مجلة حكمة
ممسوس بالنار: ثنائي القطب والمزاج الإبداعي – كاي جاميسون / ترجمة: لطيفة المحارب

ممسوس بالنار: ثنائي القطب و المزاج الإبداعي – كاي جاميسون / ترجمة: لطيفة المحارب

كاي جاميسون
كاي جاميسون، عالمة نفس، وكاتبة لمؤلفات حول ثنائي القطب والإبداع

معلقاً على نفسه و على شعراء عصره قال لورد بايرون : ” مجانينٌ نحن الشعراء ، بعضنا يتأثر بالفرح و البعض الآخر يتأثر بالترح ، لكننا كلنا بنا مس مما قل منه أو كثر”(2). يتحدث هذا الكتاب عن “ما قل وما كثر من المس” ، وتحديداً عن مرض ثنائية القطب حيث تضطرب البهجة و الأسى و يتأرجح المزاج فيه، و عن علاقة المرض بالمزاج الفني و الخيال. كما يتناول الكتاب أيضاً الفنانين و رحلاتٍ كان فيها مزاجهم هو سفينة العبور ، بالإضافة إلى الاعتقاد القديم الراسخ بوجود ما يسمى “بالجنون الخالص”.

طاقة عنيفة و نشوة و حضور ذهن ، إحساس موسيقي حالم و مزاج محموم لا يهدأ ، جميع ما سبق جوانبٌ ملهبة للفكر و الإحساس، مُرغِمةٌ لخوض الرحلة الفنية ، لكنها عادة ما تحمل بين جنباتها مزاجاً فائق الحُلكة و طاقة كالِحة و أحياناً نوبات “جنون”. حالات المزاج و الطاقة المتضاربة تلك –التي تتداخل مع بعضها عادة- قد تظهر للعالم بأنها اضطراب أو إفراط أو تقلب أو اكتئاب أو عدم استقرار أو عنف. بإيجاز تشكل تلك الجوانب النظرة الشائعة للمزاج الفني – كما سنرى لاحقاً- ، كما تمثل الأساس لمزاج ثنائي القطب . قد يصبح عباقرة الشعر و الفن بيئة خصبة للخيال و التجارب حين يتمثلون بحالات المزاج المتقطعة المتقلبة.

ثنائي القطب
إلى الطبيب “ريتشارد جيد وايت”، لأولئك الذين استرشدوا على النجوم بخاراً و منظارا و أبحروا .. في قلب العاصفة – بايرون

وما يزال الجدال المحموم قائماً حول الاعتقاد الذي يُلصق فيه المزاج  المتقد و الذهن المشتت و الحس الفني “بالجنون الخالص”. قد تعتقد الغالبية بعدم واقعية الفكرة القائلة بأن مرضاً مدمراً  و عادةً ما يكون فتاكاً – وهو ذهانيٌ غالباً- مثل مرض ثنائي القطب ربما يحمل معه مزاياً معينة (مثل القدرات الخيالية العالية و ردود الفعل العاطفية الشديدة و الطاقة المتزايدة). كما يعتبره آخرون مرضاً مقلقاً أو أنه ربطٌ غير مرجح يصور فكرة مستبسطة تعبر عن “العبقري المجنون”، يرافق هذه الفكرة اختزال أخرق شنيع و مخاوف من اعتباره أمراً تابعاً للاختلافات البشرية الحيوية في الأسلوب و الإدراك و الطباع بدلاً من اعتباره مرضاً. في الواقع أن الحكم على أي شخص يتصف بالإبداع أو الإنجاز أو الحيوية أو الحدة أو تقلب المزاج أو غرابة الأطوار  بأنه مصاب بثنائي القطب يلغي فكرة الفردية في الفنون كما يهوِّن من شأن مرض خطير جداً وفتاك في العادة. هناك أسباب أخرى وراء تلك المخاوف. تمادي تكهنات التحليل النفسي إلى جانب سوء استغلال السيرة النفسية قد أصبحا محط سخرية وبجدارة و هذا بفضل التطورات الهائلة في علوم الوراثة و الأعصاب و الأدوية النفسية حيث أن معظم فكر الطب النفسي الحديث و الممارسات السريرية قد تحررا من تأثيرات التحليل النفسي القديمة نحو منظور إحيائي (بيولوجي) أكثر. يخاف البعض من المبالغة و الاستعجال في التحول الملحوظ من التحليل النفسي إلى علم الأدوية النفسية و من وجود خطر رسوخ مماثل في الأفكار و وجهات النظر لكليهما. إن تضاؤل اللغة العاطفية المعبرة في سبيل تقنين الكلمات والعبارات اللازمة للطب النفسي العلمي قد دعا الكثيرين إلى تجاهل معظم جوانب الطب النفسي الإحيائي (البيولوجي) الحديث. إن استخدام معايير تقليدية للتشخيص في الطب النفسي أضحى لعنة – بطبيعة الحال-، وعلى أيٍّ فقد أظهر علماء الطب النفسي الإحيائي (البيولوجي) اهتماماً ضئيلاً نسبياً بدراسة اضطرابات المزاج لدى الفنانين و الكتاب و الموسيقيين ، و بلا شك لن يعير الفنانون اهتماماً كبيراً بكونهم يُنظر إليهم بمنظور إحيائي (بيولوجي) أو تشخيصي. علماء الإبداع المعنيون بالدرجة الأولى بربط هذين المجالين قد بدؤوا مؤخراً بمعالجة المشكلة. لقد ركز الباحثون مسبقاً على العلاقة بين الإبداع و “انفصام الشخصية” (مرض ثنائي القطب الذي غالباً ما يُشخص بطريقة خاطئة) و على نشر أفكار علم النفس المرضي، إلا أنهم فيما بعد خلَّفوا وراءهم دور اضطرابات المزاج في الأعمال الإبداعية دون إجراء تجربة عليه.

