مجلة حكمة
ابن رشد

مفهوم المحاكاة بين أرسطو وفلاسفة الإسلام: مراجعة نقدية – محمد القرقوري

مجلة الجابري – العدد الثالث


معلوم أن النظرية الارسطية في الشعر والفن عموما ، وما يتعلق بأسسها الجمالية، تقوم بكاملها على مفهوم المحاكاة ، وهو مفهوم مركزي في كتاب الشعر لأرسطو. وقد أثيرت حول المفهوم نقاشات و جدالات واسعة بين مختلف أصناف الباحثين في قضايا الشعر و الفن، و فلسفة الجمال بكيفية خاصة، وذلك منذ أن ظهر الاهتمام بكتاب الشعر لأرسطو لدى مفكري عصر النهضة الأوروبية مع بداية العصر الحديث ، ولازال النقاش مستمرا الى لحظتنا الراهنة، خاصة في حقول علوم البلاغة والنقد الحديث.

ولعل السر في اتساع دائرة الاهتمام بـهذا المفهوم من طرف المهتمين بقضايا النقد والشعرية العامة، يعود بالكلية إلى طابع الإرباك الذي صاحب المفهوم ، خاصة لدى الباحثين الاروبيين، منذ أوائل القرن 16 والى الآن ، وهو إرباك غذى ، بشكل ظاهر، جميع الآراء التي أثيرت حول المفهوم، ولقد أرجع بعض الباحثين هذا الإرباك إلى طبيعة المفهوم ذاته، من حيث هي طبيعة تكونـها الحمولة الأفلاطونية، التي لم يستطع أرسطو، حسب رأي هذا البعض من الباحثين، استبعادها بكيفية واضحة وصريحة في خطابه حول الشعر . وهذا ما جعل، حسب هذا الرأي ، القضايا التي طرحها أرسطو في كتابه عن الشعر (هدفا لألوان لا حصر لها من التأويل والفهم المتباين)([i]) وعلى رأس كل هذه القضايا قضية المحاكاة نفسها، والتي هي حجر الأساس في الخطاب الأرسطي حول الشعر والفن كما أسلفنا.

ومن أجل الاقتراب من حقيقة المفهوم، كما استخدمه صاحب كتاب الشعر، وكما فهمه فلاسفة الإسلام، بوجه خاص، نؤكد في البداية، وبحسب ما يبدو لنا من وجهة نظر نقدية، أن استخدام أرسطو لهذا المفهوم هو استخدام يبتعد كليا عن مضامين أقوال أفلاطون المدرجة في الكتب الثلاثة من الجمهورية، ويتعلق الأمر بالكتاب الثاني والثالث والعاشر ، بل الحق هو أن استخدام أرسطو لمفهوم المحاكاة يسلك سبيلا ضديا بالمقارنة مع استخدام أفلاطون له . وبيان ذلك أن أفلاطون في استخدامه للفظ المحاكاة خاصة في الكتابين الثالث والعاشر ، اللذين يرد فيهما لفظ المحاكاة بذاته، إذ هو في الكتاب الثاني يستعمل لفظ التمثيل بدل المحاكاة ، إنما كان يعني عنده النقل المباشر لأحداث أو أفعال الواقع ، ومن ثم فهو يعطيه حمولة قدحية ، عندما يجعل المحاكاة صفة مشينة للشعر والفن عامة.

لقد كان أفلاطون يتصور، هذا ما تؤكده الأقوال الأفلاطونية نفسها، أن ما يحط من قدر الفن، ويقلل من قيمة العمل الشعري، هو كونه يعتمد المحاكاة، مما يبعده كل البعد عن الحقيقة، حسب تعبير أفلاطون، والغريب في أمر أفلاطون هو أن ما لم يكن يرضى عنه في أمر المحاكاة يعود إلى صورة التعبير الشعري والتشكيل الفني عموما، أي قالب العمل الشعري وشكله. وفي هذا الشأن يقول أفلاطون : “فإذا ما نزعت عن الشعر قالبه الشعري، فلا شك أنك تستطيع أن تراه على حقيقته، عندما يتحول إلى نثر.”(2)

