مجلة حكمة
الولايات المتحدة العلمانية

لحظة تأسيس الولايات المتحدة الأمريكية لمجتمع حديث متحرر من الدين: كيف انحرف المسار؟ – سام هاسبلي / ترجمة : سحر الغامدي


في البداية كان هناك شيء، والذي كان ضد الله، ومن هنا قد تكون بداية العلمانية الأمريكية.

في وقت تأسيس الولايات المتحدة الأمريكية كان الازدهار المفاجئ الغير مناسب للعلمانية، حيث اجتاحت موجة من العقلانية البروتستانتية التبشيرية على مدى عصور طويلة ولكنها لم تُنكر بالكلية، وفي عام (١٧٨٨) حين اعتمدت الولايات المتحدة الدستور أصبحت أول جمهورية حديثة تقوم على الفصل القانوني بين الكنيسة والدولة، في دولة تملك القداسة لنوايا مؤسسيها في العصر الثوري، حيث أن الطموحات العلمانية لأولئك المؤسسين كانت واضحة..

فـ توماس جيفرسون كتب كتاب (الحياة والأخلاق ليسوع الناصري) في محاولة منه لإثبات أن يسوع لم يكن المسيح ولم يكن كذلك ابن الله، وعرف عنه تعبيره البليغ “جدار الفصل بين الكنيسة والدولة “ولايزال يمثل المثل العلماني الأعلى لفصل السلطة الدينية عن السياسة.

جيمس ماديسون، المؤلف الرئيسي لدستور الولايات المتحدة، كان أكثر صرامة وثباتا، فهو علماني. على أساس ما أسماه ‘الحرية الدينية الخالصة’ عارض ماديسون العسكريين و رجال الدين في الكونغرس، معتبرا إياهم محسوبين على الحكومة الدينية. كل خطوة صغيرة من هذه  “الحرية الدينية الخالصة” كما كتب، أن ترك هذه الفجوات قد يعرض للاضطهاد؛ فالتعصب وحش … يتغذى ويزدهر على سمومه”. وهذا باختصار الذي حدث،

كيف لهذه البلاد التي أسست بواسطة علمانيين حالمين، وبالتطورات التاريخية في جانبي الحرية الدينية وفصل الدين عن القوة السياسية ، أن تصبح سياستها ديموقراطية دينية؟ فهم العلمانية بطريقة أفضل يساعد على إجابة هذا السؤال. فالعلمانية لا تُعرف بطريقة مبسطة فهي حياة سياسية وفلسفية وفهم لاهوتي مختلف، نسختها اللاهوتية والفلسفية تشكلت من عدة أفكار بسيطة، والأفكار أقل أهمية من المؤسسات إذا كانت الفكرة جديدة في شكلها السياسي. فالسبب وراء هدم العلمانية الأمريكية هو ضحالة بنائها المؤسساتي.

أما من حيث اللاهوتية، فالعلمانية بدعة أنغلو-بروتستانتية والتي نشأت على هامش القرن (١٨) في الإمبراطورية البريطانية، وفي القرنين الماضيين تطورت فروعها في الكاثوليكية والإسلام، والأصول في هذه الأديان وأديان أخرى قد أعيد بناءها، وتأثير العلمانية يرجع لحد كبير إلى ارتفاع قوة الولايات المتحدة في العالم الحديث.

قبل القرن (١٨)(على وجه التحديد عصر الثورة في فرجينيا) لم يوجد مجتمع حديث سعى إلى قانون يفصل السياسة و الحياة الاجتماعية والمؤسسات المدنية عن الدين، لأن هذا الفصل يتناقض مع الكاثوليكية والتي تحتكر الحقيقة والسبيل إلى النجاة داخل الكنيسة وتعاليمها، وهذه التعاليم تحمل كل تكتيكات وعقيدة وتاريخ الكنيسة. المترجمون الإنجليز غالبا ما يقدمون الدين العربي كدين، لكنه حقيقة يعني طريقة حياة تتضمن القانون والسياسة والمؤسسات وأكثر، وينطبق الشيء نفسه على الدراما السنسكريتية حيث كانت ببساطة البروتستانتية التي رسمت منهجاُ بحيث لم يعد مسألة منفصلة عن بقية الحياة (مسألة شخصية) لصياغة العلمانية المعروفة.