مازاد الأمور تعقيداً هو الدور الذي تلعبه أنماط حياتية معينة في التغطية على السلوك المنحرف و الغريب، و لطالما أفسحت الفنون مجالاً رحباً حد الإفراط أمام السلوك و المزاج، بل إن “جورج بيكر” قد لاحظ استخدام شعراء المذهب الرومانسي لفكرة العبقري المجنون من أجل ” الحصول على اعتراف بمكانة خاصة و الظفر بحرية من القيود التقليدية التي تحيط بها”.3 :

لطالما فكرت في من كانوا أجلاء أيما جللْ ذوو الأرواح السامية منذ كانوا في جوف الرحم حين أبصروا النور غدوا شموساً آسرة لا تأفلْ “ممسوس بالنار” منطوقهم (1) و من صفائه نبع جميل الحلم

 أكسبت هالة “الهوس” العبقري سمةً غامضة لا يمكن تفسيرها، و أسهمت تلك السمة في التمييز بين الرجل العادي و البرجوازي(*) و الجاهل و الموهوب “فحسب” –و هو الأهم تقريباً-؛ فقد جعلته وريثاً للشعراء و العرافين الإغريق القدامى و مكنته من ادعاء بعض الصلاحيات و الامتيازات التي مُنحت له  بصفته “ممسوس ” و “موحى إليه من السماء”4

كتب “روبرت بورتون” في القرن السابع عشر: “كل الشعراء مجانين” ، ومنذ ذلك شاع هذا الرأي لدى الكثير. بصرف النظر عن مدى دقته- يظهر هذا الرأي للبعض بأنه يميل إلى مساواة الأمراض النفسية بالتعبير الفني. من أمثلة الافتراضات الشائعة أن الجنون يُعتبر أمراً طبيعياً إلى حد ما في الأوساط الفنية، خير توضيح لذلك هو الحلقة التي وصفها “إيان هاملتون” في ترجمته لسيرة الشاعر “روبرت لويل“، حيث وصف ردود فعل  زملاء الشاعر “لويل” حين تعتريه هالة الهوس :

أطلع “لويل” جميع معارفه في جامعة سينسيناتي على عزمه على الزواج مرة أخرى و أقنعهم على الوقوف إلى جانبه في تحقيق طموحه، و قد لاحظ  بعض أعضاء هيئة التدريس خلال هذه الفترة أن “لويل” سريع الانفعال و ثرثار ، إلا أنه حديثه كان بارعاً و عادة ما يكون متملقاً لهم؛ لذا لم يكن هناك مبرر لهم في الاعتقاد بأن لويل “مريض”، بل تصرف وفق ما يحبون أن يتصرف أي شاعر مشهور. لقد تعهدوا بأن يحموا تلك الجذوة المتوهجة من التدخلات المثبطة القادمة من مدينة نيويورك حيث تقطن “هاردويك” –زوجة “لويل”- التي اقتنعت بأن “لويل” مريض بالفعل؛ فخلال فترة امتدت لأسبوعين أصبحت مكالماته الهاتفية لزوجته محيرة و مطولة و بذيئة، لذا جابهت حاجز العدائية الذي شيده بطيب نية مؤيدو “لويل” في الجامعة.