وتبقى ملاحظة الأستاذ فؤاد زكريا، في هذا السياق، ذات دلالة خاصة، وذلك بحكم أنه دارس ومترجم ممتاز لجمهورية أفلاطون، حيث لاحظ مدى غرابة هذا الرأي عند أفلاطون حول الشعر والذي “يقول فيه إن أسلوب النثر أو الحديث المباشر، أفضل من الأسلوب الدرامي الذي ترد فيه الكلمات على لسان شخصيات يصورها الشاعر.”(3) و”مصدر هذه الغرابة هو ما توضحه الكيفية التي أخضع بـها أفلاطون الفن للاعتبارات العملية، وباعد بينه وبين مجال الخيال البحث “(4)

و وراء هذه المواقف وغيرها التي صرح بـها أفلاطون ضد الفن والشعر يكمن الفهم الساذج الذي كان أفلاطون قد كونه عن مبدإ المحاكاة في الفن، كان يعتقد بأن ” الفنان الخالق يحاكي العمل الذي يخلقه، ويكتسب شيئا من طبيعته ، أو يكسبه (ذلك العمل) شيئا من طبيعته الخاصة”(5).

وأصل كل هذه المواقف الأفلاطونية المثيرة حقا، وكما أكد، مرة أخرى، فؤاد زكريا بحق. ” أن أفلاطون لم يكن يضع في ذهنه المقاييس الجمالية حين أصدر هذه الأحكام، وإنما أصدرها على أساس مقاييس فلسفية، لا صلة لها على الإطلاق بالشعر والفن في عمومه.”(6)

وهذا ما يفسر لنا كيف أن أفلاطون عاب على الشعر كل ما هو مميز بحق للعمل الشعري.(7)) وحتى لا أطيل في موضوع يحتاج إلى الإطالة والتوسيع، في مناسبة أخرى غير هذه، أقول وبتركيز شديد، إن أفلاطون كان إنما يستخدم فكرة المحاكاة كأداة، غير دقيقة، لنقد الفن وهدم أسسه، من وجهة نظر فلسفية مثالية، تتغنى بالجمال وبالجميل، ظاهريا، وتستبعده بكيفية نـهائية من الحياة الواقعية للناس، وليس كمبدأ لتفسير ظاهرة الفن وإظهار طبيعة العمل الشعري والفني .

وعلى عكس هذا النهج سلك المعلم الأول في كتابه عن الشعر. إذن ليس هناك أي اعتبار للقول بأن أرسطو إنما نقل عن أفلاطون مفهوم المحاكاة، وبنى عليه أقواله الواردة في الكتاب المذكور، وهذه هي الأطروحة التي سنعرضها فيما هو آت من صفحات هذه المقالة، وبالطبع من خلال قراءة فلاسفة الإسلام لأقوال أرسطو.

ينطلق أرسطو في تحليله ودراسته للظاهرة الشعرية والفنية، من التأكيد على أن الفعالية الشعرية والفنية، لدى المبدعين عموما، تتعلق أساسا بالمحاكاة، وتختلف الأعمال والمبدعات الفنية والشعرية، بعد ذلك، تبعا للأنحاء التي تكون بـها المحاكاة، وهي إما ترجع إلى الوسائل أو الموضوعات أو الأسلوب والشكل الفني.

والمحاكاة في استعمال أرسطو، هي بالإضافة إلى كونـها مبدأ سببيا للشعر والفن، فهي أيضا، وقبل ذلك، مبدأ غريزي في الإنسان، يرتبط به تهيؤ الإنسان لتقبل المعارف الأولية، كما يرتبط به الشعور باللذة الناجمة عن حصول المعرفة والتعلم لدى الإنسان.(8)

إن المتأمل في أقوال أرسطو المدرجة في هذا السياق، يدرك بوضوح، أن مفهومه للمحاكاة، لا يقف عند مجرد كونه أداة خارجية لمقاربة العمل الفني ونقد فعالية الإبداع الشعري والحكم عليها، انطلاقا مما هو بعيد عنها، كما فعل أفلاطون بالضبط، بل لقد أصبحت المحاكاة، هنا، مع أرسطو هي جوهر العمل الشعري والفني ، الذي يتوقف على فهمها وتحديدها، فهمنا وإدراكنا للفعالية الخالقة والمبدعة، بكل عناصرها ومكوناتـها.

