مجلة حكمة
كيف يحكي الغرب العالم - كارولين بوستيل-فيني / ترجمة: محمد نجيب فرطميسي

كيف يحكي الغرب العالم – كارولين بوستيل-فيني / ترجمة: محمد نجيب فرطميسي

كارولين بوستيل-فيني
كارولين بوستيل-فيني

نسخة PDF


فكّرت أوربا في العالم قبل أن تفكر في ذاتها، لذا فهي تعمل اليوم جادة لتحديد مكانتها و دورها في المشهد الدولي كما تسعى جاهدة لرسم معالم هويتها. لم تكن هذه هي انشغالات رجال السياسة و الدبلوماسيين و المثقفين الأوربيين عند نهاية القرن التاسع عشر. لا تستدعي الضرورة في نظرهم التفكير في أوربا، إذ الأمر مسلم به، ما دامت أوربا بالنسبة لهم هي الحضارة الوحيدة الجديرة بهذا الاسم. اعتبر جيل فيري Jules  Ferry  سنة 1885 أن دور الاستعمار ” دور تمديني ” يقوم به الغرب، من أجل أن تشع بنوره على ” الأجناس الدنيا ” و هو ما اعتبره الشاعر الانجليزي كيبلن R. Kipling ” عبء الرجل الأبيض “. لم يكن الشغل الشاغل آنذاك إضفاء معنى على أوربا،  بقدر ما كان تنظيم العالم برمته على صورتها.

من الصعيد الأوربي.. إلى الصعيد العالمي

لا مثيل لهذا المشروع، على صعيد العلاقات الدولية. لقد حرصت القوى الأوربية على تقنين العلاقات بين الحكومات في إطار القارة الأوربية. تجلى ذلك في مؤتمر فيينا (  المنعقد سنة 1815 ) الذي جمع ملوك أوربا، بدء من ملك بريطانيا العظمى إلى قيصر روسيا. تغيّرت  فيما بعد إرادة تنظيم العلاقات بين الدول: كانت قارية. أصبحت و لأول مرة، عالمية.

عرفت أوربا عند النصف الثاني من القرن التاسع عشر تحولا سوسيواقتصاديا مذهلا، ألقى بظلاله على باقي الدول. تطورت وسائل التواصل بكيفية سريعة، انتقلت شبكة السكك الحديدية الدولية ما بين سنة 1840 و سنة 1880 من 8 ألف كلم إلى 370 ألف كلم. ظهرت تقنيات جديدة كالتلغراف و الهاتف فيما بعد. فرض ” التبادل الحر ” نفسه لغة و ممارسة، فتضخم تدفق الأشخاص و الممتلكات و رؤوس الأموال العابرة للأوطان. أطلق بعض علماء الاقتصاد على هذا الوضع مصطلح ” العولمة الأولى “1. كما شكّل أيضا ذروة الغزو الاستعماري، إذ هيمنت أوربا، مع مطلع القرن العشرين، على جل دول المعمور، بمراقبتها مباشرة في أغلب الأحيان. في هذا السياق اعتبر حكام أوربا و مثقفوها أن الضرورة تستدعي، من الآن فصاعدا، التفكير في العالم بأسره.

كانت العولمة الجديدة واقعا و مشروعا في الآن معا. سعت الحكومات الأوربية جادة، على غرار إعلان غيوم الثاني سنة 1896 عن ” سياسة عالمية ” لألمانيا، لإعداد تصور عالمي عن شؤونها الخارجية: ما دام هذا هو مقام قوتها، فمن اللازم إذن تنظيم العلاقات بين الدول، بكيفية مقبولة على الصعيد العالمي.

كانت معاهدة التسوية السلمية للصراعات الدولية ( 1899 ) محاولة طموحة في بعدها الكوني. تجاوزت إلى حد بعيد الإطار الذي حدده مؤتمر فيينا سنة 1815 إذ شملت أيضا أباطرة الصين و اليابان و ملك سيام و شاه الفرس و السلطان العثماني. عقب هذا اللقاء بلاهاي رأت المحكمة الدائمة للفصل في النزاعات النور. كانت بحق أول هيئة حقوقية ذات حمولة كونية تسعى لتسوية الخلافات بين الدول و ما زالت تشتغل إلى اليوم.