ولأن العلمانية بروتستانتية الأصل وتاريخها يتضمن أفكار مارتن لوثر الذي جادل في أن المرء لا يحتاج لمؤسسة ولا الى سلسلة من رجال الدين كي يتصل بالله بل أصر على أن المرء يمكنه أن يصل الى الخلاص بواسطة الإنجيل وحده وكما قال المعمدانيين في أمريكا الجنوبية “اسلك الصراط المستقيم” ومن هذا المنطلق انكشفت آثار جذرية كما لاحظت الكاثوليكية أن أفكار لوثر لم تكن فقط تحد للتعاليم الدينية بل امتهان للمؤسسة الدينية فصارت التجربة المقدسة مسألة خاصة وهذا الذي خلق الفردية المستقلة الحديثة.

وبالطبع لوثر لم يكن علماني فدافعه كان حماية الدين من السياسة وليس العكس، عند لوثر الإيمان كان له الأهمية الكبرى ليكون في مأمن من ملوثات السلطة الدنيوية،  ثانيا نصرة لوثر للسيادة الفردية لم يكن لها علاقة بأي نوع من أنواع المساواة في القرن التَّاسِع عشر، فالميثودية قالت “ميثودزم تكره الديمقراطية بقدر كرهها للخطيئة “وحديثها كان مشابها لمؤسس البروتستانتية والذي لم يشكك في احتمالية توارث الحالات الاجتماعية، لتزداد المعاناة.

فكرة المساواة السياسية ولدت في عصر الثورة وكانت فكرة لا يمكن تصورها من مؤسس البروتستانتية بل كان سيجرمها ويعتبرها هرطقة ومع ذلك في عصر الثورة عندما تبنى المزارعون في فيرجينيا الأمريكية فكرة سيادة الفرد باسم الحرية الدينية كانوا يتبعون بوضوح خطى لوثر بينما الكاثوليكية والإسلام واليهودية لم تقدم أي مسار مماثل يخدم السيادة الفردية، نظام جيفرسون الأساسي للحرية الدينية في فرجينيا عام (١٧٨٦) ينص على أن للناس حق الاعتقاد بأي الآراء الدينية مهما كانت تحت اسم الحرية الدينية و كتب ماديسون مبتهجا لجفرسون أن ” في هذه المدينة تنطفئ جميع الآمال الطموحة في جعل القانون متماشيا مع العقل البشري” .

جيفرسن متفق على أن الذي حصل كان حدثا تاريخيا، كان رده واضحا بأن أعداء الحرية على مر التاريخ كانو الملوك والوعاظ والنبلاء، فقد تآمروا لعدة قرون لجعل الناس تحت مظلة الجهل .

وكتب أيضا أن لفيرجينيا شرف عظيم بتقديم أول مجلس تشريعي والذي يملك الشجاعة الكافية ليعلن أن الرجل يمكن أن يكون محل ثقة مع مختلف آرائه، جيفرسن شعر أن الشرف أيضا كان له كما اختار أن يكتب على شاهد قبره .

وفي سياق الفلسفة السياسية الحديثة المبكرة التصريح الذي ينص على أن الرجل يمكن أن يكون محل ثقة مع مختلف آرائه كان طريقة أخرى لتطبيع محتوى جذري يقول بمساواة جميع  الناس،

هذه الجملة الشهيرة (كل الناس خلقوا سواسية) لم تعني أن الناس يمتلكون قدرات بدنية وفكرية متساوية بل تعني أن الناس جميعهم قادرون على التصرف بمسئولية تامة خاضعين للمسائلة الأخلاقية، فهناك إذا ارتباط فكري واضح مع تقييم لوثر للسيادة الفردية.

