مجلة حكمة
التفاعل بين المعارف

مفاصل التفاعل بين المعارف – بناصر البُعزاتي

 


التفاعل بين المعارف

إن نظرة أولية إلى تاريخ الأفكار و المعارف تكشف عن كون الممارسات الاجتماعية والفكرية مرتبطة أوثق الارتباط، وإن كان لا يمكن الإقرار بتبعيـة من درجـة ما من اللزوم فيما بين المستويات المختلفة. ويمكن ملاحظة أن وتيرة تطور الأفكار والفنون والتقنيات متناسبة مع درجة التفاعل والتداخل فيما بينها : إذ كلما كان التفاعـل قويا كانت استفادة مختلف الميادين أكبر ؛ وكلما انعزلت عن بعضها البعض، بفعل عوامل عقدية أو سياسية مثلا، ركدت، وربما تراجعت.

يمكن الحديث في موضوع التفاعل بين المعارف انطلاقا من بعض المبادئ :
أ) ـ تناغم الكون : فكرة تناغم الكون شكلت، فرضية فلسفية مهمة لدى جل المذاهب، إن لم يكن لدى كلها. وتتمثل هذه الفكرة في اعتبار الكون وحدة من المكونات والعناصر تتماسك فيما بينها وتتواصل، بحيث تتأثر باقي العناصر بكل ما يجـري للبعض الآخر، قليلا أو كثيرا. فحركة الأجرام ترتبط بانتقال الضوء ودوران الميـاه على الأرض ونمو النبات… الخ. هكذا تكون كل المكونات مترابطة فيما بينها بدرجات معينة، تؤثر وتتأثر ببعضها البعض.

وتختلف المذاهب الفلسفية والعقدية في التعبير عن هذا التناغم المسلم به: فيسميه بعضها بوحدة الوجود؛ وتقطع فيه أخرى مناطق متعددة، متحدثة عن عالم الجماد وعـالم النبات؛ وترسم فيه أخرى مستويات متدرجة بين الحسي والعقلي؛ وتصنفه أخرى إلى عالم حسي وآخر مثالي، وتتحدث أخرى عن عالم زائل وآخر خالد. وتنشئ المذاهب أنماطا وجودية، تسند لـها درجات معينة من الأهمية، بواسطة نسج الصور والمفاهيم التي تتوفر لـها في ظروف تاريخية محددة.

كما تختلف المذاهب حول طبيعة العناصر والمكونات التي تنتظم في هذا التناغم: فتسميه بعضها بالأجسام، وتسميه أخرى بالذرات، وتعتبر أخرى أن الكائنات المحسوسة ظلال لأمثلة كاملة تنتمي إلى العالم الآخر؛ كما تختلف حول صيرورة تلك المكونات، إن كانت دائمة أو مخلوقـة، وإن كانت ثابتة أو متغيرة.

وتختلف المذاهب حول اللحمة التي تربط بين تلك العناصر والمكونات وتجعلها مترابطة عضويا: فترى بعض المذاهب أن تلك اللحمة مادية، وترى أخرى أنـها من طبيعة تناسبية عددية، وترى أخرى أن الوجود تنظمه الرعاية الإلهية، وترى أخرى أن الآلـهة ملتحمة عضويا بالعالم المادي ؛ وترى أخرى أن الله يرتبط بالكون في لحظة الخلق فقط، بينما ترى أخرى أن الخلق سيرورة مستمرة بفضل تدخل الله بدون انقطاع.

وكل مذهب يجد في الكون ما يدعم مزاعمه، لأن الكون فسيح ومتعدد الأوجه وتتغير ظواهره. فتتغير بعض المظاهر بانتظام حلقي، مثل تعاقب الليل والنهار والفصول ودوران الأجرام؛ وتتغير أخرى بأطـراد، مثل تغير الأشجار والكائنات الحية، حيث الاتجاه وحيد، حسب ما تقدمه الملاحظة المباشرة على الأقل. ولهذا يجد كل مذهب في التجربة العيانية ما يدعم إقراراته، بناء على الانشغالات الخاصة للآخذين به.


1 ـ فمن حيث طبيعة التناغم، يؤكد المذهب الفيثاغوري على كون الكُسمُس نسقا من العلاقات العددية المتناسبة والمنسجمة، يمكن أن يعبر عنه بالنغم الموسيقـي. ويعتبر المذهب الرواقي الكون وحدة عضوية، تقوم بين عناصرها علاقة التحام كما تلتحـم أعضاء الجسد الحي. وترى الذرانية العـالم في شكل ذرات متفاعلة اتصالا وانفصالا وتحولا. وتختلف مذاهب بين الأفكار الفلسفية بطرق مختلفة. ولا تختلف العقائـد الدينية كثيرا عن بعض المذاهب الفلسفية.

2 ـ ومن حيث الترابطات بين المكونات، تعتبر بعض المذاهب أن الجماد والنبات والكائنات الحية عناصر مترابطة ومتصلة الحلقات، تسري فيها نفس النواميس؛ وتذهب أخرى إلى أن تلك المكونات ماهيات متمايزة، لكل منها خصائص متميزة لا تمتزج فيما بينها، رغم كونـها متجاورة في المكان.

3 ـ ومن حيث مدى التواصل، ترى بعض المذاهب أن الذوات البشرية تتواصل فيما بينها باعتبار التواصل ميزة للإنسان؛ بينما تعتبر مذاهب أخرى أن التواصـل يمكن أن يتم بين الحيوان والإنسان؛ وترى أخرى أن التواصل تدخل فيه النباتات والأشجار كذلك لأن هذه الأخيرة تحس وتفعل وتنفعل بدرجة ما.

 

4 ـ ومن حيث مكانة العناصر في الكون، هناك مذاهب تركز على تراتبية من درجة ما من التميز فيما بين مكونات الكون، بينما لا تعير مذاهب أخرى أهمية للتراتبيـة، وتعتبر تلك العناصر من نفس مستوى الأهمية. وكل مذهب يعتبر التراتبية خاضعة لمعايير خاصة، إما سببية أو أخلاقية.