إذن، كيف كانت قراءة فلاسفة الإسلام لهذا المفهوم الأرسطي، الذي سال حوله مداد كثير في الغرب المسيحي، منذ بداية عصر النهضة وحتى ميلا د مدارس النقد الحديثة في الغرب المعاصر. ؟

يؤكد أبو نصر الفارابي في تلخيصه لكتاب الشعر، على أن الأقاويل التي تتصف بالشعرية هي (التي توقع في ذهن السامعين المحاكي للشيء) والمحاكي للشيء في تعبير الفارابي، هو صورته وتشكيله الفني، الذي هو جوهر عملية الخلق الفني، عند الشاعر والمبدع ، وهذا ما يجعل المحاكاة مرادفا للخلق الفني، الذي هو فعالية مشتركة بين كل الفنون الممكنة.

ويوضح الفارابي تعميمه لمبدأ المحاكاة على فنون أخرى يجمعها وصف الشعرية قائلا: ” فإن محاكاة الأمور قد تكون بفعل. وقد تكون بقول، فالذي بفعل ضربان: أحدهما أن يحاكي الإنسان بيده شيئا ما ، مثل ما يعمل تمثالا لا يحاكي به إنسانا بعينه، أو شيئا غير ذلك، أو يفعل فعلا يحاكي به إنسانا ما أو غير ذلك. والمحاكاة بقوله : هو أن يؤلف القول الذي يصنعه أو يخاطب به من أمور تحاكي الشيء الذي فيه القول، وهو أن يجعل القول دالا على أمور تحاكي ذلك الشيء.”(9)

والذي يفهم من قول الفارابي، هو أن الفنون كلها تلتقي حول مبدأ المحاكاة، وتختلف بعد ذلك في وسائل وأدوات هذه المحاكاة. فالاختلاف، حسب تعبير الفارابي، يكون في مادة الصناعة، بينما الاتفاق يكون في صورتـها وأفعالها وأغراضها، على أن الصورة هي نفسها المحاكاة ، والأفعال هي وسائل تبليغ الأثر الفني إلى المتلقي، ويتعلق الأمر بالتشبيه والاستعارة، وبالمجاز عموما، وهذه للقول الشعري. والأضواء والظلال بالنسبة للرسم أو التزويق، بلفظ الفارابي، والأنغام والإيقاعات بأوزانـها وأشكالها للموسيقى والرقص. وأما الأغراض، فهي تحريك الخيال والحواس، بما تنقله إليها الأعمال المبدعة .

وإذا كانت المحاكاة هي مبدأ كل خلق أو إبداع شعري وفني ، كما هو واضح من كلام الفارابي، فهل ذلك يعني أن الشعر والفن مدارهما يقف عند حد استنساخ الواقع ونقل معطياته.؟

الواقع، أن ما تنطق به النصوص، أعني أقوال الفارابي وأقوال ابن سينا وابن رشد، كلها تفيد عكس ذلك. فالمحاكاة في فهم أبي نصر لا تعني أبدا نقل ما في الواقع أو استنساخ معطياته، ذلك أن ما يؤكد عليه الفارابي هو أن ما تعكسه المحاكاة إنما يقف عند حد المشابـهة والمماثلة بمعناهما البلاغي، لأن هدفها ، فنيا، هو ” أن تخيل في الأمر الذي فيه المخاطبة ، حالا ما، أو شيئا أفضل أو أخس، وذلك إما جمالا، أو قبحا، أو جلالة أو هوانا، أو غير ذلك مما يشاكل كل هذه.”(10)

إذن العمل الشعري بما هو محاكاة، ليست غايته هي استنساخ ما في الواقع وتقليد معطياته، بهدف تحقيق المطابقة بينها وبين العمل الشعري والفني . إن هذا النفي هو ما يؤكده قول الفارابي بخصوص الأقاويل الشعرية من حيث هي ” كاذبة بالكلية لا محالة “(11) ومعنى كونـها كاذبة في سياق كلام الفارابي الذي هو تلخيص لكلام أرسطو ، كما فهمه المعلم الثاني، أن الأقوال الشعرية غير موكلة ولا ملزمة بنقل ما في الواقع والإتيان بما يطابقه. وهل نحتاج هنا إلى أن ننوه بفهم الفارابي لطبيعة المحاكاة على أنـها خلق وتخييل وتشكيل للموضوع الشعري، على أساس أن غرض المبدع، وكما يقول الفارابي هو : “أن يوقع في ذهن السامعين – والمتلقين – المحاكي للشيء بدلا من الشيء نفسه”.(12)

