكنها كذلك بقيت مصر.

ولعل ما هو أوضح من ذلك في بيان تهافت تلك المقولة، هو أن ثورة المصري أو الليبي على استبداد نظامه لم تتطلب ثورة على الإطار (مصر أو ليبيا) بل سعت إلى استبدال صورة الاستبداد من ذلك الإطار. وصف الساعين لخلق هوية وطنية مضادة للاستبداد بالداعمين له وصف مجازف لا يستقيم إلا إذا اعتبرنا الأنظمة حكومات أجنبية محتلة وتعاملنا معها كما يتعامل فلسطينيو الثمانية وأربعين المتمسكين بقضيتهم كاملة مع إسرائيل حين يعارضون الدولة اليهودية وليس النظام فحسب. هل بشار الأسد يحتل سوريا؟ أظن هذا آخر ما يود البعض قوله.

ج- “الفاشية” في كل مكان: الدول تصنع الأمم

من السهل جداً أن يلتقط أحدهم نصاً لأحد القادة النازيين شدد فيه على سيادة الأمة الألمانية وأن يقرنه جزافاً بحديث لقومي عربي عن السيادة ليخلص إلى أن “القومية العربية حركة نازية”. أن يلتقط سمة واحدة متشابهه ويصبغ بها الخطاب كله. هذا بالطبع تسطيح شديد للغاية لكنه لا يختلف بشيء عن الوصف الذي ورد في أحد الكتابات أن من يسعى إلى لخلق هوية قائمة على حدود الدولة: “فاشي”. في الحقيقة إذا ما أُخذنا بهذا التبسيط سنتفاجئ أن كثيراً قوميات العالم ليست إلا صناعة “فاشية”.

في كثير من حالات نشأة القومية تاريخياً، لم تكن “الشعوب” أو الحركات الأهلية هي من شكلّت أمم أوجدت لها دولاً. بل العكس أحياناً هو الصحيح. الوحدات السياسية وتطورها في حالات تاريخية عدة هو ما خلق الشعور القومي المشترك. فمثلاٍ لم يمر على فرنسا في تاريخها “مسألة فرنسية” أو دعاة شعبيين لوحدة فرنسا في أمة إنما قامت على قوة الدولة المركزية التي وحدت اللغة وفرضت ثقافة المركز على الأطراف عبر العسكرة وبناء مؤسسات الدولة الحديثة من تعليم ونحوه ولتي بلغت ذروتها في العهد النابليوني. ولعل هذا النمط من أنماط نشأة الأمم نجده أكثر وضوحا في مستعمرات العالم الجديد التي وُجدت في الأساس كوحدات إدارية خلقت منها أمم كالولايات المتحدة وكندا ودول أمريكا الجنوبية. لم تظهر هذه الدول على أسس عرقية أو لغوية إنما على أساس حدود الدولة التي شكلت دول-أمم تستمر أغلبها الآن لحوالي قرن ونصف من الزمان بالرغم من أن أكثر دول أمريكا الجنوبية تتشارك في اللغة الإسبانية والمذهب الكاثوليكي ولا يكاد يفصل بين الولايات الأمريكية وولايات كندا الناطقة بالإنجليزية أكثر من حدود الدول.

د – هوية الدولة ليست نصاً حكومياً

لعل ما هو أكثر أهمية من الحديث عن منشأ الأمم -والذي يقوم في كثير من الأحيان برعاية مؤسسة مركزية قهرية- هو ملاحظة أن روايات هذه الأمم ليست ثابتة عبر الزمن كما أنها ليست محتكرة كلياً. كما ذكرت سابقاً، إطار الدولة الذي يصنع المجال السياسي لا يتضمن فقط الأنظمة وأشكال الحكم بل يشمل أيضاً الصراع على معنى أن تكون ضمن هذا الإطار. ما معنى أن تكون أمريكياً؟ هذا السؤال أخذ معاني مختلفة في فترات زمنية مختلفة ولدى فاعلين مختلفين. فعلى المستوى المؤسساتي (القوانين والتشريعات)، لم يكن لذوي الأصول الإفريقية أن يدخلوا في هذا التعريف الأمر الذي تغير بعد الحرب الأهلية وتحرير العبيد. على مستوى الخطاب الشعبي غير الرسمي، يظل تعريف من هو الأمريكي ساحة للصراع إذ يحاول الناشطين السود أن يؤكدوا وجودهم في رواية لدولة يهيمن فيها الرجل الأبيض. كما يحاول بعض المسيحيين المتشددين التأكيد على “مكون” مسيحي يهودي للهوية الأمريكية يدفعون به لمواجهة ما يسمونه “الخطر الإسلامي”في مقابل أولئك الذي يدعمون سردية أمة المهاجرين. وبالمثل يمكن تتبع التحولات في الهوية البريطانية في محاولات حكومة حزب العمل لتقديم تعريف للبريطاني متعدد الثقافات ومقاومة أحزاب اليمين لهذا التحوير.

