مجلة حكمة

مقومات “تسلل” الحداثة إلى المغرب طبقا لسبيلا – د. حميد لشهب

10-jahre-jag-bbr-0234-jpg-34234750153973761-jpg-53881687169740603-1040x440
د. حميد لشهب

في كتابه: “في تحولات المجتمع المغربي”، الصادر عام 2010 عن دار توبقال المغربية، يقوم الأستاذ محمد سبيلا بمسح شامل للتغيرات التي وقعت في العالم العربي الإسلامي عامة، والمغرب خاصة، قُبيل الإستعمار، وأثنائه وبعده؛ رابطا كل هذه التغيرات بجملة من العوامل الحداثية، التي ساهمت في مخاض ومسار هاته التحولات الكبرى، التي تعتبر كذلك إرهاصات تحديث هذه المجتمعات.

والكتاب ليس رصدا وصفيا ستاتيكيا لكيفية تغلغل فكر الحداثة في النسيج الثقافي والسياسي والحضاري بصورة مجملة في البلدان المسلمة، بل تحليلا عميقا لمظاهر هذا التحديث وميكانيزمات الصراع القوية بين الثقافات العربية المسلمة والحداثة، بل وأيضا مواطن التكامل والتعاون والتعايش بينهما. أي هذه الأنواع من التنازلات المؤقتة من الجانبين، في انتظار تغيير حلبة الصراع أو ابتلاع الآخر. ولعل هذا الجانب “التفاوضي”، المعلن أو المضمر، بين التقليد والحداثة، هو أهم ما يقدمه فكر سبيلا في هذا الإطار، متجاوزا بذلك القطبين المعروفين: الصراع بين الإثنين أو الإقرار بابتلاع الحداثة للتقليد.

يصل أي متصفح يقظ للأطروحات المختلفة لسبيلا في هذا الكتاب إلى فهم تأسيسه مظاهر تحديث المجتمع المغربي على أسس رئيسية أربعة: فكرة الحرية، إشكالية الهوية، قضية الأصالة والمعاصرة، تحولات القيم. وبقدر ما تتفاعل هذه التيمات في الكتاب وتتقاطع، بقدر ما تتكامل، مشكلة بذلك وحدة الموضوع المدروس. ولابد من التنبيه في هذا المقام، بأن الأسس الأربعة الآنفة الذكر، لا تشكل كل الأسس التي يبني عليها سبيلا تحديث المجتمع المغربي، بل تعتبر جزء منها فقط، ذلك أنه يذكر الكثير من الأسس الأخرى في كتب كثيرة له.

سنقدم بتركيز كبير، آملين ألا نسقط في فخ الإختزال، جوهر الأسس الآنفة الذكر، وسندمج من حين لآخر بين ثناياها وجهة نظرنا، لتكون القراءة ديناميكية والعرض سلسا، دون “خلط” أو “خيانة” للفكر الأصيل لسبيلا.

يؤكد سبيلا بأن فكرة الحرية، منذ القرن 19، أصبحت شبه غريبة على الثقافة العربية الإسلامية، عندما هيمن التصور الغربي لها وأصبحت وسيلة في يد الغرب لفرض إرادته على الثقافات الأخرى، ومطالبته لهذه الأخيرة بإحداث تغييرات في أنظمتها باسم هذه الحرية. وينبه إلى حضور فكرة الحرية في الفكر العربي الإسلامي عقائديا وشرعا وعلى مستوى الفرد، على الرغم من أن فهمها يتراوح بين الجبرية والإختيار. وهذه الإزدواجية أنتجت كذلك ازدواجية في تمثلها في البلاد العربية الإسلامية ومنها المغرب.

