مجلة حكمة
ألتوسير المستقبل الطويل

لوي ألتوسير: يستمر المستقبل طويلا – ترجمة: سعيد بوخليط


 أود الإشارة إلى ملاحظة تثير انتباهي،توفي ألتوسير يوم 22 أكتوبر 1990. النصان السيرذاتيان الصادران هنا،عثر عليهما محفوظين بعناية في أرشيفاته، التي عهد بها شهر يونيو 1991 إلى : [معهد مذكرات النشر المعاصر] (IMEC). قصد تأمين القيمة العلمية والتأليفية لهذا الرصيد.

عشرات السنين،باعدت بين كتابة هذين النصين.عشرات السنين،جرى خلالها يوم 16 نوفمبر 1980، انقلاب في مصير ألتوسير، بشكل مأساوي لم يكن واردا في الحسبان، حينما قام بقتل زوجته ايلين Hélène، داخل شقتهما المتواجدة بالمدرسة العليا، شارع “أولم Ulm”، باريس.

قراءة هاتين السيرتين ـ وقد أضحيا أسطورة، لاسيما ما تعلق، بعمل ألتوسير المعنون ب : المستقبل يدوم طويلاـ دفع فرانسوا بودايرت ، الوريث الوحيد لألتوسير إلى اتخاذ قرار إخراجها، كحلقة أولى في إطار سلسلة منشورات أعمال لم يكشف عنها ألتوسير أثناء حياته،وظلت بحوزته. يتضمن هذا المشروع إلى جانب سيرته الذاتية،مذكرة اعتقاله التي كتبها مرحلة أسره من طرف الألمان بين سنوات 1940/1945، ثم مجموعة كتابات ذات طابع فلسفي محض، وكذا نصوص متنوعة (سياسية، أدبية…) إضافة إلى العديد من مراسلاته.

 لكي ننجز هذا الإصدار، عملنا على تجميع شهادات كثيرة أحيانا متباعدة، عن طريق أصدقاء ألتوسير،عايشوا تاريخ هذه المسودات أو تقاطعوا معها في لحظة من اللحظات. البعض الآخر، قرأها كليا أو جزئيا خلال فترة أو أخرى  من صياغتها. استجمعنا، كذلك وثائق من كل الأجناس :(مذكرات ، إشارات، قصاصات صحفية، رسائل…) كانت مبعثرة في الأرشيفات، لكنها قد تقدم معالم ومؤشرات،بل ودلائل وإحالات عن “الأصول” التي يستعملها ألتوسير.

 تحضير الملف الممهد لهذا الإصدار، ومعه بالتأكيد المسودات نفسها ثم مختلف الروايات والإضافات، يمكننا أيضا الرجوع  إليها، قد يتيح للباحثين المتخصصين دراسة  أصل هذه السيرة الذاتية. سنقتصر هنا إذن،على تمثل المعطيات الأساسية  لتاريخ هذه النصوص التي أضاءت الإصدار،ثم الخصائص المادية للمسودات والمعايير المعتمدة قصد تدوينها مع العلم أن الظروف التفصيلية لكتابتها، ثم التعليق عليها وشرحها بشكل مطول في الجزء الثاني من بيوغرافية ألتوسير.

تحليل الوثائق والشهادات التي حصلنا عليها لحد الآن، يخول يقينا، تطوير الإشارات التالية : الشروع في كتابة : [يدوم المستقبل طويلا]  بدأ فعلا،مع أن مشروع السيرة الذاتية كان حاضرا،بعد قراءة مقالة ل كلود ساروت Claude Sarraute بجريدة : لوموند يوم 14 مارس 1985 تحت عنوان [Petite faim] ، تحدثت أساسا عن حادثة قتل افتراسية لشابة هولنديـة من طرف الياباني إيسي ساغوا ، وكذا النجاح الذي عرفه العمل فيما بعد داخل اليابان، وهو يوثق لمعطيات الجريمة. طرد إلى بلده، بعد إسقاط الدعوى وإقامة قصيرة بمستشفى فرنسي للأمراض النفسية والعقلية. استحضرت أيضا كلود ساروت، “حالات” أخرى : ((نحن في الإعلام، ما إن نرى اقتران اسم نافذ بمحاكمة تسيل اللعاب، ألتوسير أو تيبو دورليان ، حتى نصنع من ذلك طبقا. الضحية ؟ لا يستحق غير ثلاثة سطور. بينما صاحب الجريمة، فيعتبر نجما(…) )).

