مجلة حكمة

لمَ يفضّل الدماغ الورق؟ – ف. جبر

مجلة العلوم (2014 مارس)


لقد باتت الألواح وغيرها من أجهزة القراءة الإلكترونية (1)
تقانات أكثر شعبية بعد التحسينات التي أُدخلت عليها؛
بيد أن القراءة من الورق لا تزال لها مزاياها الـمُفضّلة.

من بين ڤيديوهات اليوتيوب الڤيروسية الأكثر استفزازية(4) خلال العامين الماضيين، واحد يبدأ بصورة اعتيادية تماما: طفلة عمرها عام واحد تلعب بجهاز آيباد iPad، حيث تجول بأصابعها على شاشة اللمس، وتلخبط مجموعات من الأيقونات. وتظهر في المشاهد اللاحقة وهي تسحب بأطراف أصابعها صفحات مجلات ورقية، ثم تصفعها وتدفعها بعيدا، كما لو كانت هذه الصفحات نفسها هي شاشات أيضا. وميلودراميّاً(5)، يكرر الڤيديو هذه الحركات الإيمائية بالتصوير القريب.

وبالنسبة إلى والد الطفلة، فإن هذا الڤيديو – وعنوانه “المجلة هي آيباد لا يعمل” – ما هو سوى دليل على أننا نعيش مرحلة انتقالية في تطور الأجيال. وقد أُرفق الڤيديو بوصفٍ كتبَهُ والد الطفلة، جاء فيه: «لقد باتت المجلات الآن عديمة الفائدة، وأضحت عصية على الفهم بالنسبة إلى المواطنين الرقميين(2)» – أي بالنسبة إلى أولئك الأشخاص الذين يتفاعلون مع التقانات الرقمية منذ نعومة أظفارهم، ولا تحيط بهم فقط الكتب والمجلات الورقية وإنما أيضا الهواتف الذكية والكندلزات(6) Kindles والآيباد.

وبصرف النظر عما إذا كانت ابنته تتوقع فعلا أن تتصرف المجلات كما يتصرف لوح الآيباد، فإن الڤيديو يجعلنا نواجه سؤالا مركزيا لا تنحصر أهميته فقط في دائرة الأصغر سنا من بيننا، بل تتجاوزها بكثير: كيف تغير التقانة التي نستخدمها في القراءة الطريقةَ التي نقرأ بها؟

 

منذ ثمانينات القرن العشرين، نشر باحثون متخصصون في علم النفس وهندسة الحاسوب وعلوم المكتبات والمعلومات، على أقل تقدير، أكثر من مئة دراسة أُجريت لاستقصاء الفروق بين الكيفية التي يقرأ بها الناس من الورق وتلك التي يقرؤون بها من شاشات الحواسيب. وقد خلصت معظم التجارب التي أجريت قبل عام 1992 إلى أن الناس هم أبطأ سرعة في قراءة القصص والمقالات من الشاشات، وأقل قدرة على تذكر مضامينها. ولكن ما أن صارت شاشات الأجهزة بمختلف أنواعها أكثر دقة، حتى بدأت الدراسات تُطلعنا على مجموعة من النتائج المتفاوتة. وبحسب آخر الاستطلاعات المسحية، لايزال معظم الناس يفضلون الورق، خصوصا عندما يكونون بحاجة إلى التركيز لفترة طويلة. ومع ذلك، ثمة ما يشير إلى حدوث تغيّر في المواقف إثر التحسينات التي أدخلت على تقانة الألواح وغيرها من أجهزة القراءة الإلكترونية، وكذلك بعد أن صارت قراءة النصوص الرقمية أكثر شيوعا؛ سواء في إطار العمل الجاد أو في مجال التسلية. وحاليا تحتل مبيعات الكتب الإلكترونية في الولايات المتحدة نسبة تُقدر بأكثر من 20 % من مجمل الكتب التي تباع للجمهور.

يمكن للدماغ البشري أن يُدرك النص بمجمله كصنف من أصناف المشاهد المادية. ففي الوقت الذي نمارس فيه القراءة، نكون منشغلين أيضا بإنشاء تمثيل ذهني للنص بطريقة تشبه على الأرجح الخرائط الذهنية التي نضعها تمثيلا للتضاريس الأرضية والأماكن داخل الأبنية.

