مجلة حكمة
مفهوم الإقصاء - أديتيا أنوبكومار / ترجمة: بثينة الإبراهيم

مفهوم الإقصاء – أديتيا أنوبكومار / ترجمة: بثينة الإبراهيم


 

* يعرّف الإقصاء بأنه العملية الاجتماعية التي يتم بها تهميش الأفراد _ وبخاصةٍ تهميش جماعةٍ ما في مجتمعٍ أكبر_ كإقصاء الطبقة الدنيا مثلاً.
* ” لم يُخلق الناس سواسيةً، وهذا هو أصل فساد المجتمع” فرانك هربرت

يصف مصطلح “الإقصاء/ التهميش” عادةً أفعال المجتمعات البشرية أو ميولها الصريحة في التخلص من غير المرغوب بهم أو الذين تراهم بلا منفعة، أو استثنائهم “تهميشهم” من أنظمة الحماية والتفاعل السائدة في المجتمع، ومن ثم تقليص فرصهم ومواردهم المالية التي تعينهم على البقاء.
تتعدّد مظاهر الإقصاء في الخطاب السياسي والاجتماعي والاقتصادي، إذ تتنوع بين الإبادة/ التطهير العرقي وبعض الممارسات التي تظهر كراهية الغرباء في أكثر أشكالها تطرفاً، أو قد تظهر في هيئة مصاعب تتعلق بالجانب الاقتصادي والاجتماعي على المستوى الفردي/ العائلي.

وقد تتنوع مظاهر الإقصاء تبعاً لمستوى نمو المجتمع ثقافياً، _و ربماعلى نحو أكثر أهمية_ نموه اقتصادياً فعلى سبيل المثال، سيكون من الطبيعي أن تظهر الجماعات “المهمشة” في العالم الثالث أي في الدول النامية، أكثر من ظهورها في دول العالم الأول/ الدول المتقدمة. في الحقيقة، يمكن كذلك التفريق بينهما بناءً على الخيارات المطروحة ضمن هذا الإطار، فأولئك الذين يعيشون في ظل ظروفٍ قاسية مجبرين ( وبعيدين كلياً عن أنظمة الحماية التي يتمتع بها سكان العالم الأول) يتركون غالباً للموت جوعاً، أو مرضاً أو بسبب الحروب. ويمكن لنا أن نضيف إلى جانب هؤلاء الأقليات المتنوعة والنساء…كما نجد في الدول المتقدمة تهميش متعاطي المخدرات من ذوي الدخل المنخفض. هذا التهميش المتعمد أو المقصود يحمل في جنباته مظاهر مما يسمى “الداروينية الاجتماعية”.
وقد نستطيع تفسير بعض المصطلحات ذات الطبيعة السيو سياسية في ضوء مصلح “الإقصاء/ التهميش”، فكلمة “الحرب” مثلاً تعني في جوهرها العنف الاجتماعي واسع النطاق الهادف إلى إقصاء العدو، وعلى نحو مشابه تبدو كلمة “العدو” جوهرياً اعتباراُ للنظير بأنه ذو نية عدائية ومن ثم الرغبة بجعل “العدو” كياناً مهمشاً سواءٌ أكان ذلك بمحض إرادته أو بإرادة المستهدف بالعدوان.
ويظهر “الإقصاء / التهميش” في لب كل مسائل الصراع الاجتماعي، التي تختلف تسمياتها باختلاف مظاهرها وتمثلاتها.

