مجلة حكمة
كيف نــدرّس الأديان؟ - تقرير الفيلسوف ريجيس دوبريه

كيف ندرّس الأديان؟ – تقرير الفيلسوف ريجيس دوبريه / ترجمة: د. محمد الحدّاد


التقديــم

لم يكن تدريس الدين يمثل مشكلة كبرى في ظل مجتمعات متجانسة ومنغلقة على نفسها، لا تفهم من كلمة “دين” إلا ما تدين به عن طريق التقليد والوراثة. وقد بلغ من جمود التعليم الديني في المجتمعات العربية الإسلامية أن جامعات مرموقة مثل القرويين بالمغرب أو الزيتونية بتونس لم تكن تدرّس غير الفقه المالكي، ناهيك عن تدريس معارف تتصل بأديان أخرى غير الإسلام، أو تدريس مذاهب أخرى غير التراث السني، أو تدريس إسلام غير إسلام الفقهاء. والحقيقة أن هذا الوضع لم يكن مخصوصا بالعالم العربي الإسلامي، فالعالم الغربي في العصر الوسيط كان خاضعا أيضا لوصاية العقيدة الرسمية على المعرفة، وقد تدخلت الكنيسة أكثر من مرة لتحرم تدريس بعض النظريات والأطروحات، مثل قرارات تحريم دارسة الأرسطية والرشدية التي فرضتها جامعة باريس في القرن الثالث عشر. بيد أن الفارق بين العالمين الغربي والإسلامي أن الأول قد افتتح مسار العولمة منذ بداية نهضته في القرن الخامس عشر، فبدأت نظم التعليم تتغير تدريجيا، واختلفت النظرة إلى الآخر اختلافا بينا، وانفتحت المعارف على كل ما هو إنساني، وأصبح طبيعيا أن تخصص دراسي لتدريس الإسلام مثلا، بل أن يتولى هذا التدريس مسلمون مقيمون في مجتمعات ذات أغلبية مسيحية. ذلك أن العلمنة قد دفعت باتجاه اعتبار المعرفة قيمة قائمة بذاتها وألغت تدخلات السلطات العقائدية والسياسية لتوجيهها أو فرض ما تراه منها صالحا أو طرح ما تراه فاسدا. ومع الأسف لا يمكن القول إن المؤسسات التعليمية في العالم العربي الإسلامي قد تداركت الأمر مع مرّ القرون. فهذه المجتمعات لم تشهد النهضة إلا خلال القرن التاسع عشر أو بداية القرن العشرين، وسرعان ما طرحت آنذاك قضية الاستعمار والتحرر فتغلب التوجس من الجديد أن يكون مطية لتحقيق مآرب للهيمنة. والأغرب من ذلك أنه لما استقرت النظم الوطنية وبدأت تفكر في وضع برامجها التعليمية وقعت قضية تدريس الأديان ضحية مشتركة لموقفين متعارضين. فالتيار الحديث أو العلماني كان يناهض كل أشكال هذا التدريس بحجة أن الدين قضية شخصية لا علاقة للمؤسسات العمومية بها. والتيار التقليدي أو الديني كان يناهض كل أشكال التجديد الحقيقي في أنماط هذا التدريس بحجة أن الدين ليس معرفة وإنما هو مجموعة من القواعد المعيارية، العقدية والسلوكية، تحتكر نخبة مخصوصة العلم بها والتأهل لدراستها. وهكذا قامت فلسفة في التعليم ذات طبيعة “سكيزوفرينية”، إذ يدرس التلميذ أو الطالب في الفلسفة أفكار رينيه ديكارت وعمنوئيل كانط وبول ريكور دون أن يفهم شيئا من خلفيتها الدينية، ويطلع في حصص التربية الإسلامية أو الفلسفة الإسلامية على آراء ابن سينا وإخوان الصفا والغزالي دون أن يفقه شيئا عن ارتباطها بالفلسفات الأفلاطونية والأفلوطينية والغنصوية السابقة للإسلام والسائدة في الشرق عند ظهور الإسلام وبعد ظهوره بعدة قرون.