ومع أن طريقة استخدام هذه التقانة تزداد سهولة يوما بعد يوم، وتتنامى شعبيتها باستمرار، فإن معظم الدراسات التي نشرت منذ أوائل تسعينات القرن العشرين تُثبت صحة الاستنتاجات السابقة التي تفيد بأن الورق، من حيث كونه وسيلة للقراءة، لا يزال يتفوق على الشاشات. فالتجارب المختبرية واستطلاعات الرأي وتقارير المستهلك تشير معا إلى أن الأجهزة الرقمية تعيق الناس عن تصفح النصوص الطويلة بطريقة مثمرة، الأمر الذي قد يُثبّط القدرة على فهم القراءة بآلية لا يزال يكتنفها الغموض. ومقارنة بالورق، فإن الشاشات قد تستنزف أيضا المزيد من مواردنا العقلية أثناء القراءة، وتسبب لنا بعض الصعوبات في تذكر ما قرأناه بعد الانتهاء من القراءة. وسواء كان الناس يعون ذلك أم لا، فإنهم أثناء تعاطيهم مع الحواسيب والأجهزة اللوحية غالبا ما يكونون في حالة ذهنية لا تتيح لهم التعلم إلا بدرجة أقل مما تسمح به حالتهم الذهنية خلال تعاطيهم مع الورق. كما أن القراءة الإلكترونية ليس بوسعها أن تمدنا بتلك الخبرات اللمسية التي تزودنا بها القراءة الورقية، والتي يعتبر البعض أن غيابها يؤدي إلى الإرباك الذهني.

تقول <M. وولف> [اختصاصية العلوم المعرفية في جامعة Tufts]: «هناك عوامل فيزيائية تؤدي دورا في القراءة، وقد يكون هذا الدور أكبر مما كنا نود التفكير فيه عندما آثرنا الركون إلى عالم القراءة الرقمية. وفي الوقت الذي نمضي فيه قدما في هذه الطريق، لعلنا لا نتأمل معالمه بما يكفي. إنني أود الحفاظ على أفضل ما تقدمه لنا النماذج القديمة، ولكنني في الوقت نفسه أود أن أعرف متى ينبغي عليّ أن أستخدم الجديد منها.»

مشاهد نصيّة(**)

لكي نفهم الآلية الكامنة وراء التباين بين القراءة من الورق والقراءة من الشاشات، لا بد لنا أولا من الاطلاع على بعض الجوانب المتعلقة بالكيفية التي يفسر بها الدماغُ البشري اللغةَ المكتوبة. فمع أن الحروف والكلمات هي رموز تتمثل من خلالها الأصوات والأفكار، فإن الدماغ يعتبرها أشياء مادية. وكما توضّح <وولف> في كتابها الصادر عام 2007 “بروست والحبّار(7)”، فنحن لا نولد مزودين بدارات دماغية مُسخّرة للقراءة، ذلك لأننا لم نخترع الكتابة إلاّ قبل وقت قصير نسبيا في التاريخ التطوري لنوعنا، أي في الألف الرابع قبل الميلاد تقريبا. وهكذا، فإن الدماغ يرتجل في مرحلة الطفولة دارة جديدة كليّا تسخيرا للقراءة، حيث يُحيكها من أشرطة متنوعة من النسيج العصبي المخصصة لوظائف أخرى، كالتكلّم والتنسيق الحركي والرؤية.

ويصبح بعض هذه المناطق الدماغية التي أُعيد تشكيلها لأغراض أخرى، متخصصا في تعرف الأشياء، كي تساعدنا، مثلا، على أن نميّز فورا بين التفاحة والبرتقالة بناء على خصائصهما البارزة، وكي تعيننا أيضا على تصنيف كلتيهما في خانة الفاكهة. وعندما نتعلم القراءة والكتابة، فإننا نبدأ على نحو مماثل بالتعرف على الحروف استنادا إلى الترتيبات الخاصة لخطوطها ومنحنياتها والفراغات فيما بينها – وهي عملية تعلّم تتم عن طريق اللمس وتتطلب منّا استخدام عيوننا وأيدينا. وفي آخر أبحاثها التي أجرتها على أطفال يبلغون من العمر خمس سنوات، وجدت <K. جيمس> [من جامعة إنديانا بلومنگتون] أن دارات القراءة تُفرقع نشاطا عندما يمارس هؤلاء الأطفال كتابة الحروف بأيديهم، وليس عبر الضغط على لوحة المفاتيح. وعندما يقرأ الناس كتابة بالأحرف المتصلة أو بأحرف متعقدة، ككلمة Kanji اليابانية، مثلا، فإن الدماغ يمشي مع حركات الكتابة حرفا بحرف، حتى وإن كانت اليدان فارغتين.

 

[مبحث اللمسيّات]

الموازنة بين الورق والبكسل(***)

   دراسات عديدة أثبتت أن الناس يفهمون ويتذكرون ما يقرؤونه من الورق بصورة أفضل مما يقرؤونه من الشاشات. ويعتقد الباحثون أن فيزيائية الورق هي ما يفسر هذا التباين.

   (1) يمكن للقارئ أن يقلّب صفحات نص ورقي بسرعة للمقارنة بين مقاطعه، أو أن يمضي قدما في القراءة.