يقدم سبيلا في هذا الإطار آراء مجموعة من المفكرين المغاربة فيما يخص الحرية، ويسجل بأن هناك اختلاف فيما يخص قبولها ورفضها. فأبو عبد الله السليماني مثلا، وعلى الرغم من أنه يرى الكثير من النقط الإيجابية للحرية، فإنه يرى بأنها تشكل خطرا على “آداب الأمة”، بل أيضا استلابا وتبعية للأجنبي. ويُلمَس مكمن الخطر في تصور السليماني للحرية، في نظرنا، في حديثه عن الحرية السياسية وتأكيده على وجوب طاعة “ولي الأمر”، وبالخصوص عندما يكون عادلا إلخ. ويكمن خلل تمثل الحرية السياسية بهذه الطريقة في كون المُتَمَثِّل لا يقدم أي تحديد أو تصور لا لكيفية التخلص من “ولي الأمر الظالم” ولا لكيفية اختياره بطريقة حرة من طرف الناس. وبهذا لا يمكن الإعتداد بتصور للحرية السياسية كهذا، لأنه يسكت على أهم شيئ فيها.

في مقابل هذا القبول المحتشم للحرية من طرف السليماني، نجد الرفض القاطع لها من طرف الناصري، لأنها في نظره منتوج غربي بامتياز، هدفها القضاء على الدين والأخلاق الإسلامية. ما نلمسه هنا، عندما نُمعن النظر، هو التفاوت المهول في تصور الغرب للحرية ولتصور الناصري لها، لأنه لم يع بأنه يرفضها لأسباب لم يعد الغرب السياسي يُدخلها في حساباته، يعني أنه يرفضها باسم الدين. هناك إذن تقابل بين الشرع والدستور، وكأن الحرية لا تترعرع إلا في هذا الأخير. نفس الشيئ نجده عند الكتاني، الذي يرى الغرب بدوره بمنظار إسلامي، ويُسقط عليه حكم المسلمين الأخلاقي. ويوضح هذا بما فيه الكفاية عدم استيعاب هؤلاء الفقهاء لعصرهم، وهذا ما ينص عليه سبيلا: “فالفكر المغربي الحديث تعثر في استيعاب فكرة الحرية الحديث بالقياس إلى نظيره في الشرق العربي. ولعل أسباب ذلك تعود إلى الإنفتاح المبكر للشرق على الغرب بعد غزوة نابليون، كما يعود إلى كون المغرب الذي لم يعرف التسلط العثماني، قد ظل مغلقا نسبيا عن التفاعلات السياسية والفكرية التي التي ارتبطت بغزو نابليون” (ص 25).

من المفارقات التي يعري عليها سبيلا هو كون الحرية أصبحت مطلبا بعد استعمار المغرب، ولابد هنا من التنبيه بأننا نخلط في تفكيرنا بين الإستقلال السياسيpolitique  l’indépendance والحرية كمطلب فردي-شخصي. من هنا، فما كان المغاربة يطالبون به هو الإستقلال، وليس الحرية. فعلال الفاسي حاول، بربط غير صريح لفكره بفكر الناصري، إلى إسقاط الفكر الغربي، معتبرا بأن أكثر ما جاء به موجود في الإسلام. ومن هذا الباب رأى مشروعية احتضان هذا الفكر، لأنه في نظره لا يعارض الشرع، بقدر ما يساعد على الإستقلال السياسي والإنخراط في مجتمع جديد. هناك إذن برغماتية واضحة لفكر علال الفاسي في هذا الإطار. بل أكثر من هذا فإن الحرية التي يتحدث عنها علال الفاسي، طبقا لسبيلا، هي حرية وضعية وليبرالية، على الرغم من أنه يرى بأن مصدرها هو مصدر إلهي؛ وهنا تكمن ثنائية الخطاب حول الحرية عند علال الفاسي بالخصوص وفي الفكر المغربي عموما.