إذا كانت هوية الأمة خاضعة لديناميكية التنافس بين الروايات والتأويلات وليست قيمة ثابتة وملازمة، فلا معنى إذن من التنقيب في جذور موضوعية للحكم على هوية ما أو لاعتماد رواية تاريخية سائدة كسمة أصيلة في هذه الهوية كما يفعل البعض. حيث يعبر أحدهم أن ” الترويج للهوية السعودية لا يمكن أن ينفصل عن الترويج لما تتضمنه من تحيزات ثقافية ودينية”. هذا التعبير ذاته -والذي يطرح في سياقه كوصف موضوعي يعارض به من يريد خلق روايات بديلة للهوية السعودية- هو أحد هذه الروايات، بل ربما تُعد منسجمة ومؤكدة للرواية القائمة.هناك العديد من النماذج الدول أخذت هوياتها مضامين مختلفة لا يكاد يجمع بينها وبين أطوارها السابقة شيء ذو أثر. هل يتحتم على دولة كالنمسا نشأت على أساس كاثوليكي أن تتحيز ضد الأغلبية النمساويين الذين يعرفون أنفسهم كملحدين اليوم أو غير الكاثوليك الذين يشكلون أكثر من ثلث السكان؟ إن الفرق كبير للغاية بين معنى أن تكون نمساوياً في القرن التاسع عشر ومعنى أن تكون نمساوياً في القرن الواحد والعشرين. إن الهوية ساحة مفتوحة للتأويل وظهور روايات تاريخية بديلة بالإمكان أن تطور بشكل واعي خاصة إذا وجدت دعماً وتغييراً مؤسساتياً من خلال السعي لخلق مجتمع مدني والدفع باتجاه المزيد من المشاركة السياسية. إن الأوصاف اللاتاريخية التي تلصق بها الهوية الوطنية “صنيعة الاستعمار وربيبة الاستبداد” ليست إلا حلقة من سلسلة التشنج الأيديولوجي غير المبرر تجاه الدولة الوطنية الذي يعاني منه هذا الخطاب القومي.

إن هذا الحديث عن الهويات الوطنية قد يحفز أسئلة مهمة لدى القارئ: إلى ماذا يقودنا التأكيد على أن الهويات الوطينة –برغم قصورها- حاضرة؟ ما علاقتها بالهويات العربية والإسلامية؟ وهل نحن أمام معضلة اختيار بين هويات سياسية متعارضة؟ هذا ما سنتناوله في مقال قادم نواصل فيه مناقشة الأطروحة العروبية ونخلص بناء على هذه المقدمات النظرية إلى تصورات أكثر نضجاً.

(2)

أن تكون عربياً دون إستلزامات “العروبيين”
نحو رؤى بديلة

ليس الهدف من التشديد على حضور الهوية الوطنية إلى جانب الهويات العابرة لها أو الهويات الجزئية والفئوية الأصغر منها هو الدخول في لعبة تحديد هوية سياسية وحيدة أو هوية مطلقة (وهي لعبة زائفة كما سأبين) أو حتى إعطائها قيمة ذاتية. ما أجادل له هنا بوضوح هو،
أولاً: أن هذه الهويات الوطنية المتمايزة بالضرورة لا تتصادم دائماً مع الهويات العربية والإسلامية الحاضرة هي الأخرى في المخيلة الجمعية ولسنا في حاجة لاختلاق التعارض خطابياً في المساحات التي لا يوجد تعارض بها. إن هذه الهويات والتي سأسميها هنا “مافوق الوطنية” لابد أن تظل حيوية ومنعكسة -كونها حاضرة- على مختلف المناحي السياسية والاقتصادية والثقافية للوحدات السياسية وأن تظل إدارة التعارض بينها وبين الاعتبارات الوطنية خاضعة للتداول السياسي داخل هذه الوحدة.
ثانياً: إن العمل السياسي القائم على الهويات الجزئية ( المناطقية والدينية) ليس شراً محضاً إنما ينبغى أن تكون خاضع للتقدير الظرفي. ففي حالات معينة سيكون الرفض لأي ظهور لها تكريساً لاستمرار وضع غير عادل وفي ظروف أخرى لابد أن تواجه بالاحتواء المُعترف بوجوها؛ أي حين تكون عامل تفتيت للبنية السياسية في فترات ضعف الأخيرة. باختصار سأوضح أننا لسنا بحاجة إلى القيام باختيارات حدية مطلقة للهوية السياسية. إذ أن إلحاح هذا السؤال الزائف: “ماهي هويتنا السياسية؟” (بأل التعريف) لا يكون ملزماً إلا في مزاعم القوميون في كل مكان في العالم، والعروبيون المعنيون بالنقاش هنا لم يكونوا استثناء.