   (2) عندما يتذكر الناس فقرة من كتاب، فإنهم غالبا ما يتخيلون صورتها على الصفحة. والزوايا المتعددة لكتاب مفتوح هي معالم تساعد القارئ على استحضار مثل هذه الذكريات بفعاليّة أكبر.

   (3) إن الورق والحبر يعكسان الضوء المحيط بهما. أما بالنسبة إلى الحواسيب والألواح، فالضوء ينبعث منها، الأمر الذي قد يُجهد العينين ويُضعف القدرة على التركيز.

   (4) تساعدنا سماكة مجموعة الصفحات التي قمنا بقراءتها وتلك التي لم نقرأها بعد، على تشكيل خارطة ذهنية متماسكة للنص، وذلك لأن الإحساس بالمكان الذي تخلقه لدينا أكثر استتبابا بكثير من ذلك الذي يولدّه شريط التقدم progress bar.

بيد أن الدماغ البشري لا يكتفي بالتعاطي مع الأحرف الفردية كأشياء مادية ومعالجتها على هذا الأساس، بل يمكنه فضلا عن ذلك إدراك النص بمجمله كصنف من أصناف المشاهد المادية. ففي الوقت الذي نكون فيه منهمكين بقراءة نص ما، إنما نكون أيضا منشغلين بإنشاء تمثيل ذهني له. ومع أننا لا نعرف حتى الآن طبيعة هذه التمثيلات على وجه الدقة، فإن بعض الباحثين يعتقدون أن شأنها شأن الخرائط الذهنية التي نضعها تمثيلا للتضاريس الأرضية، كالجبال والممرات، مثلا، ونضعها للمساحات المادية في الأماكن المغلقة، كالشقق والمكاتب، على سبيل المثال. ويروي لنا الناس، سواء في القصص المتناقلة أو في الدراسات المنشورة، أنهم عندما يحاولون العثور على فقرة معينة في كتاب ما، فإنهم غالبا ما يتذكرون الموقع الذي جاءت فيه هذه الفقرة في النص. فكما قد نتذكر أننا مررنا بمزرعة حمراء تحاذي بداية ممر مخصص للنزهات قبل شروعنا في تسلق مرتفع يخترق الغابة، فنحن نتذكر أيضا أننا قرأنا عن السيد <دارسي> وهو يوبّخ السيدة <إليزابيت بينيت> أثناء الرقص، وذلك في أسفل الزاوية اليسرى من صفحة الكتاب اليسرى في أحد الفصول السابقة من رواية <جين أوستن> “الكبرياء والتحامل”.

وما يميز الكتب الورقية، في معظم الحالات، هو أن لها طوبوغرافيا أكثر وضوحا من النص المعروض على الشاشات. فالكتاب الورقي المفتوح يقدم نفسه إلى القارئ مزودا بحقلين واضحي المعالم – صفحة الميمنة وصفحة الميسرة – إضافة إلى ثماني زوايا تساعد القارئ على الاهتداء. كما أنه يمكّنك من التركيز على صفحة واحدة من صفحاته دون أن ينصرف انتباهك عن مجمل النص. ويمكّنك أيضا من أن تتحسس حتى سماكة الصفحات التي قرأتها باليد الأولى، والصفحات التي لم تقرأها بعد باليد الثانية. وتقليب الصفحات في كتاب من ورق هو شبيه بأن تترك بصمات قدميك تتلاحق الواحدة تلو الأخرى على الطريق – فهناك نظم لبصمات القدم، وهناك سجل مرئي للمسافة التي تم قطعها. وليس من شأن هذه الميزات كلها أن تيّسر تصفح الكتاب الورقي وحسب، بل من شأنها أيضا أن تجعل تشكيل خريطة ذهنية مترابطة لنص الكتاب أكثر سهولة.