كان “تحسين النسل” هو المصطلح الذي أطلق على جملة من الأفكار العلمية التي تؤيد إقصاء الأفراد (قتلاً أو إجهاضاً) الموسومين بالوضاعة تبعاً لمعيار العرق وحده. وقد صاغ تعبير “تحسين النسل” السير فرانسيس جالتون، أحد أقرباء تشارلز داروين، عام 1883 ليشير إلى دراسة واستخدام “الاستيلاد الانتقائي” ( للبشر أوالحيوانات) لتحسين النوع عبر الأجيال، وكان ذلك تحديداً فيما يتعلق بالصفات الوراثية. طور جالتون خلال سنوات تعريفه ليشمل أنواعاً محددة من “تحسين النسل إيجابياً” (أي تشجيع الأصلح على التكاثر) و”تحسين النسل سلبياً” (أي تثبيط أو حرمان الأقل صلاحية من التكاثر).
ومع ذلك، يرتبط المبدأ الذي حدده جالتون بشكل مباشر مع تعاليم داروين وأعماله، فبحسب الأخير تعيق الحضارة الإنسانية آليات الطبيعة في الاصطفاء الطبيعي. إن مساعدة المعدمين هي أحد أهداف الحضارة، ولذلك فإنه عند تعارضها مع الاصطفاء الطبيعي تكون مسؤولة عن انقراض الأضعف.
إن أحد تطبيقات تحسين النسل الأكثر رعباً هو إقصاء أي طرف لا يُرى فيه الكفاءة، فقد تنوعت سياسات “تحسين النسل سلبياً” في الماضي بين التفرقة العنصرية و التعقيم “جعل المرء عقيماً”، أو حتى في الإبادة.
إن أحد أشهر تطبيقات “تحسين النسل” أو بالأحرى أكثرها سوء سمعة في التاريخ، كانت في ألمانيا في زمن حكم أدولف هتلر، ومحاولاته لإيجاد عرق ألماني “صافٍ”. فقد أجرى النازيون تجارب متطرفة وحشية غالباً على أناس أحياء لاختبار نظرياتهم الجينية. وخلال الثلاثينيات والأربعينيات، قام النظام النازي بتعقيم مئات الآلاف الذين وجد أنهم غير صالحين عقلياً، كما قتل عشرات الآلاف من المعاقين في برامج “القتل الرحيم” الإجبارية.

تأتي الولايات المتحدة في المرتبة الثانية في تطبيقها “لتحسن النسل”، فقد سنّت عدة ولايات بدءاً من كونيكتيكت عام 1896 قوانين للزواج “بمعايير جينية”، بحيث حرمت المصابين بالصرع أو العته أو الضعف الذهني من الزواج.
كما كان قانون “تسجيل المهاجرين” لإيقاف تدفق “العرق الوضيع” من أوروبا الشرقية والغربية ممارسة أخرى لتحسين النسل. وقامت بعض الولايات بتعقيم المصابين بالعته طوال القرن العشرين تقريباً، وقد حكمت محكمة الولايات المتحدة العليا في قضية “باك ضد بيل” عام 1927 بأن ولاية فرجينيا يحق لها تعقيم أولئك الذين تراهم “غير أكفاء”، وقد كان قرار المحكمة سارياً على ثلاثة أجيال من المصابين بالعته ما يعني أنه أباح التعقيم الإجباري. بين عامي 1907 و 1963، الحقبة الأكثر نشاطاً لتحسين النسل، تم تعقيم ما يفوق 64000 شخص قسرياً بموجب التشريع الذي يبيح تحسين النسل في الولايات المتحدة. وعندما حوكم القادة النازيون بسبب جرائم الحرب التي ارتكبوها في نيورمبيرغ بعد الحرب العالمية الثانية، كان تبريرهم لعمليات التعقيم الهائلة التي أجروها ( أكثر من 450000 في أقل من عشر سنوات) بأنهم استلهموا ذلك من ممارسات الولايات المتحدة . وعند فرض قوانين كهذه في مجتمعاتٍ لا يملك المهمشون فيها أي قرار لن يكون أمامهم سوى القبول بالقرارات المفروضة. وحري بنا القول أن تحسين النسل قد تراجع، وأصبح مصطلحاً يثير الاشمئزاز بالرغم من أنه عاد للظهور ثانية في شكل مختلف في قضية الاستنساخ.

يعد مصطلح الداروينية الاجتماعية مصطلحاً وصفياً يطلق على النظرية الاجتماعية التي جمعت بين نظرية داروين في التطور عبر الاصطفاء الطبيعي و بين العلاقات الاجتماعية للبشرية. يقول سبنسر في كتابه “التقدم: القانون والعلة 1857″:
” هذا التقدم العضوي هو القانون لكل أشكال التقدم، سواءٌ أكان ذلك في تطور الأرض أو الحياة على سطحها، أو تطور المجتمع أو الحكومة..هذا التطور من البسيط إلى المعقد في عملية من التمايز المستمر يدوم أبداً”.
ذكر مالتوس ( وهو كاتب معروف آخر في الداروينية الاجتماعية) في كتابه مقال في قانون النمو السكاني 1798، ذكر أن النمو السكاني المتزايد سيفوق المخزون الغذائي مما سيؤدي إلى مجاعات في محيط الفقراء. وقد ذكر بعض علماء التاريخ بأن البريطانيين قد استغلوا نظرية مالتوس وبضع أفكار مشابهة لتبرير التصدير المستمر للمحاصيل الزراعية من إيرلندا حتى عندما كان الإيرلنديون يعانون من المجاعة، وتحديداً المجاعة الكبرى التي وقعت بين عامي 1845 و 1849.
ولأن الداروينية الاجتماعية تحضر في الذاكرة الجماعية مترافقةً مع العنصرية والإمبريالية وتحسين النسل فإن انتقادات كهذه تطبق أحياناً ( أو يساء تطبيقها) على أي نظرية سياسية أو علمية أخرى تجسد الداروينية الاجتماعية.