الإختيارات الحدية وهوس الحسم الهوياتي

بإمكاننا أن ندرك بسهولة أن ذواتنا لا تعكس حقيقة ثابتة ومستقلة. إننا نعتمد بشكل واعي أو غير واعي على تعريف أنفسنا من خلال الآخرين في إدراكٍ لذواتنا يبرز أو يغيب حسب الموقف أو الظرف الاجتماعي. فنحن نعبر عن أنفسنا من خلال الانتماء إلى عائلة أو منطقة أو ديانة أو جنسية أو حتى نادي رياضي إذ أننا لا نستطيع أن نعرف الـ”أنا” دون الدخول في حيز الـ”نحن” والتي بدورها تتعدد وتتجاور في الذات الواحدة من غير أي شعور ضروري بالتناقض. هذا واضح جدا. الخلاف لا يبدأ إلا عندما تضاف صفة “السياسي” لهذا الانتماء فهل يمكن للانتماء السياسي أن يتعدد؟

ليس بوسعنا مناقشة هذا السؤال دون البدء أولا بفحص معنى “السياسي” حيث يمكن وضع اليد على جذر عدد من اشكالات الخطاب العروبي . ففي اجابة هذا الخطاب على “ما هو السياسي؟” تترد كثيرا الاستعانة بتعريف الفقيه القانوني والفيلسوف كارل شميت الذي يقدم معيارا بسيطا لتمييز ما هو سياسي. يقول شميت “التمييز السياسي الذي يمكن أن تختزل فيه الأفعال والدوافع السياسية هو التمييز بين العدو والصديق” كما يتم في الفضاء العام. إن هذا التعريف يكتسب دقته وجاذبيته من هروبه من تعقيدات مفهوم ملتبس كالسياسة -وهو ما عبر عنه شميت نفسه- إلى التركيز على سمة أولية له. هذه الجاذبية في الحقيقية هي ذاتها نقطة الضعف حيث يمكن أن يتحول بسهولة إلى أداة اختزال تجعل من الحالات المتطرفة أصلا وتفرغ موضوع متشابك كالظاهرة السياسية من ملابساتها على أرض الواقع. غير أن المفهوم ينتقل من أن يكون مربك إلى كارثي حين يوظف لاستخلاص احكام وتصورات معيارية كما يفعل أنصار الفكرة القومية.

إن تعريف شميت للسياسي – المنطلق من مسلمة هوبزية أحادية الروية تنظر للإنسان على أنه “كائن خطر”- يتحدث عن تقابل وجودي غير تجريدي وغير رمزي بين الجماعة والجماعات الأخرى. رسم الحدود الهوياتية هنا (والتي يظل فيه الصراع والعداء كامناً حتى في حالات السلم) ليس موقفا تقديريا يشارك فيه الفرد بل يرتبط بـ”وجود” الجماعة مستقلاً عنه ويرتبط بقدرة السلطة فيها على حسم الاختلاف داخلها. فالفعل السياسي الخالص هو أن تقرر الجماعة ما إذا كانت سنخوض حربا مع الآخرين خارجها أو تدخل في سلم معهم من منطلق أننا “نحن” وأنهم “هم” وأن وجود الآخرين قد يهدد وجود”نا” دون الحاجة إلى أي تبريرات اقتصادية أو أخلاقية أو دينية اضافية. فهناك جماعة واحدة لابد أن تعبر عن السياسي بأن تكون لها وحدها القدرة على فرز الصديق والعدو. وعن هذه الـ”نحن” يسأل شميت “أي الكيانات الاجتماعية تقرر الحالات المتطرفة [افناء الآخر من خلال الحرب] وتحدد تصنيفات الصديق والعدو بشكل حاسم؟” 43. ثم يقدم الاجابة بعد أن يؤكد على أن كل أنشطة ومجالات الحياة المدنية داخل هذا الكيان لابد أن تفرغ من المعنى السياسي : “الدولة هي تلك الكيان [..] الكيان الحاسم الذي ترتبط به الصفة السياسية”44. ولا يريد شميت هنا الدولة كمؤسسة تعددية أو كمساحة للفعل السياسي بل تحديدا الدولة بوصفها تعبيرا مباشر عن سيادة أمة. وعلى هذا النهج يقوم البعض بالحديث عن الجماعة السياسية (مفردة وبـ”ال” التعريف) والتي لا بد أن تكون معطى مسلم به من قبل الفرد.