وفي المقابل، فإن معظم الأجهزة الرقمية تعيق التصفح العفوي للنص، وتثبّط قدرة الناس على رسم خرائط ذهنية لرحلتهم عبر النص. وبالطبع، يمكن لقارئ النص الرقمي، أن يقوم بتمرير سيل متواصل من الكلمات، وأن يدفع صفحة كاملة إلى الأمام بنقرة من إصبعه في لحظة معينة أو أن يستعمل وظيفة البحث لتحديد موقع عبارة معينة مباشرة، ولكن يصعب عليه أن يتأمل أي فقرة من فقرات النص في سياقه الكامل. وللمقارنة، علينا أن نتخيل أن خرائط گوگل تسمح للناس بالتنقل من شارع إلى آخر، وتسمح لهم أيضا بالانتقال عن بعد(8)teleport والوصول إلى أي عنوان محدد، ولكنها في الوقت نفسه لا تمكّنهم من التصغير كي يروا إحدى الدول أو البلدان المجاورة. وعلى نحو مماثل، فإن نظرة عابرة إلى شريط التقدم progress bar تولّد لدينا إحساسا أكثر غموضا بكثير من ذلك الشعور الذي ينتابنا أثناء تحسسنا لوزن الصفحات التي تمت قراءتها وتلك التي لم تُقرأ بعد. ومع أن الألواح وغيرها من الأجهزة للقراءة الإلكترونية e-readers مزودة بوظيفة ترقيم الصفحات، فإن الصفحات المعروضة على شاشاتها هي صفحات عابرة، فهي ما أن تُقرأ حتى تختفي من جديد. وهكذا، فبدلا من أن تمشي أنت بنفسك على الطريق، فإنك تكتفي بمشاهدة الأشجار والصخور والطحالب وهي تمر من جوارك كالوميض؛ من غير أن تدرك بوضوح آثارا لما سبقها، ودون أن تفهم بسهولة ما الذي ينتظرك بعدها.

تقول <J .A. سيلين> [من مختبر مايكروسوفت كامبريدج للبحوث في إنكلترا] التي شاركت في تأليف كتاب صدر عام 2001 بعنوان “خرافة المكتب بلا ورق”: «إن شعورك الضمني بالمكان الذي وصلت إليه في كتاب مادي، له أهمية أكبر مما كنا نعتقد. وأنت ما أن تحصل على كتاب إلكتروني حتى تبدأ بتناسيه. لا أعتقد شخصيا أن منتجي الكتاب الإلكتروني قد فكروا بما يكفي في كيف يمكن لك أن تتصور الموقع الذي وصلت إليه في كتاب ما.»

قراءة مُجهِدة(****)

هناك على الأقل بضع دراسات تشير إلى أن الشاشات أحيـــانــا تُضعـــف القــدرة عــلى الفهـــم، ذلـــك لأنهــا تشـــوه حس المكـــان ضمـــن إطــــار النــص. فـفـي الشهر 1/2013 أجـــــرت <A. مانگن> وزملاؤها [من جامعةStavanger في النرويج] دراسة على 72 طالبا من الصف العاشر، حيث كُلّف هؤلاء الطلبة بتدارس نص قصصي وآخر تفسيري. وقد كان على الطلبة أن يقرأ نصفهم الأول من الورق، ونصفهم الثاني ملفات PDF من الحواسيب. وقد أُخضع هؤلاء الطلبة بعدئذ لاختبارات فهم القراءة، حيث كان مسموحا لهم بالرجوع إلى النص. وقد كان أداء الطلبة الذين قرؤوا النص من الحواسيب أسوأ بقليل، لأنهم على الأرجح كانوا مجبرين على تمرير مقاطع نص الـ PDF أو النقر عليها في لحظة معينة، في حين أن طلبة القراءة الورقية كان كل منهم يمسك كامل النص بيديه ويتنقل بين مختلف صفحاته بسرعة. وتقول <مانگن> بهذا الصدد: «إن السهولة التي يمكنك أن تعثر بها على البداية والنهاية وما بينهما، إضافة إلى ارتباطك المستمر بمسارك وبمضيك قدما في النص، قد يجعلانك، بشكل أو بآخر، تقتصد في جهودك المعرفية وتستثمر ما ادخرته منها في تعزيز قدرتك على الفهم.»

ويوافق باحثون آخرون على أن القراءة المبنية على الشاشة يمكنها أن تبطئ الفهم لأنها ترهق العقل وتنهك الجسد أكثر من القراءة من الورق. ومع أن الحبر الإلكتروني E-ink يعكس الضوء المحيط(9) تماما كما يعكسه حبر الكتاب الورقي، إلا أن شاشات الحواسيب والهواتف الذكية والألواح تسلط الضوء مباشرة على وجوه المستخدمين. ولا ريب في أن شاشات الكريستال الحالية ألطف وقعا على العينين من أسلافها – شاشات أُنْبوب الأَشِعَّةِ المَهْبِطِيَّة (CRT)ن(10) – غير أن القراءة المطوّلة من الشاشات اللمّاعة الـمُضاءة ذاتيا يمكن أن تسبب إجهاد العـــين والصداع وتغيــّم الــرؤيــــة. ففــي تجربـــة قــــام بهـــــا <E. فيستلوند> [عندما كان يعمل في جامعة كارلستاد بالسويد] كان الأشخاص الذين خضعوا لاختبار فهم القراءة بواسطة الحاسوب أضعف أداء، وبحسب إفاداتهم أكثر عرضة للإصابة بالإجهاد والتعب، من أولئك الذين أجروا الاختبار نفسه على الورق.