فهناك تأكيد على مبدأ التناغم الذي يسود الكون، وهناك تعابير مختلفة عن هذا التناغم. فالفيثاغورية تعتبر اللحمة التي تشد البناء الكسملوجي من طبيعة عددية وموسيقيـة نظرا لتكوينها في العلوم الرياضية؛ وترى كل شيء محكوما بمقاييس عددية وتناسبات مضبوطة، هي التي توفـر التناغم والانسجام. إذ عندها أن أوضاع الأجرام السماوية وحركتها ومقادير الأشياء في الكون بنسب متناسقة، فهناك “تناغم الأفلاك السماويـة وحركاتـها”، التي يمكن التعبير عنها بالتناسبات الموسيقية، لأن كل حركات الأجرام لابد أن تكون لـها أصوات، ولأن الحركة تنتج تلامس الأجسام فيما بينها.

أما الرواقية فإنـها تركز على القوانين التي تنتظم الطبيعة طبقها، في كون القوانين تعبيرا عن بنوما أي عن روح تسري في عروق الطبيعة، كما تماس الريح الأثيرية كل الأجسام التي تمر بـها، وكأنـها تنقل سمـات من بعضها إلى البعض. فالكون بمثابة كائن عضوي تسوده روح كما تسود الروح الجسد، أو يسوده عقل ينظم بين أجزائه ويرعى وحدتـه. وكأن كل شيء في الكون يتولد عن “بذرة منوية عقلية”1[1]، تخصب الأجسام المختلفة وتجعلها تتكاثر.

أما الأبيقورية فترى أن هناك سيمباثيا، أي ودا كونيا، يشكل لحمة تجعل الذرات التي تكون الأشياء متراصة ومنسجمة. فالكون يتألـف من ذرات مادية، تمتزج وتترابط فيما بينها في تسلسل منتظم عبر تأليفها وتحللها. “كل شيء متكون من مزيج مـن العناصر. كلما امتلك شيء خصائص وقوات أكثر كلما أبانت الذرات المكونة له عن تنوع أكبر في الأشكال”2.[2]فالظواهر الطبيعية نتيجة لاتصال وانفصال وتفاعل الذرات.

تغيب بعض العناصر عند هذا المذهب أو ذاك، وتتطور بعضها الأخرى لدى مذاهب أخرى حسب كثافة الاتصال بين الأفكـار والمذاهب، وحسب خصوصية الظرفية التاريخية. ويمكن اعتبار تطور الأفكار بمثابة تأليفات أو تركيبات متتابعة لعناصر المذاهب السابقة؛ غير أن كل تأليف أو تركيب لا بد أن يأتي بأفكار جديدة، لأن مجرد نقل فكرة من سياق إلى آخر يؤدي إلى إبداع في الأفكار والمفاهيم. ولذا، فإن المذاهب الفلسفية والعقدية متفاعلة ومتداخلة، يقتبس بعضها من الآخر. ليس الاقتباس دائما واعيا، إذ كثيرا ما يأخذ مذهب من آخر ولا يعترف أصحاب المذهب الآخذ بذلك.

وتتألف تلك الرؤى لدى المذاهب المختلفة، فتكون توجهات عديدة، لا يمكن حتى حصرها في تصنيف معين، لأنـها تتناسل وتتكاثر بدون حدود. ولـهذا فإن تعـدد تجليات الكون يسمح بتعدد التفسيرات والتأويلات. غير أن تعدد أنماط الفهم لا يتوقف على تعدد مظاهر الكون فحسب، بل يتوقف كذلك، بالأساس، على الاختلاف في المنطلقات والخلفيات العقدية للذين يحاولون فهم الكون. فالآليات العقلية التي من خلالـها نكتشف العالم، بل نبنيه، أداة أساسية في بلورة تصوراتنا عن الكـون وعن علاقاتنا بـه. غير أن تلك الآليات لا تشتغل بكيفية عشوائية، لأنـها في تفاعل دينامي مسترسل مع المحيطين الطبيعي والثقافي متداخلين.

وقد لعبت فكرة انتظام الظواهر والوقائع داخل الكون المتناغم المنسجم دورا أساسيا في تطور المعارف الوضعية، خصوصا في علـم الفلك. ويمكن اعتبار اللحظات الأساسية في تطور علم الفلك هي تلك اللحظات التي حصل فيها التركيز على ضرورة أن يترجم التصور الفلكي انسجام النظام الفلكي في الرصد والحساب. والانتقادات التي وجهها علماء الفـلك، ابن الهيثم والعرضي ورجيومنتانوس وكوبرنيك وآخرون، خـلال قرون، إلى التصور الكسملوجي البطلمي، تنصب أساسا حول عدم وفاء الرصـد والحساب لمبدأ انتظام حركات الأجرام. فالأخذ بمبدإ انسجام الكـون أساسـي في بلورة التفسيرات المتنوعة حول ظواهره المختلفة:

ب ـ وحدة الآليات العقلية: ينشئ الإنسان تمثلات عن الكون، انطلاقا من المحيطين الطبيعي والثقافي اللذين يعيش فيهما، بناء على همومه اليومية المتمركزة حول توفير أسباب الرخاء المختلفة، من أجل الاستمرار في الحياة والتكاثر. وتتعدد التمثلات حسب خصوصيات البيئة ودرجة التعرف على التقاليد الثقافية والبناءات المفهومية المختلفة؛ فيكون حاصل الإنشاء معرفة أو فنا أو فلسفة أو حكاية أو غير ذلك. والعناصر التي تفعـل في هذا الإنشاء هنا وهناك هي نفس العناصر تقريبا، لكنها تتألف وتندمج وتتفاعل بدرجات متفاوتة. فالأداة في ميدان ربما تحولت إلى غاية في ميدان آخر، كما تصبـح الغاية في ميدان إلى أداة في ميدان آخر.