أما إشكالية الهوية فهي في نظر سبيلا إشكالية محورية في فترات الإرهاصات الأولى للمرور من وضع إلى وضع آخر على المستوى الفردي، ومن حقبة تاريخية إلى أخرى على الصعيد الوطن أو الأمة. ومشكل الهوية في اعتقادنا الشخصي هو تعبير أيضا عن أي خطر حقيقي أو مُتخيل لجماعة سوسيولوجية معينة، عندما تستشعر بأن التغيير قد يكون خطرا عليها (أي على مصالحها العقائدية والسياسية والدينية إلخ)، كما أنه يُستغل استغلالا بشعا، لأنه يُساهم في إنتاج أحكام نمطية ومُسبقة عن الآخر وثقافته؛ بل يقود إلى الحكم بدونية هذا الأخر، دون ضوابط موضوعية، بل عن طريق أحكام قيمة متبادلة. فالغربي عند عامة المسلمين -إلى حد الآن على ما أعتقد- هو إنسان إيباحي، متفسخ الأخلاق، كافر إلخ، والعربي عند عامة الغربيين -إلى حد الآن بالتأكيد- هو البدائي، الكسول، الإرهابي إلخ. وهذا ما يؤكده سبيلا: ” فالشعور بالهوية، بل واحتداد هذا الشعور، يتولد عن تفاعل واحتكاك ومقارنة بين مجتمعات مختلفة إما عن بعد أو عن قرب، خارجيا أو داخليا.

وغالبا ما يتولد الشعور بالهوية وتتنامى مشاعره لدى المجتمعات أو الفئات المجتمعية التي تحس بأن التفاعل أو المقارنة ليسا في صالحها، وكأن مشاعر الهوية هي مشاعر دفاعية ضد آليات التفاعل، وإرادة السحق التي يبديها الآخر. إنها ربما مشاعر ملجئية في صيغتها الأولى، وكأنها رد على مشاعر الإهانة والدونية وإرادة المحو” (ص 55).

يرى سبيلا بأن هناك ثلاثة شِعاب لإشكالية الهوية في المغرب: الهوية الإسلامية، الهوية الأمازيغية والهوية الكونية: “انطلاقا من ذلك أفترض أن الفضاء الأيديولوجي للهوية في بلادنا تتنازعه اليوم ثلاثة حساسيات أو خطابات هوية. أولها الخطاب الإسلامي بشقيه الإسلامي والعروبي وبمختلف تلويناته، وخطاب الهوية الأمازيغية بشقيه الأمازيغية الثقافية والأمازيغية السياسية، والخطاب الكوني” (ص 56).

اهتم الشق الأول بالخصوص على الهجوم “المجاني” في نظرنا على خطاب الهوية الأمازيغية، حتى ليخيل بأن النقاش حول الهوية في المغرب يُختزل في “الصراع” الإثني بين العرب والأمازيغ. ونظرا للأهمية القصوى لهذا الموضوع، سنفرد له نصا قائما بذاته لاحقا. نكتفي هنا بالإشارة بأن “جماعة العدل والإحسان” حملت على عاتقها، كرسالة لربما “سماوية”، منذ 1980 مسؤولية محاولة طحن “خطاب الهوية الأمازيغية”، وبالخصوص عندما كانت قريبة بعض الشيئ من النظام.

يُعتبر كتاب عبد السلام ياسين: “حوار مع صديقي الأمازيغي”، -مع الإشارة بأن استعماله لكلمة “حوار” هو استعمال تعسفي للغاية، فلا يتعلق الأمر في هذا الكتاب بأي “حوار” بل بطلقات مدفعية مجانية ورخيصة ضد ما أسميه أنا شخصيا: “الصحوة الأمازيغية في هويتنا المركبة”-. ومن أهم الإتهامات الخطيرة التي دونها عبد السلام ياسين عن الحركة البربرية، وما تزال بصمة عار في جبين تاريخ المغرب المعاصر، هو اتهامها بالعمالة للأجنبي، بل أكثر من هذا، نصب نفسه “خليفة الله على الأرض”، حاكما على الأمازيغ بأنهم غير مسلمين. نعتقد بأن الهجوم الشرس لياسين على الأمازيغية، وتسلحه “بمدفع” اللغة، يُضمر في عمقه محاولة نفي حق الأمازيغ الإشتغال بالسياسية والإنخراط فيها. إنه خطاب عنصري محظ بكل المعايير. فشعوبيته في هذا الإطار تجاوزت كل حد. والغريب في الأمر هو أن ياسين لم يُطالَب أبدا للمحاكمة على تصريحاته ضد مجموعة بشرية كبيرة في المغرب، لا من طرف السلطات الرسمية القائمة في المغرب، ولا من طرف الحركات الأمازيغية ذاتها، ولا من طرف المنظمات العالمية لحقوق الإنسان.

