مجلة حكمة
مبادئ الفلسفة السياسية باروخ سبينوزا

مبادئ الفلسفة السياسية لدى باروخ سبينوزا – أحمد أغبال


الفلسفة السياسية لدى باروخ سبينوزا

تقوم الفلسفة السياسية لدى باروخ سبينـوزا على مصادرة أساسية مفادها أنّ الأنظمة السياسية ليست أنظمة طبيعية بل هي أنظمة مبتكرة، صنعها الإنسان من أجل تحقيق بعض الأهداف. ويرتبط عنده الدافع إلى تأسيسها بالطبيعة الإنسانية. تتحدّد الفلسفة السياسية ، إذن، بتصوّره للطبيعة الإنسانية، منها استنبط مبادئها وغاياتها، وعليها أسسّ مفهومه لطبيعة النظام السياسي الصالح للبشر. ولذلك لزم البدء بالتعريف بتصوّر سبينوزا للطبيعة الإنسانية.

1. تصوّر سبينوزا للطبيعة الإنسانية

سار سبينوزا على نهج هوبز في بناء الفلسفة السياسية . كلاهما انطلق من فكرة أنّ الأهداف والغايات السياسية تستنبط من الطبيعة الإنسانية كما هي في الواقع لا كما ينبغي أن تكون. تمثّل الطبيعة الإنسانية في نظر سبينوزا كيانا لا يختلف عن الكائنات الطبيعية الأخرى من حيث أنها تخضع جميعها لقوانين طبيعية. فكما أنّ بنيتنا العضوية والفيزيولوجية تخضع لهذه القوانين كذلك تخضع لها بنيتنا النفسية بما تنطوي عليه من انفعالات ومشاعر وأهواء ورغبات. ولذلك لزم التعامل مع الطبيعة الإنسانية ودراستها مثلما يدرس أي كائن طبيعي آخر. وأمّا المبدأ الأساسي الذي يتحكّم في الكائنات الإنسانية فهو مبدأ الكاناتوس canatus principal أو قانون الشهوة الذي يمثّل الدافع الحيوي وإرادة الحياة، وهو ما عبّر عنه سبينوزا بقوله:

” كلّ شيء يكافح من أجل الحفاظ على البقاء بقدر المستطاع وبقدر ما له من قوّة”.

يقوم هذا المبدأ مقام المصادرة الأساسية التي تنبني عليها الفلسفة السياسية لدى باروخ سبينوزا . يقول بهذا الصدد:

“ولمّا كان العقل لا يرغب في ما ليس موافقا للطبيعة، فإنّه بقضي بأن يحبّ كلّ امرئ نفسه، وأن يسعى لما فيه مصلحته وإلى ما هو مفيد له بالفعل؛ ولا يرغب إلاّ بما يفضي بالإنسان إلى مزيد من الكمال؛ ويقضي، بكلّ تأكيد، بأن يكافح كلّ فرد من أجل الحفاظ على وجوده بقدر المستطاع. والواقع، أنّ هذا الأمر ضروري وبديهي مثلما هو بديهي أنّ الكلّ أكبر من الجزء” (1)

إنّ قانون الشهوة هو ما يجعل الإنسان كائنا أنانيّا بامتياز. هذا هو تصوّر سبينوزا للإنسان: إنّه أنانيّ بطبعه. تلك بديهية لا تحتاج إلى برهان في نظره. إنّها عبارة عن مبدإ قبلي يفرض نفسه بوصفه حقيقة متعالية عن ظروف الزمان والمكان. وممّا يلزم عن هذا المبدإ أنّ يتصرّف كلّ امرئ وفقا لما يرى فيه مصلحته الخاصة. وبحكم طبيعته ونوازعه الشهوانية أصبح الإنسان مؤهّلا – بالفطرة – لأن يكون لغيره عدوّا. وإذا تصوّرناه وهو في حالة الطبيعة، حيث لا وجود للدولة والقانون، فإنّ وضعه لا بدّ أن يكون محكوما بالصراع. يصف سبيونوزا الإنسان وهو في حالة الطبيعة بقوله:

“..يتحدّد الحقّ الطبيعي لكلّ إنسان حسب الرغبة والقدرة، لا حسب العقل السليم. وليس الجميع مؤهّلا طبيعيّا للتصرّف وفقا لقوانين العقل السليم وقواعده، بل إنّ جميع الناس ولدوا، على العكس من ذلك، في حالة من الجهل المطبق، وقبل أن يتعلّموا أسلوب الحياة الصحيح ويكتسبوا العادات الفاضلة، يكون الجزء الأكبر من حياتهم قد انقضى، حتّى وإن كانوا على قدر كبير من التربية. إلاّ أنهّم يكونون في غضون ذلك مضطرّين للعيش والحفاظ على وجودهم، بقدر المستطاع، بدافع الرغبة الشهوانية التي تكون مستقلّة غير تابعة لغيرها [متحرّرة من ضوابط العقل]. لم تمنحهم الطبيعة موجّها آخر سواه، فحرمتهم من القدرة على العيش طبقا للعقل السليم.

لذلك، لم يكونوا ملزمين بأن يعيشوا وفقا لأوامر العقل المتنوّر مثلما أنّ القطّ ليس مضطرّا لأن يعيش طبقا للقوانين المتحكمّة في طبيعة الأسد. ومن ثمّة، فإنّ كلّ ما يعتقد الفرد الواقع تحت سيطرة الطبيعة بأنّه نافع له، وسواء أكان منقادا في ذلك بالعقل السليم أو مدفوعا بقوّة انفعالاته، يكون له الحقّ المطلق في طلبه والاستيلاء عليه بأنجع الطرق، وسواء أكان ذلك بواسطة القوّة أو التحايل أو التوسّل أو أيّة وسيلة أخرى.

وبالتالي، فإنّه لا بدّ أن ينظر إلى كلّ من يَحُولُ دون تحقيق هدفه على أنّه عدوّ له” (2) في حالة الطبيعة يعيش الإنسان وفقا لمبدإ الشهوة، ويكون شغله الشاغل هو تحقيق مصلحته بكلّ الوسائل المتوفّرة ولو على حساب الآخرين. ولم يكن بوسعه أن يتصرّف في ضوء العقل السليم، لأنّ معظم تصوّراته للرغبة والمنفعة توجّهها الغرائز الشهوانية والانفعالات التي لا تهتّم بما وراء اللحظة الراهنة والموضوع المباشر. والسبب في ذلك أنّ الإنسان جزء من الطبيعة، واقع تحت قوانينها. ومن قوانينها الأساسية أنّ لكلّ موجود حقّ مطلق على ما يقع في نطا ق قدرته، وأنّ كلّ شيء يحاول الحفاظ على وجوده والبقاء على وضعه بقدر ما له من قوةّ من غير أن يراعي في ذلك أي شيء آخر.

هذا هو حال الإنسان في الطبيعة، لا يملك سوى أن يسلك وفقا لما تمليه عليه طبيعته، مثله في ذلك مثل سائر الموجودات الطبيعية، ولا فرق في ذلك بين الأذكياء والأغبياء من الناس. ولذلك، فإنّ كلّ من يتصرّف وفقا لقوانين الطبيعة إنّما يمارس حقهّ الطبيعي المطلق. وإذا كان ذكيا فإنّه يستخدم قدراته العقلية وفقا للمنطق الطبيعي، وبذلك يظلّ خاضعا لقانون الشهوة دون غيره، يسعى إلى السيطرة على كلّ ما يقع تحت قدرته، و”تمتدّ حقوق الفرد إلى الحدّ الأمثل الذي ترسمه القدرة المشروطة [بالمتغيرات الطبيعية]” ولماّ كانت حالة الطبيعة خالية من السلطة السياسة، وحيث أنّ الدفاع عن النفس حقّ طبيعي، فإنّ هذا الحقّ مشروط بالقدرة على استعمال القوّة.

