مجلة حكمة
الصدمة

“ماوراء آلة الصدمة” لجينا بيري – كارول تافريس / ترجمة: عبدالرحمن عادل

9781921844553عرض كتاب: ” ماوراء آلة الصدمة” لمؤلفته جينا بيري
“بإمكانك انتقاد منهج ميلجرام ، لكن رؤيته حول طاعة البشر للسلطة لاتزال صائبة”


تحل في هذا العام}1{ الذكرى الخمسون لتجارب ستانلي ميلجرام عن “طاعة السُلطة”.في عام 1963، وبعد مرور عامين على ادّعاء النازي أدولف آيخمان في محاكمته بأنه لم يفعل شيء أكثر من “تنفيذ الأوامر” في قتله لليهود أثناء الهولوكوست – أراد ميلجرام أن يكتشف كم مواطنًا أمريكيًا صالحًا سوف ينصاع لطاعة سلطة ما إذا ما أُمِرَ بإيذاء شخصًا آخرًا.

جاء المشاركون إلى مختبر جامعة ييل ظانين أنهم سيكونون جزءًا من تجربة عن تأثير العقاب على التعلُم. عُهِد إلى الجميع للعب دور “المُعلم”، بينما اُختير شخصًا آخرًا – قُدم باعتبارهِ متطوعًا – للعب دور “المُتعلم”. وحينما يرتكب المُتعلم – الجالس في غرفة مجاورة – خطأً ما في تذكر قائمة من كلمات ثنائية تَعينَ على المُعلم أن يصعقُه كهربائيًا من خلال سحب مقبض الآلة المخصصة لذلك. ومع كل خطأ تعين أن يزيد الفولت الكهربائي . وقد تدرجت مستويات الصعق على الآلة من “صدمة بسيطة” مرورًا بمستوى “خطر” وانتهاءً بمستوى “مميت”.

لكن حقيقة الأمر كانت مختلفة، حيث كان المُتعلم شريكًا في التجربة ولم يتلقَ أي صدمات كهربائية، إلا أنه لعب دوره بإقناع. فعندما تبدأ التجربة، يصرخ ألمًا ويقر برغبته في الخروج من التجربة، جرى ذلك وفقًا لنص مُعد مُسبقا. وفي حالة ما أراد أي مُشارك/مُعلم  أن يُنهي كل هذا، فإن المُختبر يتدخل مستخدمًا أربع صيغ مختصرة أُخبر بها مسبقا لحثه على البقاء – كأن يقول “إن التجربة تتطلب منك أن تستمر” – غير أنه بعد تجاوز المرات الأربع يُسمح للمشاركين بالتوقف.

فاجئت النتائج الجميع تقريبًا، فقد قام أكثر من ثلثي المُشاركين/المُعلمين باستخدام ما اعتقدوا أنه أعلى مستوى من الصدمات، على الرغم من أن كثيرًا منهم  قد تصببوا عرقًا وعانوا بسبب الألم الذي ظنوا أنهم أنزلوه بذلك الغريب/المُتعلم  تحت دعوى العلم. أنتجت تجربة ميلجرام عاصفة من الاحتجاج بسبب الأذى النفسي المحتمل وقوعه على المشاركين الجاهلين بحقيقة ما يجري. ونتيجة لذلك لا يمكن إعادة التجربة مرة أخرى اليوم بصورتها الأولية.

كرrv-al499_bkrv_m_p_20130905142707ه البعض المنهج الذي قامت عليه دراسة ميلجرام بينما كره آخرون رسالتها، ومع ذلك فلم تغب الدراسة أبداً عن اهتمام الرأي العام حيث جرى إعادة سردها في الفصول والكتب الدراسية وبرامج التليفزيون، والروايات والأغاني والأفلام. فما الذي يمكن أن يقال عنها بعد؟

كل شيء، وفقاً لما تراه جينا بيري، وهي صحفية وعالمة نفس أسترالية. حيث قامت بفحص كل جوانب الدراسة وتحدثت إلى أي شخص كان على اتصال بميلجرام، كما قامت بإجراء مقابلات مع بعض المُشاركين: مثل إبن الرجل الذي لعب دور”المُتعلم”، والباحثين المساعدين لميلجرام، وزملائه وتلامذته، ونقاده والمدافعين عنه، وكاتب سيرته. واستمعت كذلك لأشرطة سُجلت للمُشاركين أثناء وبعد التجربة. وانكبت جينا على أرشيف ميلجرام الضخم غير المنشور.

من خلال كتابها “ما وراء آلة الصدمة” أرادت جينا أن تخبرنا بقصة مختلفة عن الـ 780 شخص الذين شاركوا في التجربة – حيث أصبح هؤلاء، وفقاً لجينا، “مجموعة من مجهولي الهوية يقال إنها تُمثل البشرية ومن خلالها يمكن استخلاص دليل حول نزوعنا نحو طاعة الأوامر الصادرة من سلطة ما”. فمن خلال عرض شخصياتهم وخلفياتهم وبعض من أسمائهم الحقيقية، أرادت بيري أن تستعيد فرديتهم لتُبين كيف كانت التجربة معيبة وغير مقنعة، ولكي تواجه أيضاً ما اعتبرته “نظرة ميلجرام المتشائمة  للطبيعة البشرية”. باختصار، تُدين بيري المنهج والرسالة.