لقد دفعت الثورة الصناعية إلى موجة أولى من العولمة الثقافية خلال القرن التاسع عشر، وغمرت هذه العولمة ميادين كثيرة لكنها لم تغير شيئا يذكر من مناهج تدريس الأديان في مجتمعاتنا، مع أنها ساهمت في الغرب في تأسيس علم الأديان المقارن. بيد أن الثورة المعلوماتية الحالية التي دفعت بموجة ثانية للعولمة قائمة على تطور وسائل الاتصال ستؤثر حتما في هذا الميدان وستدفع إلى مراجعة مزدوجة: أولا، مراجعة المحافظين لمواقفهم التي لم تعد تتلاءم مع مجتمعات قائمة على احترام التعددية والمساواة بين المواطنين وتقديس الحرية الشخصية، فضلا عن اختراق التكنولوجيات الحديثة البيوت والأسوار والحصون بما لا يترك خيارا سوى تنظيم المعرفة تنظيما جديدا كي تنفتح على المختلف انفتاحا واعيا وإيجابيا. وهذا هو العامل الذي ينبغي أن يشجع اليوم على طرح قضية تدريس الأديان بطريقة حديثة. ثانيا، مراجعة العلمانيين لموقفهم لأن اعتبار الدين قضية شخصية، وهذا أمر نسلم به، لا يلغي كون الأديان حاضرة في السلوك الجمعي مؤثرة فيه، بما يترتب عليها من رؤى وتمثلات وموجهات سلوك، على أن الموقف العلماني التقليدي قائم على خلط غير مبرر بين مفهومين: الإيمان (foi) والدين (religion). فما هو شخصي هو الإيمان، أما الدين فهو بطبعه ظاهرة جماعية. وما نقصده بـ تدريس الأديان هنا هو تدريس الجانب الاجتماعي بالذات، أو ما يدعى الظاهرة الدينية أو الشأن الديني (fait religieux)، وهو موضوع معرفي لا إيماني.

لقد طرحت هذه القضية في عدة مناسبات أثناء السنوات الأخيرة، نشير مثلا إلى أعمال ندوتين أقيمت إحداهما في المغرب (1) والثانية في تونس (2). ويمكن أن نعاين حاليا نماذج عديدة في إدارة هذا التدريس، يتضمن كل منها ايجابيات وسلبيات. إنّ النموذج الأكثر انتشارا في العالم هو النموذج القائم على التعليم الرسمي للديانة الرسمية أو الغالبة. وهذا النوع من التعليم لا يطرح مشكلة في ذاته،  لكن إذا تعلّق الأمر بالتعليم العام فإنّ هناك العديد من الأسئلة التي تصبح مطروحة. فالمفترض أنّ التعليم العام يدرّس معارف متفق حولها، مثل الرّياضيات و العلوم الطبيعيّة وربّما التاريخ أيضا. لكن إذا تعلّق الأمر بالأديان فإن وجهات النظر تختلف بحسب انتماءات المتعلمين ووجهات نظر المدرسين أيضا. و النظام التعليمي العام مضطر حينئذ أن يعتمد أنظمة فرعية استثنائيّة، مثل إعفاء غير المنتمين إلى الديانة الغالبة من حضور الحصص التعليمية الدينية، أو تنظيم دروس موازية لهم محورها دياناتهم الخاصة أو تربية أخلاقية قائمة على أسس كونية. وتقتضي التجربة الفرنسية مثلا أن تنظم كل الدروس الدينية خارج المباني التعليمية العامة ، تأكيدا على حيادية التعليم الرسمي أمام الاختلافات الدينية والمذهبيّة في المجتمع. وتفاديا أن يقع تقسيم التلاميذ وأسرهم حسب انتماءاتهم الدينية ، وغاية ما يساهم به التعليم العام في هذا المجال هو منح التلاميذ يوما أو نصف يوم دون دروس ليتمكن من يرغب منهم في حضور دروس دينية خارج المباني التعليمية الرسمية.

لكن هذه التجربة لا تشمل أوروبا كلها، ففي إيطاليا مازالت البرامج الدراسية تتضمن حصة دينية (ساعة واحدة في الأسبوع على الأقل). كذلك تتضمن برامج التعليم في العالم العربي حصصا دينية بمقادير زمنية متفاوتة ومضامين واضحة الاختلاف بين بلد وآخر. وتعود مسؤولية إعداد البرامج ومراقبة تنفيذها إلى لاهوتيين أو مختصين في العلوم الشرعية (الكنيسة بالنسبة إلى المسيحية ومتخرجون من كليات الشريعة في العالم الإسلامي)، ويحظى مدرسو المعارف الدينية بنفس الوضع الإداري لمدرسي المواد الأخرى، وينظر إلى مادتهم التعليميّة على أنّها وسيلة للتربية الأخلاقية العامة ولترسيخ الهوية التاريخية للبلد. ويمكن عند الاقتضاء إعفاء غير المنتمين إلى الديانة الرسمية من حضور هذه الحصص.