المشكل الأساسي في هذا التعريف للسياسي (أو بالأحرى توظيف الخطاب العروبي له) هو أنه يجعل من تمييز العدو من الصديق والاصطفاف بين ذات جماعية وآخرى عامل مستقل تحليلياَ (سيناقش في موضع لاحق) و غرضاً في حد ذاته معيارياً. إن التعبير الذي يتداوله العروبيون “الالتزام السياسي” يجعل من مفهوم ” الصديق والعدو” معياراً للحكم على مستوى الفرد: أي يجعله مصدرا لما ينبغى فعله ومالا ينبغي فعله. ويصبح التمسك “الملزم” بتعريفات الصديق والعدو الذي يحددونها هم أساساً للفعل السياسي من منطلق هوياتي بحت (حيث يقوم بعضهم باستمرار برفض المنطلقات المصلحية والأخلاقية في الفعل السياسي). فالجماعة السياسية ليست مطروحة كبدائل أو كخيارات تقديرية ظرفية بل معطى مطلق يتجاوز الفرد كليةً. إنه ببساطة يعطي أهمية ميتافيزيقية وصلبة للحدود بين البشر فيتحول هذا الصنف العام من أشكال السلوك البشري إلى غاية أو “التزام سياسي” ينبغي ألا يتقاطع مع اعتبارات أخلاقية غير ذات علاقة. (في الحقيقة تعبير “التزام سياسي” ليس إلا إساءة فهم لكتابات شميت الذي يعرف السياسي بشكل مجرد من القيمة. “فالالتزام” على الفرد يتضمن بالضرورة الحكم الأخلاقي. فلا يمكن القول إذن: هذا “التزام سياسي” وليس “التزاما أخلاقيا”؛ فهو مجرد تلاعب بالألفاظ. شميت لم يتحدث عن أحكام قيمية فيما يخص السياسي إنما اعتبره خيارات وجودية جمعية لا تختص بشكل أساسي بالفرد والتزاماته الأخلاقية)

ثاني هذه الإشكاليات نجده في تصويره للوحدة أو الكيان في هذا الصراع الوجودي المحض. فالخلل لا يتوقف عند إضفاء أهمية خاصة على الصراعات الهوياتية بل يزداد سوءا حين يتم التأكيد على أن صفة السياسي لابد أن تقصر على فاعل وحيد. شميت يجادل أنه من الضروري التخلص من السياسة داخل هذه الدولة وأن تُرّحل أي قدرة على الحكم والفعل السياسي إلى الدولة-الأمة ذات السيادة. وبالرغم من أن الطرح العروبي لا يبدو أنه يذهب مع شميت إلى الغاء السياسة الداخلية بهذا الشكل المتطرف إلا أنه يستبطن هذه النزعة في رفضه لأن فعل سياسي يبنى على انتماءات الفرد الأخرى الأوسع (اسلامية) أو الأضيق (وطنية، مذهبية، مناطقية). إذ أن هناك رابطة واحدة على الفرد أن يدخل المجال السياسي من خلالها ليس لأنه اختار ذلك بل لأنها حقيقة وجوده ألا وهي الجماعة السياسية. هذه الجماعة السياسية التي كما يذكر أورد أحدهم في أحد مناقشاته ” تتعهد [الفرد] في سنواته الأولى التي لا يستطيع فيها الاعتماد على نفسه بالرعاية والتنشئة والتربية التي تغرس فيه قيم هذه الجماعة ولغتها وتاريخها. علاقة الفرد بجماعته السياسية هي علاقة انتماء لم يخترها ابتداء مثلما أنه لم يختر أسرته وشكله ومكان ووقت ولادته”. وبالرغم من أن هذا الوصف للجماعة ينطبق على مختلف الانتماءات أي أن تعهد الفرد وتنشئته وغرس الثقافة يمكن حدوثه على عدة مستويات متقاطعة فهو ما تقوم به أحيانا الجماعة القرابية عن طريق مؤسسة الأسرة أو الجماعة الدينية عن طريق المسجد أو -وبشكل أوضح- الدولة “القطرية” عن طريق المدرسة. إلا أن متبني هذا الخطاب اختاروا “الأمة العربية” ليس كأحد هذه الإنتماءات لكن كجماعة واحدة لابد أن نرتبط بها سياسيا وتكتسب وحدها الصفة السياسية.

ابراز هاتين الإشكاليتين ليس الغرض منه الدخول في تفاصيل تقييم أطروحة كارل شميت إنما لوضع المبضع على الأصل الفلسفي لكل من (1) نزعة إضفاء الصفة الغائية المستقلة على الهوية في الخطاب العروبي و (2) نزعة معاداة أي فعل سياسي لا ينطلق من الانتماء الذي يختاره أنصار الخطاب للناس كانتماء سياسي وحيد. هذا هو ما نعنيه بالاختيارات الحدية في مجال الهوية التي يعكسها مثل هذا الطرح والتي تجنح إلى اختزال الانسان سياسيا في فاعل ذي هوية واحدة تمثل الأساس “الصحيح” -الملزم سياسياً وفق تعبيرهم- لأي فعل يتصل بالدولة وسلطتها أو بمعارضة ممثليها وسياساتهم. سمة الحدة في التعاطي مع الهوية تجعل هذا التصور لا يختلف نظرياً عن أطروحات المحافظين الجدد ومروجي نظرية صراع الحضارات في سعيهم لخلق الذات والآخر بشكل حاد وواضح ولخلق غيرية تكون أساسا للفعل السياسي يغدو كل حراك غير منطلق منها تشتيتا عن الغايات العليا.