كانت وجهة نظرها على النقيض من وجهة نظرهم، حتى حينما كانوا يتناقشون في أمر الأعراض ذاتها التي تظهر عليه؛ فما هو “جنون” بالنسبة لها كان علامة لعبقرية “لويل” بالنسبة لهم.(5)

إن السبب وراء هذا الكتاب هو إقامة حجة أدبية و سِيَريَّة و علمية لإثبات ربط مقنع-لا أقول تداخل فعلي- بين مزاجين هما مزاج فني و مزاج ثنائي القطب – ، بالإضافة إلى علاقة كل منهما بإيقاعات العالم من حولهما أو دوراته أو سماته. سينصب تركيز الكتاب على فهم العلاقة بين حالات المزاج و الخيال و على طبيعة المزاج –بمختلف أحواله وسماته المتناقضة والمتعاكسة و تقلبها وشدتها (التي تسبب للبعض نوبات “جنون” أحياناً). كما سيركز الكتاب على أهمية المزاج في إيقاد شعلة الفكر و تغيير المفاهيم وخلق الفوضى و تنظيم هذه الفوضة عنوة و إتاحة التحول.

41bm0an7vil-_sx309_bo1204203200_ ثنائي القطب والإبداع
غلاف الكتاب

يستهل الكتاب بالحديث عن نظرة عامة لمرض ثنائي القطب و ما هيته و من يتأثر به و كيفية ظهوره. يُوصف المرض بالهوس و الاكتئاب و بأنه مزج ما بين هاتين الحالتين وبأنه انتحار ، إذ يُستشف هذا الوصف من منظور طبي و من خلال كلمات و تجارب الفنانين و الموسيقيين و الكتاب الذين عانوا من اضطرابات مزاج حادة، و سيرد في الفصل الثالث ذكر الدليل العلمي و السِّيَري على العلاقة بين مرض ثنائي القطب و الإبداع الفني. تؤكد الدراسات الحديثة على أن الكتاب و الفنانين – مقارنة بغيرهم من العامة- يظهرون إلى حد كبير معدلاً غير متكافئ  من الإصابة بمرض ثنائي القطب أو الاكتئاب، لكن ليس كل الكتاب و الفنانين –ولا معظمهم حتى- يعانون من الأعراض الرئيسية لاضطرابات المزاج. و لا يزال هناك شك و مقاومة لأي فكرة تدور حول هذا الربط؛ إلا أن بعضاً من تلك الأفكار النابعة من المبالغة الواضحة في السيرة النفسية قد ألمحت إلى ذلك مسبقاً (لاسيما المبنية منها على الاجتهاد و التعليل)، لكن معظمها نشأ بسبب الجهل بطبيعة مرض ثنائي القطب نفسه. فلا يعي الكثير من الناس التعبيرات المزاجية المعتدلة للمرض أو لا يعلمون أن معظم الذين يعانون من ثنائي القطب لا يعانون من أعراضه في معظم الأوقات (بمعنى أنهم طبيعيون من الناحية النفسية). حين يفكر هؤلاء – حتى المتمرسين منهم بشكل عام في علم النفس و الطب-  بمرض ثنائي القطب يُخيل إليهم ردهات مصحات الأمراض العقلية و مرضاً عقلياً دائماً أو يخيل إليهم الجنون ، ثم يخلصون مباشرة إلى استحالة إنتاج عمل إبداعي ذي مغزى أو استمرارية تحت هذه الظروف .

إن الجنون أو الذهان لا يمثلان سوى طرف واحد من امتداد ثنائي القطب ، بل إن معظم الذين يعانون منه لم يصابوا بالجنون. كما أن العمل الفني الذي يستوحيه صاحبه أو ينفذه وهو يمر بحالة هوس خفيفة قد يُشكَّلُ تشكيلاً أساسيا أو يُجرَي عليه تعديل جزئي بينما صاحبه مكتئب، وقد يُختتَم هذا العمل وصاحبه بحالة طيعية. إن التفاعل و التوتر و الانتقال بين حالات المزاج المتقلبة جميعها تعد ذات أهمية حاسمة ، بالإضافة إلى المعيشة و الانتظام الذَّين يُستمدان خلال فترات الصحة ، تلك الانفعالات و الانتقالات هي التي تمد الفن بالطاقة في النهاية حتى يخرج بتلك الطريقة.