بعد هذا الرأي،كثير من أصدقاء ألتوسير، نصحوه بالاحتجاج على الجريدة ضد ورود هذه الإشارة : “محاكمة تسيل اللعاب”.لكنه انحاز إلى زملاء آخرين، والذين رغم انتقادهم لهذا السلوك، فقد أكدوا مع ذلك بشكل من الأشكال، أن ملاحظة كلود ساروت ، كشفت النقاب عن نقطة أساسية، لكنها دراماتيكية بالنسبة إليه : في الواقع، انعدام “محاكمته” يرتبط بإسقاط الدعوى، الذي “استفاد منه”. كتب ألتوسير  يوم 19 مارس 1985 إلى دومنيك لوكور ، أحد أقرب أصدقائه، رسالة ـ مع أنه تراجع عن إرسالها له ـ يعبر له فيها عن عدم رغبته :((للظهور ثانية في المشهد العمومي))دون القيام قبل ذلك، بتوضيح ما حدث له، أي كتابة : ((نوع من السيرة الذاتية، يبين فيها مواقفه من المأساة و”معالجتها” الإدارية، القضائية وكذا الاستشفائية، ثم بالطبع مصدرها)). هوسه بكتابة سيرته الذاتية، ليس حتما جديدا : قبل ذلك، وبالضبط سنة 1982 مثلا، مع أول خروج من الاعتقال بعد القتل، أنجز نصا نظريا حول “مادية اللقاء”، بدأه بما يلي : ((كتبت هذا العمل في أكتوبر 1982، بعدَ الخروجِ من تجربة فظيعة دامت ثلاث سنوات، من يدري، ربما أحكي عنها يوما ما، إذا كان ذلك يوضح أشياء كثيرة، فيما يخص الأحداث ثم كل ما تحملته (مرض نفسي، إلخ). لقد قمت بخنق زوجتي، التي جسدت بالنسبة لي كل العالم، إبان أزمة عصيبة وطارئة، شهرنوفمبر 1986 نتيجة خبل ذهني. زوجتي، التي أحبتني إلى درجة الرغبة في الموت، إذا عجزت عن بلورة ذلك. بلا شك، لحظة جنوني وبممارسة لاواعية “قدمت لها هذه الخدمة”، لم تدافع عن نفسها، وماتت نتيجة ذلك”)). ثم يتواصل، النص في إطار تأملات فلسفية وسياسية، بحيث لا يعود لهذه الإشارات السير ذاتية.

لكن في مارس 1985، قرر ألتوسير كتابة هذا “التاريخ” من وجهة نظره. راسل، مجموعة من أصدقائه بالخارج، راجيا منهم تزويده بكل القصاصات الصحفية، التي تطرقت إلى حالته،في بلدانهم بعد نوفمبر 1980. كما قام بنفس الشيء مع الصحافة الفرنسية، حيث جمع أو طلب من أصدقائه تزويده بتوثيق مسهب سواء فيما يتعلق بالقضايا القانونية لسقوط الدعوى، ثم الفصل 64 من القانون الجنائي لسنة 1938، وكذا حيثيات التقارير المرتبطة بالأمراض العقلية والنفسانية. التمس أيضا،من بعض أقربائه، أن يطلعوه على “جرائدهم” التي صدرت إبان تلك السنوات، أو يحيطوه علما بالوقائع، التي لم يعد يتذكر بعض مظاهرها. استفسر طبيبه في الأمراض العقلية وكذا المسؤول عن متابعته النفسية، بخصوص العلاجات التي خضع لها، والأدوية التي تناولها (أحيانا، كان يوثق “حرفيا” تفسيراتهم وتأويلاتهم)، يسجل في أوراق منفصلة مجموعة من الأحداث، الوقائع، الملاحظات، التأملات، والاستشهادات ثم كلمات متناثرة، باختصار معطيات عملية، شخصية، سياسية، أو نفسانية. لقد حافظت هذه الأرشيفات عن أثر جل العمل التمهيدي، الذي سيساعد على  كتابة سيرته الذاتية : المستقبل يدوم طويلا.