إن الهويات السياسية أي تعريفات الذات والنحن والآخرين التي تدخل في علاقة ما مع الدولة -كما يعرفها تشارلز تيلي- ليست من صناعة الفرد وليست على الدوام مرهونة بقراراته ووعيه. لكن كونها معطيات اجتماعية وأنها توجد قبل الفرد ومن خلال الآخرين لا يعني أنها توجد محسومة في أشكال محددة ببساطة حديث القوميين عن الجماعة السياسية. إن التأكيد على حضور انتماءاتنا الجمعية كأساس سياسي لا يتطلب منا الارتهان إلى المقدمات والأسئلة الخاطئة التي يوجه بها القوميون النقاش حول الهويات. نحن لا نواجه في الواقع بسؤال هوياتي ملح يتطلب منا اجابة حاسمة ونهائية فإن الذات والآخر في الميدان السياسي تتعدد بتعدد دوائر الانتماء وكثيرا ما يكون تصوير التناقض بينها (الممكن لكنه غير الضروري) مفتعل. فدون الحاجة مثلا إلى اعلان تبريرات هوياتية يتفاعل الفرد بصفته عربياً مع القضية الفلسطينية. وهذا الفرد ذاته هو من يخرج إلى الشارع رافعا العلم الوطني محتجا على حكومة في مطالب لا تتجاوز الحدود السياسية وبتصورات لا تعاديها.

ولعل مما يعيننا على فهم تعدد الروابط السياسية عملياً هي الدراسة الثرية التي قدمها كرستوفر فيلبس بعنوان “هوية عربية يومية: إعادة الإنتاج اليومية للعالم العربي” حيث يخلص فيلبس إلى أن بالرغم من أن الرابطة العربية رابطة حية لم تمت إلا أن “ظاهرة العروبة اليوم لابد أن يعاد تعريفها ك”نزعة مافوق قومية” Supranationalism: جماعة متخيلة -حسب مفهوم بندكت اندرسون- تخضع لقومية الدولة (الوطنية) لكنها تظل بارزة ثقافيا وسياسيا”. فمن خلال تحليله للخطاب الرسمي في كلٍ من الأردن وسوريا مدعماً بدراسة ميدانية، يشير فيلبس إلى “أمم” وطنية تشكلت في حدود الدول الوطنية بينما استبدلت “العروبة القديمة” التي كانت تعبر عن ايديولوجيا قومية وحدوية برابطة فوق قومية “العروبة الجديدة” لم تعد تمثل تهديدا لهوية الدولة الوطنية بل “تدعمها وترسخها” . فهو -مع التأكيد على عدد من فروقات- يناظر بين العروبة وبين تجربة الاتحاد الأوروبي من حيث قبول الأوروبيين بمأسسة رابطة أوروبية دون القبول في أن يمس ذلك بقاء قومياتهم. فلقد وجد الباحث من خلال الدراسة الإثنوغرافية لواقع المواطنين المعاش أنهم لا يعكسون أي تناقض بين ادراكهم لذواتهم كسوريين أو أردنيين وبين انتمائهم العربي. أن نتائج هذه الدراسة لا تعارض التنبؤات القاصرة التي تزعم نهاية الرابطة العربية فحسب بل تطرح تحديا للأطروحات العروبية التي تعاني من العمى عندما يتعلق الأمر بالانتماءات الوطنية. ما يجمع بين الأطروحتين المتناقضتين هو عدم قدرتهما على ادراك الطبيعة المركبة “Multilayered” لنزعات الانتماء السياسي في المنطقة.

غير أن هذه الطبيعة المركبة للهوية في تمظهرها السياسي ليست “خصوصية عربية” أو “إسلامية”. إن أشكال التداخل بين الانتماءات السياسية توجد في جميع الدول في العالم (كما تتبع ذلك تشارلز تيلي مع استثنائين إثنين فقط). حتى في الدول المستقرة والتي استمر وجودها على عدة قرون من الزمن سنجد التداخل والصيرورة المستمرة للهويات. يمكن أن نورد العشرات على ذلك كمقاطعة اسكتلندا في بريطانيا. ففي حين يحافظ الإسكتلنديين على هويتهم القويمة الخاصة بهم وقدر عالي من الحكم الذاتي، إلى أنهم في ذات الوقت ظلوا ينتمون بلا انقطاع على مدى ثلاث قرون إلى الأمة البريطانية تحت العرش الملكي. الإستكتلندي هو اسكتلندي سياسياً تماماً كما أنه بريطاني. وفي حركة الحقوق المدنية في الولايات المتحدة نجد مثالاً آخر حيث سيست جماعات من الأمريكيين من أصول أفريقية هويتهم كسود بوضوح في مقابل هيمنة البيض في ستينات القرن الماضي ما نتج عن ضعط سياسي أخذ أشكالا عديدة أثمر أخيرا في تعديلات دستورية وتشريعات تفضي إلى قدر أكبر من المساواة، دون أن يحدث ذلك التسييس أي حركات انفصالية ذات بال. ولعل أهم الأمثلة التي تدعم امكانية المزاوجة بين الوطني ومافوق الوطني هي الإتحاد الأوروبي الذي تحتفظ فيه الدول بقدر من السيادة والهوية الخاصة إلى جانب التعاون الفعال وتشكيل أرضية مؤسساتية لهوية تجمع الأوروبيين.