الحال أن حالة ياسين لم تكن استثناء في هذا الإطار، بل أن فريقا لا يستهان به من الباحثين “الحداثيين” انخرطوا في نفس الخط العنصري الغير المقبول هذا. ويندهش المرء عندما يصطدم بأسماء كانت تدعي أنها تُمثل “العقلانية” العربية من قبيل الجابري وبلقزيز مثلا. ويبقى موقف الجابري غير مفهوم في هذا الإطار، بل بصمة عار في تاريخه الفكري، لأنه كان ينحدر من منطقة بربرية، ولا غرو أنه كان يسبح في فضائها الثقافي الشعبي، بل لربما كان يتكلمها. فرفض دفاع مجموعة معينة، لا يهم إن كانت كبيرة أو صغيرة، على حقها في الوجود في اختلافها وخصوصيتها، هو رفض لتعددية مجتمعية وثقافية مطلوبة في المجتمعات الحديثة. ولا يمكن تأويل هذا الرفض إلا باعتباره انفصام في أحسن الأحوال وعنصرية مرفوضة في شموليتها. فإذا انبرى مفكرون من هذا الحجم في المساهمة الواعية والنشيطة في محاولة إقصاء أي مكون، ولو صغير، مما يشكل الهوية المغربية، فلابد من التنبيه بأن التاريخ الفكري لهذا البلد الآمن يسجل عليهم هذا، بل لا يقبله على الإطلاق، لأنه شعوبية محضة، كما عهدناها عند الشعوبيين في فرنسا وألمانيا وأمريكا إلخ.

إن خطاب الهوية الأمازيغية، وكما يستف سبيلا ذلك أيضا، هو خطاب منخرط في عصره، يتغذى من الحداثة ويحاول الإستفادة من “خيراتها” لبناء هوية، قوامها تعزيز اللغة والثقافة والإنخراط شبه اللامشروط في شروط الحداثة؛ على الرغم من أن واقع الأمازيغ الفعلي في نظرنا، يوشي في نفس الوقت بأن هناك أيضا هذه المحافظة المتشددة، دينية أو اجتماعية وثقافية. فعمليات صهر الأمازيغ منذ وصول أول مجموعة عربية مسلمة للمغرب، ساهمت إلى حد كبير في إنتاج تلك المحافظة الثقافية التي نجدها عند القبائل العربية في كل بلاد العرب، وهي محافظة يُلبسها المرء في غالب الأحيان لبوسا دينية، إلى درجة أنه أصبح من العسير التمييز بين ما هو ديني وما هو أعراف وتقاليد في بعض الممارسات الشخصية والإجتماعية.

إن تَشَارك كل الإثنيات واللغات واللهجات التي تكون الهوية المغربية العامة في هذا المنطق المحافظ، شاهد إثبات على أن الهوية هي شيئ ديناميكي، غير قار. يتغير بتغير المحيط التاريخي العام، أكان ذلك على المستوى العالمي أو القطري. ويكمن سبب محاولة هيمنة ثقافة على أخرى في نفس البلد، وكما نبه سبيلا إلى ذلك، إلى كون عُميان الهوية الأحادية الجانب، لم يفهموا من الهوية في مدلولها الفلسفي والإنثروبولوجي إلا القشور. فإذا كانت الهوية تعني في علم المنطق تلك الوحدة المتحدة مع نفسها، حيث لا يمكن لـ “أ” أن يكون شيئا آخر من غير “أ”، يعني ذاته، ويوحي هذا بالثبات والسكون وعدم التغير الأبدي؛ فإن الهوية الثقافية على العكس من ذلك تماما، لأن منطقها يتبع منطقا آخر، قوامه التغير المستمر، في حركة دائبة يحكمها تاريخ البشرية. وكل من يعتقد بأن هويته الذاتية والمجتمعية قارة، هو إنسان لم ينضج بعد، لا أخلاقيا ولا فكريا ولا نفسيا ولا اجتماعيا. فالحركة والتبدل هي الهوية الحقيقية للعنصر البشري، بل هي التي تحدد كل التفاعلات -الإيجابية والسلبية- في أية رقعة جغرافية، أتعلق الأمر بوطن كبير أو بزقاق في مدينة أو قرية صغيرة.