لا حقّ في الدفاع عن النفس، إذن، إلا لمن له قدرة على ذلك. يمكن القول بعبارة أخرى: إنّه بانتفاء القدرة ينتفي الحقّ. وبسبب جهل الإنسان بقوانين العقل انعدمت فيه الروح الخلقية. ليس في حالة الطبيعة، إذن، شيء من قبيل السلطة السياسية والتشريعات الوضعية أو الإلهية والأخلاق. يقول سبينوزا:

“من اللازم وصف حالة الطبيعة على أنّها حالة لا وجود فيها لا للدين ولا للقانون، وبالتالي لا وجود فيها للخطيئة والذنب”

ليس في الطبيعة معيار للتمييز بين الخير والشرّ ولا بين العدل والجور. وبعبارة واحدة، لا وجود فيها لمعاني الأخلاق. وهذا رأي ينسجم تمام الانسجام مع تعاليم بولس الرسول الذي نسب إليه سبينوزا قوله بأنّه لا وجود للخطيئة قبل الشريعة، وبهذا المعنى يمكن فهم الآية الكريمة: “وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً”. يقول سبينوزا:

“إنّ الحقّ والقانون الطبيعيين اللذان ولد الإنسان في أحضانهما وعاش في كنفهما لا يٌحَرِّمَانِ إلا الأشياء التي لا رغبة لأي أحد أو التي لا يستطيع أحد نيلها: فهما لا يٌحَرِّمَانِ العنف، ولا الحقد، ولا الغضب، ولا الخداع، ولا أية وسيلة من الوسائل التي توحي بها الرغبة الشهوانية”

ولذلك كانت القدرة أو القوة هي المعيار الوحيد للحقّ. في حالة الطبيعة لا يكون البقاء إلاّ للأقوى. ولكن القوّة لا تدوم، فالقوي اليوم ضعيف غدا. ومع خوار القوّة تتعطّل آليات الكاناتوس وتتقلّص حدود الحقّ تدريجيا إلى أن تصل إلى المستوى الذي يصبح معه الحفاظ على البقاء أمرا مستحيلا. ومن هنا ظهرت الحاجة إلى الاسترشاد بالعقل باعتباره الوسيلة الكفيلة بضمان الأمن والبقاء للجميع.

إنّ الاسترشاد بالعقل يعني الارتقاء فوق الأهواء الشخصية، وتجاوز نزعة التمركز حول الذات. ذلك هو السبيل الوحيد لإقامة علاقات التعاون بين الناس. يخبرنا العقل بأنّ التعاون المتبادل هو الكفيل بتوفير الأمن على الحياة والممتلكات لكلّ فرد. فإذا كان العقل يحثّ الأفراد على إقامة روابط اجتماعية فيما بينهم على أساس من التعاون المتبادل، فإنّ الغرائز الشهوانية تدفع كلّ فرد إلى التمركز حول الذات، فيصير أنانيا. وإذا تغلّبت الغرائز على العقل، أدّى ذلك إلى نشوب صراعات طاحنة بين الأفراد.

نخلص من ذلك كلهّ إلى القضية التالية: الشهوة تفرّق الشّمل والعقل يجمعه. إنّ للعقل، إذن، دلالة اجتماعية من حيث أنّه يمثّل الشرط الضروري لتأسيس المجتمع وتقوية الروابط الاجتماعية. وأمّا الرغبة الشهوانية والانفعالات فإنّه من شأنها أن تقوّض دعائم الاجتماع والمعاشرة والتآلف. يقول سبينوزا بهذا الصدد:

“إنّه طالما عانى الناس من الغضب والحسد أو من أي انفعال ينشأ عنه الحقد، يتشتّت شملهم ويعارض بعضهم بعضا. وبذلك يكون الخوف منهم أعظم، لاسيما وأنّهم أكثر قوّة واحتيالا ودهاء من الحيوانات الأخرى. ولمّا كان الناس أكثر عرضة لهذه الانفعالات، فإنّه من الطبيعي أن يكون بعضهم لبعض عدوّا”

الانفعالات، إذن، هي مصدر الصراع المدمّر للوجود البشري.

إنّ الصراع، بطبيعته المدمّرة، مناقض لمبدإ الكاناتوس الذي تكمن وظيفته في الحفاظ على البقاء. وأمّا ما يجعل الإنسان قادرا على تجنّب الخصومات والنزاع فهو الاسترشاد بالعقل. يكتسي العقل هنا دلالة أكسيولوجية؛ إنّه القوة الدافعة للفرد نحو الآخرين، يدفعه إلى إقامة علاقات إيجابية معهم، ويضفي طابعا أخلاقيا على سلوكه إزاءهم، ويضمن، بالتالي، الاستقرار والأمن للمجتمع.