إن الاشتغال على المسودة والانتقال بها إلى الآلة الكاتبة، لم يأخذ على الأرجح إلا أسابيع، ابتداء من آخر أيام مارس، ثم شهر أبريل، وكذا بدايات ماي من سنة 1985. يوم 11 ماي، سلم كل العمل منتهيا إلى ميشيل لوا Loi لكي يقرأه. في الثلاثين من الشهر ذاته، قام بصياغة نسخة نص نظري جديد، تحت عنوان : “ما العمل ؟”، محيلا منذ الصفحة الثانية إلى سيرته الذاتية، التي أتى على الانتهاء منها : ((أقف على أول مبدأ أساسي عند مكيافيلي والذي علقت عليه طويلا، في كتابي الصغير :المستقبل يدوم طويلا))، “صغير” شرط مألوف، لأن هذا النص الطويل لما يقارب ثلاثمائة صفحة، يشكل في حدود معرفتنا أطول مسودة هيأها ألتوسير، الذي توزع عمله حتى ذاك الحين، بين كتب علمية ومجموعة مقالات. يوم 15 يونيو، كان ضحية نوبة هوس مما اضطره للدخول مجددا إلى المستشفى ب سوازي Soisy.

هكذا يظهر برنامج صياغة سيرته :يدوم المستقبل طويلا. تقويم، يتطابق كليا مع تواريخ بعض الأحداث والوقائع، الواردة في جسد النص ((مثلا : “أربع سنوات تحت حكومة مورو Moroy، (ص 15 ) أو “فقط ستة أشهر، في أكتوبر 1984” (ص 119). أو أيضا : “كنت أبلغ من العمر 67 عاما” (ص 272) )). أما التنقيحات اللاحقة، فقد بدت بأنها ثانوية.

عدد الأشخاص الذين أمكنهم، قراءة العمل في مجمله، أو قسم دال من المسودة، اقتصر على بعض المقربين، ولاسيما : Stanislas Breton/ Michelle loi /Sandra Salomon/ paulette Taïeb/ andré Tosel/ Hélène Troizier/ Claudine Normand.

نعرف أيضا، بأنه لمرات عديدة كشف ألتوسير عن مشروعه لبعض الناشرين، معبرا لهم عن رغبته في إخراجه، دون أن يفصح عن المسودة أو على الأقل تقديمها في صيغتها النهائية. كل شيء يظهر إذن، أنه  قد استحضرسلفا أقصى الاحتياطات، حتى لا يتم “تداول” هذه المسودة،على النقيض مما كان يفعله عادة مع نصوصه. لذا، لا نعثر بين أرشيفاته على أية نسخة مصورة. يخبرنا، أندريه توزيل،عن عدم تمكنه من قراءة العمل سوى شهر ماي 1986 ،برفقته في بيته، دون تدوين ملاحظات.

نضيف أخيرا، بأن ألتوسير ، عندما توخى كتابة : يدوم المستقبل طويلا. خاصة في فصوله الأولى، وجد نفسه، بكل بداهة تحت وقع تأثير سيرته الذاتية الأولى، المعنونة ب :الوقائع.  النص الذي سنصدره ضمن القسم الثاني من المؤلف، كتبه ألتوسير سنة 1976 (وردت الإشارة إلى السنة في الصفحة الأولى)، وبالضبط حسب كل التقديرات، أثناء النصف الثاني من السنة، ثم سلمه إلى ريجيس دوبري ، الذي احتفظ به للعدد المقبل من مجــلة جديد تسمـى : Ca ira. بعد أن،  أعلن عنها في يناير 1976، لكنها لم تعرف النور. لذلك، ظلت هذه السيرة الذاتية، ل ألتوسير ، مجهولة إلى يومنا، مع أن الكثير من المحيطين به اطلعوا عليها.

تتكون المسودة الأصلية ل : يدوم المستقبل طويلا، من 323 ورقة، حجم A4، بلون أخضر أو أبيض، ويشير أعلى عشرات الورقات،إلى  عنوان :مدرسة الأساتذة العليا. جمع جلها في سلسلة ” وريقات صغيرة” مشبوكة ومرقمة، تتطابق  غالبا مع مختلف الفصول. باستثناء بعض الصفحات، التي كتبها  في مجملها بخط يده، فإن باقي الأوراق الأخرى، أنجزها ألتوسيرـ انسجاما مع عادته ـ على الآلة الكاتبة، لكن المنجز الأصلي ـ الذي يظهر في المسودة ـ صاغه نهائيا، بوليت الطيب على آلة كاتبة أخرى.