كمَن يبحث عن إبرة في كومةِ قش، تمكنت بيري من العثور على بضع شذرات هامة. تمثلت هذه الشذرات في انتهاك ميلجرام لمعايير وقواعد البحث: فمع مرور الوقت، انحرف الشخص الذي يلعب دور المُختبر عن السيناريو المُعد، حيث ألح على المشاركين الرافضين ليُجبرهم على الاستمرار. وقام بالضغط علي بعضهم لتسع أو عشر مرات، وبالنسبة لإحدى النساء المشاركات وصل الرقم اإلى 26

%d8%ac%d9%8a%d9%86%d8%a7-%d8%a8%d9%8a%d8%b1%d9%8a
جينا بيري، عالمة نفس وكاتبة استرالية

مرة. هكذا جذبت بيري الانتباه لاعتراف ميلجرام بارتكابه ما يعتبره معظم الباحثين – آنذاك – انتهاكًا خطيرًا للأخلاقيات: فلم يقم ستانلي في نهاية التجربة بشرح ما جرى بشكل كامل للمُشاركين. إذ قام المُشاركون بمقابلة “المُتعلم” لمصافحته والتأكد من أنه على خير ما يرام، غير أنه لم يتم إخبار أيًا منهم أن مستويات الصعق المختلفة كانت مزيفة بالكامل. ومضى قرابة العام قبل أن يُرسَل تفسيرًا كاملًا بما حدث للمُشاركين. بعضٌ منهم لم يصلُه ذلك أبدًا، وآخرون لم يفهموا مغزى ما جرى وأخيرًا انزعج البعض لمُشاركته في التجربة.

كان من شأن هذا الكشف الهام أن يضيف تعقيدًا على قصة ميلجرام، وهو ما تستحق بيري الإشادة عليه. لكنها لم تُرد أن يُنظر إلى كشفها باعتباره محض تنقيح لدراسة كلاسيكية، بل أرادت له أن يكون طعنة في جوهرها. وهذا ما فشلت في فعله. فأيا ما كانت التعديلات التي يُنادى بإدخالها على التجربة، فإن النتائج الجوهرية لها لم تتغير عندما تم تكرار التجربة في بلاد أخرى، كانت آخرها هُنا، بل لم تتغير النتائج حتى عندما صُممت نُسخ أخرى من التجربة أكثر قبولا من الناحية الأخلاقية.

كانت بيري في حالة غضب إزاء تجارب ميلجرام لدرجة أن خصومتها له انعكست على السردية التي قدمتها، مما جعلها شخصًا غير جدير بالثقة بالنسبة للقراء. فقد وصفت ميلجرام بأنه “شخص مريب ومناور ماكر” يتوارى خلف ستار العلم؛ ولم تكد تذكر الشيء القليل عنه إلا وتلحقه بتحريفٍ سخيف. (فهو لم يستخدم “الخداع” فقط، بل “الخداع والتضليل”. وكيف له أن يجرؤ على استخدام عقاقير دعاها “M”كي تساعده في التغلب على عقدة الكاتب!). وقد اتهمت ميلجرام بأنه طٌوع بياناته كي يُشكل قصته، ومع ذلك فقد فعلت بيري الأمر عينه في دراستها. إذ وافقت أحد الذين أجرت معهم مقابلة في قوله بأن: “الشر الوحيد في دراسة الطاعة …. كان الشر اللاواعي للمُختبرين” لكنها اعترفت أيضًا بأنها توقفت عن الإصغاء للمدافعين عن عمل ميلجرام ممَن قابلتهم.

يمكننا أن نُساءل منهج وأخلاقيات ميلجرام، لكن الخروج من ذلك بتعميم حول استخدام الخداع في البحث التجريبي أمر آخر. ترى بيري أن هذا المنهج قاسي وتعتبر القائمين عليه محققين عديمي الرحمة يكترثون لذكائهم أكثر من اكتراثهم بالمُشاركين.

غير أن ادّعائِها ليس أكثر من تنميط فج إلى جانب كونه ساذج. فالخداع في حد ذاته قيمة محايدة: فهو ببساطة يُمكّن الباحثين من اكتشاف أشياء في السلوك الإنساني لسنا على وعي بها أو لا نريد لها أن تُعرف. ويستخدم المتخصصون في علم النفس التجريبي الخداع من أجل التعلُم عن كيفية الحد من التحيز والصراع وسائر النقائص الإنسانية؛ لاستكشاف أكثر الصفات “صدقًا” في طبيعة الإنسان، فليس ثمة قسوة هنا، فعلى سبيل المثال لو علمت أنه تم دفعك من قبل شخص مجهول لتقديم معروف لشخص ما فسوف تحبه أكثر بعد ذلك. إذا لايقع التمييز هنا بين وجود الخداع من عدمه، بل بين من يتخطى الحاجز الأخلاقي في استخدامه للخداع ومن لايفعل.