على أي حال بالنسبة للوثر إشراك السيادة الفردية كان لاهوتي أكثر من كونه اجتماعي أو سياسي فالأمراء سيظلون على حالهم وكذلك الفلاحون، ببساطة السيادة الفردية للوثر ليس لها أي آثار اجتماعية وسياسية على عكس الحرية الدينية الأمريكية والتي أخذت محلها في فرجينيا أثناء عصر الثورة حيث تضمنت اختلافات بسيطة والتي خلقت الاختلاف الكبير. ولاية فرجينيا جعلت الحرية الدينية تسري على كل أحد حتى أولئك الذين لا يملكون مؤهلات علمية أو لاهوتية، لوثر كان رجل دين واسع الاطلاع يمكنه أن يتصور المناقشات اللاهوتية فقط من خلال عدد بسيط من العلامات المتشابهة.

جيفرسن صور مدى النظام في ولاية فرجينيا عندما قال  “لا يضرني اعتقاد جاري بوجود عشرين إله أو نفي وجوده بالكلية فاعتقاده لا يسرق جيبي ولا يكسر ساقي “، وذلك ما سمي بحماية المبادئ العامة للمعتقدات الدينية، المعتقدات تميل لأن تكون أفعال وتلك الأفعال قد تؤدي في بعض الأحيان لإيذاء الآخرين كما حدث على مر التاريخ

، نظام جيفرسن الأساسي لولاية فرجينيا لم يضمن أي حماية لتلك الأفعال لكنه منحها للذين يحتفظون بمعتقداتهم كقناعات خاصة بهم. الفكرة هي أن الاعتقاد والأفعال ، الإيمان والحياة يمكن فصلها بسهولة لتطبيق العلمانية.

أهداف فرجينيا كانت على عكس أهداف لوثر فهم يعتقدون أنهم يحمون الأمة بفصل السياسة عن الدين ويحمون المجتمع السياسي من سموم بعض المتدينين،  ومن وجهة نظر لاهوتية، علمانيتهم كانت مبتدعة فهي قلصت دور الكنائس المؤسسة وفصلت الدين عن العالم وجعلته مسألة خاصة تخص الفرد، وهذه الخصوصية الإلزامية كانت أحد أوجه انتصارات العلمانية بالرغم من عدم اكتمالها.

الإيمان يميل الى تصور الإله وعيسى، الله، القرآن والإنجيل كسلطة لا تضاهى ولا شبيه لها فريدة من نوعها، بالتالي هي تفسر الالتزام العلماني بجعل الدين مسألة خاصة هرطقة وإثم.

ورغم أنها مسألة تاريخية كون العلمانية وليدة الأنجلو-بروتستانتية إلى أنه من الصحيح أيضا القول إن العلمانية الأمريكية في القرن الثامن عشر لم تكن نفسها بفعل المخاوف اللاهوتية، بدلا من ذلك الفلسفة قادتها وأهدافها كانت سياسية تماما.

أبسط طريقة لفهم الفكرة الأساسية للعلمانية هي أن نفهم أن المعنى الأصلي المضاد لها ليس ديني بل إلهي فالعلمانية تشير الى كل تلك الأشياء التي ليست من اختصاص الإله، فتنشغل العلمانية بالأمور الوقتية بينما ينشغل الله بالأمور الأبدية. ظل هذا المعنى الفلسفي للعلمانية كالدنيوي واضح وصريح عند الكاثوليكية للقانون العلماني أو قانون العالم والثقة والأرض والمواريث والتي كان من المفترض أن تتضمن الكنيسة. القانون العلماني يقف على النقيض من ذلك كله فهو دون القوانين الإلهية.

وفي الوقت نفسه استخدم جيفرسن مصطلح العلمانية في يوليو (١٧٨٨) حيث كانت في نفس هذا المعنى الفلسفي، كاتباً بحماس لأحد الأصدقاء عن عمل بييرا سيمون دي لابلاس ، عالم الرياضيات والفلك الفرنسي الذي اكتشف أن التسارع طويل الأجل وتخلف حركة القمر تتزامن مع تلك للشمس. ولا بلاس أثبت أن اختلاف مدارات الكواكب دليل آخر على (ليس بشكل منحرف) نظرية إسحاق نيوتن للجاذبية، وهذا الاختلاف أدى الى تكهن نيوتن بأن التدخل الالهي أبقى النظام الشمسي في حالة توازن مداري. اكتشافات لابلاس أزالت فكرة تدخل الله من السماء، فالسرعات المتتابعة للقمر كانت نتيجة قوى الجاذبية المكتشفة من قبل البشر والتي يمكن التعبير عنها رياضيا، لا بفعل يد الله.