تنقسم الأنظمة التي تعارض تهميش الأفكار إلى نمطين: يركز الأول على الأفراد ضمن المجتمع النظام “غير المتحضر” للاصطفاء الطبيعي ومركزاً بدلاً من ذلك على تقدم المجتمع ككل، بينما يقلل الثاني ببساطة من شأن الشرعية الكلية للسلطة والواجب في المجتمع ويوازن بين مشكلة التهميش ومفهوم الفرد باعتباره حالة خاصة.

يعارض إيمانويل كانت هذا في أعماله التي عالجت مفهوم التاريخ الشامل، وقد كانت أفكاره عن المجتمع “يوتوباوية/ مثالية ” داعياً إلى بناء المجتمع والحضارة باعتبارهما تقدماً اعتيادياً بعيداً عن الاصطفاء الطبيعي والداروينية الاجتماعية. وقد عكست أعمال كانت رؤيته حول المجتمع الذي يعمل من الداخل ليتطور ككل أكثر من مجرد التخلص من العناصر الجينية “غير الضرورية أو غير المرغوب بها”.

وقد جاءت أطروحته ذات الأفكار التسع حول التاريخ الشامل كالتالي:
1- تتطور كل قدرات الكائن الطبيعية كما هو مقدر لها وبما يتناسب مع غايتها.
2- هذه القدرات الطبيعية في الإنسان ( باعتباره الكائن العاقل الوحيد على الأرض ) الموجهة نحو استخدام العقل تتطور في النوع لا في الأفراد.
3- أرادت الطبيعة أن ينتج الإنسان بمحض إرادته تماماً كل ما يتجاوز وجوده الحيواني و أن يسعى نحو السعادة والكمال اللذين يستطيع حمايتهما بعقله وليس بغريزته.
4- إن الوسيلة التي تعتمدها الطبيعة لتطور قدرات الإنسان هي في إيجاد التضاد فيما بينها في المجتمع، ومن ثم سيكون هذا التضاد هو السبب لإيجاد نظام يحكمه القانون في المجتمع.
5- تكمن مشكلة النوع البشري الكبرى _ الذي تجبره الطبيعة على البحث عن حل لها _ في تأسيس مجتمع مدني شامل يحكمه الحق.
6- هذه المشكلة هي أصعب وآخر ما يتوجب على الجنس البشري حله.
7- تعتمد مشكلة تأسيس دستور مدني كامل على مشكلة العلاقات الخارجية التي يحكمها القانون مع الدول الأخرى ولا يمكن حلها ما لم يتم حل الأخيرة.
8- يمكن أن نعتبر تاريخ الجنس البشري بشكل عام إدراكاً لخطة الطبيعة الخفية لخلق دستور عام كامل داخلياً وخارجياً للهدف نفسه،
9- يجب أن ينظر إلى المحاولة الفلسفية لإيجاد وحدة مدنية كاملة للجنس البشري باعتبارها ممكنة ومساعدة لتحقيق هدف الطبيعة في ذلك.
ويكمن الهدف من هذه الأطروحة في جعل كل فرد عضواً وعاملاً فاعلاً في المجتمع ( ومن ثم يسعى لإلغاء كل ممارسات الأنظمة الاجتماعية التي قد تؤدي إلى تهميش الجماعات المختلفة).