فمن الواضح أنّه يمكن التمييز بين نموذجين، أحدهما قائم على التدريس الرسمي للديانة الرسمية أو الغالبة، والثاني قائم على مبدأ الحياديّة أو التدخّل الأدنى للتعليم العام في هذا المجال. ولئن كانت من مميزات النموذج الثاني أنّه يتجنب الطائفيّة ويتفادى تعميقها عبر النظام التعليمي العام، فإنّه لا يخلو بدوره من المشاكل. فهو يظن أنّه يجد الحلّ بتطبيق مبدأ السكوت عما لا يمكن الاتفاق حوله. وفي أحسن الحالات يختزل تدريس الأديان في الشكل الأدنى، بالحديث عن بعض المعطيات التاريخية العامة حولها: متى ظهرت ديانة ما ؟ ما اسم مؤسّسها؟  كيف   انتشرت  الخ . لكن هذه الطريقة في التدريس تشبه أن ندرّس شكسبير بمجرّد سرد سيرته الذاتيّة، لاشكّ أنّها طريقة غير كافية بل لعلنا نمضي إلى ما هو أبعد فنتساءل : هل هذه الطريقة حيادية فعلا؟  ثمة ما يدفع إلى الشك، ونعرض مثالا على ذلك. إنّ أغلب المصادر التي تسعى صادقة إلى تقديم عرض محايد للإسلام تبدأ بالحديث عن أركانه الخمسة. لكن المختصين مثلي في الدراسات الإسلامية يعلمون أنّ العدد خمسة لهذه الأركان (الشهادة، الصلاة، الزكاة، الصوم، الحجّ) إنما وضع في فترة متأخّرة عن ظهور الإسلام، وأنّ الشيعة يضعون الإمامة ركنا أوّل، وأنّ المعتزلة كانوا يقولون بالأركان الخمسة أو الأصول الخمسة لكنها كانت تعني عندهم أمرا مختلفا (العدل، التوحيد، الوعد و الوعيد، المنزلة بين المنزلتين، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر). فالمؤرخ الذي يعرض الأركان الخمسة رغبة منه في اتخاذ موقف محايد إنما يعبّر عن وجهة نظر أحد المذاهب الإسلاميّة ، فهو يخرج بذلك عن الحيادية دون قصد ولا إدراك . ولاشكّ أنّ الأمر يصبح أكثر تعقدا بالنسبة إلى أديان أخرى مختلف في المعطيات الرئيسية لتاريخها وحقيقة وجود مؤسّسيها .

وتوجد بين هاذين النموذجين تجارب أخرى متنوعة سعت إلى المحافظة على تعليم ديني في البرامج الدراسية العامة لكنّها فرضت التعدديّة وأقرّت نظاما صارما لمراقبة المحتويات كي لا تحيد عن المبادئ والقيم الأساسية المؤسّسة للمجتمع، ويمكن أن نتحدث في هذا المجال عن نموذج ثالث هو الذي ندعوه بالنموذج التعدّدي. يبدو هذا النموذج في أوّل وهلة أكثر ملاءمة للوضع الحالي لأنّه يمكّن كلّ مجموعة دينية من التمتّع بالتعليم الديني الأكثر استجابة لتجربتها بالمقدس، مع إلزام كل المجموعات بالتقيّد بالمبادئ الأساسيّة التي يرتكز عليها الاجتماع العام، مثل احترام الآخر والتسامح  والمساواة وحرية الاعتقاد، الخ. ومما لاشكّ فيه أنّ نقطة القوّة في هذا النموذج تكمن في احترامه لتعقد التنظيم في المجتمعات الحديثة وارتكازه على احترام حرية الأشخاص والمجموعات الدينية، وهو يتميز أيضا بنقطة قوّة أخرى إذ أنّه يجعل المجموعات الدينية تحت ضغط المجتمع كي تلائم تصوراتها مع قواعد العيش المشترك. فيمكن مثلا لمجموعة إسلامية في أوروبا أن تتمتع بحقّ تعليم الإسلام لأبنائها لكن ليس من حقها أن تضمّن هذا التعليم محاور مخالفة للقيم الدستورية، مثل تعدد الزوجات وتفضيل المسلمين على إتباع الديانات الأخرى والدعوة إلى العقوبات الجسديّة،  الخ. إنّ ضغطا من هذا القبيل من شأنه أن يساعد كلّ الأديان على تدعيم مساراتها الإصلاحيّة. ولم يكن ممكنا أن تصل الكاثوليكية إلى قرارات المجمع الفاتيكاني الثاني لولا خضوعها إلى ضغط اجتماعي من هذا القبيل. ويمكن أن نأمل في أن تسير كل التقاليد الدينية في مسار الإصلاح بما يلائم خصوصياتها كي تؤكد التلاؤم بينها وبين الحداثة (وليس المطلوب طبعا أن تقوم كل التقاليد الدينية بإعادة التجربة الغربية بحذافرها).