انشغلت الإرادة الأوربية لتنظيم العلاقات الدولية على الصعيد العالمي بما هو تقني و وظيفي. دعا الأوربيون لعولمة التبادل، بالكيفية التي تطورت عليها خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر، لكنها تجاوزتهم في نفس الآن في بعض جوانبها. هكذا فإن التطور السريع لتقنيات التواصل يفسر إنشاء الاتحاد الدولي للتلغراف سنة 1865 ( سلف الاتحاد الدولي للاتصال ) للتوفيق بين المصالح الوطنية ذات الطابع السياسي و التطور العالمي لأداة ـ التلغراف ثم التليفون ـ  لا تعرف بحكم طبيعتها الحدود بين الدول.

كان تأسيس الاتحاد الدولي للبريد سنة 1874 و المكتب الدولي للوزن و القياس( 1875 ) و الجمعية الدولية لمؤتمر السكك الحديدية ( 1884 ) بمثابة جواب عن ضرورات سياسية و اقتصادية متشابهة. بدأت أيضا تتشكل، في سياق العولمة، لغة دولية جديدة. كما انعقدت و بكيفية منظمة بين سنتي 1875 و 1907 مناظرات تهم مجال الصحة، توجت بإنشاء المكتب الدولي للصحة العمومية، اللبنة الأولى للمنظمة العالمية للصحة. كان لهذه المحاولات المتعددة التي صاغها الأوربيون بأنفسهم و لصالحهم، تأثير قوي على باقي دول المعمور، بما في ذلك الدول المستعمَرة و غير المستعمَرة.

شكّلت أوربا آنذاك أقوى تحد للعالم غير الغربي، لعل اتساع رقعة هيمنتها الاستعمارية خير تعبير عن ذلك. لا يقاس، مع ذلك، هذا التحدي في مظاهر مادية محضة، سواء أكانت عسكرية أم تقنية أم تجارية، بل يكتسي أيضا بعدا استكشافيا: قدرة الأوربيين الفائقة على إنتاج شبكة لقراءة العالم لا مناص منها. فرضت القوى الأوربية، باستحضارها للعلاقات بين الحكومات على الصعيد العالمي و بتصورها لنظام سياسي دنيوي يكتسي بعداً عالميا، على البلدان الأخرى القيام بتمرين عسير في جانبيه: إذ كانت  رؤية الأوربيين للعالم غريبة عنهم كليا، كما استحال عليهم عمليا، من جهة أخرى، تقديم بديل آخر. هذه  بالضبط هي حالة الإمبراطوريات الأسيوية ـ العثمانيون و الصينيون ـ  التي قاومت جاهدة الاستعمار الأوربي. لم تكن وضعية هذه الإمبراطوريات هي نفس وضعية الدول المستعمَرة، دول لا حول و لا قوة لها، و لا هي وضعية دول أمريكا الشمالية و الجنوبية التي تشكلت جراء الغزو الأوربي لأمريكا، و التي اندمجت عمليا في المشهد الدولي الجديد. واجه العثمانيون و الصينيون، إلى جانب اليابانيين و الكوريين، وضعا معقدا و مبهما. كل واحد منهما يتمتع بنظامه الدولي الخاص به؛ الباب العالي بالنسبة للعثمانيين و إمبراطورية الوسط بالنسبة للصينيين. يتعذر ، سواء من الجانب العملي  و المادي أو الثقافي، التخلي عن ذلك النظام، القيام بهذا معناه الخضوع لسلطة الأوربيين و السقوط في أحضانهم. تمارس السلطة، سواء في اسطنبول أو بكين، بواسطة ما يمكن تسميته ” كوسمولوجية محلية “: نظرة للعالم تنشد الكونية لكنها على الصعيد الجغرافي لم تكن بالضرورة عالمية.

الحضارة و البرابرة

كان هذا مجمل الاختلاف بين الأسيويين و الأوربيين عند نهاية القرن التاسع عشر. تستند النخبة في إمبراطوريات الشرق العتيقة لنظام دولي يشتغل في حدود قارة لم  تتحدد تخومها بشكل واضح. هذا هو واقعهم. ما هَمّ بالنسبة إليهم إن لم يكتس ” عالمهم ” أبعادا عالمية، إلى أن أرغمهم الأوربيون، بحكم تفوقهم، على تعديل وجهة نظرهم و تغييرها.