خبراء الاقتصاد والإحصاء لازالوا يستخدمون مصطلح علماني على نفس سياق جيفرسون في التسارع طويل الأجل والتخلف، والذي يعني في الأساس التغير على المدى البعيد. في القرن الثامن عشر كان هناك سؤال بسيط :هل كان لـ الله تدخلات في هذا العالم؟ بالنسبة لجيفرسون اكتشاف لابلاس حسم الأمر،  فالله لم يكن له أي تدخل في الكون وذلك سبب الكثير من الانفعال بسبب السلطة الكبيرة التي كانت لدى المفكرين التنويرين وبسبب كونه سياسي. جيفرسون جلب هذه الفكرة الفلسفية الأساسية في ملاحظاته على ولاية فرجينيا (١٧٨٥)يشرح فيها أصل جبال البلو ريدج ووادي شيناندواه حيث قدم شرحا جيولوجيا يتحدى فيه الفهم المسيحي للخلق تحديا مباشرا. فقد كتب جيفرسن لكل من يطّلع  ويبحث في جبال بلو ريدج أنه”يمكن أن يرى أن الأرض تم إنشاؤها في الوقت المناسب حيث أن الجبال تشكلت أولا ثم بدأت الأنهار في التدفق بعد ذلك وفي هذا المكان بالتحديد تم حصرها بجبال بلو ردج ثم أكمل “فحص بسيط للتضاريس كشف كيف أن المحيط قد ملأ في مرة واحدة النهر حيث شق الجبل, وكذلك فحص بسيط للصخور يشهد كيف تشكلت بواسطة قوى ضد الطبيعة” هذه الجملة” الأرض تم إنشاؤها في الوقت المناسب و” القوى ضد الطبيعة” لم تكن مصطلحات دقيقة فتاريخ الطبيعة بدل قصة الخلق الخارقة للطبيعة . وفيزياء لابلاس شرحت كيفية عمل الأكوان, والجيولوجيا كذلك (لا اللاهوت) تشرح ملامح الارض .

بالنسبة للمفكرين التنويرين هذه الاكتشافات في الفيزياء والجيولوجيا جلبت معها عواقب سياسية مباشرة، إذا كانت الفيزياء أحدثت الأكوان والجيولوجيا درست ملامح الأرض، فذلك يجعل للناس حق وضع قوانين المجتمع السياسي . وفي افتتاح وإعلان الاستقلال عام (١٧٧٩) -عندما تكون في مسار الأحداث البشرية -يجسد هذا ارتفاع التاريخ والسلطة البشرية على اللاهوت والسلطة الإلهية. الأحداث هي أحداث إنسانية طالما أن الإله ليس له أي التزام سياسي سلطوي، الناس يستطيعون اختيار الحلول وإعادة صياغتها ذلك هو سبب الإعلان الذي قيل فيه إنه في بعض لحظات التاريخ يصبح من الضروري على شخص من الناس أن يحل القيود السياسية والتي تربطهم مع بعضهم البعض وعلى العكس من ذلك شخص واحد لا يمكنه حل الالتزامات الإلهية فهي أبدية من صنع الإله. إنه ليس من الصعب جدا فهم المسار الذي قاد لتطور السيادة الفردية من البروتستانتية الأصلية إلى علمانية القرن ١٨ والتي امتدت بعد ذلك لحق الضمير الفردي للجماهير، وليس صعبا كذلك أن نرى كيف أن الفلسفة العلمانية وفرت أسباب قوية لفصل السياسة عن الدين إلى مجالات مختلفة ولكن عندما يتعلق الأمر بالعلمانية نفسها والتي تبني مؤسسات لزرع أهداف علمانية عميقا في المجتمع هنا فقط يصبح من الصعب ذلك.