في الفصل الرابع سيرد ذكر الحجج النفسية و الإحيائية على العلاقة بين “الجنون” و الخيال الفني، كما سيرد إيضاح لطبيعة التداخل بين المزاجين الفني و الهوسيّ الاكتئابي بالإضافة إلى أوجه تشابههما في أنماط التفكير و السلوك. بشيء من التفصيل ستُناقَشُ أهمية العملية الإبداعية لتجارب معينة ناتجة عن حالات عاطفية شديدة مع التأكيد أيضاً على الحاجة إلى الانتظام و الضبط و التفكير المنطقي العميق. سنبحر أيضاً في الأهمية الخلاقة النابعة من التوتر و التلائم ما بين حالتين عاطفيتين و معرفيتين متضادتين تحدثان بشكل طبيعي لدى الفنانين الذين يعانون من مرض ثنائي القطب أو دوروية المزاج (وهي إحدى أنواع اضطرابات المزاج الخفيفة) و كذلك  تسخير الفنانين للفن في علاجهم لأنفسهم. إن نوبات و دورات مرض ثنائي القطب –الذي يعتبر مرضاً دورياً استثنائياً- تشابه على نحو مذهل دورات العالم الطبيعي- كالحياة و الممات و الضياء عقب الظلام التي غالباً ما تُلاحَظ في الشعر و الموسيقى و الرسم. لذا تعتبر الدورات الموسمية تحديداً مهمة، و سنناقشها في ضوء دليل علمي على أنماط المزاج الموسمية و الذهان ، بالإضافة إلى الإنتاجية الفنية لتلك الأنماط الموسمية التي تتضح في حياة الفنانين “روبرت شومان” و ” فنسنت فان غوخ” وغيرهما.

أفضل طريقة لمناقشة الطباع و الفن هي دراسة حياة أحدهم بشيء من التعمق، و لا أفضل من حياة الشاعرين “جورج غوردن” و “لورد بايرون” في توضيح تعقيد التداخل ما بين الوراثة و إرادة الفرد و الظروف و المزاج الشعري.

وريث جنون عانى قسوة الاكتئاب و خوفاً دائما من فقدان الصواب، إنه “بايرون” الذي يمثل أنصع صورة للجنون الخالص و الخيط الرفيع ما بين المزاج الشعري و المرض النفسي. أثارت معاناته المريرة مع الاكتئاب و “عنف مزاجاته” عدة قضايا طبية و اجتماعية و أخلاقية –بالرغم من أن أعماله تدين بالفضل لهما- ، و سيرد نقاش ذلك في الفصول الأخيرة.  يعتبر مرض ثنائي القطب مرضاً وراثياً، وهذه حقيقة أساسية ليس لفهم أصول المرض وحسب بل لعدة قضايا طبية وأخلاقية نوردها لاحقاً في الكتاب. في الفصل السادس نستعرض الدلائل العلمية المبنية على الأساس الوراثي لمرض ثنائي القطب و ذلك ضمن سياق التاريخ النفسي للأسرة–أو الأجداد- لعدة أسر تميزت في الأدب و الفن (منها أسرة “بايرون” ، وأسرة ” تينيسون”، و ” ميلفيل” ، و “وليام و هنري جيمس” ، و “شومان”، و ” كوليردج”، و “فان غوخ”، و ” همنغواي“، و”وولف“).