2. أهمية السلطة السياسية ودورها في حياة الإنسان

لا يشكّ سبينوزا في أن الاسترشاد بالعقل هو السبيل الأمثل للخلاص، ما دام كلّ فرد يرغب في التخلّص من القلق الناتج عن العيش في مناخ يزخر بمشاعر الحقد والكراهية والصراع؛ هذا فضلا عن أنّ انعدام التعاون بين الناس يجبرهم على العيش في فقر مدقع وخوف رهيب. واهتدى الناس، من خلال استرشادهم بالعقل، إلى ضرورة بناء مجتمع على أساس نوع من التعاقد يفوّض فيه كلّ فرد حقوقه الطبيعية للجماعة. يقول سبينوزا:

“يتبيّن لنا بوضوح تامّ أنّه من اللازم أن يتوّصل الناس إلى اتّفاق للعيش مع بعضهم البعض في أمان وعلى أفضل نحو ممكن إن هم أرادوا التمتّع جميعهم بالحقوق التي تعود إليهم بشكل طبيعي بوصفهم أفرادا؛ وينبغي ألاّ تكون حياتهم مشروطة بقوّة ورغبات الأفراد، بل ينبغي أن تكون مشروطة بقوّة وإرادة الجماعة.

ولا يمكنهم بلوغ هذا الهدف إذا كانت الرغبة الشهوانية هي موجّههم الوحيد (لأنّ قوانين الرغبة تدفع كلّ فرد للسير في اتّجاه مختلف)؛ ويجب عليهم، بالتالي، أن يتّخذوا قرارا صارما بإصدار تشريع يقضي بأن يخضعوا لتوجيهات العقل في كلّ شيء (والذي لا يجرؤ أحد على مخالفته صراحة حتىّ لا ينظر إليه على أنّه مجنون أخرق)، وأن يعملوا على كبح جموح رغباتهم إذا كانت ستلحق الأذى بالآخرين، ومعاملة الجميع بمثل ما يحبّون أن يعاملوا به، وصيانة حقوق الجار كما لو كانت حقوقهم الخاصة”

والمراد بالقول هو أن الإنسان بحكم وقوعه تحت قانون الكاناتوس، وميله الفطري إلى تحقيق ما يرى فيه مصلحته، لا يمكنه أن يعيش في مأمن من المخاطر التي تهدّد وجوده بدون عقد اجتماعي يتنازل فيه كلّ فرد عن حقّه الطبيعي على كلّ شيء؛ وهي فكرة نجدها أيضا لدى طوماس هوبز.

وللبرهنة على هذه الأطروحة، ساق سبينوزا تفسيرا سيكولوجيا لسلوك الإنسان يبيّن من خلاله الآليات أو القوانين الطبيعية التي تحكّمت في اختيار السلطة السياسية كحلّ لمسألة الحفاظ على البقاء. وانطلق في تفسيره من المصادرات التالية التي تمثّل القوانين المتضمّنة على نحو أبديّ في الطبيعة الإنسانية:

– لا أحد يمكنه أن يفوّت على نفسه فرصة يتوقّع أن يجني منها نفعا عظيما إلاّ أَنْ يَتَرَجَّحَ عنده أحد أمرين: إمّا الحصول على نفع أعظم إذا لزم أن يختار بين بديلين، وإمّا الخوف من أن يلحقه منه أذى عظيم وخاصّة إذا كان الأذى أعظم من النفع.

– لا أحد يمكنه أن يتحمّل أي نوع من الأذى إلا أَنْ يَتَرَجَّحَ عنده أحد أمرين: إمّا أنّ تحمّل هذا الأذى يجنّبه الوقوع في مشكلة يكون أذاها أعظم، وإمّا أن يتوقّع الحصول بعد ما تعرّض له من الأذى على خير عظيم.

– وعن هاتين المصادرتين تنشأ مصادرة ثالثة مفادها أنهّ إذا كان على الفرد أن يختار بين أمرين نافعين، فإنّه سيختار أكثرهما نفعا، وإذا كان عليه أن يختار بين شيئين كلاهما مضرّ بمصلحته، فإنّه سيختار أهون الضررين.