يشتغل هذا الإنشاء في شكل نقل الخبرة من مجال إلى آخر، بدرجة ما من الاستيعاب والإنجاز والإتقان. فيقف النقل عند الصفات الظاهرية، أو يلج إلى إدراك التمثلات التناسبية، أو يسبر كنه الانتظامات البنيوية للأشيـاء والظواهر. كما تختلف التقطيعات والتصنيفات بحسب اختلاف المذاهب، حيث يركز مذهب ما على بعض العناصر معتبرا إياها صلب الوجود وعلة ما يجري في العالم، بينما يركز مذهب آخـر على مكونات أخرى. ويمكن أن تختلف المذاهب إلى درجة أن أحدها يلغي كل أهمية للعناصر التي يعتبرها الآخر في صلب الأشياء. هكذا تحصل تقطيعات وتصنيفات لمكونـات العالم حسب مستوى الإدراك وآليات البناء. لهذا ترتبط بعض المذاهب بين الظواهر الاجتماعية والظواهر الطبيعية بصورة وثيقة، بينما ترى مذاهب أخرى أن لا علاقة بين ظواهر المجتمع وظواهر الطبيعة. بل إن المذاهب التي تقيم هذا الترابط لا تفعل ذلك بنفس الصيغة: فالبعـض يفسر بعض ظواهر الطبيعة بظواهر اجتماعية، وآخر يفسر هذه بتلك. إذ أن كلا التفسيرين يقيم علاقة سببية، لكن السبب عند هذا التفسير نتيجة عند ذاك، والنتيجة عند هذا سبب عند ذاك. حيث عند البعض أن التغير الذي يتراءى على وجه القمر يحصل كرد فعل على أحداث بشرية، وعند أصحاب العلم أن القمر يؤثر علـى المد والجزر. وإذن، فإن المذاهب المختلفة تقيم ترابطات وتنسج انتظامات متميزة حسب الخبرة الخاصة وحسب المشروع الحضاري الذي تعتبر نفسها حاملة له. لكن آليات النسج لا تتخذ نفس الصيغ في الميادين المختلفة، لأن الموضوع يؤثر في البناء المفهومي، كما يلعب التقليد الثقافي السائد دورا في توجيه ذلك البناء.

ومن جهة أخرى يكون حاصل الإنشاء فكرا علميا أو أسطوريا أو دينيا أو فلسفيا أو تجربة صوفية (على أن هذه متداخلة بدرجة ما حسب المذاهب). لكن، رغم هذا الاختلاف في الأغراض، فإن الفعل العقلـي الذي يشتغل هنا وهناك واحد، وإن اختلفت تجلياته حسب الأغراض. لذا تكون تلك الأنشطة مختلفة ومتجانسة في نفس الوقت؛ وتكون الإنشـاءات المفهومية والرمزية متداخلة ومتفاعلة فيما بينها. فلا يوجـد علم منفصل تماما عن الخلفيات الفلسفية، كما لا توجد عقيدة دينية بدون مضمون معرفي. لكن حضور المعارف والأحكام المعيارية والجمالية غير متساوي هنا وهناك. فهناك من المذاهب ما يضحي بالجانب المعرفي خدمة لأغراض عقدية، عن طريق التأويلات “البعيدة” أو أحقبة الخلاق، أو غير ذلك؛ كما أن هناك من المذاهب ما يرى أنه يجب التخلص من المعتقدات غير الوضعية لأنـها تشوش على الفكر السليم.

بعض المذاهب ينظر إلى الكون كجسم حي كبير، كأن الكون أعضاء وأنسجة تؤدي وظائفها على غرار وظائف الأيدي والأرجل والدماغ والقلب. وبعض المذاهب تنظر إلى الجسم الحي كأنه آلة. وتلعب هذه المقارنات والإسقاطات دورا مهما في تكون فرضيات وأفكار حول العالم والظواهر. بيد أن هذه المقارنات والإسقاطات تقبل النقد وإعادة البلورة عندما يكون الغرض هو بناء فهم علمي للظواهر؛ بينما تكتفي الآراء العامـة وممارسو التنجيم والخمياء بتلك الصور المسقطة على الظواهـر، من أجل “قـراءة مستقبل” الأشخاص، أو من أجل “تحويل التراب إلى ذهب”، أو من أجل “الحصول على إكسير الحياة”، بدون فحص نقدي.

ودور الآليات العقلية في إنشاء التصورات أساسي، لأن الوقائع والظواهر تنشأ انطلاقا من اهتمامات ظرفية. فالعقل ينسج موضوعاته، ويبدع علاقات من درجة ما مـن الدقة والعمق بينها، انطلاقا من خبرته السابقة التي تمكنه من نقل العلاقات من مجال إلى آخر. فنشاطه يتم بالأساس كعمليات تمثيلية، لأنه ينشئ تصورات انطلاقا من تصورات، أكثر مما يرتكز على تجارب جديدة. بل إن الارتكاز على التجارب الجديدة ذاته يكون موجها من طرف نموذج بني بواسطة التمثيل، من أجل نقل علاقات قائمة بين موضوعات معروفة إلى مجال جديد. لكن التعرف على العلاقات ليس معطى للإدراك سلفا، بل يتوقف على بلورة وإعادة نظر في كل بناء.

فالتفكير في ظاهرة البرق مثلا لا يتخذ نفس السبل لدى التفسيرات المختلفة. إذ يربطها البعض بالرعد، كما يمكن ربطها بحركة الهواء، ويربطها آخر بالأخلاق البشرية، ويربطها آخر بالآلهة. فالعلاقات إذن غير معطاة للإدراك الحسي المباشر، بل تنشأ إنشاء عن طريق النشاط التعقلي؛ فتكتفي التفسيرات العامية بالربط السببـي الساذج بين المظاهر الحسية للظواهر؛ غير أن الاكتفاء بملاحظة العلاقات البادية على سطح الأشياء يمكن أن تكون مدعاة لمعرفة مضللة. بينما يتوقف الفهم العلمي على الفحص النقدي المستند إلى القياس والمراقبة التجريبية؛ لأن التناول العقلي سيرورة من النسج والنقد وإعادة النسج، حيث تستفيد كل إعادة لاحقة من الخبرة السابقة، وتصححها لكي تأتي بصيغ ونماذج أفضل.

