مجلة حكمة
لم يجب أن يقضي الفلاسفة أوقاتهم بصحبة الإنسانيين؟ - تشارلي هيونمين / ترجمة: سمي

لم يجب أن يقضي الفلاسفة أوقاتهم بصحبة الإنسانيين؟ – تشارلي هيونمين / ترجمة: سمية صالح

تشارلي هيونمن
تشارلي هيونمن

جميعنا نعرف ماهي العلوم الإنسانية، هي فروع العلوم التي تتناول موضوعات الثقافة، الناس، التاريخ، اللغة، والأفكار. والأهم من ذلك، الارتباط الوثيق بين هذه العلوم والكتب. إن الكتب هي الوسيلة التي تميز العلوم الإنسانية عن الوسائل التي تتخذها العلوم الأخرى في الوصول إلى هذه الأنشطة الإنسانية. يسعى علماء الاجتماع  إلى دراسة نفس الجوانب الإنسانية أيضًا، لكنهم يستندون أثناء عملهم إلى الدراسات والاستقصاءات وتنقيب الآثار. إلا أنه وفي اللحظة التي يبدأ فيها هؤلاء العلماء بالبحث عن إجابات لتساؤلاتهم في الكتب، يصبحون “إنسانيين”. ولا يهم إن كانت كتباً قديمة أو جديدة، طويلة أو قصيرة، أدبية أو تعليمية: فأهمية الكتب للإنسانيين مثلها مثل أهمية الحشرة لعلماء الحشرات.

هذا الإلمام الواسع بفئة الإنسانيين، يجعلنا نستثني فئة مهمة منهم يُعرفون بالفلاسفة. فعلى الرغم من أن هؤلاء الفلاسفة يقرأون ويكتبون العديد من الكتب، إلا أنهم لا يمتلكون نفس القدر من الحماس الذي يشعر به الإنسانيون بشأنها. يمكنك أن ترى ذلك في الحفلات الأكاديمية، حيث يفضل الفلاسفة قضاء وقتهم بصحبة علماء الفيزياء على الحديث مع نقاد الأدب. فكلٌ من الفلسفة والفيزياء تخصصات تدرس الأسئلة، حيث يتم اقتراح النظريات وبنائها إلى أن يتم كشف صحتها من عدمها. وينصّب تركيز الفلاسفة وعلماء الفيزياء على كيفية حصول وحدوث الأشياء مع تجاهل كلّي للتاريخ والاشكاليات اللغوية. قد تبدو المناهج التي يتبعها الفلاسفة وعلماء الفيزياء من وجهة نظر معينة متشابهة، لكن الفرق الوحيد هو أن علماءَ الفيزياء يقفون عند ما يمكن تجريبه فقط، و الفلاسفة يذهبون أبعد من ذلك.

ماهي المسائل التي يهتم هؤلاء الفلاسفة بحلها؟ بلا شك هذه التساؤلات الكبيرة والتقليدية: هل الله موجود؟ هل نمتلك إرادة حرة؟ ماهي طبيعة السببية؟ ماهي المعايير الأخلاقية؟ وما إلى ذلك من التساؤلات العظيمة. ما يفعله هؤلاء الفلاسفة هو كالتالي: ما أن تواجههم مسألة، يتخلون عن الكتب التي تملأ الرفوف، ويلجؤون لحل المشكلة بالبحث في الأشياء نفسها، يُطلقون خيالاتهم ويمارسون مواهبهم من أجل الإتيان بأمثلة مزعجة تدحض التأكيد. كما أنهم يشددون على الحدود المفاهيمية لله والإرادة الحرة والأخلاق، ويحاولون أن يحددوا، ما هو الممكن وما هو المستحيل، وما هي الاستنتاجات الأكثر عقلانية ، بالاعتماد على قوة الأداء الفكري فقط.