كتب ألتوسير ،على صفحة عنـوان المسودة ما يلي : “يدوم المستقبل طويلا”،متصــلا بعنـوان فـرعـي محـذوف : “حكاية مقتضبة عن قاتل”. ثم عنوان،  آخر : [D’une nuit l’aube]، حذفه كذلك، يتناسب مع محاولة  تقديمية أولى، حيث تقوم الأوراق التسعة الأولى المرقونة على الآلة الكاتبة، والمنتهية عند وسط جملة.

مجموعة صفحات مستنسخة على الآلة الكاتبة،من سيرة ألتوسير، تضمنت تصحيحات كثيرة وإضافات بين السطور أو في الهوامش، وأحيانا على قفا وريقات. حينما، تستحيل القراءة الواضحة مع تلك التغيرات الجديدة، يلجأ ألتوسير  إلى صياغة نسخة بديلة تحمل التصحيحات الجديدة. لقد احتفظ جانبا، بملف يكشف عن نسخة أولى مصححة، ناهزت 71 صفحة أساسية، ما عدا المدخل وصفحتين تمهيديتين تتحدثان عن القتل (الفصل 1). فيما هذا الاستثناء، الذي يخول اختيار المتغيرات (مع قلتها) من آلة كاتبة إلى أخرى، فإن أرشيفات ألتوسير لا تحتوي إلا على نسخة أصلية من هذا النص.

علينا أن نضيف بأن ألتوسير ، يدس أحيانا بين  صفحات مسودته وريقات بيضاء مـن الحجـم الصغير، نجد أعلاها عنوان : [مدرسة الأساتذة العليا]، مع وضعه لتساؤل أو ملاحظة بصيغة مختصرة تقريبا وتحديده للصفحة المقصودة بذلك، مما يدل على رغبته في أنه سيعيد لاحقا صياغة تلك الجملة أو الفكرة. ثم في مواقع أخرى كثيرة، نعاين كذلك على الهامش إشارة توضيحية، يكتبها ألتوسير غالبا بقلم لبدي. بمعنى، أن النص لا يرضيه كليا، وبالتالي رغبته في القيام بتعديلات جديدة.

تظهر لنا، المسودة أيضا تصور المؤلف لهياكل متعددة ومختلفة بخصوص عمله، وصلت إلى أربعة مشاريع ترقيمية ، ارتبطت خاصة بالقسم الثاني، دون أن نتمكن، من إعادة صياغة ثانية، لمختلف الروايات التي أخرجتها جل الترقيمات التي وضعها ألتوسير. لكن المسودة، كما عثر عليها، والكيفية التي صدرت بها هنا، جاءت مرتبة وفق تتابع للفصول بناء على الترقيم  الروماني (مع نسيان بلا أهمية، أحالنا بداية على ترقيم 22 فصلا بدل 21. يتطابق في الوضع الأخير  للمسودة، مع ترقيم يمتد من 1 إلى 276، لا يأخذ في الاعتبار بعض التغيرات التي طرأت على الصفحات والإضافات العديدة. ترك لها ألتوسير توضيحات تميزت غالبا بدقتها)، وهي المسودة التي تم الاعتماد عليها،  لإصدار العمل الحالي.

نذكر أخيرا، بأن الطبعة المتداولة لسيرة ألتوسير : يدوم المستقبل طويلا. لا نعثر بين طياتها عن فصلين معنونين ب : (1) مكيافيلي  ثم (2) سبينوزا. حيث حذفهما ألتوسير في الأخير، واضعا محلهما “الخلاصة” التي نجدها بين الصفحات 208/213. نفس الأمر، مع القسم الثاني من الفصل المخصص لتحليلات سياسية حول مستقبل اليسار الفرنسي ووضعية الحزب الشيوعي (أي هنا الفصل XIX). يبدو أن ألتوسير ، فضل توظيف هذه الصفحات في كتاب آخر حول : التقليد المادي الحقيقي. لكن، علاوة على هذه الفصول الثلاثة التي تضمنت ستين صفحة ووريقات متروكة داخل حافظة أوراق تحمل هذا العنوان، فلا توجد معطيات إخبارية أخرى أكثر دقة حول مشروع هذا الكتاب غير المكتمل. فهذه الصفحات، ولاسيما الفصلين المتعلقين ب مكيافيلي وسبينوزا ، ربما قد يشكل موضوع إصدار مقبل.