وفي مجموعة من تجارب <فيستلوند>، التي أُجريت في سياق متصل، تم إخضاع 82 متطوعا لاختبار فهم القراءة الحاسوبية نفسه، بصيغتين: صيغة وثيقة مرقمة الصفحات، أو صيغة نص يستمر من دون ترقيم. وقام الباحثون بعد ذلك بتقييم الانتباه والذاكرة العاملة لدى الطلبة – جمع من المواهب الذهنية التي تمكن الأشخاص من تخزين المعلومات وتداولها في عقولهم بصورة مؤقتة – حيث كان على المتطوعين مثلا، أن يغلقوا سلسلة من النوافذ المنبثقة pop-up windows بسرعة، أو أن يتذكروا أرقاما تومض على الشاشة. والذاكرة العاملة شأنها شأن الكثير من الكفاءات المعرفية الأخرى، فهي أيضا مورد محدود يتناقص كلما زاد الإجهاد.

ومع أن أداء الأشخاص في كلتا المجموعتين كان أداء متساويا من حيث التنفيذ، فإن أولئك الذين كانوا يمررون النص(11) المؤلّف من مقطع واحد دون ترقيم، كانت نتائجهم أسوأ في اختبارات الانتباه والذاكرة العاملة. ويعتقد <فيستلوند> أن التمرير – بوصفه عملية تتطلب من القارئ التركيز اليقظ على النص وعلى الكيفية التي يحركه بها في آن معا – يستنزف قدرا من الموارد العقلية يفوق ما يحتاجه قلب الصفحة أو النقر عليها، وهما حركتان أكثر سهولة وتلقائية. فكلما زادت درجة تركيز الانتباه على التنقل عبر النص، قلّت الحصة المتبقية منه لفهم النص. وقد توصلت إحدى الدراسات، التي أجريت عام 2004 في جامعة سنترال فلوريدا، إلى استنتاجات مماثلة.

وهناك مجموعة جديدة من الدراسات تؤكّد على أن الأمر لا يتعلق فقط بأن الشاشات يمكنها استنزاف الانتباه أكثر مما يفعله الورق، بل يتعلق فضلا عن ذلك، وفي المقام الأول، بأن الناس، وهم يقرؤون من الشاشات، لا يبذلون دائما جهدا ذهنيا يوازي الجهد الذي يبذلونه عندما يتعاطون مع الورق. وقد قام <Z. ليو> [من جامعة سان خوسيه] بإجراء دراسة مسحية شملت 113 شخصا من سكان كاليفورنيا الشمالية، خلص فيها إلى أن الأشخاص وهم يقرؤون من الشاشة يشغلون أنفسهم بالعديد من الممارسات المجتزأة – كقضاء وقت أطول في تصفح مواقع الإنترنت والمسح الضوئي والتفتيش المحموم عن كلمات مفتاحية – مقارنة بقرّاء النصوص الورقية الذين على الأرجح لا يقرؤون سوى وثيقة واحدة، واحدة فقط.

ويبدو أن القراءة من الشاشات تجعل القارئ أقل استعدادا للانشغال فيما يسميه علماء النفس تنظيم التعلم الميتامعرفي metacognitive learning regulation – والذي يعني القيام بوضع أهداف محددة، وإعادة قراءة المقاطع الصعبة، والوقوف على ما تم فهمه من النص حتى لحظة معيّنة. ففي إحدى التجارب التي أُجريت عام 2011 في معهد تيكنيون للتقانة، أُخضع طلبة من هذا المعهد لاختبارات متعددة الخيارات multiple-choice تتعلق بنصوص تفسيرية، وذلك إما حاسوبيا أو ورقيّا. وقد قام الباحثون بتقسيم المتطوعين إلى فريقين، خُصّصت للفريق الأول مدة ضئيلة قدرها سبع دقائق فقط لدراسة النص، وسمح للفريق الثاني بمراجعة النص خلال مدة زمنية تنتهي حين يشاؤون. وعندما كان الطلبة مجبرين على القراءة السريعة بسبب ضيق الوقت، فإن أداءهم كان متساويا، سواء استخدموا الحاسوب أم الورق. أما حين كان بوسعهم تحديد مدة القراءة بأنفسهم، فإن مستخدمي الورق من الطلبة سجلوا عددا أكبر من النقاط يزيد بنسبة 10% تقريبا. ويُرجح أن يكون مستخدمو الورق من الطلبة قد تعاطوا مع الاختبار انطلاقا من موقف ضمني أكثر ولعا بالدراسة، مقارنة بزملائهم من قرّاء الشاشة، وكذلك أكثر فعّالية في إدارة انتباههم وذاكرتهم العاملة.