المنهج الذي يتبعه الفلاسفة يختلف كليًا عن المنهج الذي يتبعه الإنسانيون. فمثلًا عندما نلفظ كلمة “العدالة” سيتدافع الإنسانيون إلى البحث في طرق استخدام الكلمة على مر القرون من خلال دراسة آلاف النصوص المثيرة للاهتمام والتي تتعلق بهذا الموضوع، وسيقدمون لك  اقتباساتٍ لرموز كبيرة مثل  هوغو غروتيوس، صموئيل بوفندورف، برنارد ماندفيل، ومونتسكيو قبل أن يصلوا إلى مفكرين أقل شهرة. يميل الفلاسفة المعاصرون إلى الاستغناء عن البحث في التاريخ، والاكتفاء بتطبيق مجموعةً من المبادئ والصيغ الفلسفية، مثل مبدأ إذا وفقط إذا__، والحصول على الاستنتاجات من خلال ملء هذه الفراغات، معتمدين في ذلك على تفكيرهم النقدي، وعلى كتابات تسبقهم بجيل واحد فقط. يُؤمن الإنسانيون أننا نستطيع أخذ ملاحظات وإشارات من سياق محادثة طويلة جدًا، لكننا لا نستطيع أن نعرف عما نتحدث من دون إدراك كامل القصة. من جهة أخرى، سيتخطى الفلاسفة القصة بأكملها أو التاريخ الطويل ويتجهون مباشرةً إلى الشيء نفسه. فهم يرون أنه لا فائدة من دراسة أفكار منسية لأشخاصٍ ميتين، فهي لن ترشدهم في ما يجب أن يؤمنوا به اليوم.

يتمثل النقاش في مقولة “أنا أبالغ، ولكن قليلًا فقط”. فبينما يعتقد الإنسانيون أن التاريخ الطويل هو الهدف، يعتقد معظم الفلاسفة المعاصرون في البلدان الناطقة بالإنجليزية أن النظرية المدعومة جيدًا والتي تحل المشكلة هي الهدف. حينما يقول أحد الإنسانيين: “لكن، انتبه، لا توجد طريقة لفهم فلسفة جون لوك السياسية من دون معرفة العلاقات التي كان يلعب دورًا فيها”، سيرد عليه فيلسوف آخر: “بالطبع ليس مهمًا، لوك قدم الحجج، مع أعمال كان من المفترض أن تقدم استنتاجات. إن كانت حجته سليمة، ستظهر بمفردها، وإن كانت جيدة وفقًا لسياقه فقط، إذن لماذا نهتم؟” وهكذا باستخدام المنطق، لوك قد يقف أو يسقط.

يقدم جيمس تيرنر في كتابه فقه اللغة “Philology”، تاريخًا قيمًا عن العلوم الإنسانية عن طريق دراسة مبهرة للكلمة “Philology” وفروعها. لم يدرج تيرنر الفلسفة في كتابه ضمن العلوم الإنسانية، موضحًا: “لفترة طويلة من تاريخ تطور الفلسفة، فَهِم الفلاسفة أن دراستهم مختلفة تماماً عن علم اللغة، البلاغة، وعلم الآثار. كانت الفلسفة منطقية، استنباطية، دقيقة في الاستنتاجات، ترفض التغير مع الزمن. كان علم الفلسفة أيضاً، تفسيرياً، تجريبياً، يتعامل مع الاحتمالات، له أصول عريقة في التاريخ. ولأكثر من ألفين وخمسمائة عام مضت، بدءًا من أفلاطون، قام الفلاسفة بالتنقيص من قيمة علوم فقه اللغة والبلاغة لانتقادها هي الأخرى علم الفلسفة. خمدت نيران هذه المجادلات في القرون الأخيرة، لكن الطبيعة الأساسية لجميع هذه العلوم لم تتغير”

قد يبدو صادمًا أن يصدر إقرار كهذا من عالمٍ كَتب كتابًا شاملًا في موضوع العلوم الإنسانية، لكنه يشير بقوةٍ إلى أنه مهما كانت ماهية الفلسفة فهي لا تنتمي للعلوم الإنسانية.

مع ذلك، أنا لا أوافق على حقيقة أن الفلسفةَ لا تنتمي إلى العلوم الإنسانية، بسبب ما يمكن أن يقدمه هذان العِلمَان لبعضهم البعض، وكيف يمكن أن يثري كلٌ منهما الآخر.