ينطلق سبيلا في تشخيصه لقضية الأصالة والمعاصرة عندنا، من بديهية تتمثل في كون فكرة الإصلاح هي تجل أيضا للصراع بين التحديث والتقليد: “الدعوة للإصلاح في معنى تطوير الإدارة والتعليم والإقتصاد إلخ كمطلب استعماري اتجاه مستعمراتها، والإصلاح من منظور “الفقهاء” المسلمين كتصحيح لأحوال المسلمين وتخليصهم مما علق بهم جراء احتكاكهم بالمستعمر، وبالخصوص الإنبهار بالمنتوجات التقنية وفكرة الحرية، التي استُوعبت أساسا كإسقاط لحقوق الله، وطور بعضهم تصورا أبوكاليبسي، قُدم كنهاية الساعة ونهاية العالم، وبالتالي البشرية: ” الأفق والمرجع الحقيقي للإصلاح هو الحداثة والتحديث أي أن الإصلاح هو خطوة في درب التنظيم، والعقلنة، والتحرر، واستيعاب منطق العالم المعاصر. وكل منادة بالإصلاح لا تستحضر هذا الأفق التحديثي ستظل مراوحة في المكان ومنذورة للإنتكاس والنكوص”. (ص 68). هذا الموقف الواضح من التحديث، يؤطر سبيلا، في نظرنا، في إطار المفكرين العرب الذين استوعبوا بنفس القدر وعلى نفس المستوى ثراتهم الأصلي والفكر الحداثي الغربي. وإذا كان الموقف الحاسم والحازم لسبيلا واضحا: “إذا كنا نريد حداثة حقة فإن علينا عدم الإكتفاء باقتطاف بعض ثمارها بل علينا أن نغرس شجرتها ونتعهدها بالعناية والرعاية، لأنها سيرورة عسيرة وطويلة الأمد، وليست نموذجا جاهزا للإقتطاف والإرتداء والإستهلاك” (ص 69)، فلأنه واعي بما فيه الكفاية بأننا: “نحن جميعا راكبون في قطار الحداثة بما في ذلك أولائك الذين يعارضونها أو يرفضونها أو يأكلون الغلة ويسبون الملة كما يقال” (ص 70)؛ لأنها إذا لم تُختر بمحض إرادة، فإنها ستُفرض ضد كل إرادة: “علينا أن نكون على أتم الوعي بأنه من المحكوم علينا، في المدى المنظور، أن نظل نركض باستمرار وراء أرنب الحداثة الفرّار كما قال الشاعر إدريس الملياني، وذلك لأن الحداثة هي بكل بساطة قدر العصور الحديثة” (ص 73).

وأهم ميدان يلمس فيه سبيلا “تسلل”، ولربما “توغل” الحداثة في الثقافة المغربية هو ميدان القيم. ذلك أنه يؤكد على تحول القيم في المغرب منذ بداية استعماره، وتسارعت وتيرة هذا التحول بعد الإستقلال في كل الميادين. ولم يتم هذا التحول في خط مستقيم، بل على مراحل لا تخلو من صراع. فقد دُوهمت وصُدمت المنظومة التقليدية، ومن تم حدث اختلال للقيم واختلاط للمعايير. وما تغير بالفعل هي الشروط الإجتماعية، التي فرضت على الأفراد أن يتغيروا كذلك، وفي هذا نوع من الحتمية وإعطاء الأولوية للعوامل السوسيولوجية في تغيير الأفراد: “فالمجتمع الذي داهمته بعنف وتسارع عجلة التحديث يُصاب بشروخ عميقة في البنية والوعي. وهذه الشروخ والتمزقات تطال كافة مستويات الوجود الإجتماعي التي ينشطر إلى ثنائيات متصارعة تنعكس على وعي الأفراد ونظرتهم وقيمهم” (ص 98).