حتى وإن أثبتت الدراسات أن الفروق في فهم القراءة بين الشاشات والورق هي فروق طفيفة، فإن قرّاء الشاشة لا يستطيعون تذكر النص تماما لمدة طويلة. ففي دراسة أجرتها <K. گارلاند> مع فريقها سنة 2003 [وكانت تعمل آنذاك بجامعة ليستر في إنكلترا] طُلب إلى 50 طالبا من طلبة الجامعات البريطانية أن يقرؤوا صفحات من وثائق إحدى الدورات التمهيدية في علم الاقتصاد، إما من الحاسوب أو من كرّاس محزوم بسلك لولبي. وبعد مضي 20 دقيقة على بدء القراءة، قامت <گارلاند> وزملاؤها باستجواب الطلبة، فوجدت تعادلا في النقاط بينهم، بصرف النظر عن الأداة المستخدمة، ولكنها وجدت أيضا تباينا بينهم فيما يتعلق بتذكر المعلومات.

وعلماء النفس يميزون بين تذكر الشيء ومعرفته. ففي حين أن التذكر هو وظيفة ضعيفة نسبيا من وظائف الذاكرة – تُمكّن الشخص من استدعاء معلومة من المعلومات بتفاصيلها السياقية؛ مثل أين ومتى قام الشخص باكتساب هذه المعلومة – فإن المعرفة هي وظيفة أقوى من وظائف الذاكرة، تُعرّف بأنها التأكّد من أن شيئا ما هو شيء حقيقي. ففي أثناء الاستجواب الذي قامت به <گارلاند>، كان على المتطوعين أن يشيروا إلى إجابتهم من جهة، ومن جهة أخرى إلى ما إذا كانوا «يتذكرون» أو «يعرفون» الإجابة. وفي حين أن الطلبة الذين قرؤوا المواد الدراسية من الشاشة كانوا أكثر اعتمادا على التذكر بكثير منه على المعرفة، فإن قُرّاء الورق من الطلبة كانوا يعتمدون على كليهما بدرجة متساوية. فكما تعتقد <گارلاند> وزملاؤها، فإن الطلبة الذين كانوا يقرؤون من الورق، كانوا يتعلمون المواد الدراسية بصورة أدق وبسرعة أكثر، ذلك لأنهم لم يكونوا مضطرين لقضاء وقت طويل في البحث عن معلومات من النص المحفوظ في عقولهم: فقد كانوا يعرفون الإجابات وحسب.

إن التباينات في فهم القراءة بين الورق والشاشات يمكنها أن تتضاءل إذا ما واظب الناس على تغيير مواقفهم. ولعل العبارة الشهيرة «المجلة هي آيباد لا يعمل» سوف يزداد نجمها تألقا، إذا ما خفّت حدة الأحكام المسبقة التي تبدو منتشرة بصورة مبطنة بين الأجيال الأكبر سنا حيال الشاشات. بيد أن آخر البحوث تشير إلى أن استبدال الورق بالشاشات في سن مبكرة له سيئات لا يجوز أن نتغاضى عنها بهذه البساطة. فقد أظهرت دراسة أُجريت عام 2012 في مركز J.G. Cooney بنيويورك – جُنّد لها 32 زوجا من الأمهات والآباء مع أطفالهم الذين كانت أعمارهم تتراوح بين ثلاث وست سنوات – أن الأطفال الذين قُرئت عليهم قصص من كتب ورقية كانوا أكثر قدرة على تذكر بعض تفاصيلها، مقارنة بأولئك الذين استمعوا لتلك القصص وهي تتلى عليهم من كتب إلكترونية مزودة برسوم متحركة تفاعلية وأشرطة ڤيديو وألعاب. فالأجراس والصفارات كانت تشدّ انتباه الأطفال وتوجهه نحو الجهاز نفسه وتصرفه بعيدا عن الحكاية. وفي دراسة متابعة مسحية شملت 1226 من الآباء والأمهات أفاد معظم هؤلاء بأنهم وأطفالهم يفضلون الكتب المطبوعة على الكتب الإلكترونية عندما يقرؤون معا.

وثمة دراستان أخريان توصّلتا إلى نتائج مماثلة تقريبا. وقد قامت <J. باريش موريس> [وهي تعمل حاليا في جامعة بنسلڤانيا] وزملاؤها بتوصيف هاتين الدراستين في مجلة العقل الدماغ والتربية والتعليم(12) على النحو الآتي: عندما كان الأهل يقرؤون لأطفالهم، الذين تتراوح أعمارهم بين ثلاث وخمس سنوات، إحدى الحكايات من كتاب ورقي، كانوا يربطون أحداث هذه الحكايات بحياة أبنائهم بطريقة مثمرة. ولكنهم حينما كانوا يقرؤون الحكاية من كتاب تسلية إلكتروني محبوب، مزود بمؤثرات صوتية، كانوا يجدون أنفسهم مجبرين على إيقاف «قراءتهم الحوارية» المعتادة مرارا وتكرارا لمنع أطفالهم من إضاعة الوقت في اللعب بالأزرار، الأمر الذي كان يؤدي إلى انقطاع سلسلة أفكارهم في سرد الحكاية. وقد كان هذا اللهو في آخر الأمر يعيق الأطفال ذوي الثلاث سنوات، حتى عن فهم بيت القصيد من الحكاية. أما الأطفال الذين كانوا يستمعون للحكايات من الكتب الورقية، فقد كانت أمورهم جميعا على ما يرام.