يستطيع الفلاسفة أن يتعلموا الكثير من الإنسانيين حول أهمية السياق العام والثقافة. ولابد أن يدركوا أن المسائل التي يهتمون بها – السببية، الآلهة، العقل، الأخلاق…الخ – لا تسقط على أحضانهم من سماء أفلاطون، بل تأتي إلينا من تاريخ القصة الطويلة التي لا تزال تسير أحداثها ويواصل الإنسانيون كتابتها، وأن الطرق التي نتحدث بها الآن عن الأفكار الأخلاقية والميتافيزيقية شكّلتها محادثات تعود لقرون طويلة، وأنه كلما اطلعوا أكثر على جوانب القصة، حصلوا على المزيد من النسخ المتعددة للمصطلح الإشكالي الواحد. فإن سألنا ما هو العقل، سيجيب فلاسفةٌ مثل رينيه ديكارت أو جورج بيركلي بأنه مسرح التمثيل، وسيقول شخص ألماني مثالي بأن العقل يشبه الهيكل الاجتماعي الذي يتغير مع مرور الوقت بتغيرات العصر  مع وجود نهاية لذلك. وإن طرحنا السؤال نفسه على ديفيد هيوم أو سيغموند فرويد  أو جيمس جويس، سيجيبون بأن العقل مزيجٌ عشوائي من الكلمات والانطباعات التي يصعب إثارتها بعيدًا عن الأجسام والأشياء. وجميع الأمور التي بإمكاننا قولها بشأن العقل، ستكون حاملة لآثار أيّ من هذه المفاهيم والأفكار بشكل أو بآخر. وستصبح الأمور أكثرًا تعقيدًا عندما نُدخل مفاهيم روائيين مثل لورانس ستيرن، جين أوستن، ومارسيل بروست إلى هذا النقاش. تعتبر محاولة البحث في هذا التعقيد الغني بالأفكار عن مفهومٍ بسيط – للعقل مثلًا – ، بمثابة البحث عن مفتاح ضائع تحت عمود إنارة، ليس لاعتقادك بأنك أضعت المفتاح هناك، بل لأنك تستدل عليه أفضل بوجود الضوء.

من ناحية أخرى، يستطيع الإنسانيون أن يتعلموا من الفلاسفة التالي: أنه على الرغم من أهمية السياق، إلا أنه ليس كلَ شيء. عندما يقرأ الإنسانيون مجلداتٍ قديمة لميشيل دي مونتين أو فريدريش نيتشه، ويسعون إلى تفسيرها وفهمها، يجب أن لا يفعلوا ذلك لمجرد الخوض في عالم هؤلاء الفلاسفة المُغبر، بل أيضًا لاستخراج هذه النصوص وإدخالها إلى عالمنا، وطرح الأسئلة، وفهم هذه النصوص حتى تبدو منطقية لنا. لدى الفلاسفة موهبةٌ في استثارة المسائل وتقسيم المشكلة إلى عناصرها الفرعية: ماهي نواتج الادعاءات، ما هي الاستراتيجيات التي تؤدي إلى طرق مسدودة، وماهي الأساليب التي قد تنجح. إن تطبيق الطريقة الفلسفية في تجزئة المشكلة على بعض الكتب القديمة الصعبة في العلوم الإنسانية، لا يدفعنا إلى إحياء أفكار الموتى فقط، بل جعلهم يجيبون عن أنفسهم أيضًا.

لذلك، ينبغي على الفلاسفة أن ينضموا إلى الحفلة، وعلى الإنسانيين الترحيب بهم واستقبال ما يجلبونه لهم. ألا يسعى كلٌ من الإنسانيين والفلاسفة بقدر متساوي لنيل جوائز على أعمالهم؟. من جهة أخرى وفي محاولة فهم أنفسنا، تحتاج البشرية إلى كل أداةً تستطيع أن تضع يديها عليها. فنحن نحتاج إلى مراعاة السياق الذي نستمده من التاريخ والدراسات الأدبية وجميع التخصصات الفلسفية. من يعلم؟ ربما التمتع ببعض الانفتاح الذهني، وبذل بعض الجهود لقيادة محادثات بين مختلف التخصصات إلى جهات واعدة، يجعلنا نصادف أسئلة لم نعرف أنها كانت في حوزتنا، وهذا ما سيجسد جميع معاني التقدم في كلِ حقول العلوم.

المصدر