فالنشاط التعقلي يجري في سيل من المقارنات والمفاضلات بين أنسجة متشابكة من المفاهيم والصور والعلاقات، ترجع جذورها التاريخية إلى الخبرة “الأولى” للبشرية، لأن كل خبرة مكتسبة تترك آثارا في الذاكرة، وتشتغل فيها وإن بكيفية لاشعورية، مشكلة حوافز تارة وحواجز تارة أخرى، في وجه ذلك النشاط. وفي هذا السيل العارم من النشاط المفهومـي، الذي لا يعرف بداية ولا نـهاية، لا يجوز الحديث عن الاستقـراء ولا عـن الاستنباط، لأن هذين السبيلين من الاستدلال لا يندمجان مع خصوصيات السياق التاريخي التي يجري فيها النشاط التعقلي. إذ أن “العقل” يتفاعل في كل لحظة مع المحيط، ينسج شبكة جديدة من العلاقات انطلاقا من شبكة سابقة من العلاقات، فيضع فيها الوقائع المتجددة، بل حتى الوقائع القديمة تصبح جديدة لأنـها تنتظم في علاقات جديدة. فالآليات التعقلية الطبيعية مستويات من الدقة والضبط، تشترك في كونـها تدخل تحت آلية التمثيل، لأن هذه ليست إجراء صارما ومصطنعا مثلما هو الأمر بالنسبة للاستقراء والاستنباط. وبقدر ما ترتقي عملية النسج التمثيلية في سلمية الضبط والدقة، تقترب من الاستدلال الاستنباطي. فهذا الأخير نـوع من منتهى العملية البنائية المسترسلة؛ أي أنه عندما يتخذ التمثيل صيغا أكثر فأكثر صلابة، على إثر إعادات السبك المتتابعة، يقترب من الاستنباط. فبقدر ما يتقدم النسج من حيث الصلابة، بقدر ما يقترب التمثيل من الاستنباط، وإن كان الاستنباط لا يأخذ صيغته الواضحة حتى يصل النسج إلى لحظة إعادة السبك “النهائية”، حيث يكتسي البناء المفهومي صبغة نسقية متماسكة، وهنا نكـون بإزاء نظرية علمية مكتملة. فالعلمية إذن، حصيلة بلورة دينامية من الفحص والاختبار والبناء الاستدلالي، وليست اكتشافا يتم مكتملا في لحظة معينة، كما يدعي أهل الاستقراء أو الاستنبـاط الصرف.

ومن الآليات التي لعبت دورا أساسيا فيتكوّن المعارف الوضعية نظرية النسب، كآلية تمثيلية ـ استنباطية في نفس الوقت. فالإنسان دائما يقيم مقارنات بين علاقـات بين الموضوعات التي يقع عليها إدراكه. غير أن المقارنة لا تستقر عند نمط واحد، إذ يمكـن أن تقف المقارنة عند الصفات “الثانوية”، أو تتجاوزها نحو الصفات الأولية، أو تقارن على أساس الكم والعلاقات الكمية بين الموضوعات.

ويمكن النظر إلى تعقل الوقائع والظواهر عن طريق إفراغها في قالب نظرية النسب (أو التناسب)، حسب القرب أو البعد ما بين الموضوع الذي تنقل منه العلاقة والموضوع الذي تنقل إليه. فالعلاقة 2\3= 24\36 تعبير عن علاقة بين أعداد، لكن يغلـب عليها الطابع الاستنباطي، لأننا نستطيع إدراك سلسلة من الحلقات الوسطى في العلاقة: 2\3 = 4\6 = 6\9 = 8\12 = 10\15 = 12\18 = 14\21 = 16\24 = 18\27 = 20\30 = 22\33 = 24\36. فهنا علاقة متعدية إلى ما لا نـهاية من جهة، ومن جهة أخرى يمكن استنتاج علاقات جديدة من هـذه بتغيير مواقع الأعـداد مع الانضباط لقواعد التحويل. كما يمكن توسيع علاقة التناسب هذه لتنطبق على الأعداد مـن جهة والأشكال الهندسية أو الأوزان أو المسافات أو غير ذلك مثل: 2\3 = ـ\ـ=**\***. ويمكن إيجاد أجوبة، بناء على معارف ومقادير معلومة، حول مقادير مجهولة. فإذا عرفنا أن شخصا قطع مسافة سبعين كيلومترا في يوم، فيمكن استنتاج أنه سيقطع، في نفس الظروف، مسافة مائة وأربعين كيلومترا في يومين؛ وهذا تمرين بسيط في نظرية النِسب.

فالتمثيل يسمح لنا بتمديد العلاقات وتعديتها إلى مجالات جديدة، والاستنباط يسمح لنا باختبار مدى انطباق تلك العلاقة. كتب ليفنسن: “عن طريق التمديد، وعن طريق التمثيل، يستدعي صوت الموسيقى (كما فعل من ذي قبل) حالة لكيفية اشتغال العلم، وكيفية محاولتنا لفرض معنى النظام على سعة تجربتنا للعالم اللامحدودة”3.[3]ففي العلاقات التناسبية بين الأعداد أعلاه تظل العلاقة بين البسط والمقام ثابتة بالرغم تغير هذين الأخيرين؛ كما أن الفارق بين البسط والمقام يتزايد بواحد دائما : فالفــارق بين 2 و 3 هو 1، والفارق بين 4 و 6 هو 2، والفـارق بين 6 و9 هو 3، والفارق بين 8 و 12 هو 4، والفارق بين 10 و 15 هو 5، وهكذا. ويمكن إيجاد انتظامات مغايرة عن طريق تأليف المتتاليات، الحسابية والهندسية، والأضعاف والأسّ والأعداد الأولية وغيرها. وربما وجـدت هذه الانتظامات مجالات تجريبية تنطبق فيه. كأنما سيرورة المعرفة هو بحث عن الانتظامات العقلية، وبحث عن موافقتها في الانتظامات الطبيعية في نفس الوقت. لذا تبـدو الطبيعة وكأنـها مكتوبة بلغة الرياضيات.

لقد انتبه جل الفلاسفة إلى أهمية التعبير بالحساب والنسب، لأنه يوجه العقل نحو الانتظام في حصول وترابط الظواهر. فالحساب والنسب والقياس، علميات تحصر العلاقات بين الأشياء، وتقيدها في معادلات لا تعرف انزلاقا ؛ بالإضافة إلى أنـها تمكن من استنتاج المعارف الجديـدة عبر إنجاز عمليات مضبوطة، حيث تتم ترجمة العلاقات بين الوقائـع إلى نموذج رياضي، فيكون حل العملية الرياضية حلا لتلك العلاقات بين الوقائـع. وقد عبر فيلولاوس الفيثاغوري، من القرنين الخامس والرابع قبل الميلاد، قائلا: “إن طبيعة العـدد والتناغم لا تقبل الخطأ… لكن بالفعل، فالعدد، بإدماجه لكل الأشياء في الروح عبر الإدراك الحسي، يجعلها قابلة للتعرف وقابلة للمقارنة فيما بينها”.4[4]والذين قالوا إن الرياضيات هي المفتاح الأساسي لفهم العالم لم يبالغوا في شيء. غير أن تناول موضوعـات العالم عن طريق إخضاعها لقوالب الحساب وعلاقات النسب والتناظر وتنظيمها في شبكة من المعادلات المنتظمة لا تختص به المعارف العلمية. فالمعارف العامـة، في مستوى متقدم، تستعمل الحساب والنسب تلقائيا. كما أن الفـن والنصوص الأدبية تستثمر بعض جوانب الحساب والنسب ؛ ويستعملها الصناع اليدويون والملحنون المتمكنون من صنعتهم.