وإذا نظرنا إلى هذه المصادرات في ضوء مبدإ الكاناتوس أو الشهوة تبيّن لنا أنّ الإنسان، بحكم كونه عقلانيا، يميل إلى تقدير قيمة الأشياء، بما تنطوي عليه من خير أو شرّ، في ضوء تقديره للإمكانيات التي توفّرها له للحفاظ على وجوده. ومن هذه المقدّمات (الأكسيومات) استنبط سبينوزا القضية التالية: إنّ الإنسان، بسبب حصول الوعي له بمصلحته العليا، اختار التخلي عن حالة الطبيعة والتنازل عن حقّه الطبيعي على كلّ شيء وقبول سلطة الدولة حين رأى فيها خيرا أعظم أو شرّا أقلّ ممّا وجده في حالة الطبيعة، وخاصة فيما يتعلّق بقضايا الحفاظ على البقاء والأمن والرقي والرفاهية.

والحقيقة أنّه لولا خوف الإنسان من شرّ أعظم أو طمعه في خير أكبر لما قبل التنازل عن حقوقه الطبيعية ولما التزم بالعقد الذي أبرمه مع بني جنسه. ومن هنا يتبّين أنّ قيمة العقد الاجتماعي تتحدّد بمقدار ما يجلب من المنفعة ويدرأ من الضرر. يقول سبينوزا:

“..إن المنفعة وحدها هي التي تجعل العقد صالحا، وإذا انتفت يصبح فارغا ولاغيا. ومن ثمّة، يكون من الغباء أن يُطَالَبَ المرء بالوفاء بالعهد الذي قطعه معنا إلى الأبد ما لم نُبيّن له أن خرق العهد الذي قطعناه على أنفسنا سيجلب للناكث من الضرر أكثر ممّا يجلب له من الخير. وسيكون لهذا الاعتبار الوزن الأكبر في تأسيس الدولة”

وإذا كان الإنسان قد فضّل العيش في كنف الدولة بدل العيش في حالة الطبيعة، فليس لأنّ الدولة خير في ذاتها، بل لأنّها تمثل أهون الضررين. إنهّا شرّ لا بدّ منه؛ وهذا الشرّ يمكن التحكّم فيه، لأنّ الدولة من صنع الإنسان وليست قدرا محتوما. وأمّا الشرّ الملازم لحالة الطبيعة، فلا سيطرة للإنسان عليه. نفهم الآن لماذا فضلّت البشرية الانتقال من حالة الطبيعة، التي يخضع فيها السلوك البشري لحتمية القوى الفطرية العمياء والغرائز الشهوانية، إلى حالة المدنية التي تنظّمها القوانين التي شرّعها العقل.

لننتقل الآن إلى مناقشة تصوّر سبينوزا لكيفية الانتقال من حالة الطبيعة إلى حالة المدنية والدولة. سبقت الإشارة إلى أنّ مفهوم الحقّ لدى هذا الفيلسوف مرادف لمفهوم القوّة أو القدرة على دفع المعتدي والدفاع عن النفس. فعندما قال بأنّ لكلّ فرد الحقّ في الحياة والحرية والملكية، فإنّما يقصد بذلك أنّه يمتلك القدرة على الحفاظ على حياته وحريّته وملكيته ودَفْعِ المعتدي على حقوقه، وأنّ الدفاع عن النفس ومعاقبة المعتدي هو حقّ طبيعي. إذا كان الأمر كذلك، فإنّه يحقّ لنا أن نتساءل عمّا إذا كان التعاقد يستلزم تجريد الناس من هذا الحقّ، وعمّا إذا كان من الممكن تفويض الحقّ الطبيعي إلى طرف آخر. المسألة بالنسبة لهوبز محسومة.

وأمّا فيما يتعلّق بسبينوزا، فإنّ موقفه منها يشوبه نوع من اللبس والغموض. فهو يرى، من جهة، أنّه “يجب على كل فرد أن يفوّض للمجتمع كلّ ما له من قدرة، بحيث يكون لهذا الأخير الحقّ الطبيعي المطلق على كلّ شيء”- كما ورد في الفصل السادس عشر من رسالته في اللاهوت والسياسة – ويذهب، من جهة أخرى، في الفصل السابع عشر من نفس المؤلف إلى أنّه ” لا يستطيع أيّ فرد أن يفوّض قدرته، وبالتالي حقوقه، تفويضا تامّا لغيره، وإلاّ فإنّه سيكف بعدئذ عن أن يكون إنسانا، كما أنّه لا يمكن أن توجد سلطة لها من السيطرة ما يجعلها قادرة على تحقيق أيّة رغبة ممكنة”. وخلص إلى القول:

“يجب التسليم، إذن، بأنّ كلّ فرد يحتفظ لنفسه بجزء من حقّه، ويضعه تحت تصرّفه، في منأى عن [تأثير] أي شخص آخر”.