ولعل بساطة الورق التي تم التركيز عليها من قِبَل هذه الأبحاث التمهيدية التي أُجريت على أجهزة القراءة الأولى، هي أبرز جوانب الجودة التي يتميز بها الورق بصفته وسيلة للقراءة. بيد أن النصوص الرقمية، وباعتراف الجميع، تقدم لنا في ظروف مختلفة كثيرة فوائد جليّة. فعندما يكون أحدنا محكوما بمهلة محددة، فإن البحث في الإنترنت عبر الكلمات المفتاحية للوصول بسرعة إلى مئات الوثائق له من الحسنات ما يفوق بكثير الفوائد التي يجنيها المرء من عمليتي الفهم وحشو الذاكرة المرهونتين بمكوث إلزامي في المكتبة وبحث محموم في كتبها الورقية في الآن معا. كما أن إمكانية تغيير حجم الخط والتباين الضوئي الحاد لشاشة الكريستال هما بمثابة منحة من السماء بالنسبة إلى الأشخاص المصابين بضعف الرؤية. ولكن الورق يختلف عن الشاشات أيضا بأنه لا يجذب الانتباه إليه بصفته ورقا، ولا يُضعف التركيز على النص، إلاّ نادرا. كما أن الورق لا يزال بفضل بساطته يُشكل «نـقـطــة الارتــكــاز المحــوريـــــة للــوعــي،» بحســب تعبيـــر <W. باورز> نقلا عن كتابه الصادر عام 2006 بعنوان “بلاك بيري هامْلِت: لماذا سيبقى الورق خالدا”. إضافة إلى ذلك، فإن الناس يصرّحون باستمرار أنهم عندما يريدون التركيز حقا على نص من النصوص، فإنهم يقرؤونه من الورق. وفي دراسة مسحية أُجريت على طلبة الدراسات العليا في جامعة تايوان الوطنية سنة 2011، أفاد غالبية هؤلاء الطلبة بأنهم لا يتصفحون سوى بضع فقرات من الموضوع في الإنترنت قبل قيامهم بطباعة النص كاملا لقراءته بطريقة أكثر عمقا. وقد أظهرت دراسة مسحية أخرى أُجريت في الجامعة الوطنية المستقلة بالمكسيك عام 2003، أن نحو 80% من 687 طالبا وطالبة يفضلون قراءة النص من الورق، أكثر منه من الشاشة «حتى يفهموه بوضوح.»

إضافة إلى الاعتبارات البراگماتية، فإن طبيعة شعورنا حيال الكتاب الورقي أو جهاز القراءة الإلكترونية، والإحساس الذي ينتابنا حين نمسكهما بأيدينا، يُسهمان أيضا فيما إذا كنا سنشتري أحد الكتب، الأكثر مبيعا، بنسخته المجلّدة من إحدى المكتبات المحلية، أو بنسخته الإلكترونية من شركة أمازون. فالدراسات المسحية وتقارير المستهلكين تشير إلى أن الناس يهتمون بالجوانب الحسية للقراءة من الورق أكثر مما قد يظن البعض: كالإحساس بالورق والحبر، وحرية الاختيار بين تمليس الصفحة أو طيّها بالأصابع، والصوت الذي يصدر عن تقليب الصفحات. وحتى الآن، لم تستطع النصوص الرقمية توليد نسخ مُرضِية لمثل هذه الأحاسيس. فالكتب الورقية لها أيضا حجم قابل للإدراك مباشرة، ولها شكل ووزن، الأمر الذي يعني أنه بوسعنا أن نتحدث، مثلا، عن طبعة مجلدة لكتاب “الحرب والسلام”(13) لـ <ليو تولستوي> بوصفها «مجلدا ضخما»، أو عن طبعة الجيب لكتاب “قلب الظلام”(14) لـ <جوزيف كونراد>، باعتبارها «طبعة رقيقة». وفي المقابل، فإن النص الرقمي – مع أنه من الممكن استعراض طوله بالتمرير أو بواسطة شريط التقدم – ليس له شكل واضح، ولا سماكة. كما أن جهاز القراءة الإلكتروني لا يتغير وزنه، سواء كنت تقرأ أعظم ما أبدعه <M. بروست>، أو كنت تقرأ إحدى القصص القصيرة لـ <إرنست همنگواي>. وقد اكتشف بعض الباحثين أن هذه المفارقات تكوِّن لدى القراء قدرا كافيا مما يسمى التنافر اللمسي haptic dissonance، الأمر الذي يدفع بعضهم إلى الابتعاد عن القراءة الإلكترونية.