أما في ميدان الوقائع التجريبية، فإن العلاقات لا تكون بمثل هذه الصرامة الرياضية، لأن نتائج القياس والحساب تقريبية دائما؛ كما أن العوامل التي تتدخل فيها متشابكة، حيث تكون بعضها قريبة وأخرى بعيدة. بيد أن نقل العلاقات، عن طريق التمثيل، طال كل المجالات تقريبا؛ فهنـاك من يفسر انتشار الضوء قياسا على انتشار الصوت، وهناك من يفهم تناغم حركات الأجرام السماوية بناء على علاقات منسجمة للغة الموسيقي. بل إنـهم يتحدثون عن أنغام موسيقية للأجرام بفعل حركتها. وهنـاك من يستدل على وجود الله انطلاقا من تعدية علاقة السببية، ومن مبدإ النظام الكسمولوجي. وهناك من يعتبر أن للكون مدبرا لأن للجسم مدبرا هو العقل، لذا يكـون المدبر عقلا كليا ومتعاليا. لكن، بقدر ما يدخـل المرء عللا بعيدة في تصوره، بقدر ما يتعذر التعبير بالحساب والقياس والنسب، وبالتالي بقدر ما يتعذر الاستدلال العقلي وتتعذر المعرفة الوضعية في هذا الباب. فالتجارب التي نجريها، تلقائيا أو عن قصد وتـهيئ، غير محدودة، وتختلف نتائجها حتى ولو استعملت أدوات قياس، لأن التجربة اللاحقة لا تكـرر تجربة سابقة ؛ غير أن إخضاع تلك النتائج للحساب والنسب ورسمهـا في بيانات، يمكننا من وضع اليد على الانتظامات والثوابت، واختصار التغير في معادلـة جبرية بسيطة. لذا يشتغل التمثيل والاستنباط كآليتين متفاعلتين من أجل نسج تصورات حول انتظام العلاقات بين الوقائع المدروسة. فلا غرابة أن نظرية النسب تشكل لحظة مهمة في ضبط اتجـاه تغير الظواهر، حيث تبنى تعابيرها بـهذه الصيغة: “كلما تغير الظرف كذا، تغيرت الظاهرة” أو “كلما زاد العنصر كذا زادت كثافة التفاعـل” أو “كلمـا زادت كثافة الجسم زادت سرعته”… إلخ.

والفكر العلمي استند دائما إلى مسلمة فلسفية أساسية حول العالم تكمن في انتظام ظواهر الطبيعة سواء في الظواهر السماوية أو التفاعلات المادية. ولا تغيب فكرة الانتظام عن الأنساق العقدية المختلفة؛ لكنها عندها مجرد تلميحات تستدعى لأغراض أخرى. والفكر العلمي، في الفيزياء والكيمياء والبيولوجيا، يفترض الانتظام، بينما الآليـات البنائية في الرياضيـات تقدم شبكات من العلاقات المنسجمة للتعبير عن مختلف أنمـاط الانتظام التي يمكن أن تصب فيها الظواهر الطبيعية. ومن هنا ذلك اللقاء المثمر بين الرياضيات والطبيعة. فلا نجد أعدادا وأشكالا هندسية معطاة في الطبيعة مسبقا، بل ينشـها العقل ويرمي بـها في الطبيعة مثلما يرمي الصياد شبكته في البحر، فيكون الصيد بمقدار التوافق بين السمك والشبكة.

إذن، شكلت الصياغة الرياضية لنتائج التجارب دائما مقياسا مهما للعلمية. إذ التعبير الحسابي عن العلاقة بين المسافة والزمن مثلا يمكّن من حساب السرعة، والتعبير الحسابي عن تغير السرعة في الأجسام ذات كثافة مختلفة يمكن من إدراك العلاقة بين الكثافة والمقاومة. فيؤدي التركيب بين المعادلات إلى بلورة القوانين العلمية بأسلوب دقيق. كتـب دالتون سنة 1827، حوالي عشرين سنة بعد بلورته للنظرية الذرية للعناصر: “لسـت راضيا […] بالأساس بسبب نقص في المعرفة المضبوطة بالعلاقات التناسبية للتأليفات”.5[5]فالتناسب ينطبق كذلك على العناصر الكيماوية؛ والقدماء كذلك فسروا الظواهر عن طريق تناسب بين العناصر الأربعة: التراب والهواء والنار والماء، كما حاولـوا أن يفسروا بـها الأمزجة البشرية.

يستعمل التنجيم والخمياء بعض جوانب الحساب في شكل جداول لا تخلو من انتظامات، لكن مكانـة التعبير بالأشكال والعلاقات الرياضيـة لا تتجاوز الوصف المظهري. بينما في علوم الفلك والفيزياء والكيمياء تستغل الرياضيات كأداة منهجية لإعادة بلورة الظواهر وتتبع تغيرها وصياغة نتائج الملاحظة والتجارب، بل يوجه التعبير الرياضـي التجربة ذاتـها. فالأداة الرياضية تمكن من استنباط القانون الذي يفسر تغير ظاهرة ما عن طريق معرفة الانتظام ونسبة التغير. أما في التنجيم والخمياء لا توجـد قوانين مضبوطة، لأن الغرض فيهما ليس معرفيا. والاختلاف بين مستويات المعرفة، من معرفة عامية حسية ومعرفة وضعية نيرة ومعرفة علمية متقدمة في التجريد، يرجع بالدرجـة الأولى إلى مستوى تدخل الرياضيات في بلورة مفاهيمها وقياس تجاربـها وصياغة لغتها وتماسكها الداخلي. فدور الرياضيات في معرفة علمية متقدمة أكبر من دورها في معرفة وضعية عادية أقل تجريدا، وأكبر كثيرا من دورها في معرفة حسية سطحية.

فالتعقل نساج للتماثلات والتشابهات والمقارنات بامتياز، أي أنه يشتغل عن طريق مستويات تمثيلية. فتتتابع الصور والتداعيات في الذهن، بدون توقف وبعدد لا يقدر، حول الكون والعوالم الخيالية والمجتمع والرغبات، متداخلة يتآلف فيها “الواقعي” و”الخيالي” بدون حدود بينة. لكن يمكن أن تتداعى عمليات النسج في شكل إنشاء صور وعوالم “خيالية”، كما هو الشأن في الآداب والفنون؛ ويمكن أن تفحص فرضيات الاستكشاف التمثيلي، وتخضع للقياس والحساب والاختبار التجريبي، فيكون الحاصـل هو معارف علمية متطورة. غير أن العلوم تتغذى بالفنون، لأن هـذه تشكل على الأقل قنوات تسهل التواصل والتعبير ؛ كما تستفيد الفنون من آليات التعبير العلمي، مثلما يستفيد التشكيل والموسيقى من النسب الرياضية وغيرها. وهكذا كانت العلوم والفنون والفلسفة والمعتقدات متداخلة بدرجات مختلفة، حسب اللحظة التاريخية وخصوصية الميادين، ونسبة إلى درجة نموها.