نظام الجباية في إمبراطورية الوسط هو في الآن نفسه نظام دولي ـ بمجمل معاييره و قواعده الاقتصادية و الدبلوماسية و الفلسفية ـ و تصور عن العالم يقوم على مبدأ مركزية الصين. هي ” الحضارة ”  (wenming ) و الدول الأخرى ” برابرة ” ( yi ) ما داموا خارج العالم. تمثلت إرادة الأوربيين، على رأسهم الإنجليز و الفرنسيين، في مراقبة الإمبراطورية الصينية من خلال إعادة النظر في نظامها.

اضطرت بكين، بعد أول اصطدام عسكري، و بعد انتصار انجليزي سنة 1842 للاعتراف بالكيان البربري و إدماجه في أفقها الكوني ( الكوسمولوجي). كما تخلت السلطات الصينية عن استعمال كلمة (yi  ) “برابرة ” من وثائقها الرسمية بعد انهزامها أمام الأوربيين سنة 1858. لقد فرض النظام العالمي، الذي تم  إقراره في لندن و باريس و برلين، نفسه تدريجيا في ربوع آسيا المفترض أن تكون مستقلة من البوسفور إلى المحيط الهندي. تُرجم انهيار الإمبراطوريات الأسيوية إما بخضوع كلي للغرب، أي الاستعمار أو الحماية، أو باندماج عسير و أليم لقواعد الغرب. سقطت الفيتنام سنة 1862 تحت الهيمنة الفرنسية، خرجت كوريا من نظام الجباية و انخرطت بعد تردد كبير في عملية عصرنة في صورتها الغربية، لكنها لم تذهب بها إلى أبعد مداها. اضطرت اليابان، بدء من سنة 1868، جراء اضطرابات و فتن داخلية متعددة، للقيام بإصلاحات جذرية وفقا للصيغة المشهورة آنذاك: ” الخروج من آسيا و الالتحاق بالغرب “ 2. أصبحت طوكيو أول حكومة أسيوية تتمتع بدستور و أول دولة خارج الغرب تقييم تحالفا مع القوى الأوربية ـ المعاهدة اليابانية الانجليزية لسنة 1902 ـ مما أتاح لها الدخول في تجربة إستعمارية بفرض وصايتها على كوريا بدء من سنة 1905 .

مهما كانت إرادة كل الدول غير المستعمرَة في الإصلاح، فإن ضرورة إدماج مجمل القواعد الكونية التي سطرها الغرب قد أضحى واقعا لا مفر منه. كانت كل الدول مدعوة، مهما استطاعت لذلك سبيلا، لاحترام القواعد الجديدة، إن هي أرادت ألا تقصى من اللعبة العالمية. من هنا نفهم حضور العثمانيين و التايلاند و الفرس و الصينيين و اليابانيين للاهاي سنة 1899 للجمعية التأسيسية لحل النزاعات الدولية سلميا. لا يعبر هذا عن حوار صادق بين الشرق و الغرب، كانت علاقات القوى بين الأوربيين والأسيويين غير متكافئة بالأساس لكي يحصل وفاق بينهما، بكل ما لهذا المصطلح من معنى. لقد كان الأمر بالأحرى انعكاسا  لواقع سياسي جديد.

تصور الأوربيون من الآن فصاعدا العلاقات الدولية على صعيد الكرة الأرضية، كما جسدوا هذا التصور من خلال مشروع دبلوماسي عالمي. كان الأسيويون ملزمين بالمشاركة فيه و إن كان دورهم ثانويا ، يؤثت المشهد الياسي ليس إلاles figurants  . المساهمة في المشهد العالمي الجديد، هو أيضا اعتراف بأبعاده التقنية، من خلال الانخراط في المنظمات العالمية حديثة النشأة. التحقت إمبراطورية اليابان بالاتحاد الدولي للتلغراف سنة 1879 و مملكة التايلاند سنة 1883 . لقد عبر دعاة الإصلاح الشرقيين، في مقدمتهم اليابان، عن رغبتهم في الاندماج عالمي، إذ غيروا  نظامهم الاجتماعي كليا  باعتماد  مؤسسات تعود في الأصل للأوربيين كالمدرسة الإلزامية و سياسة الصحة العمومية.