وفي هذا الاتجاه نفسه، وبوضوح أكثر، يسير ابن سينا في سياق تعريفه للمحاكاة، حيث يقول : “والمحاكاة هي إيراد مثل الشيء، وليس هو هو، فذلك كما يحاكى الحيوان الطبيعي بصورة ، هي في الظاهر كالطبيعي “.(13) فالمحاكاة في فهم ابن سينا هي كذلك لا تعني المطابقة لما في الواقع، أو تقليده حرفيا. وكلام ابن سينا هنا أوضح كثيرا من كلام الفارابي. لنستمع إليه وهو يدقق دلالة المفهوم الصعب في كتاب أرسطو، والذي سالت حوله محابر من المداد من قبل نقاد الأدب والفن في أوروبا ومنذ مطلع القرن 16 والى يومنا هذا. يقول ابن سينا : ” وإذا كانت محاكاة الشيء بغيره تحرك النفس وهو صادق ، بل ذلك أوجب – من الناحية المنطقية – ولكن الناس أطوع للتخييل منهم للتصديق ، وكثير منهم إذا سمع التصديقات استكره وهرب منها . وللمحاكاة شيء من التعجيب ليس للصدق، لأن الصدق المشهور كالمفروغ منه ، ولا طراوة له ، والصدق المجهول غير ملتفت إليه . والقول الصادق إذا حرف عن العادة ، وألحق به شيء تستأنس به النفس، فربما أفاد التصديق والتخييل معا ، شغل التخييل عن الالتفات إلى التصديق والشعور به، والتخييل إذعان ، والتصديق إذعان، لكن التخييل إذعان للتعجب والالتذاذ بنفس القول، والتصديق إذعان لقبول أن الشيء على ما قيل فيه، التخييل يفعله القول لما هو عليه، والتصديق يفعله القول بما المقول فيه عليه، أي يلتفت فيه إلى جانب حال القول فيه.”(14)

يتبين من قول ابن سينا أنه يضع مفهوم المحاكاة في إطار نظري متماسك يجعل من المحاكاة مبدأ كل تشكيل أو تصوير شعري وفني، بل هي التشكيل والتصوير الفني ذاته، وذلك نظرا لأنـها لا تكتسب قيمتها الفنية إلا من خلال الأدوات والوسائل التي يعتمدها المبدع في بناء تخيلاته وخلق عوامله التي يكون الغرض الأول والأخير منها هو جلب الالتذاذ والتعجيب للمتلقي، بما تتضمنه وسائل التشكيل (اللغة والوزن بالنسبة للشعر، والنور والظلال بالنسبة للرسم، والإيقاع بالنسبة للرقص) من قدرة على إحداث التأثير في المتلقي. ومما يجعلنا نقطع بصحة هذا التخريج لكلام ابن سينا ، هو وضوح العبارة لديه في كلامه اللاحق حيث يقول:” وبالجملة، التخييل المحرك من القول علق بالتعجب منه ، إما بجودة هيئته ، أو قوة صدفه ، أو قوة شهيته، أو حسن محاكاته .. لكنا نخص باسم المخيلات ما يكون تأثيره بالمحاكاة ، وما يحرك النفس من الهيئات الخارجية عن التصديق.”_15.)

يتبين لنا، انطلاقا من وضوح هذه الأقوال، أن تحديد ابن سينا لمفهوم المحاكاة، يجعلها تتعلق، كلية، بعملية التخييل، أي بالقدرة على تشكيل شيء ما، أو واقع ما، تشكيلا فنيا، ولا شأن لها بالنقل الحرفي لمعطيات الواقع أو تقليد موضوع من موضوعات العالمين الطبيعي والإنسان.

ونفس هذا الفهم لمفهوم المحاكاة هو ما نجده عند أبي الوليد ابن رشد، الذي جعل المحاكاة مرادفة للتخييل، والتخييل مقترنا بالتشبيه والاستعارة، من حيث هي أدوات التشكيل والبناء الشعري خاصة، وهذا ما يشير إليه قوله : والأقاويل الشعرية هي الأقاويل المخيلة، وأصناف التخييل ثلاثة، اثنان بسيطان وثالث مركب منهما ، أما الاثنان فأحدهما تشبيه شيء بشيء وتمثيله به، والقسم الثاني هو أن يبدل التشبيه، والصنف الثالث هو المركب من هذين “.(16) ومعروف أن التشبيه بأنواعه والاستعارة بأنواعها وما يلحقها، هي أدوات التشكيل الشعري التي تتوقف عليها، وعلى قدرة الشاعر في استخدامها ، قيمة العمل الشعري. ومعلوم أيضا أن غرض الشاعر منها هو خلق الصور الشعرية، لا نقل معطيات الواقع أو أشياء العالم كما هي .