انطلاقا من إمكانية المعرفة المضبوطة، يؤكد جل الفلاسفة على العلاقة الحميمة بين الوجود والفكر. فديكارت يمثل العقل بالشمس، حيث تنير الشمس الواحدة الأشيـاء المختلفة ؛ فعنده أن العقل واحد عند كل العقلاء. ويقر سبينوزا بوجود نظام وترابط بين كائنات الطبيعة مقابلين لنظام وترابط في العقل. ويؤكد لايبنتس أن هناك تناغما مسبقا بين العقل والكون، وهو ما يجعل الكون قابلا للتعقل. لهذا يتحدث هؤلاء الفلاسفة على رياضيات الكون” أو “كل شيء متهيئ للتناول على طريقة الهندسية” أو “الانسجام بين العقل والكون”. إن العقل ينسج رؤى للـعالم عبر إنشاء أنماط من النظام بواسطة اللغة والصور والاستدلال، كلها متشابـكة ومتداخلة بدرجات. فالعقل نظام، والإدراك إسقاط لنظام معين على الأشياء، والاستدلال هو وضع الأشياء المفكر فيها في علاقات منتظمة. لكن النظام في الأسطورة غير النظام في العلم، وغيرهما في الفنون والمعتقدات.

ج ـ النسيج القيمي: إدراك العالم لا يكتفي بالوقوف عند العناصر التي تمدنا به الوقائع، لأن الإدراك نشاط تفاعلي خلاق. فلا بـد من نصيب معين من الإسقاط من طرف الذات المدركة على تلك العناصـر، لكي يتم إنشاء صورة أو تصور لـها. وهـذا الإسقاط لا يتوقف على معرفة وضعية فحسب، لأنه يتضمن أحكاما معيارية ورغبات وهواجس ذاتية. إذ حتى في إدراكاتنا البسيطة، لا نتحرر من قبضة الأحكـام تلك: فعندما أنظر إلى نـهر وأحاول أن افهم شكله وعمقه مثلا، لا بد أن تتسرب إلى ذهني متمنيات ومواقف من قبيل “ليت أن النـهر مر من مكـان آخر” أو “كان من الأفضل أن يكون النهر على حالة أخرى” أو ” إن عمق هذا النهر أكثر من العادي أو اللازم” أو “إن هذا النهر يعيق الطريق”، أو “سيكون منظر النهر أجمل لو…”. فأنا أدرك الشيء وأقـيّمـه في نفس الوقت، وأنتقد بعض جزئياته وأقترح أشكالا وجودية مغايـرة تجعلـه أنسب إلى تكويني وتمنياتي. غير أن حضور أحكام القيمة لا يكون بنفـس المستوى في كل الإدراكات؛ لأن علاقاتي بأشياء العالم ليست من نفـس الحميمية والاهتمام. وليست لأحكام القيمة طبيعة قارة، لأنها تختلف من شخص لآخر، حسب الرغبات وحسب التكوين الفكري. فأحكام القيمة لا تطغى كثيرا عند الباحث الذي يتوخى فهم واقعة ما فهما وضعيا من خلال سبر علاقاتـها البنيوية؛ بينما تطغى عند الداعية إلى ما يعتبره السبيل القويم. وبما أن باحثين مختلفين يستطيعان التواصل بدون عقبات تقريبا حول موضوع البحث، فإن داعيتين مختلفين يصطدمان منذ بداية التواصل بينهما. فالنسيج القيمي ذو مكونات متألفة ومتعددة:

1 ـ مكونات عقدية: تنساب القناعات العقدية في شكل تداعيات وصور، وتتسرب على البناءات المفهومية، فتنتشر في كل أطرافهـا، وتستقر ملتحمة بقضاياها الفكرية. وتجد كل القناعات العقديـة في هذا التسرب دليلا قويا ـ في نظرها ـ على أن إقراراتـها حول الكون والإنسان والتاريخ صائبة ومؤكدة. فيأخذ بـها صاحب القناعـة على أنـها وحدها الجديرة بالصواب، بينما يعتبرها الآخذ بقناعة مغايرة مجرد ترهـات. لـهذا تصطدم القناعات فيما بينها، وإن كان ما يجمع بينها أكثر مما يفرق بينها. ويبرز ذلك في الجدل الفلسفي والديني. فالقناعة العقدية تتسرب إذن إلى الأدلة العقلية نفسها، وتوجهها بشكل من الأشكال، لأن الاستدلال يجري في سياق ثقافي معين. والمعتقد يقاوم الجدة دائما، لأنه يحرص على الاستقرار الوجداني والذهني؛ كما أن قدرة الاعتقادات المضمرة على مواجهة التحديات تأتي من الطبيعة المستديرة للأنساق المعرفيـة.6[6]غير أن الذي يجب الانتباه إليه، هو أن وضع الاقتناع ذاته هو الذي يشتغل في شحذ الأدلة وليس مضمون المذهب الديني أو الفلسفي في حد ذاته. إذ تؤثر المعتقدات المتعارضة بنفس الوزن على النشاط التعقلي، وربما كان لـها نفس المفعول؛ مثل المعتقـد أن وليا ما سيداوي حاله، فيتوجه نحوه؛ فليس الولي هو الذي يداوي حال المريض، بل الاعتقاد في قدرة الولي، لأنه بفعل الاعتقاد يتهيأ المريض نفسيا، فتتأثر الأنشطة الفسيولوجية لأجهزته، ويحس بقدر معين من استعادة التوازن والانسجام بين أوضاعه الفسيولوجية وأحواله النفسية، أي بين مكونات شخصيته، لأن المرض بالأساس فقدان للتوازن وللانسجام. أما أن يكون الولي هو فلان أو فلان فهذا ثانوي جدا.