وصلت العلمانية الأمريكية الى طريق مسدود في الحياة السياسية حيث أن المشكلة البسيطة كانت تكمن في عدم شعبيتها، عدم الشعبية كان أحد أسباب بقاء العلمانية الأمريكية غامضة، عادة الأفكار السياسية الكبيرة تأتي للعالم بأسماء ومصطلحات معينة ويكون لها مؤيدون ومناصرون، غالبا كتابيا. في إعلان الاستقلال أعلنت الولايات المتحدة الاستقلال الوطني وكذلك أعلنت عن نظرية جديدة للسيادة في العالم وسرعان ما دخلت الأدب السياسي العالمي، تفاصيل الأوراق الفدرالية وضحت مبررات الدستور للولايات المتحدة الامريكية.

عند ولادة الأفكار السياسية الكبيرة كما هو الحال في إعلان ميلاد وريث لولي العهد . بيان العامة المصطنع يدعو الى نقل الشرعية، في بعض الأحيان الأسماء تصل بعد ذلك بوقت قصير ، البيان الشيوعي لماركس و إنجلز خير مثال على ذلك  لكن لم يكن هناك بيان للتفاصيل العلمانية ولا إعلان ولادة لها.

تاريخيا كان هناك بعض الظروف الغريبة ، الثورة تؤدي إلى إنجاز تاريخي ولكن البدايات والعوامل لهذا الإنجاز وحتى أصولها المحددة بشكل معتدل بقيت غامضة وغير معلنة، لا أحد تقدم بعرض نظرية للمفهوم أو أي بيان رسمي لإيضاح  مبادئها ولا أحد استخدم المصطلح، والشيء نفسه لم يكن حتى على أسس ذات مبادئ، معروف. فقط من خلال محادثات خاصة بين ماديسون وجيفرسون وحلفائهم في محاولة منهم لدفع المقاييس العلمانية من خلال المجلس التشريعي لولاية فرجينيا.

في منتصف (١٧٨٠) والتي كشفت عن وجود خطة لن تكون أبدا، خطة تدرك تمام الحقيقة أن المجتمع العلماني سيعتمد على المؤسسات العلمانية، الفصل بين الكنيسة والولاية لم تكن فكرة فقط بل كان فعل سياسي، فعل سياسي صعب التحقيق، في ولاية فرجينيا في عهد الثورة كان دعم الكنيسة للبريطانيين في حرب الاستقلال قدجعلها ضعيفة حيث دعمت ٩١ رجل دين قبل الحرب وبعد السلام في باريس في عام (١٧٨٣)و تبقى فقط ٢٨ من رجال الدين الأنجليكيين في ولاية فرجينيا والتي يبلغ عدد سكانها٦٩٠٠٠٠ نسمة ولا زال أغلب الناس يتوقعون أن الكنيسة الأنغليكانية ستبقى الكنيسة الرسمية  لولاية فرجينيا وأن فيرجينيا ستواصل الاعتراف بالمسيحية، باترك هنري قبل أن يصبح حاكما أعد مشروع قانوني يدعو ولاية فيرجينا للاعتراف بالمسيحية باسم الدين الحق وأن على كل مواطن دفع العشر الإلزامي للحكومة، ودعا أيضا الى الاعتراف بوجود الجنة والنار و أن العهد القديم والجديد من أصل الهي وأن يعبد الإله المسيحي علنا، جون مارشال وجورج واشنطون وغيرهم من السياسيين الآخرين دعموا مشروع هنري.

ومع ذلك فإن الرقابة الإجرائية على جزئية هنري أدت إلى تأجيل التصويت على مشروع القانون وأما ماديسون فقد شرع للتطبيق، جيفرسن وماديسون كانا معارضين وبشدة للكنيسة، والاعتراف بأي دين للدولة, وعلى الرغم من أنهما كانا يعلمان أن وجهات النظر التي يحملانها ضد الدين لم تكن تحظى بشعبية كبيرة وليس لديهما الفرصة لنشر مبادئهما, بدلا من ذلك ماديسون خطط لترويع القساوسة، والمعمدانيين وغيرهم من الطوائف المتناحرة بتخويفهم من أن الكنيسة الرسمية للدولة ستكون الكنيسة الأنغليكانية القمعية وليحقق غايته كتب الانتقاد: العريضة والاحتجاج ضد التقييمات الدينية(١٧٨٥). نجحت العريضة لأن كل طائفة من المسيحيين في فيرجينيا أرادت أن تكون كنيستهم هي الكنيسة الرسمية للدولة وإذا لم تكن كنيستهم فإنهم لا يرغبون بكنيسة أخرى.