عالج فيلسوف آخر هذه المسألة بالرغم من أن طرحه كان مختلفاً قليلاً، فقد كانت آراء هنري ديفيد ثيورو ذات طبيعة استعلائية، مقللة من احتمالية تهميش أي طرف من المجتمع، من خلال التأكيد على ضرورة الموازنة بين المجتمع والفرد. وفي نقده للتقدم المجتمعي عبر الوراثة قال:” أن تأتي إلى العالم وريثاً لثروة ما لا يعني أنك مولود فحسب بل يعني بالأحرى أنك مولود ميتاً. أن تعيش على إحسان صديق ما أو على تعويض حكومي يمكنك من البقاء حياً، بما يمكن استخدامه من مفردات لوصف هذه العلاقات، يعني أنك تعيش في ملجأ.” وفيما يتعلق بالمجتمع والآمال المجتمعية يقول ثيورو:” ربما أكون قلقاً أكثر من اللازم فيما يتعلق بحريتي. أشعر أن ارتباطي بالمجتمع والتزامي نحوه ضئيل جداً وزائل”. وهذا يثير قضية الالتزام والنظام الاجتماعيين وكيف يؤثر كل منهما في تصرفات الأفراد. وعلى الرغم من كون هذه الآراء متطرفة/ راديكالية لكنها تعارض آثار الإقصاء. وثيورو هنا لا يتخلى عن المجتمع لكنه يحتفظ بمسافة بينهما ليحافظ على حالته “الفردية” كما يرغب، بحيث لا يرزح تحت تأثير مطالب المجتمع وحاجاته. (” لقد استقرت العلاقات العامة، ولا بد من الاهتمام الآن بالفرد، لنتأكد _ كما تعهد مجلس الشيوخ الروماني_ بأن الفرد لا يتعرض للإساءة.

إن الضغوطات التي يمارسها المجتمع على أفراده والضغوطات بحكم الاختلافات الطبقية/ الطائفية/ الدينية هي أيضاً مما يستحق الدراسة، ولذلك يتحدث ثيورو واصفاً مأزق الأفراد واختلاف تقبلهم للقدر فيقول:” وبالتالي يستلقي الناس على ظهورهم ويتحدثون عن سقوط الإنسان دون بذل أي جهد للنهوض.” ويبدو المجتمع إذن واحداً من اثنين: إما أنه مجتمع للاصطفاء الطبيعي حيث يكون البقاء فيه للأصلح، أو أنه مجتمع يتقدم فيه الناس جميعاً على نحو حضاري. إن أحد المظاهر المهمة للمجتمع هو فكرة التماثل، والعلاقة بين الجماعات المتماثلة وغير المتماثلة في المجتمع، كالعلاقة بين الجماعات المسيطرة والجماعات المهمشة مثلا. ويعرف سي.إتش. كولي التماثل بأنه السعي للحفاظ على مجموعة من المعايير وضعتها جماعة ما، وهو تقليد اختياري/ طوعي للنمط السائد من الأفعال والتي تتميز عن السلوك التنافسي أو العدائي للمحاكاة من خلال البقاء مستسلما إلى حد ما بهدف الاستمرار لا التفوق، شاغلاً نفسه غالباً بالماديات والشكليات. من جهة أخرى يمكن أيضاً أن نميزه عن التقليدي اللا إرادي عندما يكون مقصوداً لا آلياً. ولذا فإنه لن يكون من التماثل ، بالنسبة لمعظمنا، التحدث باللغة الإنجليزية لأننا عملياً لا نملك خياراً في هذا الأمر، ولكن يمكن لنا أن نختار محاكاة طريقة معينة في اللفظ أو أنماط الخطاب التي يستخدمها من نرغب بالتعاطي معهم.