هذا لا يعني أن التعارض مستحيل على طول الخط إلا أن التوفيق حين حدوث التعارض يمكن أن يعبر من خلال القنوات المؤسسية داخل الوحدات السياسية، وثمة أمثلة عديدة ناجحة على ذلك. فالحركة الانفصالية في ولاية كيوبيك الكندية في سبعينيات القرن الماضي تم احتواءها من خلال القنوات الديمقراطية التي أفضت إلى اصلاحات تشريعية مستجيبة للمطالب. وكذلك الاختلاف على مستوى الاندماج في الإتحاد الأوروبي والذي يمثل نزاعاً بين من يؤكد على الهويات القومية للدول وبين داعمي الهوية الأوروبية. هذا النزاع تم ويتم حله من خلال تنافس الأحزاب ذات الرؤى المختلفة في البرلمانات الوطنية أو في استفتاءات شعبية كالتي تمت في فرنسا حول الدستور الأوروبي عام 2005.

طغيان التحليل الثقافي: من مواجهة المنتج (الطائفية) إلى أدوات الإنتاج (الخلل المؤسساتي)

يقول عالم الاجتماع بيار بورديو في نقده للدراسات الثقافية التي تتعامل مع الخطاب كنهايات تحليلية: “إن دراسة بنية مجال الإنتاج الثقافي [أي علاقات الفاعلين في المجال ومصالحهم فيه] يعني القطيعة مع النظرة السطحية في التعامل مع المعطيات دون الوعي بمصادرها … [إذ] أن السعي لفهم المنتجات الثقافية من خلال هذه المنتجات ذاتها دون ظروف إنتاجها والوظيفة التي تؤديها ما هو إلا تجريد لا معنى له”. إن مثل هذه المنهجية التي يؤكد عليها بورديو تعيننا في وضع الفاعلية السياسية للهويات في نصابه الصحيح. فمع التأكيد على أن للهوية السياسية أثر مهم في تكوين التحالفات وخلق التضامن وإشعال الصراعات، إلاّ أنه لا يمكن التعامل معها كعامل مستقل سببياً فإن نشوءها وتغيرها وانطفائها والذي يعتمد بشكل كبير على البنى الاجتماعية وشبكات الثقة التي تتشكل بناء على علاقات القوى. بصيغة أخرى، إن الهويات فعالة ومؤثرة فقط عندما تُخلق وتُحفز بعوامل مع غيره طبيعتها في المقام الأول. وبالتالي فإن معالجتها تتم من خلال التعامل مع هذه العوامل أي البحث عن الإصلاح البنيوي المؤسساتي. إن التعامل مع الهوية من خلال معالجة الهوية ذاتها ومكونها الداخلي فحسب سيكون بسذاجة أن تُواجه حركة انفصالية في شمال إيطاليا بمنشورات تذكرهم أنهم إيطاليين أو تُلقى خطب في حرب البوسنة لإقناع جميع أطراف النزاع أن يتصرفوا من الغد كمواطنين لدولة واحدة.

بالرغم من تمسك بعض العروبيين بالمبررات المعيارية التي تحاول إثبات الانتماء للعروبة كمعطى مبرر ذاتياً (الجماعة السياسية ذات السيادة) إلا أنه يتم أحياناً تدعيم ذلك الأصل بتقديم العروبة كحل عملي لمشكلات واقعية (أي تبريرات مصلحية). ففي مواجهة مشكلة الطائفية بشكل خاص وفي سبيل تحقيق الاصلاح السياسي بشكل عام يتم طرح التمسك بـ العروبة كبوابة خلاص. تقول الحكاية: أنه عندما يتم حسم الهوية إلى الانتماء العربي كـ”هوية جامعة” ستحل الأزمة الطائفية حيث سيُعرّف الأفراد أنفسهم في المجال العام كعرب لا كشيعة، سنة، أقباط، مسلمون .. إلخ. بالرغم من أن مثل هذا الطرح -من حيث المبدأ- لا يخلو من قدر من الصحة إلا أنه يكاد يكون عملياً كتفسير الماء بالماء. لذا أجد من المهم تسجيل بعض الملاحظات ولضيق المساحة سأكتفي بإيرادها في اشارات سريعة.

أولاً: إن هذا الهوس بإعادة مشاكل المنطقة إلى “أزمة الهوية” يفضي إلى إدراك مشوش للواقع. إذ أن كثيرا مما يغلف بلغة طائفية هو في عمقه أزمة بنية سياسية صبغته لاحقاً أو تقاطعت جزئياً معه دعوات طائفية. فعلى سبيل المثال سنجد أن خط الاستقطاب في سوريا لا يأخذ ثنائية سني-علوي -وان كان هذا الخط موجودا ومولدا في الخطاب- فحسب لكنه بشكل أكثر وضوحاً يظهر على محور الريف-المدينة أو بصيغة أخرى المراكز في مقابل الأطراف التي اشتعلت منها شرارة الثورة الأولى. فبالتالي يمكن أن نتتبع كيف أن الأزمة في مبدئها هي أزمة نظام مستبد همش فئات اجتماعية مختلفة لم تدمج في أي محاولة لإرساء عملية سياسية تمثيلية أكثر من كونها ناشئة من تعبئة هوياتي وتحريض سياسي طائفي.