يحدث التحديث بصيغة شاملة، لا تخلو من عنف ظاهر أم مُضمر: “إن التحديث تحول شمولي يمارس نوعا من العنف على البنية التقليدية للمجتمع الذي ينخرط في دينامية تحول تدريجي من مجتمع مغلق إلى مجتمع متفتح على ما هو خارجي وعلى ما هو جديد، مجتمع تداهمه التحولات وتنقله من مجتمع آسن إلى مجتمع تفاعلي وتنافسي” (ص 99). ومن سُبل التحديث هناك الإستعمال اليومي لمنتوجاته التقنية والصناعية: “الإستعمال المعمم للأدوات التقنية الحديثة يصحبه سيادة منطق الشيئية والفعالية، والنجاعة وسيادة النزعة أو النظرة الأداتية أو الوسائلية وذلك لأن التقنية ليست مجرد منتوجات محايدة، بل إنها محملة ضمنيا بثقافة لا يدركها الملتقي أو المستهلك” (ص 99). وهذا الإستعمال هو بالضبط الذي يحدد مستويات  تمظهرات تغير القيم: تنافي قيم الفردانية والمجموعات، ارتفاع وتيرة النزعة البضاعية، تزايد معايير الشيئية، يعني سيادة النزعة الأداتية، بما في ذلك الإنسان، وهذا أخطر ما يمكن أن يحصل: “تترسخ بالتدريج في سلوكات الأفراد و لاوعيهم أولوية القيمة التبادلية أو البضاعة على القيمة الذاتية للأشياء. وتسري هذه العلاقة من البضاعة لتعم كافة الأشياء وكافة العلاقات البشرية، بل تُطال البشر ذاتهم. وهذه آلية موضوعية مرتبطة بميكانيزم اقتصادي حتمي عِلِّي (causal) وتتغلغل بشكل حتمي في سلوك الأفراد وفي وعيهم عن طريق لاوعيهم ذاته” (ص 101). ولا يخلو هذا الإستنتاج من نقد ضمني لبعض تجليات التحديث التقني، الذي لا تكون نتائجه دائما إيجابية على المجتمع، وبالخصوص إذا كنا نعلم بأنه يخلق أوتوماتيكيا تشنجات في ميادين مجتمعية مختلفة: “مع التحديث، نحن أمام تحولات كلية بل أمام مجتمع تداهمه توترات كبرى في كافة مجالاته ومستوياته بين القيم القدرية المتوارثة المشبعة بروح القبول بنواميس المجتمع والكون والقناعة والرضا بالمصير والسكينة، وسيادة آليات التعاضد الإجتماعي وبين القيم الجديدة، قيم المبادرة الفردية والتمرد والتجديد وعدم الرضا بالمصير، والتطلع إلى اقتطاف أعظم النتائج ببذل أقل مجهود” (ص 101). وبما أنها تحولات تحدث في “الخفاء”، أي لا نعيها في ظهورها المبكر، فإنها تُحدث مفعول المفاجئة في المجتمع، وهي تحولات تساهم أيضا في “صراع الأجيال”، قد يندمج فيها الشباب بوتيرة أسرع من جيل الآباء والأجداد. وقد ينتج عنها أيضا “تفسخ” و”انحلال” قيمة مجتمعية قديمة، تتمثل في البناء الهرمي للأسرة و”السقوط الرهيب” لسلطة الأب عموما. هناك إذن تحول اجتماعي، يتمظهر في ظواهر التفكك التدريجي للكثير من القيم الإجتماعية داخل العائلة وخارجها، بما في ذلك غياب التضامن والتآزر إلخ.