الهيمنة الأمريكية الصاعدة

تتجلى العولمة التي رأت النور في أوربا عند نهاية القرن التاسع عشر في مظاهر مختلفة: نمو مذهل للتبادلات العابرة للحدود، مصحوبة إصلاح عميق لكل المجتمعات، سواء المهيمِنة  أو الخاضعة للهيمنة.

كانت العولمة أيضا بناء يعكس إرادة الغربيين و قدرتهم على التحكم في  مجريات الواقع بكيفية جيدة كي يتسنى لهم مراقبة نتائجه. هكذا استمرت مسيرة الأوربيين إلى حدود سنة 1914 . سينهار بعد هذا التاريخ حجم التدفق التجاري و المالي بكيفية متواصلة و لن يستعيد عافيته إلا بعد عقود عديدة، أي عند الثمانينيات، عندما بدأت العولمة الثانية تتشكل. كانت الحرب العالمية الثانية، فضلا عن ذلك، بداية للتراجع الجيو سياسي الأوربي لصالح الولايات الأمريكية.

أقام الأوربيون مشهدا دوليا عالمي الأبعاد، ساهموا في معماريته العامة، لكنهم لم يقدموا فعلا سيناريو يرسم ما سيحدث. بعبارة أخرى لم يتصور الأوربيون بالضبط تاريخا عالميا باستثناء جملة ملاحظات و تأملات متباينة و مختلفة حول ” المهمة الحضارية ” التي يضطلع بها ” الرجل الأبيض “. كان إن صح القول نزوع القوى الأوربية نحو الهيمنة على الصعيد العالمي غاية في ذاته فقط. أما الأمريكان فسيكتبون من جهتهم حكاية جيوـ سياسية مغايرة، تطمح لصياغة تاريخ مشترك للعالم بأجمعه.

انخرطت الولايات المتحدة الأمريكية في الحرب العالمية الأولى ( 1917 ) متمسكة بخطاب مغاير كليا لحلفائها الأوربيين. لقد أكد الرئيس الأمريكي توماس ويلسن  T.W.Wilson البداية أن بلاده لا تحركها طموحات استعمارية ( ترابية ) خلافا لحكومات القارة العجوز و أن مواطنيه يقاتلون قبل كل شيء دفاعا عن الحرية، أي ضد الاستبداد الألماني و الأنظمة الكليانية الأخرى و لا وجود لأية إحالة للاستعمار و فضائله المفترضة: استثمرت أمريكا تجربتها الخاصة، تجربة شعب حصل على استقلاله من المملكة المتحدة ـ جاعلة منها خطابا كونيا. ستكون أمريكا دائما إلى جانب الدول الحرة، هذا هو ” قدرها المحتوم “.

بهذا يكون ويلسون قد وضع آنذاك أسس أعظم حكاية، سيتداولها، عند كل معركة حاسمة  تخوضها الولايات المتحدة، من تعاقب على السلطة بعده. إنها حكاية صراع على الصعيد العالمي بين  الخير و الشر. يحيل الأول مع ترومان على الحرية و يرتبط الثاني بالفاشية و الكليانية ، ليتجسد أخيرا مع بوش في الإرهاب عشية تفجيرات 11 شتنبر 2001.

شكلت خطابات فرانكلين روزفلت   F.Roosevelt( 6 يناير 1942 ) و ترومانH.S.Trumam   ( 12 مارس 1947 ) و جورج بوش G.W.Bush ( 21 شتنبر 2001 ) في مجملها دعوة للانخراط في صراع عالمي ـ الحرب الباردة ثم الحرب على الإرهاب فيما بعد ـ خطابات تتشابه بكيفية مدهشة في حجتها المبدئية، مع تصريحات ويلسون في أبريل 1917 . يعبر هذا عن معطى راسخ بإحكام في المخيلة الأمريكية و هو ما لم يؤخذ بعين الاعتبار من طرف الأوربيين في تأويلهم للعلاقات العابرة للأطلسي.