ثانياً: إن الاحتراب الأهلي ونشاط الهويات الفرعية يظهر عادة في حالات الفارغ السياسي ولحظات ضعف الدولة إذ ينكفئ الناس إلى جماعاتهم الأولية كسلوك سيكولوجي مدفوع بالبحث عن الأمان والدعم المجتمعي. هذا التفجر الهوياتي الحاصل في دول المشرق العربي ينبغي أيضا أن يوضع في هذا السياق. إن نسبة هذه الحالة المتأزمة إلى احتقان هوياتي مزمن يتجاهل طبيعة الظرف الذي يتسبب في القسط الأكبر من التأزم السياسي الحالي الذي يعود جذره إلى فشل الأنظمة. من خلال هذا المنظور، يقودنا التشخيص إلى أن مشكلتنا الأساسية هي مع الأنظمة وإصلاحها، لا محاربة أشباح الهوية.

ثالثاً: إذا كنا وضحنا أن مرجع الكثير من مظاهر الاحتراب الهوياتي هي إشكاليات بنية سياسية؛ فإن الحلول استتباعا لابد أن تعبر من هذا الطريق كذلك. أي تعمل على إصلاح هذه البنية. أعني بذلك أولويتين إثنتين: أولاً العمل على بناء مؤسسات مجتمع مدني تتخطى الحدود الفئوية في إطار الوحدة السياسية (وحدة العمل فعليا) حيث تشكل علاقات ثقة بديلة. ثانياً: الدفع باتجاه قدر أكبر من المشاركة في هذا الإطار السياسي. ولعلنا نجد أوضح الدروس على نجاعة ذلك في تاريخ نشأة سويسرا كوحدة سياسية متعددة الأعراق واللغات في ظل الاستقطاب القومي الحاد في أوروبا مطلع القرن العشرين. يمكن إعادة ظهور القومية السويسرية الحديث نسبيا إلى نهايات القرن التاسع عشر. فبرغم التشكل الأممي وإستقطاباته في أوروبا على أساس عرقي لغوي لم تأخذ الكانتونات السويسرية غير المتحدة آنذاك هذا المنحى وشكلت دولة من ثلاث اثنيات (ايطاليين وفرنسيين وألمان) دون حدوث توترات تذكر برغم الحروب الطاحنة التي استحوذت على النصف الأول من القرن العشرين. ما الذي يجعل سويسرا متماسكة رغم هذا الثقافة الفسيفسائية؟ ما الذي خلق صفة “السويسري” كهوية لم تكن موجودة وليس لها أصل إثني أو لغوي يصلح كأساس “موضوعي” للتمييز؟ السر في ذلك يعود إلى ظهور المؤسسات والجمعيات (المجتمع المدني) -والتي لم تكن في أغلبها جمعيات سياسية- الذي أخذ بالتشكل بطريقة عابرة للكانتونات والإثنيات قبيل نشوء الإتحاد السياسي. أي أن غياب التفكك الهوياتي يرجع إلى شبكات اجتماعية صلبة استطاعت احتواء كل هذا التنوع في إطار مؤسسة ذات نظام سياسي مفتوح أوجدت لها هوية صلبة.

وطنيون بمشتركات عربية وإسلامية: خطوط عريضة لرؤى بديلة

ليس الغرض من هذا النقد للخطاب القومي إثراء نقاش نظري حول مسألة الهوية بقدر ما هو محاولة لإعادة ترتيب الإرباك في الأولويات الذي يحدثه هذا الخطاب في الجدل المحلي، وإعادة طرح الأسئلة الصحيحة. إن الرؤية التي تقودنا إليها هذه المناقشة يمكن إيجازها في الأطروحات التالية:

أولاً: الإشكاليات المعاصرة في دول المنطقة هي إشكالات بنيوية أي متعلقة بشكل أساسي بمؤسسات دولة والعقد الاجتماعي الذي تقوم عليه أكثر من كونها أزمات ثقافية ترتبط بالهوية إذ أن هذه الأزمات كثيراً ما تنبع من إخفاق المؤسسة السياسية. ومن هنا فإن إرساء الحقوق السياسية (للأفراد والجماعات) وتحقيق قدر فعال من المشاركة السياسية هو أهم تحديات الواقع الذي نعيشه.

ثانياً: الهويات الوطنية -برغم قصورها- هويات حاضرة ولا تحمل قيمة سلبية في ذاتها. إننا كـ”عرب” لسنا في حاجة إلى دخول حرب طواحين معها بل نجد أنفسنا في واقع يدفعنا للعمل ضمن أطرها فهي كأي هوية تتيح مساحات للتأويل ولخلق روايات شعبية بديلة للاستبداد يمكن أن تساند العمل السياسي الساعي لإصلاح المؤسسة.