2 ـ مكونات جمالية: كل عمليات الإدراكية، حتى في مظاهرها البسيطة، تمتزج بأذواقنا وتقييماتنا الجمالية. فعندما ننظر إلى جبل أو شخـص أو لوحة، لا بد أن يصحب نظرتَـنا شعورٌ بإعجاب أو عطف أو حب أو تقدير أو احتقار أو تبخيس أو غير ذلك، اعتبارا من كوننـا نـرى في ذلك جمالا أو فقدانا للجمال. في الغالب، يحاول المرء كبـح ذلك الشعور عن طريق افتعال ذرائع أو مبررات، غير أن ذلك الشعور لا بد أن يتسرب إلى إدراكاتنا لتلك الأشياء. والمكونات الجمالية مستويات: فهناك مستويات عادية وأخرى مجردة. ولعل سمات التناظر والانسجام والنسب والبساطة هي الأكثر انتشارا في الفكر الفلسفي والفكر العلمي، وقد لعبت دورا مهما في تطور الأفكار، وفي كثير من الإبداعات في العلم والهندسة المعمارية والفنون والآداب. وهناك خصائص جمالية ثانوية تلعب دورا لا يستهان به في تبلور الأفكار مثل الاقتصاد والتوازن بين الوحدة والتنوع. بل إن التفاعل بين العلوم والفنون يتم أحيانا فـي مستوى الاشتـراك في الموضوع، خصوصا في المعمار والأجهزة التقنية والسيارات وغير ذلك. “بعض العلوم البيولوجية والهندسيـة تجد إلـهامها أكثر فأكثر في الفنون”7.[7]

3 ـ مكونات إديولوجية: تتعلق بالرغبة في تملك الفضاء، والرغبة في جعل الآخرين يتقمصون قناعات مطابقة لتلك التي عنـد صاحب الرغبة. ويمكن أن يذهب الأمر إلى رغبة في تملك إرادة الآخرين من أجل تسخيرهم للأغراض الذاتية. ويـوازي تلك الرغبة على مستـوى السلوك الاجتماعي نزوع إلى إقناع الآخرين بسداد الرأي الذي يتبناه، أو الإديولوجيا التي يأخذ بـها، أو إلى إرغامهم بالقوة على ذلك بالإرهـاب والتخويف. وهذه القناعات والممارسات مشتركة بين الأفراد والمجموعات الثقافية، ولكن بدرجات متفاوتة؛ وتدخل في الاعتبار عدة عوامـل شخصيـة وتاريخيـة في العلاقة بين سلوك الأفراد ومعتقدهم. فهناك التزام إديولوجي من جهة، وهناك درجة الانضباط من جهة أخرى؛ ولكل إديولوجيا انتهازيوها. على أن طغيان الإديولوجيا في سيرورة الفعل التعقلـي يؤدي إلى كوارث وعلى عقم فكري؛ مثل الحديث عن “العلم البرجوازي” أو “العلم الآري” أو “العلم اليهودي”؛ مما يؤدي بالبعض إلى الحديث عن “علم بروليتاري” أو عن “علم لاتيني” أو عن “علم إسلامي”. فلا يستطيـع الباحث الذي تطغى على ذهنه الالتزامات الإديولوجية والمذهبية أن يبلور معارف متقدمة، لأنه يدخل في حسابات تكييفية، تضيق من مجـال عمله المفهومي، وتزج به في مواقف مصطنعة، من الزاوية العلمية.

إن هذه المكونات القيمية تسري في كل عروق الجسد المعرفي، غير أن حضورها يختلف من ميدان لآخر؛ فحضور بعض مكونات الخصوصيات القيمية والتاريخية المحلية ضعيف في العلوم الصورية مقارنة مع حضورها في الآداب والفنون. ولـهذا كانت علـوم الرياضيات والمنطق الرياضي أكثر موضوعية من الفنون والآداب، لأن أسلوب النسج في الأولى أكثر صرامة وأقل التصاقا بالحياة الانفعالية للإنسان. فالعلوم التي تستعمـل لغة صورية تتحرر من الشحنة الوجدانية كما تتحرر من سلطة المقام التداولي بدرجة كبيرة، مقارنة مع وضع الآداب والفنون والعقائد.

لا يوجد مذهب عقدي خالي من معارف، كما لا يوجد بناء علمي متحرر تماما من المعتقدات. غير أن حضور المعارف في المذاهب العقدية يكون دائما تلميحيا ومبهما، مثل إبـهام المعارف العامية، لأنه لا يتخذ صيغا دقيقة في شكل قوانين علمية. وبالمقابـل، يكون حضور المعتقد في البناء العلمي خجولا وباهتا، لأن قوة الاستـدلال في العلم وصرامة بنائه تفرض على المعتقد تكيفا وإضمارا. فكما يقول نلسن كودمان: “حتى لو كان المنتوج النهائي للعلم، بخلاف منتوج الفن، هو نظرية ذات دلالة حرفية وإحالية، لغوية أو رياضية، فإن العلم والفن يشتغلان في الغالب بنفس الطريقة في بحثهما وبنائهما”.8[8]إن التفاوت في طرق الاشتغال يعود بالأساس إلى كون العالِم والفنان يشتغلان في نفس الفترة التاريخية تقريبا، وتحت مظلة نفس أسلوب التفكير السائد في المجتمع آنذاك. وأهـم ما يميز ذلك الاشتراك في أسلوب التفكير، كون العالِم والفنان يقتسمان شعورا مشتركان وينتميان إلى نفس الخلفية الفلسفية والعقدية تقريبا. لكن يختلف الفنان والعالِم والفيلسوف ورجال الدين فيما بينهم باختلاف الأغراض والبرامج التي يخطط لها كل واحد.

إن المناصرين للمذاهب العقدية، متى وجدوا أن بعض مكونات بناء علمي ما تلتقي في جانب منها مع ما يعتقدونه، سارعوا إلى التقرير يثبت عقيدتـهم. وما ذلك إلا إسقاط ذاتي مغالي وتأويل بعيد مزدوج: تأويل متعسف لنتائج البحث العلمي وتأويل متعسف للنصوص العقدية. فيتناسى أن نتائج العلم تلك ما هي إلا محطة في سيرورة تطـور البحث، كما يتناسـى أنه هو الذي يسقـط على النصوص العقدية ما يكتسبـه من العلم؛ ولو لم يكتسب تكوينا في العلم لما قرأ في تلك النصوص مـا يدعي أنه فيهـا. إن ذلك التأويل البعيد نتيجة لسطوة الأحكـام المعيارية القيمية على ذهنه، إلى درجة أنـه لا يرى في العالم إلا ما يعتقده. وعندما تستحوذ الأحكام المعيارية والقيمية على الذهن، فإنـها تمنعه من اقتراح الفرضيات الجديدة ومن الإبداع الفكري، لأنه لا ينظر إلى الأشياء إلا من خلال معتقده. ويعلمنا تاريخ العلوم أن الأفكار الجديدة تتولد دائما من خلال إعادة النظر في الأفكار المأخوذ بـها؛ فتكون إعادة النظر جزئية أو شاملة، حسب خصوصيـة نمو هذا العلم أو ذاك.