قد يكون أهم تحول للقيم في نظر سبيلا هو التحول الإدراكي أو الإبستيمولوجي. وفيه يشخص معضلة “الفصام الثقافي”، حيث توجد منضومتان متصارعتان: “يَسِمُ نفسية الفرد وجهازه الإدراكي بتوتر عميق سمته تشقق أو انكسار مرايا الرؤية التقليدية، وتضبب مرايا الرؤية العصرية، حيث يعيش المرء في إطار مجتمع متحول داهمته الحداثة بعنف، ممزقا بين نظامين معرفيين ورؤيتين مختلفتين”.

ما يلاحظه سبيلا هو أن هذه التحولات لم تطل المغرب العميق أو غير النافع -أي الفقير- إلا جزئيا كما أنه طال الفئات العليا والمتوسطة دون الطبقات الدنيا؛ وهذا ما يشرح في نظره أيضا عمق الصراع بين التحديث والتقليد. كما يلاحظ بأن هذه التحولات تطال أكثر القشور، أي المظهر الخارجي للمجتمع، أكثر مما تطال الأعماق، أي الأسس الأيديلوجية، سواء أكانت سياسية-اقتصادية أو دينية-عقائدية. وقد يكون هذا في نظرنا أيضا أحد أسباب احتدام الصراع الطبقي الحاد، المصاحب بصراع على الماديات المحضة والمظاهر والتسابق الأعمى نحو “التسلح” لحقيق مستوى أعلى من الإستهلاك ورفع شارة انتقاء “الماركات” من السلع المعروضة في السوق، لأنها تُمثل في الوعي الجمعي التفوق والتميز. وقد يكون هذا ما يقصده سبيلا ب”عنف الحداثة” أيضا، وهو عنف رمزي وفيزيقي في الكثير من الأحيان.

لا تعني اللوحة التي رسمناها بأن سبيلا يؤكد على “الصراع الأبدي” بين التقليد والحداثة، بقدر ما يسجله ويغطس لسبر أغوار ومغارات ميكانيزمات التفاعل بينهما، ودراسة الإستراتيجيات التي يستعملها الإثنان في هذا الإطار: “بيّن التطور أن للتقليد قوته وآليات صموده ومقاومته وتكيفه وقدرته على الإختراق، فهو لا يستسلم ويذعن بسهولة بل يقاوم ويحاول أن يتكيف مع الجديد فيستعير منه بعض مظاهره أو رموزه. كما أن للتحديث قوته وآليات هيمنته واختراقه، إما بالإغواء والإغراء وتقديم الخدمات والفوائد أو بقوة النموذج. وقد يرتبط فرضه ونشوؤه بالقوة السافرة نفسها، كما حصل ذلك في كل البلاد التي داهمها الإستعمار الأوروبي، حيث تداخلت فيه قوتان وصدمتان وشكلان قويان من أشكال العنف، صدمة الإستعمار وصدمة التحديث” (ص 134 وص 135). بصريح العبارة، فإن الإستعمار كحلقة من حلقات التحديث الأوروبي، بل كالإبن الشرعي له -إذا ما افترضنا أن سببه كان هو استجلاب المواد الخام الضرورية للتصنيع والولوج إلى أسواق جديدة- هو أعنف وجه للتحديث، بل أبشعها، وبسببه المباشر كان الرفض الواضح للتحديث في عهد الإستعمار السياسي المباشر للبلدان العربية، ومنها المغرب. وعلى الرغم من ذلك فإن هناك، حسب سبيلا تشابكا بين: “المعطى التقليدي والمعطى الحديث على مختلف مستويات الكل الإجتماعي في عمليات تفاعل معقدة وفي عمليات تبادل وتنافس رمزية جزئيا أو تدريجيا بأشكال متفاوتة مصداقيتها وقوتها في إنتاج المعنى وتأطير الأفراد والجماعات والمجتمع ككل، وفي نفس الوقت لم تستقر منظومة القيم الحديثة البديلة ولم تفرض قدرتها على استيعاب وتأطير وتوجيه التحولات المجتمعية الجديدة” (ص 135).