يكمن الدافع وراء هذا التماثل في الإحساس _ قوياً كان أم ضعيفاً_ بمصاعب عدم التماثل / الاختلاف وآلامه. حيث يرى كثير من الناس أنه من المؤلم الذهاب إلى مناسبة مسائية دون ارتداء اللباس المناسب لها، وينبع الألم من الإحساس بفضول الآخرين المزدري الذي يتخيل المرء أنه سيثيره. ويتعرض إحساسه بذاته اجتماعياً للتجريح بفعل رأيه السلبي عن نفسه الذي يعزوه إلى الآخرين. هذا المثال نموذج للأسلوب الذي تهيمن به الجماعة على أفرادها في كل الأمور التي لا يملك المرء حيالها هدفاً خاصاً واضحاً. يجبرنا العالم على فعل ذلك دون هدف معين، من خلال الدافع المشترك بيننا جميعاً لاحتقار الغريب دون سبب واضح لذلك. تقول جورج إليوت في حديثها عن فساد الأهداف السامية لبعض الأفراد:” ليس هنالك في العالم ما هو أكثر غموضاً من عملية تغيرهم تدريجياً ! لقد استنشقوه في البدء دون معرفة منهم، قد نكون أنا وأنت أطلقنا أنفاسنا مسببين العدوى لهم حين ننفث أكاذيبنا المتشابهة واستنتاجاتنا السخيفة أو ربما جاء ذلك بفعل سحر نظرة امرأة.” ” الوحدة مخيفة وثقيلة”، والاختلاف يحكم علينا بأن يوجد جينات في الآخر، إن لم يوجد البغضاء، بحيث يعرقل الراحة والتلقائية التي تتطلبها بساطة التواصل والتعاطف. ولذلك فإنه من الصعب أن نشعر بالراحة مع أحد يرتدي ملابس أفضل أو أسوأ من ملابسنا، أو مع من يختلف أسلوبه عنا بشكل ملحوظ، بغض النظر عن ضآلة تقدير فلسفتنا لأشياء كهذه. ومن جهة أخرى، فإن التشابه في التفاصيل الصغيرة التي تمكنهم من نسيانها تعطي الناس شعوراً بالارتياح لأول وهلة مع بعضهم البعض ولذا فإنه مهم جداً للتعاطف الذي نرغب به جميعاً مع الناس الذين نهتم لأمرهم.

قد يبدو كبح الاختلاف دافعاً طبيعياً، وأن التسامح يتطلب بعض الجهد الأخلاقي. كلنا نقدر نظامنا الفكري التقليدي، وكل ما قد يعترضه بأسلوبٍ لا مبرر له في ظاهره يزعجنا ويسبب لنا الامتعاض نسبياً، لذا فإن نزوعنا الأول يتجه نحو قمع الغريب، ونتعلم أن نتحمله فقط عندما يتوجب علينا ذلك إما لأن ذلك يبدو معقولاً أو لأنه عصيٌ على اعتراضاتنا.

يلخص ماركس نظريته المادية في التاريخ التي تعرف أيضا بالمادية التاريخية:
” في إنتاجهم الاجتماعي، يدخل الناس بالضرورة في علاقات محددة مستقلة عن إرادتهم أي علاقات الإنتاج المناسبة للمرحلة لتطور القوة المادية للإنتاج. تفرض هذه الشمولية للعلاقات الإنتاجية بنية المجتمع الاقتصادية، الأساس الحقيقي الذي تنهض عليه البنية الفوقية القانونية السياسية والتي تستجيب له أنماط محددة من الوعي الاجتماعي. يفرض نمط الإنتاج في المجتمع المادي العملية العامة للحياة الاجتماعية والسياسية والثقافية. ليس وعي الأفراد هو الذي يحدد وجودهم لكن وجودهم الاجتماعي هو الذي يحدد وعيهم.

وبالعودة للحديث عن المهمشين أنفسهم، نجد أن الجماعات المهمشة اليوم في أغلب بقاع العالم، هي الدول النامية أو الأقليات الإثنية واللغوية والدينية، كما نجد أيضاً المثليين ومدمني المخدرات أو مرضى الإيدز.

تهمش النساء في المجتمعات ذات الاقتصادات النامية بالإضافة إلى ذوي الاحتياجات الخاصة (المعاقين جسدياً أو ذهنياً). في دول كالهند نجد مشكلة تهميش جماعة الداليت، والقبائل وبعض الطبقات والمجتمعات المتخلفة. هناك العديد من أنماط التهميش التي قد تكون واضحة أو ضئيلة. ومن الأمثلة على التهميش التوظيف الانتقائي أو التفرقة بين المتقدمين للوظائف بناء على دينهم أو أصلهم أو توجههم الجنسي، أو حتى تاريخهم الطبي. ويمكن اعتبار استهداف بعض الجماعات بالعنف أو النقد القاسي ونشر الكراهية والخوف من الأجانب إلخ كنوع صارخ للتهميش.

يحاول علماء الاجتماع حل ألغاز الحضارات بتحليلها، ففي السياق الهندي تبدو الهند حضارة متفردة في الواقع. فذبح المسلمين في المجتمع الهندي، ردود الفعل التي تولد العنف، إقصاء الطبقات الدنيا والطوائف والقبائل المتخلفة بالإضافة إلى جماعة الداليت، وتهميش قسم كبير من المجتمع اقتصادياً، كل هذه الأمور تسهم في حل اللغز.