        إنّ الحضور الإسلامي في أوروبا، وقد غدا فيها الإسلام الديانة الثانية، قد دفع إلى مراجعة العديد من أوجه التوافق التي استقرت عليها هذه القارة بعد فترات طويلة من العنف والصراع. لكن ليس من الصواب أن نجعل الحضور الإسلامي عاملا أوحد لإعادة طرح القضية الدينية في أوروبا، فهناك ريح قوية لعودة الدين في أوروبا، وربما حاول الأوروبيون التقليل من شأنها، لكنها تمثّل اتّجاها عميقا لا يمكن إنكاره ، ولم يسلم منها أي مجتمع، حتى فرنسا “البنت المدللة” لللائيكية. ويترتب على هذا الوضع خضوع النظام التعليم إلى طلب حثيث بأن يقدّم حدّا أدنى من المعرفة حول الدين أو الأديان. ولا ننسى أيضا أنّ مسارات التوحيد الأوروبي قد طرحت قضية مراجعة البرامج والمسالك التكوينية، ولا شكّ أنّ هناك اختلافات جذرية بين التجارب الأوروبية في مجال تدريس الشأن الديني. بل لعلنا نذكر له أيضا بالتجربة الأمريكية التي تختلف اختلافا كبيرا عن أوروبا لكنها تظل تمثّل مسارا من مسارات الحداثة. وندرك أن أنظار العلم أصبحت تتجه أكثر إلى الولايات المتحدة وأنّ النموذج الأمريكي أصبح يستقطب الاهتمام وينتشر في أصقاع العالم على حساب النموذج الأوروبي المألوف. والمرجح أنّ القطاع الخاص سيكون له بعد عقود دور في التعليم لا يقل عن دور القطاع الحكومي. بل ربما قد يصبح هو الغالب (كما في الولايات المتحدة). فلن تكون المؤسسات الحكومية قادرة على أن تفرض وحدها قواعد اللعبة وتحدّد ما ينبغي أن يقدّم لمواطني المستقبل. والسيناريو الأسوأ هو أن نصل إلى نوع من التعليم الطائفي. إذ تستغل كل طائفة واقع الخوصصة (أو الخصخصة) لتفتح مدارسها وجامعاتها الخاصة وتضع المعرفة في قوالب طائفية. إنّ وضعا من هذا القبيل لن يهدّد تجانس المعرفة وكونيتها وحسب لكنه سيهدّد أيضا تجانس المجتمعات ويشكل خطرا على العيش المشترك.

 