إجمالا، سعينا تقريبا إلى اختيار هذا النص : يدوم المستقبل طويلا. دون إشارات إلى المتغيرات، باستثناء بعض الإضافات القليلة، الواردة في الهامش، لم يضع ألتوسير الترابطات الأساسية فيما بينها، والتي نقدمها في شكل ملاحظة، حتى نحيل الباحثين على الملف الإعدادي وكذا المسودة. بالنسبة للباقي، فإن الإشارات الدقيقة جدا، للإصدار : (خطوط، تغيرات الفقرات، تدوينات إضافية، إلخ) التي احتفظ بها ألتوسير اتبعت كما هي، لكن التصحيحات النشرية الثانوية، والشائعة حول ضبط الزمان، التنقيط وكذا التأكيدات المرتبطة بالأسماء والشخصيات، فقد تم الإسهام فيها. أخطاء الوقائع والتواريخ، بقيت على أحوالها : بالنسبة لإمكانية “اختبارها” يمكن للقارئ الرجوع إلى سيرة الكاتب الذاتية التي ظهرت بشكل متزامن. غير أنه من بعض النواحي، فإضافة كلمة أو عبارة بين معقوفتين، يظهر  أساسيا من أجل قراءة جيدة للنص.

نقف على مسودة : الوقائع ـ الجزء الثاني من سيرة ألتوسير ـ عبر نص مكتوب على الآلة الكاتبة، يحمل تصحيحات وإضافات طفيفة جدا. فالتغيرات إذن قليلة، تهم خاصة نظام الفقرات الأولى، لم يحتفظ ألتوسير في أرشيفاته، إلا بنسختين من هذه المسودة، تتطابقان مع صيغتين متتاليتين، قريبة جدا الواحدة من الأخرى.

الصيغة الثانية، هي الصادرة هنا، لكن من البديهي أن النص سيعرف قبل ذلك كتابة واحدة أو تأليفات عديدة، مادام أن ألتوسير سيفصح في رسالة إلى ساندرا سلومون ، صيف 1976 عن ما يلي : ((سأتمكن ثانية (…) من إعادة كتابة “سيرتي الذاتية”. بحيث، سأعمل كثيرا على جعلها منتفخة بذكريات حقيقية وأخرى متخيلة (لقاءاتي مع “جان XXIII” ودوغول )خاصة تأويلات الأشياء التي أحكي، بعد ذلك سأضع في ملحق كل الأجزاء. هل أنت متفقة ؟ ستكون استراتيجية الجانب الداخلي والخارجي في الآن ذاته، وبالتالي التمكن من تمرير أشياء تبدو قليلا بأنها ليست في أفضل حالاتها)). هذا الاختيار على مستوى النشر بعدم إخفاء هاتين السيرتين، مصحوبة بالإشارات المسماة توضيحية، باستثناء مواقع نادرة جدا، حيث فهم الرسالة ذاتها يغدو قاتما، وبالتالي يتوقف الأساسي فيها على وضعها ذاته.

ليس أكثر من “اعترافات” جان جاك روسو أو ” ذكريات” الكردينال ريتز “Retz”. فإنه من غير اللازم قراءة هذين النصين ل ألتوسير باعتبارهما سيرة  ذاتية : لذلك سيؤكد، في مشروعه التقديمي الأول لعمله : يدوم المستقبل طويلا. الذي جاء تحت عنوان “كلمتان”، بأنه لم يقصد وصف طفولته كما مرت، ولا أعضاء أسرته في حقيقتهم، بل استرجاع التصور، الذي قاده تدريجيا إلى إنجاز العمل : ((أتكلم عنهم كما أدركتهم وأحسست بهم، مع العلم جيدا مثلما هو الشأن في كل إدراك نفسي، أن ما قد يصيرونه استثمر قبل ذلك دائما في الانعكاسات الإستيهامية لاضطرابي النفسي)).