والحق، أن الناظر في أقوال فلاسفة الإسلام، المرتبطة بتلخيصهم وشرحهم لأقوال أرسطو، الواردة في كتاب الشعر ، ليدهشه، حقا، هذا الحرص على الاجتهاد في تعريف تحديد المفهوم المركزي في كتاب الشعر، الذي وضعه أرسطو ليؤسس به خطابا ” علميا ” حول نقد الأدب والفن ، أعني مفهوم المحاكاة (الذي لا يقدم عنه أرسطو، وفي أي موضع من كتابه تعريفا محددا)(17) وهو الأمر الذي جعل هذا المفهوم، خاصة عند المهتمين بقضايا النقد الأدبي والفني في الثقافة الأوروبية الحديثة والمعاصرة، مفهوما إشكاليا مقلقا، أثيرت حوله ولا زالت تثار نقاشات واجتهادات ، حاول البعض منهم ، كما هو الشأن بالنسبة للمترجمين الفرنسيين الحديثين لكتاب الشعر روزلين روك وجان لالو، اللذين يعرضان اقتراحا باستبعاد معنى التقليد عن المحاكاة، والأخذ بمعنى التصوير أو التمثيل”(18) وهو ما يعني تحويل مدار المحاكاة، من مجرد اعتبارها تدل على علاقة العمل الشعري بالواقع، إلى النظر إليها على أنها هي نفسها وسائل المحاكاة وأدواتها، التي هي التشكيل والتصوير الشعري والفني ، وليس وسائل المحاكاة وأدواتـها، التي هي التشكيل والتصوير الشعري والفني، وليس في هذا المقترح أي جديد على فهم فلاسفتنا القدماء ، الذي مرت عليه قرون عديدة ولم تنل من جدته وأصالته شيئا.(19)
ولقد أكد فلاسفة الإسلام فهمهم العميق لمفهوم المحاكاة، وبوضوح لا لبس فيه، خاصة فكرته عن الواقعي والمحتمل، والتي عالج في إطارها العلاقة الشائكة بين العمل الفني عموما، والشعري منه على الخصوص، بالواقع وبالتجربة المباشرة للمبدع.

يثير أرسطو وبشكل لافت للنظر، من خلال تصوره لموضوع المحاكاة، تلك المسألة الأساس في عملية الحكم الجمالي على العمل الفني والشعري ، من حيث قيمته الفنية والجمالية، مؤكدا على أن موضوع الشعر لا ينحصر أبدا فيما حدث أو وقع بالفعل، ذلك أن مهمة الشاعر على الحقيقة، كما يقول أرسطو، ليست هي رواية الأمور كما وقعت فعلا، بل رواية ما يمكن أن يقع .. إما بحسب الاحتمال، أو بحسب الضرورة”.(20) وهذا في تقدير أرسطو هو السر في أن الشعر كان أوفر حظا من الفلسفة، وأسمى مقاما من التاريخ، “لأن الشعر بالأحرى يروي الكلي، بينما التاريخ يروي الجزئي”(21) وعلى هذا يقوم كل تصوير أو تشكيل شعري .