ليس صحيحا ما يقال عن كون العلوم مجال النشاط العقلي وكون الفنون مجال الأحوال الانفعالية. فالعلوم لا تستغني عن الاستعارات والصـور والحدوس، وإن كانت تخضعها لفحص نقدي. غير أنه لا يمكن المغامرة بالقول إن الانفعالي والعقلي متطابقان، وإن سبل الإنشاء فيها متكافئة. فالتأليف بين الصور والاستدلالات والتعبير الكمي درجات ومستويات. إن إبداعا فنيا يتضمن استدلالات بالتأكيد، لكنها تظل خافتة مقارنة مع الاستدلال في العلوم. كما أن العبارات المجازية موجودة في اللغة العلمية بالتأكيد، لكنها تخضع للبناء الصارم الذي لا يمكن أن يفرط فيـه كل بناء علمي. وقد انتبه مؤرخو العلوم وأصحاب الإبستمولوجيا لـهذه الحقيقة، منذ أواخر الخمسينات وأوائل الستينـات؛ غير أن بعض التنـاولات تبالغ في التقدير، فتدمج بين الأنشطة، وتجعلها متطابقـة في كل الميادين؛ وليس هذا المكان مناسبا للحديث عنها.

لقد ساد الفكر الإبستمولوجي الذي كان يفصل ما بين العلوم والفنون فصلا تاما خلال الفترة ما بين الحربين. فكان الوضعانيون مثلا يعتبرون مجال الحقيقة والصدق من قبيل المنطق، بينما اعتبروا مجال الصور والتداعيات من قبيل الفن؛ فطابقوا بين المنطق والعلم، كما طابقوا بين التصوير والفن. تلك الثنائية، المصطنعة في جل مظاهرها، تـهاوت أمام إنجازات البحث الدقيق في تاريخ العلوم والإدراك والعلم المعرفي، منذ أواخـر الخمسينات.

فالتفاعل منفتح إذن؛ وكل محاولة لإغلاق المذاهب والعلوم بعضها في وجه البعض الآخر، لا تكون إلا مناهضة للتاريخ الفعلي للأفكار، ومعيقة للابتكار عامة. فالاستدلال العقلي لا ينفصل عن الصور الحدسية، بل يتداخل المجالان ويتفاعلان، بدرجات متفاوتة، فينتج التفاعل أنماطا من الفنون والعلوم والمذاهب. وقد شكلت الاعتبارات الجمالية مكونا لا يستغني عنه في اقتراح الفرضيات والحكم عليها، كما اعتبر في المقارنة بين الفرضيات المتنافسة. ففي الحديث العادي للعلماء يقولون إن “هذه الفكـرة جميلة” وإن “هذه الصيغة أنيقة” وإن “هذه العبارة أبسط”. ومن بين الخصائص التي يتميز بـها التصور الكوبرنيكي عن التصور البطلمي ميزاته الجمالية.9[9]ولاشك أن عنصر الجمال يظل مصاحبا للبناءات العلمية دائما. إذن فتفاعل المعارف والأفكار والقيم لم يعرف انقطاعا في أية لحظة من التاريخ؛ غير أن مدى التفاعل يتأثر بجو التواصل والعمل الفكريين في المجتمع.

على أن تاريخ الأفكار عرف فترات من التفاعل الكثيف المثمر، كما عرف فترات من ضعف التفاعل بين الميادين. إذ التفاعل يجري في إطار تواصلي يتحدد من خلال العلاقات الاجتماعية والممارسات الثقافية التي تكون عادة مشروطة بالنظام السياسي السائد. فقد نشطت الأفكار في العلوم والفنون والفلسفة ما بين القرن الخامس والقرن الثاني قبل الميلاد في البيئة الإغريقية، متفاعلة، يشكل كل ميدان سندا للميادين الأخرى، خصوصا لدى التقليد الذي نشط فيه ديمقريطس وآركيطاسوأودكسوس. كما ازدهـرت في ما بين القرنين العاشر والرابع عشر في المجتمعات الإسلامية، ثم في أوربا منذ القرن الخامس عشر. فعندما يزدهر الجدل الفلسفي تنمو العلوم وتنتشر الفنون، وكذلك العكس. ويتم ذلك في مجتمع يعرف الوفرة في الاقتصاد والرخاء لدى أغلبية الفئات الاجتماعية. أما عندما يضعف النشـاط الاقتصادي ويتفشى الفقر، فإن الأنشطة الفكـرية تنحصر، وتتناقص أواصر التفاعل فيما بينها، فلا تعرف ازدهارا. إن أنشطة الإنسـان في الآداب والفنون والعلوم والفلسفة ليست أفعالا مفردة، لأن الصور والأمثلـة والوقائع تتبلور في الميادين المختلفة بطرق متقاربة، متغذية بالتقاليد الفكرية وأساليب التفكير السائدة. ولا زال الفكر العلمي المعاصر يسير في نفس أسلوب التفكير الذي يزاوج بين الصور والاستدلال، في جدليـة بنائية عضوية بين التمثيل والاستنباط، وهنا تكمن دينامية البناء والنقد وإعادة السبك التي يتميز بـها الفكر العلمي. “إن علم القرن العشرين واجه مشاكل التعقيد بالاستعمال المتسق للنمـاذج التمثيلية والنمـاذج التي تقتـدي بالعناصر التي تبني العالَم من حولنا، بدلا من تحليله ـ وهي الاستراتيجيا التي نجحت في عدد متزايد من المجالات”.10[10]أما الفكر الديني والأسطورة والفنون والآداب فإنـها تقف عند الصور والتداعيات، مستفيدة من بعض جوانب العلم في التصور والإنجاز. بينما تبحث الفلسفة في أسس البناء هنا وهناك، مقارنة وكاشفة عن الخلفيات والمقاصد من النسج المفهومي برمته، من أجل النقد.

مجلة الجابري – العدد الأول