لقد أسس بذلك، تاريخا لتأثراته وهواجسه. إننا نتموضع، في قلب الخيال بالمعنى القوي لهذه الكلمة زمان مونتين Montaigne : أي الوهم بل الهذيان. كتب ألتوسير في : يدوم المستقبل طويلا ،ما يلي : ((لقد حرصت بالفعل على امتداد تداعيات هاته الذكريات، بأن أمتثل للوقائع بشكل صارم : لكن الهلوسات هي أيضا وقائع)). وتقودنا هذه النقطة إلى التميز الأكثر قوة لهاته النصوص. يتموضع إراديا، كل واحد منها داخل مسارين مختلفين : يندرج عمل “الوقائع” ضمن النموذج الكوميدي، في حين نتحدث عن التراجيديا بالنسبة للجزء الآخر : يدوم المستقبل طويلا. خارج ملامسة المعايير الثنائية للصحيح والخطأ، حيث كان على السيرة الذاتية، بالتأكيد الالتزام بتعيين الحدود. هل انتقلنا بذلك إلى الجانب الوهمي، ثم المتخيل  المنحصر في المنظومة الرمزية للنص، كمؤشر على نفسه ؟ بمعنى ما، نعم. والخاصية التي اشتغلت بوضوح في المسودات التي نتوفر عليها، بتمرحلاتها المختلفة، تقود احتمالا مثل كل إبداع أدبي، لكي يعطي فيما بعد الأولوية للنقد الداخلي للنص.

 مع ذلك، لا يمكننا أبدا قراءة نصي سيرة ألتوسير ، كرواية ل سيلين ، أو قصة ل بورخيس، الكاتبان اللذان يحب ألتوسير ، الاستشهاد بهما. إذا ولجنا مع هذين النصين مجال كتابة التخيل والهلوسة، فلأن مضمونهما هو الجنون، أي الإمكانية الوحيـدة التـي مـن خلالها تتصرف ذات ألتـوسيـر كمجنونة وقاتلـة، مـع بقائـه دائمـا فيلسـوفا وشيوعيـا. نقف هنـا، أمـام شهــادة مثيــرة عن الجنــون. أي، فــي مقابــل “الوثائــق الواصفـة للأمراض” مثل : ”ذاكرة الرئيس شريبر”التي درسها فرويد ، أو عمل بيير ريفيير: [أنا بيير ريفيير،لقد قتلت أمي وأختي وزوجتي] بتقديم من طرف ميشيل فوكو ، فإننا سنفهم عبر ذلك، كيف لمفكر ذكي جدا، وفيلسوف محترف، أن يسكن جنونه، وعلاجه من المرض العقلي بمؤسسات للطب النفسي والعقلي، وكذا الحلل التحليلية التي تستند عليها. بهذا المعنى، تجسد هذه اللوحة السير الذاتية، بنواتها التأسيسية التي شكلها عمله الأول : “الوقائع”. ارتباطا أساسيا مع : ” تاريخ الجنون” ل ميشيل فوكو. إسقاط الدعوى عن الذات التي تكتب هنا، أزال مفعول صفة فيلسوف، ثم بخليط مبهم بين ” الوقائع” و “الاستيهامات”، سيكشف عمل يدوم المستقبل طويلا، بكل جلاء، تجريبيا عن كائن من لحم ودم، أي ذاك الذي حدد له فوكو مكانا : التأرجح المتذبذب بين الجنون والعقل. كيف يمكن للفكر امتطاء الجنون، دون أن يكون فقط رهينة له أو رغبته المتوحشة ؟ كيف إذن لتاريخ حياة الانزلاق نحو الجنون، مع وعي صاحبها الحاد بذلك ؟ كيف اتجه تفكير الكاتب نحو تأليف عمل كهذا ؟ هل يمكن ترك “حالة ألتوسير ” للأطباء، والقضاء، وللمفكرين فعلا في الانشطار بين الفكر العمومي والرغبة الذاتية ؟ بهذين النصين لحياته الخاصة، هرب إلى مصير ما بعد وفاته. لذلك، تتجلى هذه النصوص السير ذاتية، طبيعيا بقوة، وتحتل حيزا أساسيا في مشروع ألتوسير. وحدها القراءة، التي تتبلور حتما بشكل تعددي ومتناقض،  تمكننا من تمثل التغيرات التي قد تحدثها في العمل ذاته وكذا الرؤية التي نحملها عنه دون أن يكون من المحتمل إصدار أحكام قبلية حول معنى وأهمية هاته التغيرات.

 

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــ

  *Louis Althusser : L’avenir dure longtemps. suivi de les faits (Autobiographies). éditions stock, 1992.

نقف هنا، على تقديم : أوليفير كوربت / ويان موليير بوتانغ، اللذان أشرفا على إصدار سيرة ألتوسير.