كتبت بيري “إن شيئًا ما يتعلق بميلجرام يجعلنا قلقين”.  بالطبع  ثمة أمرٌ ما يجعلنا في حالة قلق. وما نقصده هنا هو الدليل الخاص بأن “موقف ما”  لديه القدرة على تشكيل سلوكنا. تلك هي الرسالة الشاقة التي يجد معظم الأمريكين صعوبة في قبولها. فما كان معظمهم إلا أن يقول “لم أكن قط لأسحب تلك المقابض، بل كنت سأفعل ما يتوجب على فعله”. تُصر بيري على أن السمات الشخصية للأفراد وخبراتهم الحياتية تؤثر في أفعالهم. من جانبه لم يُنازع ميلجرام أبدًا تلك الحقيقة؛ فقد وجدت أبحاثه أن الكثير من المشاركين يختارون المقاومة.  إذ قال ميلجرام أن “ثمة نزوع للتفكير بأن (أفعال) شخصًا ما تحدث بسبب الأفكار والمشاعر الخاصة به، ومع ذلك يُقر العلماء بأن (الأفعال) تعتمد بدرجة مساوية على الموقف الذي يجد الشخص نفسه فيه”. لاحظ استخدام  ستانلي لكلمة “مساوي” في هذه العبارة؛ فلم تلحظ بيري ذلك.

ترى بيري “أن تعريف ميلجرام للسلطة، وعلى الرغم من حجته حول قوة (الموقف) وأثره على تشكيل السلوك، يبدو وكأنه حكم أبدي، كما لو أن البشر لن يبرحوا أماكنهم أبدًا”. في نهاية تحقيقها، غيرت بيري موقفها إذ تقول: “لقد تنازلت عن إعجابي بميلجرام لصالح رؤية أفضل للبشر”. قول مثل هذا يُعد ساذجًا إذا ما أتى من شخصٍ هاوٍ، ومُحير إذا ما أتى من طبيب نفسي. فرسالة ميلجرام، والتي صمدت أمام اختبار الزمن وإعادة التكرار }2{، هي أن أحدًا من البشر ليس عالقا أو ثابتاً في مكانه، كما أن أحدًا منهم ليس قاسيًا بطبيعته. إذ أن قبول النتائج التي أفصحت عنها التجارب لا يتطلب منا أن نتخلى عن “رؤية أفضل للبشر” – بل يتطلب منا أن نفهم قابليتهم لكلا الأمرين: الطاعة والتمرد، الامتثال و البطولة. وبعيدًا عن التجربة النازية، فكّر في العمال الذين يخضعون لإرادة رب العمل عندما يطلب منهم تجاهل الأدلة على عدم صلاحية منتجهم.

عند لحظة ما، أخبر كاتب سيرة ميلجرام بيري أن استطلاعًا أَجري لاحقا أظهر أن نسبة النادمين على المُشاركة بالتجربة كانت 1.5% فقط، مع أن كثير منهم عانى أثناء التجربة. ولأن جينا لم تكن تصدق هذا الادّعاء فقد أساءت فهمه؛ إذ تقول “كيف يمكن لمن وصفهم ميلجرام  بأنهم  ذاقوا الأمرين وتصببوا عرقًا وصرخوا أثناء التجربة أن يقولوا لاحقًا، أن ما جرى لم يكن له أي أثر عليهم؟” لكنهم لم يقولوا ذلك، بل قالوا أن التجربة كان لها أثرًا عليهم، صحيح أنه لم يكن دائمًا بطريقة صحية إلا أنهم قد تعلموا منها.

يبدو من المناسب أن نفسح المجال لأحد هؤلاء المُشاركين ليضع خاتمة هذه الكلمات. لم يفكر “بيل” بالتجربة طوال 20 عامًا إلى أن بدأ بمواعدة أستاذة علم نفس. منتشيةً بلقاء شخص ذو صلةٍ مباشرة بالتجربة، طلبت من بيل أن يتحدث إلى طلابها. “حسنًا، قد تظنين أن أدولف هتلر دخل إلى الفصل، لكني لم أفكر في الأمر على هذا النحو أبداً” متحدثا إلى بيري، ثم أردفت: “أخبر بيل الطلاب المترقبين والمتحفزين: إنه أمر في غاية السهولة أن تجلس مسترخيًا وتقول ’من المستحيل أن أفعل هذا أو ذاك‘، أو ’لا يمكن على الإطلاق أن يدفعني أحد لفعل أي شئ مثل هذا‘، حسنًا، بإمكانهم فعل ذلك”.

هذا هو المغزى الأخلاقي للقصة ، والذي فهمه بيل أفضل بكثير مما فعلت بيري.

 

 

 


Book Review: ‘Behind the Shock Machine’ by Gina Perry

(1) كُتب هذا المقال في سبتمبر عام 2013.

(2) أعيد تكرار التجربة عدة مرات في أنحاء مختلفة من العالم ، في أستراليا عام 1974، وفي بريطانيا أعوام 2002 و2006، وفي فرنسا عام 2010 على سبيل المثال لا الحصر، يمكنك الاطلاع على ذلك من هنا .