كان هناك شبه إجماع، إبان الحرب العالمية الثانية حول الحكاية الجيوسياسية الأمريكية.  نسجل أيضا أن البعد ” العالمي ” لهذه المعركة الثانية للحرية ضد أعدائها لم يكن بالضرورة واضحا بما فيه الكفاية بالنسبة لغالبية دول المعمور، بما في ذلك المستعمرات الأوربية، إلى غاية 1945. لم تكن واشنطن، إلى حدود 1919 ، فاعلا مهيمنا كما أضحت عليه فيما بعد، كانت تجد و تكد لكي تفرض تصورها الخاص عن العالم في وجه الأوربيين المتحصنين في مجالهم الترابي، كما كانت واشنطن أيضا في مواجهة منتخبيها الذين أهانوا ويلسون حين رفضهم لمشروعه الهادف لإنشاء عصبة الأمم. تغيرت هذه الوضعية خلال الحرب الباردة حيث فرضت أمريكا تصورا  يقسم العالم من جديد لقطبين: الحرية ضد الكليانية، الغرب ضد الشرق. صيغة ” الحرب الباردة ” 3 في حد ذاتها تم ابتكارها في الولايات المتحدة قبل تصديرها لدول المعمور.  رفضت حركة عدم الانحياز هذا التصور؛ العالم بالنسبة إليها شمال و جنوب، ثروة و فقر، إنها حكاية جيوـ سياسية مضادة لقيت أحيانا دعما من طرف الأوربيين، خاصة فرنسا.  تبقى اليوم أطروحة التقاطب الثنائي للعالم التي دافع عنها جورج بوش ـ الحرية في مواجهة أعدائها الذين يطلق عليهم ” الإرهابيين ” ـ معلَقة و لم يتم حولها الإجماع في السياسة الدولية. لكنها مع ذلك مقبولة، مع بعض الاختلافات، من طرف حلفاء الولايات المتحدة الأوفياء بمن فيهم بريطانيا العظمى و اليابان و أستراليا.

أمريكيا أمة حاملة لخطاب كوني

 كان دور الولايات المتحدة مثار خلاف كبير و لم يحصل حوله إجماع، كما وقع لحظة اجتياح العراق و مع ذلك فإن موقفها المهيمن يتعذر الوقوف في وجهه و الاعتراض عليه. بالإمكان البرهنة خاصة في مناخ سياسي يتسم بعدم اليقين أن الاتحاد الأوربي قد يكون الوحيد المؤهل لخلق توازن مقبول و مستساغ في وجه هيمنة كهذه، لو توفرت لديه الإمكانات. الحال أن المقارنة بين أمريكا و أوربا و التي تطورت بكيفية ملحوظة منذ 2001 هي في جانب منها وهمية. واشنطن فاعل يمتلك سيادة يشتغل بكيفية مركزية كلاسيكية تحكم العلاقات الدولية بين الولايات. الاتحاد الأوربي ليس بدولة، لا هي وطنية أو عابرة للوطن و لا يملك سياسة خارجية موحدة، قد نأسف لذلك، لكنه نقاش آخر. سلك الاتحاد الأوربي و الولايات المتحدة، بمعزل عن هذا الاختلاف الجوهري، مسارا متباينا جدا منذ 1945. واصلت أمريكا مسيرة تقدمها طيلة القرن العشرين. فرضت تدريجيا قراءتها الخاصة للعالم، قراءة لم يلحقها التغير طيلة قرن من الزمن. حافظت على صورتها الخاصة، صورة تشكلت بالكاد بفعل تقلبات الزمن و محنه، صورة أمة حاملة لخطاب كوني عن الحرية، مستعدة لحمايته و الدفاع عنه مهما كان الثمن. لم يكن هذا هو المسار الذي سلكته أوربا. لقد شكل ما بعد 1945 منعطفا حاسما بالنسبة إليها، إذ حصلت جل المستعمرات على استقلالها، كما ظهر للوجود فضاء أوربي للتعاون لا مثيل له.