يذهب ابن سينا في قراءته لفكرة أرسطو هذه، مذهبا يجعلها تفصح عن ما تخزنه من دلالة وعمق، فيما يتعلق بإخراج العمل الشعري والفني من دائرة التبعية للواقع واجتراره أو تقليده، ووضعه في دائرة التشكيل والتصوير الفني نفسه، بحيث يصبح العمل الشعري مكتفيا بذاته، لا يتوقف على ما هو خارج عنه. يقول ابن سينا : “الشعر إنما يتعرض لما يكون ممكنا في الأمور وجوده، أو لما وجد في الضرورة ..وذلك لأن الشعر، إنما المراد فيه التخييل لا إفادة الآراء .”(22) ويقصر ابن سينا هنا الآراء الناتجة عن التجربة المباشرة، أي تلك التي تقسم بالجزئية وبالنسبية، والفرق كما يلاحظ ابن سينا بين الكلام الذي يفيد مثل هذه الآراء ، والقول الشعري المبني على المحاكاة، هو أن الأول يتكلم فيما وجد ويوجد، أي فيما هو من قبيل الجزئي والآخر يتكلم فيما وجوده في القول فقط، ولهذا ، يقول ابن سينا، صار الشعر أكثر مشابـهة للفلسفة من الكلام الآخر، لأنه أشد تناولا للموجود وأحكم بالحكم الكلي، وأما ذلك النوع من الكلام – الذي يحكي جزئيات الواقع – فإنما يقول في واحد على أنه عارض له وحده، ويكون ذلك الواحد قد اخترع له اسم واحد فقط، ولا وجود له، ونوع منه – أي الكلام الذي يرصد الواقع ويقول في اقتصاص أحوال جزئية قد وجدت ، لكنها غير مقولة على نحو التخييل أي لا علاقة لها بالفن ).(23)

لا أريد أن أعلق على أقوال ابن سينا هذه، فقط أريد أن أقول في ختام هذا العرض، أن جهود فلاسفة الإسلام في قراءة النص المتاح لهم من كتاب الشعر لأرسطو، بالرغم مما يلحق قراءتـهم من نقص وقصور في الإلمام بكل القضايا والموضوعات التي عالجها أرسطو في كتابه، تبقى مع ذلك، جهودا أفادت النقد العربي القديم في مجال الشعر، بما أمدته به من أدوات وصيغ نظرية، نجدها حاضرة، وبقوة، في أنضج الأعمال النقدية العربية القديمة المتصلة بمجال البلاغة ونقد الشعر، كما يمكنها أن تفيد الآن في فهم الكثير من المشكلات التي يطرحها واقع الشعر العربي الحديث، وبالرغم مما تعج به ساحات النقد والإنتاج الشعري من دعاوى الحداثة الشعرية وحداثة المنهجيات الوافدة من حواضر الغرب المعاصر ·

 

 

 

 


هوامش

1) انظر تحليل كتاب فن الشعر لأرسطو ، لعبد الرحمن بدوي، ص 48 ضمن تحقيقه لكتاب الشعر، دار الثقافة بيروت ط 2 1973
2) أفلاطون : الجمهورية الكتاب 3 الفقرة 392-393 دراسة وترجمة د. فؤاد زكرياء الهيئة المصرية العامة للكتاب مصر 1974 ط1.
3) د. فؤاد زكرياء : دراسة لجمهورية أفلاطون ص 159 نفس المصدر السابق
4) نفس المرجع السابق ص 158
5) نفسه ص 159
6) نفس المرجع ص 160
7) نفسه ص 160
8) أرسطو : فن الشعر ص 12 ترجمة عبد الرحمن بدوي دار الثقافة بيرةت 1973
9) الفارابي : مقالة في قوانين صناعة الشعراء ص 150 كتاب فن الشعر ترجمة عبد الرحمن بدوي المشار إليها فيما سبق .
10) الفارابي : إحصاء العلوم ص 67 تحقيق عثمان أمين دار الفكر العربي القاهرة 1948
11) الفارابي : مقالة في قوانين صناعة الشعر – ضمن فن الشعر ص 151 نفس المعطيات السابقة
12) نفس المصدر ص 150
13) ابن سينا : فن الشعر ص 168 نفس المرجع السابق
14) ابن سينا : نفس المصدر ص 162
15) ابن سينا : الإشارات والتنبيهات تحقيق سليمان دنيا دار المعارف مصر، ج 1 ص363 ط 2 دون تاريخ.
16) ابن رشد : تلخيص كتاب الشعر ص 202 ضمن فن الشعر نفس المعطيات
17) د. ألفت محمد كمال : نظرية الشعر عند الفلاسفة المسلمين ص 83 الهيئة المصرية العامة مصر 1984
18) Aristote : La poetique – texte trad. et notes par Roselyne Roc et Jean lallot. Ed. Seuil Paris 1980، p.20;
19) انظر كتاب نظرية الشعر عند الفلاسفة المسلمين ص 83 نفس المعطيات
20) أرسطو : فن الشعر ترجمة عبد الرحمن بدوي ص 26 نفس المعطيات
21) نفس المصدر ص 26 – 27
22) ابن سينا : فن الشعر ص 183 نفس المعطيات
23) نفس المصدر والصفحة.