إن الارتباط الوثيق بين المزاج الفني و مرض ثنائي القطب له آثار عديدة تنعكس على الفنانين و الطب و المجتمع. تظهر أبحاث علم الأدوية النفسية الحديث و علم الوراثة احتمالات لا حصر لها تقريباً، كلاهما ما بين محرر و مثير للقلق، إلا أن القضايا الأخلاقية ظلت مجهولة على نحو مقلق. لم يتأثر مرض نفسي أكثر من تأثر مرض ثنائي القطب بتطورات الأبحاث السريرية والأساسية لعلم الأعصاب، ففعالية تشكيلة واسعة من الأدوية قد أتاحت أمام الأطباء خيارات لا مثيل لها، خيارات تنقذ حياة المرضى. أسئلة مثيرة تدور حول علاج الكتاب و الفنانين لاسيما و أن دواء الليثيوم (Lithium ) و مضادات الاكتئاب و مضادات الاختلاج (نوبات الصرع) جميعها تعتبر من بين معايير علاج مرض ثنائي القطب ، إذ أن العلاج النفسي أو التحليل النفسي وحده بلا أدوية يُعد ممارسة خاطئة. يرفض بعض الفنانين قطعاً فكرة تناول أدوية لضبط تقلبات مزاجهم وسلوكهم، لكن المثير للاهتمام هو وجود دليل على أن عدة كتاب و فنانين يتفاوتون في البحث عن رعاية نفسية، و بلا شك أن العديد منهم – بما في ذلك “بايرون” و “شومان” و” تينيسون” و”فان غوخ”و “فيتزجيرالد” و “لويل”- قد التمسوا المساعدة أكثر من مرة من أطبائهم، بينما توقف غيرهم من الكتاب و الفنانين عن تناول الأدوية حين افتقدوا أوج أو حدة العاطفة الملازمة لمرضهم، أو يعود سبب توقفهم أيضا إلى إحساسهم بأن الآثار الجانية للدواء إما أن تتعارض مع صفو تفكيرهم وسرعته أو تقضي على مستويات حماسهم و عاطفتهم و طاقتهم.

لطالما اعتبر مرض ثنائي القطب مرضاً وراثياً ، و خلال ما يزيد عن ألف عام لوحظت بوضوح نزعته للانتشار في بعض العوائل دون سواها، إلا أن التطورات الجذرية الحديثة في علم الأحياء الجزيئي قد وفرت تقنيات تمكن من إجراء أبحاث فائقة التطور عن جينات المرض. كما أن الزيادة الهائلة تقريباً في معدل دراسات تكوين الدماغ و وظائفه قد أسفر عنها مستوى معرفة بيولوجية لا مثيل لها في الطب النفسي حول مرض ثنائي القطب ؛ المرض الذي يعبر عنه بأنه تعقيد نفسي ذا مزاجية من بين الأمراض كلها. تلك المعرفة البيولوجية إلى جانب احتمالية قدرة مرض فتاك على منح منفعة فردية أو مجتمعية كلاهما يثيران قضاياً أخلاقية متعثرة. فهل يرغب أحدهم في القضاء على هذا المرض إن استطاع ذلك؟ شهدت بعض المناطق في الولايات المتحدة تطهيراً  ضد مرضى الذهان الوراثي، كما مُورس القتل الممنهج بحق أفراد مصابين بمرض ثنائي القطب في مخيمات تجمع الألمان. حتى اليوم تفرض عدة مقاطعات في الصين سياسات للتطهير و الإجهاض ملزمة لمن يعاني من مرض عقلي وراثي. مالقوانين التي ستنظم اختبار بزل السائل الأمنيوسي (Amniocentesis ) وغيره من أنواع التشخيص قبل الولادة و الإجهاض حال وجود جينات مرض ثنائي القطب (لدى الجنين)؟ ما هي انعكاسات العلاجات الوراثية المستقبلية و احتمالية المنع المبكر لمرض ثنائي القطب على المجتمع؟ أيجب أن يتمخض عن المعالجة النفسية فنانون ذوو سعادة أكبر لكن خيالهم أقل و أبسط؟ مالذي يعنيه لكتاب السير و النقاد بأن مرض ثنائي القطب و طباعه تشيع نسبياً لدى الكتاب و الفنانين الذين يتناولونهم بالدراسة؟ تطرح هذه الأسئلة بالإضافة إلى قضايا أخرى في الفصل الأخير.

ينصب تركيز هذا الكتاب على طباع أولئك الرحالة (الفنانين) و مزاجهم، وعلى وجود الخيط الرفيع بين مصير “إيكاروس” –الذي (أحرقته) النار بدل أن (تمسه)، وتساقط ريشه بشمع ساخن أحسّه – و بين مصائر الفنانين الذين نجوا في رحلة العبور –”دونما خسران ذات في غمار عالم الفوضى و “ليلة عتيقة”. يتحدث هذا الكتاب عن “مركب الليل” على حد وصف “شيموس جيني” للشاعر “روبرت لويل”.

يتحدث هذا الكتاب عن مثير المزاج و مُسكنه، عن دليل العبور في غمار  “العسير الخطير”، عن الرحلات:

كـــــــــنت مركــــــــــب ليلنــا
تشقُّ عُرض بحر شاسع
المركــب بأكـمله يضـج
بــــــلــــــــحـن  المـــــــــدافــــــــع
و عـــــــمد بــنـا المســــير
عـبر العـسير الخطيــــــر