من أجل نموذج تعدّدي مطوّر

        على عكس الظاهر، لا يخلو النموذج التعدّدي بدوره من بعض الشوائب، فلئن حلّ بعض المشاكل فإنّه يطرح أيضا مشاكل أخرى . وأوّل تلك المشاكل أنّه ينحرف عن الهدف الأصلي من التعليم . هذا الهدف يتمثّل في تقديم معارف تعتبر ، في الوضع لحالي للإنسانية، معارف متأكّدة ومتفقا حولها، مثل القواعد الحسابية والحقائق العلمية والجغرافية وقواعد اللّغات. وقد وقع الإقرار أيضا بأن من وظائف التعليم نشر قيم العيش المشترك وتقديم وجهة نظر اجتماعية ، أي أيديولوجية أيضا ، ليست معرفة بالمعنى الدقيق لكنها اعتبرت ضرورية للتجانس الاجتماعي ، وعلى هذا الأساس فإن التعليم الحديث اضطلع بدور كبير في ترسيخ مبدأ الوطن والمواطنة ، سواء في أوروبا أو في مستعمراتها القديمة. وتدريس الشأن الديني لا يقدّم معارف من النوع الأول كما أن ضرورته وقابليته للاضطلاع بالوظيفة الثانية ليستا متأكدتين (على سبيل المثال يمثل إقحام الإسلام في البرامج الدراسية في أوروبا اعترافا به وبالمجموعات التي تعتنقه وتمثله، لكنه يؤدي أيضا إلى طرح قضايا قد تؤدي إلى غضب المسلمين وامتعاضهم. ولنفترض أنّنا نعني بتدريس الشأن الديني تقديم معلومات تاريخية بحتة عن دين معيّن،  فإنّ ذلك لن يكون كافيا لتفادي الخلافات . وكل حديث عن دين يتضمن حتما جزءا من الذاتيّة. يضاف إلى ذلك أنّ الحقائق التي يتقبلها المؤمنون كثيرا ما تكون محلّ جدل لدى المؤرّخين. بل إن المصطلحات نفسها مخادعة، فاستعمال كلمات مثل “إسرائيل” أو “يسوع” أو “النبي” أو “محمد” يتضمن مخزونا هائلا من المسلمات أو المسلمات المضادة تختلف حسب طبقة المتقبلين ولا نتصوّر أي مدرّس قادرا على مناقشتها دفعة واحدة بالعمق والتفصيل اللاّزمين. أمّا الوظيفة الثانية للتعليم، أي تعميق فكرة الوطن والمواطنة، فليس متأكّدا كما ذكرنا أن تدريس الشأن الديني يقدّم مساهمة فيها، بل قد يكون فرصة لتفجير الخلافات في المجتمعات المتعددة الأديان.

        إنّ المجتمعات الحديثة لم تعد قائمة على أساس تنظيم ديني، بل لم تعد تعتبر الدين العامل الرئيس للمحافظة فيها على الأخلاق العامة، فقد أصبحت الأخلاق العامة مدنية بالأساس. يمكن أن نميل إلى فكرة حياد التعليم العام وترك المجال للتعليم الخاص ليقدّم لمن يريد وبالشكل الذي يريد تعليما دينيا، لكن هل سنقبل حينئذ أن تفتح مدارس أصولية، باسم حرية المجموعات في تدريس عقائدها خارج الإطار الرسمي؟ وما هي الجهة التي ستتولّى مراقبة ما يقدّم لتلاميذ التعليم العام خارج برامجهم الرسمية؟ مع أننا لو وضعنا كل أعباء المراقبة على المؤسسات التعليمية لما تخلصنا أيضا من المشكل. فالتاريخ ، ولو فهمناه بالمعنى الأكثر توسعا، لا يمكن أن يحلّ كلّ المشاكل وهو يظل رهينا  بالاختيارات الاجتماعية السائدة، عدا على كون كل التقاليد الدينية لا تحتكم إلى التاريخ في كل شيء، وهي تحتفظ جميعها بمناطق محرّمة وقضايا يعسر طرحها دون مشاكل كبرى، وهذه بعض أمثل منها: هل يمكن الحديث عن تاريخ الإسلام دون ذكر التنازع بين السنة والشيعة؟ وإذا ذكرنا ذلك أفلا نخشى دفع التلاميذ المسلمين إلى العودة إلى هذه المنازعات؟ هل يمكن أن نمنع اليهود من الإشارة إلى علاقة ما بين دولة إسرائيل الحالية ومملكة داود وسليمان؟ وهل نسمح للشيعة بأن يشيروا إلى علاقة الجمهورية الإسلامية بإيران بمصرع الحسين بن علي؟ وبالنظر إلى التنوع البالغ في التقاليد الهندوسية والبوذية فأيها سيعتمد إذا ما تقرّر تقديم دروس في الهندوسية والبوذية ؟ ما العمل إذا طالبت كنيسة السينتولوجيا أو شهود يهوه أو الحركة المعمدانية الجديدة أن تعتبر نفسها مجموعة دينية وطلبت بتقديم دروس دينية حول “تاريخها” وتقاليدها؟