ما حدث على المستوى القيمي في المغرب، كنموذج لالتقاء وتصادم التحديث والتقليد، هو ظهور نوع جديد من القيم، لا يمكن أن يؤطر لا في هذه الخانة ولا في تلك، أو كما يعبر سبيلا على ذلك بوضوح: “التحول في مجال القيم ليس تحولا حاسما ونهائيا، لأن القيم التقليدية لا تموت بل تبحث عن شكل جديد لتحيا، كما أن القيم الجديدة لا تَجُبُّ ما قبلها. فالأمر هنا لا يتعلق بقيم تطرد أخرى، بل بقيم تدخل في تفاعل وتنافس واستعمال متبادل مع نقائضها فتحتلها جزئيا أو تسلبها بعض إشعاعها أو فعاليتها أو ديمومتها، أو تتكيف معها أو تتدثر بها وتستعملها إما لتحيا أو لتفرض هيمنتها” (ص 135). لكن لا يعني التقاعل بين القيم التقليدية والحداثة بأنها تمشي يد في يد وفق خط مستقيم متصاعد، بل إن الأمر يتعلق بحركة متموجة: “إن المجتمع المغربي يعيش حالة انتقالية طويلة المدى، تتراوح بين التعايش والصراع بين منظومتين قيميتين نوعيتين: المنظومة التقليدية وهي منظومة عريقة ودات جذور ومرتكزات ثقافية عميقة قوامها قوة الإنتماء وتقديس الماضي واحترام المقدسات، وسيادة قيم التضامن واحترام التراتبات والولاءات والوفاء وأخلاق النية والرضا بحكم القدر. أما المنظومة الثانية، فهي منظومة ثقافية ذات مصادر كونية وقوامها الحريات والحقوق الفردية والفئوية الجماعية، حرية الأفراد وحقوقهم، حرية المرأة وحقوقها، حرية الفرد وحقوقه … وكذا حق الإختلاف والتعدد والتسامح العقدي…” (ص 137).

لا نجادل في كوننا، وعلى الرغم من هذا العرض المسهب لأطروحات سبيلا فيما يخص “انسياب” الحداثة للمغرب، لم نقم في العمق إلى بمقاربة متواضعة جدا، لأن موضوع الدراسة معقد للغاية، متشعب على أكثر من مستوى ولا يمكن الإحاطة به في شموليته في قراءة مثل هذه. أضف إلى ذلك بأن فكر سبيلا في هذا الميدان شاسع وطريقة كتابته ليست سهلة على الإطلاق للإلمام التام بدراساته الغزيرة في هذا الميدان.

ما يجب التأكيد عليه في خاتمة هذه القراءة هو أن الأسس الآنفة الذكر التي ساهمت في بداية تحديث المجتمع المغربي قد أصبحت أكثر تجليا في بداية القرن الواحد والعشرين، وبالخصوص وضوح خاصية تجاذب التقليد والتحديث، بكل ما ينتج عن ذلك من تناقضات ظاهرة وخفية على المستوى القيمي. فالشعور بتلك “الدوخة” المجتمعية، المميزة للالتقاء العنيف والغير المتوازن على مستوى القوة بين التحديث والتقليد، تتأكد يوميا منذ عشرات السنين في المغرب. هذا التذبذب وعدم الوضوح هو الذي يحاول سبيلا في كتابه “في تحولات المجتمع المغربي” تقصي أبعاده، بوسائل يلمس المرء فيها الفلسفي والتحليل نفسي والسوسيولوجي. ومنهج التناول هذا هو الذي يسمح بالتأكيد بأن المقاربة، ليست فقط جدية، بل أصيلة، لأنها تجاوزت الضباب حيث نوجد، واقترحت حلولا مصيرية، لا مفر منها، ما دام الوعي “السعيد” -(في مقابل الوعي الشقي)-، هو الذي يرى حظوظا إيجابية قد تنتج عن “اصطدام” التقليد بالحداثة، وبالتالي لربما “اختراع” حداثة أصيلة، ليس في معنى “التوفيق” بين الإثنين، بل خلق شيئ جديد منهما معا.