إذن تبدو قضية التهميش في الهند حقيقية جداً.ونرى ذلك فيما يتعلق بشؤون النساء وحقوقهن، ربما لا يكون الأمر واضحاً في المدن الكبرى كما في المدن والبلدات والقرى الصغيرة. يظهر التمييز ضد النساء على كل صعيد، ابتداء من وأد البنات إلى زواج الأرملة ثانية وما إلى ذلك..لا يبدو حال جماعة الداليت أفضل ( وهذا يعود غالباً إلى الفساد الذي يسمح لقلة من المحظوظين بالانتفاع من البرامج المتاحة ). يواجه المسلمون أيضاً التهميش التي تواجهه أقليات أخرى مختلفة. كما أن إقصاء الشرفاء هو مسألة أخرى، ولذا فإن التهميش يبدو واحداً من عدة قضايا أخرى هامة تتراوح بين الفساد والبيئة.

ما الدور الذي تؤديه وسائل الإعلام في كل هذا؟ سعت وسائل الإعلام في السنوات العديدة الماضية إلى تكرار الأنماط لتكون القاعدة أو الطبيعي. إن الدور الذي يجب أن تؤديه وسائل الإعلام يكمن في زيادة الوعي حول القضايا الاجتماعية والعوامل العامة التي تؤدي إلى تهميش الجماعات المختلفة، ولتعيد تثقيف الجماهير حول مفهوم الإقصاء.

السؤال الذي يجب أن نطرحه:” هل يكفي العمل على كبح انتشار نظرية التهميش، في أثناء العمل على تأسيس مجتمع المساواة للقضاء على مشكلة التهميش أو تقليصها على الأقل؟ هل هذا ممكن فعلاً؟”.

يجب أن تعمل وسائل الإعلام أيضاً على تثقيف المهمشين أنفسهم وتعريفهم بحقوقهم التي يكفلها لهم الدستور الديمقراطي ( قد يبدأ ذلك دورة التغيير، تغيير ما يحق لك وما لا يحق، وبين الحكومات والمهمشين..) ولذلك يغدو التهميش مشكلاً أكثر فأكثر، كلما كثر الحديث عنه دون فعل شيء حياله وضده. يجب أن يعمل الجميع ضد التهميش سواء أكان ذلك على مستوى الأفراد أو على مستوى القانون الدولي من أجل العدالة الاجتماعية، لأنه يظهر في كل المستويات إرادياً أو لا إرادياً.

إن آثار الإقصاء كبيرة، إذ يعاني المهمشون من أزمة هوية ( إذ ينظر إليهم غالباً على أنهم “أشخاص سيئون”) وربما يؤدي هذا إلى إثارة قتال أو جرائم اجتماعية ( على مستوى الجماعات العرقية، أو الدينية، أو اللغوية، أو الأشخاص الذين يعانون من مشاكل طبية كالإيدز وغيره، ذوي التوجه الجنسي المختلف “المثليين”، بينما تقمع النساء والمعاقون جسدياً أو المتخلفين عقلياً ويجبرون على قبول ما يقدم لهم، و/ أو ما يفرض عليهم من أفكار ( دون أن يكون لهم خيار في ذلك). هذه الزوايا التي تعزز النظر إلى المهمشين بهذا الشكل بما أنهم مجبرون على ذلك.

يتم إبعاد المهمشين وإزاحتهم من السياق العام فيما يتعلق بمهارات صنع القرار والسلطة، ويظلون لذلك جماعة هامشية تحظى بتمثيل ضئيل ( وبسبب تهميشهم لا يرغب الكثيرون بتنظيم احتجاج ضد هذا الإقصاء) تعمد السياسة والممثلون السياسيون على تلبية رغبات الأغلبية، ولذا يظل المهمشون على وضعهم بالنسبة لأولئك الذين يمتلكون السلطة أو من هم في مواقع السلطة.