ثالثاً: العربي اليوم لا يجد نفسه أمام خيارات حادة بين أن يكون وطنياً أو عربياً؛ فطبيعة العمل السياسي لا تتطلب خياراً مطلقاً إنما تتعدد بتعدد القضايا وقنوات العمل المتاحة. كما أن الهويات الوطنية المتمايزة بإمكانها من حيث المضمون أن تكون متصالحة ومنسجمة مع فضاءاتها العربية والإسلامية.

ربما تبدو هذه الأطروحات الثلاثة العامة شديدة الوضوح. إلا أن الاحتياج إلى إبرازها والتأكيد عليها أصبح مهماً لتبديد التشويش الذي يحدثه الخطاب القومي الشاب في حرف مسارات النقاش العام عن قضايا الإصلاح في الأطر السياسية القائمة؛ وهو الاضطراب في الأولويات الذي يحدثه دائماً أي جدل مهووس بالهوية (الأمر الذي ما نلمسه بشكل شبيه لدى أطياف من الإسلاميين). إن ما يحسب للخطاب العروبي محلياً أن يسعى جاهداً لعكس اهتمام أصيل بقضايا الإصلاح السياسي. إلا أن هذه السمة تكاد تغيب عن الصورة في خضم المماحكات المستمرة على أساس هوياتي و تضخيم أهمية “حسم الهوية” في الفضاء العام وفي خلط مستويات المحلي والإقليمي. كمن يخطب عن العروبة على منصات للمطالبة بمجالس تمثيلية وطنية.

إذا كان ثمة اعتقاد أن الرابطة العربية بفضل الفضاء الثقافي والإعلامي العربي المفتوح هي في أشد وهجها وأنها حية .. تتنفس في شوارع كل العواصم العربية -وهو ما يؤمن به أيضاً كاتب هذه السطور- فإن على “الوعظ” العروبي أن يصبح عاطلاً عن العمل أو يحال إلى التقاعد. إذا كان العرب عرباً، فكل ما نحن في حاجة إليه حتى نلمس البعد العربي في سياسيات الدول الوطنية -على سبيل المثال- هو أن نبني دول وطنية معبرة عن شعوبها. عرب اليوم ليسوا رعايا الدولة العثمانية الذين يبحثون عن وحدة سياسية تضمهم بعد انهيار الباب العالي كما أنهم ليسوا جمهور عبدالناصر المشدودين للوحدة تحت ظل القائد. إنهم المصريون والعراقيون والمغاربة الذين لا يرون بالضرورة تعارضا بين انتماءاتهم السياسية الوطنية والعربية والذين لا يطالبون -كما نشهد- بإسقاط شرعية وجود دولهم انما شرعية الحكومات والأنظمة حيث لم تعد هذه الدول الوطنية مجرد أجهزة وتنظيمات مفروضة من سلطة استبدادية أو مستعمر ما بل تحولت الى رابطة جامعة على أساس من هذه الحدود.

أخيراً، “نحن” لسنا بحاجة إلى “تحديد” هويتنا سياسياً بين العروبة والانتماء الوطني أو بين العروبة والرابطة الإسلامية. إن الهوية السياسية تتعدد بتعدد الميادين السياسية التي نجد أنفسنا فيها، كما أن كل هوية ترتبط بمساحات معينة من القضايا. نحن (سعوديون، عرب، مسلمون..الخ) لا نستيقظ صباحاً ونواجه سؤال الهوية الملّح الذي نحتاج الإجابة عليه بشكل قاطع. إن سؤال “من نحن؟” الذي يدمن العروبيون طرحه سؤالٌ ناقص ومضلل لأنه ببساطة منزوع من السياق. هناك عدد من الـ”نحن” .. عن أي واحدة تتكلم؟ عن فلسطين؟ سأجيبك كعربي. عن الفساد في أحداث جدة؟ سأجيبك كسعودي. عن الموقف من الرسوم الكرتونية المسيئة؟ سأجيبك كمسلم. هذه الانسيابية في الإجابات تتلاشى ويتعقد السؤال عندما يطالبك أحدهم باختيار “أمتك” التي تتنزه سياسياً عن غيرها. إن المقارنة بين سؤال “من نحن؟” المطلق الذي يقذفنا العروبيون في لججه وبين وضوح الأسئلة الأخيرة الموضوعة في سياقاتها تبين لنا بشكل معبر أننا بالفعل لسنا مضطرين إلى الانشغال بما يصر عليه الخطاب القومي من الأسئلة ولا إلى الانطلاق من مقدماته غير الدقيقة في سبيل بناء دول مستقرة ذات أنظمة عادلة. إن الفرد لن يجد نفسه مضطرا لأن يوقع على اشتراطات الخطاب وتعريفاته حتى يشعر كعربي في مستوى ما أو يتعامل مع القضايا العربية كـ”عربي”.