الكراهية المتبادلة بين الطوائف أصبحت أكثر اشتعالا، كتب ماديسون لتوماس جيفرسون (١٧٨٥) “أنا بعيد كل البعد عن كوني آسف لما حصل” الصفة الرسمي لولاية فيرجينيا أو الفصل بين الولاية والكنيسة أصبح نموذجا للفصل الوطني ولكنه كان ممكنا فقط من خلال مجموعة من البرلمانيين الدجالين ونخبة من الطائفيين المتلاعبين الكارهين.

أول فصل سياسي بين الكنيسة والولاية كان حينها بمقياس سلبي بحت, حيث يعادل القيام بإبادة وتطهير الغابات لهدف البناء فقد دمر ما رأته العلمانية كامتياز عام غير طبيعي لمؤسسة فاسدة والتي تحمي أصحاب المصالح في الخرافة والاستبداد، التدمير على أي حال لم يكن يكفي لخلق مجتمع علماني بل وجب اتخاذ تدابير إيجابية وتبديل دور الكنائس وخاصة في وظائفها الاجتماعية.

لم يصف أحد هذه الحاجة أفضل من جان بول المخطط في النظام التعليمي للدولة الفرنسية “السر كان معروفا جيدا عند الكهنة ” قال عام(١٧٩١) ” هم يأخذون العقد من الرجل عند ولادته ومرة أخرى في طفولته ومراهقته  وبلوغه، عندما يتزوج وينجب أطفالا و في لحظات حزنه وندمه وفي خلوته بضميره وفي مرضه وموته” المدارس العامة يجب أن “تعمل تحت اسم الحقيقة والحرية “وأما الكنيسة “غالبا تعمل تحت اسم الخطأ والعبودية”

ببساطة المجتمع العلماني يتطلب تأسيس المدارس والمكتبات العامة حيث تدار من قبل معلمين مؤهلين، وكان على التعليم العلمي والفلسفي استبدال التأثير المعنوي والبرامج الاجتماعية والتعاليم التاريخية من الكنائس. في جلسة الجمعية لولاية فرجينيا (١٧٨٥-٨٦)اقترح جيفرسون ثلاثة مشاريع قانونية تهدف لإنشاء مؤسسات لعلمنة المجتمع في فيرجينيا، اقترح مشروع قانوني لإنشاء نظام مدرسي غير ديني منظم بواسطة المقاطعة أو الإقليم ويوفر تعليم مجاني من خلال الصفوف الابتدائية المنظمة، لقطع روابط كلية وليام وماري التابعة للكنيسة وجعلها أحد الكليات الجمهورية وإنشاء نظام مكتبة عامة يتمحور حول العلوم والفلسفة والتربية المدنية. أحد حلفاء جيفرسون وصف الطموح والتدابير المتخذة على أنها اقتراح خطة جميل وبسيط حيث أنه مكن العلم من الوصول لكل بيت.

العلمانية الأمريكية في القرن ١٨ فهمت أن الدين جلب عالم من الأفكار (حياة اجتماعية كاملة في بعض الأحيان) كما أنه جلب فرصة سياسية لفرجينيا، للغني والفقير. القليل جدا من الناس سيديرون ظهورهم عن كل هذا لمجرد الخروج من مبدأ سياسي. العلمانية تقدم بدائل حقيقية: مدارس -مكتبات -أفكار- قصص- نماذج للمجتمع، حياة نشطة و مستمرة لفيرجينيا، ملاحظات جيفرسون على ولاية فرجينيا شرحت الخطة التي سيتم من خلالها تنظيم المدارس العامة واستبدال التاريخ المقدس بالتاريخ الحقيقي المدنس، المدارس ستصبح مجانية للجميع لمدة ثلاث سنوات ، والاختبارات ستخرج أفضل الطلاب من البيئات الفقيرة وهؤلاء الطلاب سيحصلون على المزيد من التعليم الأفضل على حساب الدولة من خلال كلية وليام وماري، وكتب جيفرسون إنه و بهذه الوسائل سيتم انتشال العباقرة من القمامة.