في كل جزء من الجماعات المهمشة يظهر تراتب من عدم المساواة ضمن الجماعة، يزيد درجة الإقصاء. ويكون هذا التراتب عموماً مبنياً على أحد عاملين _ تعليم الجماعة التي ينتمي إليها المهمش وبنيتها الداعمة، والحالة / القوة المالية التي يتمتع بها ضمن جماعته على مستوى الأسرة ومن ثم على المستوى الاجتماعي ( في نطاق محلي ) ومن ثم على المستوى العالمي. كما تعتمد الدرجة أيضاً ( دولياً) على القوانين التي تساعد تنمية الجماعات أو تعيقها. وهذه أكثر الزوايا سوءاً بالإضافة إلى خطورة الدور الذي تؤديه وسائل الإعلام.

يصف جون بودريار كيف تقدم وسائل الإعلام الأخبار وتنشر الآراء في في كتابه ” التشبيهات والمحاكاة”، مشكلاً مفهوم العلاقة بين الإدراك والواقع، ويمكن القول بأن وسائل الإعلام تتبع نموذجاً كالتالي:
” يرى التمثيل المحاكاة شكلاً زائفاً يسعى لاحتوائه، وتقابله المحاكاة بوصف التمثيل صورة مجردة”
يمكن إيجاز المراحل المتعاقبة للصورة بما يلي:
1- أن تكون انعكاساً للواقع.
2- أن تغطي الواقع وتفسده.
3- أن تغطي غياب الواقع.
4- ليس لها علاقة بالواقع: فهي تبدو صورة أخرى قائمة بذاتها.
في المرحلة الأولى تكون الصورة حقيقية: تمثيل النظام المقدس ( القصة الحقيقية). وفي الثانية تكون سيئة لكونها منحرفة ( تم تغيير الواقع نوعا ما). في الثالثة تستغرق في كونها حدثاً ( القصة المنشورة) وهي هنا نوع من السحر، بينما لا يكون للرابعة أي علاقة بالحدث على الإطلاق ولكن بالمحاكاة. ( الشائعات و”الأفكار الملقنة” بالإضافة إلى المفاهيم الخاطئة التي تشكلت في ذهن المشاهد).
يلخص هذا العرض الدورة التي يمر بها أي حدث في وسائل الإعلام، كما يبين أن كيف يزداد التهميش ( وكيف أن انحساره أو ازدياده معتمد على أدائه في عالم الإعلام.)

 


المراجع:
1- الإقصاء/التهميش: ويكيبيديا.
2- تحسين النسل: ويكيبيديا
3- الداروينية الاجتماعية: ويكيبديا.
4- إيمانويل كانت: نظرية التاريخ الشامل والخطة العالمية.
5- هنري ديفيد ثيورو: حياة دون مبادئ، والدن ومقالت أخرى.
6- سي. إتش. كولي: الطبيعة الإنسانية والنظام الاجتماعي_ المحاكاة.
7- كارل ماركس: مقدمة في نقد الاقتصاد السياسي.
8- ن. جي. ديميراث: خطر التعددية.
9- جاك دريدا: البنية، العلامة، الدور.
10- جون بودريار: التشبيهات والمحاكاة.


ملاحظات:
1- الاستيلاد الانتقائي: عملية تهجين الحيوانات والنباتات _ ولاحقا الإنسان_ للحصول على صفات معينة.
2- رهاب الأجانب: يستخدم لوصف كراهية الغرباء أو احتقارهم والحذر منهم.
3- قانون تسجيل المهاجرين: سنته الولايات المتحدة عام 1940 وفرضت على كل البالغين من غير المواطنين للتسجيل كمهاجرين تحت طائلة العقوبة.
4- قضية باك ضد بيل: أصدرت المحكمة العليا حكما في هذه القضية يسمح للولاية بإجراء التعقيم الإجباري “لغير المؤهلين” بمن فيهم المتخلفين عقلياً.
5- مجاعة إيرلندا الكبرى أو مجاعة البطاطس: بين عامي 1845 و1849 وتسببت بوفاة مليون شخص وهجرة مليون آخرين.
6- جماعة الداليت: هي جماعة تعرضت “لحظر المساس” الذي يقضي بنبذ هذه الجماعة بإقصائها من السياق العام ، ولذلك فقد واجهت هذه الجماعة تمييزاً في التوظيف والمكانة على أيدي الجماعة المهيمنة، وقد ألغى الدستور الهندي عام 1950 ممارسة حظر المماس وعلى الرغم من ذلك وقعت حالات لاضطهاد الداليت في بعض المناطق الريفية.