ومن الحقوق الطبيعية والقدرات التي لا يمكن لأي فرد تفويضها لغيره بأيّ حال من الأحوال، حقّه أو قدرته على التفكير الحرّ في كلّ شيء، لأنّ عقل الإنسان لا يمكن أن يقع تحت سيطرة أي إنسان آخر” (الفصل العشرون). ولا يمكن للدولة أن تخضع العقول لمشيئتها إلاّ بالعنف، وتكون أشدّ عنفا عندما تقف ضدّ حرية التفكير، وقد تذهب في ذلك إلى حد إصدار أحكام بالإعدام على من يخالفونها الرأي، ولكنّ هذه الأحكام تظلّ مخالفة للعقل السليم الذي هو مبدأ تأسيس الدولة ذاتها.

وهذا ما جعل سبينوزا ينكر على الدولة حقّها المطلق في ذلك. وإذا كان الحقّ في التفكير الحرّ لا يفَوَّضُ، فما المانع من سحب هذا الحكم على الحقوق الطبيعية الأخرى ؟ وفي حال كان الحقّ عند سبينوزا مرادفا لمفهوم القدرة، فهل يمكن تفويض القدرات للغير؟

وإذا ثبت أنّه من غير الممكن ولا من الجائز تفويض القدرات للغير، فما الذي يجب تفويضه ؟ يمكن القول في ضوء نتائج التحليل التي توصّل إليها سبينوزا في الفصل العشرين من رسالته في اللاهوت والسياسة إنّ ما يمكن للأفراد تفويضه للدولة التي تمثّل إرادة الجماعة هي سلطة القرار في كل ما يتعلّق بكيفية استعمال القدرات وتقييم نتائجها لتحديد ما يصلح منها للمجتمع وما لا يصلح له. وأما تفويض القدرات فهو بمثابة سلب مقوّمات الهوية الإنسانية للأفراد، وتحويلهم إلى مجرّد آلات أو بهائم. يقول بالحرف الواحد:

“لا، ليس القصد من إقامة الحكومة هو تحويل الناس من كونهم كائنات عاقلة إلى بهائم أو دمى متحرّكة، بل المقصود منها هو تمكينهم من تنمية قدراتهم العقلية والجسدية في أمن”

ويتجلّى موقفه بوضوح على المستوى العملي بخصوص ما يمكن تفويضه في الخطاب الذي توجّه به إلى حكومة بلاده في ختام الفصل المذكور. يقول:

“وهكذا أكون قد أنجزت المهمّة التي اعتزمت معالجتها في هذه الرسالة. ولم يبق لي سوى التنبيه إلى أنّني لم أكتب شيئا مما لم يكن في نيّتي أن أتقدّم به لمن يتولوّن مقاليد الحكم في بلدي ليقوموا بفحصه والحكم عليه، وأنّني على استعداد للتّراجع عن كلّ ما سيثبت لهم أنّه مخالف للقوانين أو ضارّ بالمصلحة العامّة. إنّني أدرك أنّني بشر، وأنّني معرّض بوصفي إنسانا للخطإ. لقد اتّخذت كلّ الاحتياطات اللازمة لتجنّب الوقوع في الزلل، وحرصت على البقاء في انسجام تامّ مع قوانين بلدي بروح الولاء والأخلاق”

هذه الفقرة الختامية ترديد لصدى أقوال وردت في مقدمة الكتاب.


الهوامش (الفلسفة السياسية لدى باروخ سبينوزا):

1)Benedict de Spinoza. The ethics. Translated from the latin R.H.M. by Elwes.

2)Benedict de Spinoza. A theologico-political treatise. Translated from the latin R.H.M. by Elwes.