والهدف من ذلك كله كان توفير التعليم المناسب للأشخاص الذين يتعين عليهم العمل كمواطنين، أشار كذلك إلى أن الأطفال لابد أن يتلقوا تعليما جيدا في اللغات والتاريخ الأمريكي والرياضيات والعلوم بدلا من وضع الكتاب المقدس والعهد في أيديهم حيث أن أحكامهم لم تنضج بما فيه الكفاية، وكتب أيضا أنه لا يوجد قانون أكثر شرعية من توفير الفن العلماني وتعليم العلوم للشعب كله،  فإن ذلك يجعلهم أوصياء على حريتهم الخاصة.

وبالتأكيد الخاسر الأكبر من هذا التنظيم هي الكنائس ولكن معارضتهم منعت ذلك حيث أن طبيعة المجتمع الزراعي الجنوبي لا تتوافق مع البدائل المحتملة مثل أنظمة المدارس الحكومية والمكتبات التي تديرها الدولة  للسلطة الزراعية، المفكر الأمريكي العظيم للقرن ١٩ والذي كان تحت رحمة العبودية (فريدريك دوغلاس) دعا الى محو الأمية في سيرته الذاتية” الطريق من العبودية الى الحرية” حيث أشار الى أنه أخبر سيده أن يعلمه الأبجدية “ستنتهي العبودية بمجرد تعليمك للعبيد كيف يقرأون ويكتبون”.

السلطة الزراعية لم تود تعريض  نفسها للخطر من أجل رؤى القليل من الربوبيين المنحرفين، وفي الوقت نفسه كان هناك سبب كون الإنجيل الكتاب الوحيد الذي سُمح للعبيد باقتنائه والتنقل فيه بحرية حيث أنه يجيز العبودية ويلزم بالطاعة والاستسلام  للسيد “على العبيد طاعة ساداتهم والخضوع لهم كما يجب أن تكون الطاعة للمسيح “(…..

كان الرق ببساطة أكثر أهمية لبناء المجتمع الأمريكي من العلمانية.

العلمانية الأمريكية شهدت الانتصارات والهزائم القاسية، الهرطقة الأنجلو-بروتستانتية التي أرادت وضع جميع أعضاء المجتمع السياسي تحت السيادة الفردية أصبحت عقيدة أمريكية، ومن المؤكد أنه عندما يهب الله الأنسان يقظة الضمير يصبح قادرًا على تمييز ومعرفة الحقوق الإنسانية، على أي حال العلمانية الأمريكية فشلت في بناء المؤسسات التي كانت ستحاول منافسة الدين في اتساعه وانخراطه في حياة الناس، أما الأمريكيون المتدينون فقد جعلوا من التعليم العام عدوا لهم- فهو ولا بد أن يكون علمانيا- حيث أن العلوم الإنسانية تقدم عوالم وتفسيرات لا توفرها الكتب المقدسة كما أن التعليم في الكتب المقدسة تحديدا يعد لقاحا فعالا ضد النزعات الاستبدادية الدينية، فتاريخيا الغرض من التعليم العام في الدول القومية الحديثة هو جعل الناس مواطنين و لم يكن الغرض جعلهم متدينين بطريقة أفضل.

وأخيرا من المهم التأكيد على أن للعلمانية أنواع وليست كلها متساوية بالتأكيد ظهرت العلمانية من اللاهوت البروتستانتي والفلسفة حولته من هرطقة الى مبدأ سياسي حديث ولكن بالنسبة لأنصار القرن ١٨ فقد كان بذرة مشروع سياسي، المجتمع العلماني كان متأكد أنه بالعلمانية سيكون أكثر تنويرا وسلمية وعدلا، ولكن العلمانية الأمريكية لم تف تلك الجوانب من وعدها، هي حتى لم تعلمن الحياة السياسية الأمريكية وسواء أكان ذلك خطأ من حيث المبدأ أو أن العلمانية لم تتعمق بما فيه الكفاية إلا أن موضوعها مفتوح للنقاش. و يجدر بنا أن نتذكر أن العلمانية الأمريكية كانت من المفترض أن تكون وسيلة لا غاية.