وللتخفيف من هذا التضارب الحسي، يبذل العديد من المصممين جهودا حثيثة لجعل خبرة القراءة الإلكترونية من الألواح وغيرها من الأجهزة تقارب خبرة القراءة الورقية إلى أعلى درجة ممكنة. وهكذا، فقد أصبح الحبر الإلكتروني شبيها بالحبر الكيميائي النموذجي، وبات مظهر الشاشة البسيط في لوح كندل يماثل صفحة في كتاب ورقي على نحو لافت. وإضافة إلى ذلك، فقد بدأت شركة أپل في برنامجها التطبيقي بتطوير كتبها الإلكترونية بطريقة تجعلها تحاكي إلى حد ما التصفح الحقيقي للورق. بيد أن مثل هذه المبادرات لا تزال حتى الآن ذات طابع تجميلي أكثر من كونه واقعيا. كما أن الكتب الإلكترونية لا تزال تعيق الناس عن المضي قدما في التصفح، وذلك لأنهم حين يصادفون جملة تذكرهم بما قرؤوه سابقا، يدفعهم الهوى أو سهولة النقرة بالإصبع إلى العودة لأحد الفصول السابقة.

ولا تقتصر جهود بعض المبتكرين الرقميين اليوم على محاكاة الكتب الورقية، بل باتت تشمل أيضا محاولات لتطوير القراءة المبنية على الشاشة إلى شيء آخر مختلف كليّا. ومع أن تقنية التمرير قد لا تكون هي الطريقة المثلى لتصفح نص بطول وسماكة رواية “موبي ديك”(15) لــ <H. ملڤيل>، فقد ابتدعت صحيفة نيويورك تايمز وصحيفة واشنطن بوست والفضائية ESPN الأمريكية ووسائل إعلام أخرى مقالات تعتمد كليّا على تقنية التمرير وتتمتع بمظهر حسن ودقة بصرية عالية، ولا يمكن طباعتها لكونها تضم إلى جانب النص مزيجا من الأفلام ومقاطع الصوت لتكوين مناخ سينمائي. وتقنية التصفح tap essay التي ابتكرها <R. سلون> هي تقنية تعتمد على التآثر الفيزيائي لتسيير العمل بطريقة لا تسمح بظهور كلمات وجمل وصور جديدة إلاّ عندما يقوم أحدنا بالنقر على شاشة اللمس لأحد الهواتف أو لأحد الألواح. ويعمل بعض الكُتّاب اليوم بمشاركة مبرمجي الحاسوب على إنتاج كتب تفاعلية – أدبية وغير أدبية – أكثر تطورا من أي وقت مضى، تتيح للقارئ تحديد ما يرغب في قراءته أو سماعه أو مشاهدته بصورة مباشرة.

ولكن عندما يتعلق الأمر بقراءة مقاطع طويلة جدا من أحد النصوص غير المنّمقة، فربما ما زلنا نفضل الورق والحبر. بيد أن القراءة لا تنحصر في قراءَة النصوص العادية فقط.


المؤلف:

<F. جبر>، محرر مشارك في مجلة ساينتفيك أمريكان.


  مراجع للاستزادة

The Myth of the Paperless Office. Abigail J. Sellen and Richard H. R. Harper.
MIT Press, 2001.
Proust and the Squid. Maryanne Wolf. Harper, 2007.


(*)WHY THE BRAIN PREFERS PAPER

(**)TEXTUAL LANDSCAPES

(***)Weighing Paper against Pixel

(****)EXHAUSTIVE READING


(1) e-readers
(2) digital natives
(3) e-books

(4) one of the most provocative viral YouTube videos

(5) melodramatically
(6) kindle كندل (ج: كندلزات)، وهي جهاز إلكتروني محمول لقراءة الكتب وتحميلها حاسوبيا.

(7) Proust and the Squid

(8) فعل يشير إلى انتقال الشخص أو غيره من الأشياء المادية افتراضيا من مكان إلى آخر من دون أن يعبر المسافة الفاصلة بينهما. ولنا في الجملة الشهيرة «سفّرني يا سكوتي»، التي تتكرر كثيرا في المسلسل الأمريكي “المركبة الفضائية إنتربرايز”, خير مثال على ذلك.

(9) ambient light

(10) cathode-ray tube

(11) scroll through

(12) Mind, Brain, and Education

(13) War and Peace

(14) Heart of Darkness

(15) Moby Dick