فقدت أوربا باستقلال مستعمراتها مركزيتها في المشهد العالمي. أحدثت بإقامتها للمجموعة الأوربية أولا ثم الاتحاد الأوربي فيما بعد، نظاما دوليا جديدا لا على المستوى العالمي بل المحلي. لهنا اختلف تموقعها بشكل كبير عن ذاك الذي اتخذته أمريكا تجاه العالم. تستند أمريكا لتاريخها الوطني الخاص بها ـ أمريكا أرض الحرية ـ  بُغية تحديد ما هو كوني، في حين سلكت أوربا طريقا مغايرا: تنطلق من الكوني لتحدد المحلي. يعترف كل بلد عضو في الاتحاد بقيم أساسية ـ الديمقراطية، حقوق الإنسان و دولة الحق ـ معتبرا إياها مبادئ أساسية تخص مجموعة جغرافية محددة.

مهما كان مستقبل أوربا السياسي في القرن الواحد و العشرين، فما زالت إلى الآن مختبرا لعلاقات دولية فريدة من نوعها، تختبر فيه بشكل يومي أنماط جديدة للتعاون بين الحكومات و المجتمعات. مجموع القواعد و المعايير التي تنجم عنها غير قابلة للتطبيق خارج حدود الاتحاد الأوربي  و هذا ما يميزها في زمن العولمة. أوربا كما وصفها جاك ديلور  J. Delors شبيهة بجسم طائر مجهول الهوية  ovni  . إنها بمعنى من المعاني  صيغة ما بعد حداثية لإمبراطورية الوسط ، إنها ” كوسمولوجية محلية ” جديدة انطبع فيها المكتسب المشترك ( الاتحاد الأوربي ) بطابع ” الحضارة ” و من ليسوا كذلك هم ” برابرة ” اليوم. عاش الصينيون، هم كذلك في أواسط القرن التاسع عشر نفس الوضعية الأليمة حين وعيهم باستحالة تحكمهم في النظام العالمي، إذ لم يعد ” عالمهم ” هو ” العالم “. عرف الأوربيون هم أيضا، في النصف الثاني من القرن العشرين، و إن بكيفية أقل حدة، تجربة انزياح عن المركز، شبيهة بها. اعتقد الأوربيون عندما بدأ مشروع التعاون الإقليمي في التشكل مع مطلع الخمسينيات من القرن المنصرم، أنهم ما زالوا في قلب المشهد الدولي الذي كانوا من مهندسيه لعقود خلت، كما عبّر عن ذلك المؤرخ شارل زوركبيب  Ch. Zorgbibe قائلا: ” لقد امتزجت و لفترة طويلة فكرة الاتحاد الأوربي بفكرة تنظيم العالم ” 4. لم يعد اليوم هذا الالتباس ممكنا. خير دليل على هذا التطور مشكل رسم حدود أوربا.

أين تبدأ أوربا؟ و أين تنتهي؟ لا يرجع مشكل التوسع الذي طُرح بحدة بعد سقوط حائط برلين، للطلب المتزايد لدول المعسكر الاشتراكي سابقا للانضمام للإتحاد الأوربي. لقد أبانت نهاية الحرب الباردة، بما لا يدع مجالا للشك، ما أثبتته الأحداث لعقود خلت: البعد الإقليمي لا العالمي للتجربة الأوربية، إذ واجه الأوربيون بحكم تحصنهم في حدود إقليمية دولية لغز هويتهم.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

    • Berger. Notre première mondialisation. Seuil. 2003.
    • Fukuzaka Yukichi. Revue Jiji Shimpo. Mars 1885.
    • Lippman. The cold war. Harper & Brothers. 1947.
  • Zorgbibe. Histoire de la construction européenne. Puf. 1993.

كاتبة المقال  Karoline Postel-Viney مختصة في علم السياسة، حاصلة على دبلوم في الدراسات اليابانية. تهتم في دراساتها الأبعاد المكانية للعلاقات الدولية في زمن العولمة. من مؤلفاتها ” اليابان و آسيا الجديدة ” و كتاب ” الغرب و كلامه العذب ” ( 2005 ) الصادر عن منشورات فلاماريون Flammarion.

  • مصدر المقال:

Comment l’Occident raconte le monde.

Sciences Humaines. N :163. Sept 2005.  P 20 – 25