من أجل نموذج متوسطي

يبدو لأوّل وهلة أن أوروبا معنية أكثر من غيرها حاليا بموضوع تجديد دراسة الشأن الديني، بسبب التنوع الذي أصبح يميز مجتمعاتها والحضور القوي لأديان جديدة حملتها موجات الهجرة المتتالية، وأولها الديانة الإسلامية. ومن المفارقات أن أوروبا الغربية قد عاشت العصر الوسيط في ظلّ التجانس الديني وأنّها تواجه القضية الدينية في العصر الحديث، بينما العالم الإسلامي قد خبر التعددية الدينية وتعوّد بها في العصر الوسيط بينما هي في صدد التقلص حاليا، وقد ضمرت الجاليات غير الإسلامية في العالم الإسلامي مقابل تنامي الجاليات الإسلامية في العالم الغربي . لكن الحقيقة أن المجتمعات الإسلامية معنية أيضا بهذه القضية، بما في ذلك المجتمعات التي تقلص فيها التنوع الديني، إذ أن واقع العولمة يفرض عليها الانفتاح للأديان الأخرى في مستوى الذاكرة والمعرفة على الأقل، ومن المهمّ أن يدرك الشاب المسلم أنّه يعيش في مجتمع بدأ تاريخه قبل العروبة والإسلام، وأنّ من واجبه أن يتعزّ بكلّ فترات تاريخية ومراحل تراثه، ومن حقّه أيضا أن يكون عالما بالمصادر غير الإسلامية لهذا التراث. وتتأكد ضرورة الذاكرة التعددية والمفتوحة داخل الإسلام نفسه كي لا تتحوّل إلى ذاكرة ضيقة ومحنطة. ولا يمكن أن نفصل الإسلام عن تاريخه الإبراهيمي الذي يضمّ أيضا الديانتين اليهودية والمسيحية. بل يضمّ كلّ التراث الديني للإنسانية الذي بدأ مع حضارة بلاد الرافدين. إنّ الحرص على الانفتاح الإسلامي نفسه هو الذي جعلني حريصا منذ سنوات على التنبيه إلى ضرورة الدراسة المقارنة للأديان. وأظلّ متفائلا بقدرة الإسلام على تحقيق إصلاحه الديني حسب خصوصياته، وبصفة خاصة الإسلام المتوسطي (العالم العربي، أوروبا وتركيا). وسيساهم الإسلام حينئذ في صياغة ما دعاه جون بوبيرو في كتاب له مشهور: “العقد العلماني الجديد”. ودون ذلك فإنّنا سنكون أمام وضع يتميز بالانغلاق وتحيق عواقبه السيئة بالجميع.

يمكن لأوروبا والعالم العربي أن يشتركا في التفكير لرسم مقاربة جديدة للقضايا الدينية تكون أكثر ملاءمة لروح العصر. ولن تكون هذه المقاربة عربية ولا أوروبية، لن تكون إسلامية ولا مسيحية، أنها ستكون مقاربة متوسطية. فالمتوسط بالمعنى الواسع (الذي يضمّ العالم العربي وتركيا وأوروبا ) مهيّأ بأن يكون اليوم مخبر التجديد في هذا الميدان، فقد احتضن المتوسط في السابق أهمّ الأحداث المتصلة بالأديان ، من انتشار الديانات التوحيدية إلى الصراع الديني  والعلمنة والأنوار وظهور الدولة – الأمة ونشأة العلوم الإنسانية والاجتماعية الخ. وأمام تحدّي العولمة ينبغي للمتوسط أن يكون قادرا على اقتراح نموذج جديد لإدارة الشأن الديني.

ويبدو لي أنّ كل الحلول التي يمكن اقتراحها لرفع التحديات والمصاعب التي عددتها ينبغي أن تراعي مجموع القواعد التالية :

أوّلا – الحياد الديني لا يعني تجاهل الظاهرة الدينية (وأولى أن لا يعني حالة العمى أمامها). فإذا لم تعمل المؤسسات الرسمية على مراقبة “المعارف” التي تنشر حول الدين أو باسمه فإننا نوشك أن نقع في حالة من الفوضى العامة ومن حرب الذاكرات الدينية ويهدّد ذلك التجانس الاجتماعي والعيش المشترك ، يستوي أن تكون قواعد التجانس قد قامت على أساس مفهوم الوطن والأمة (أوروبا قبل مرحلة الوحدة والعالم العربي حاليا) أو على أساس مفهوم يتجاوز الوطن الأمة لكنه يحتاج إلى اندماج قوي للمجموعات بدل التناحر بينها (الوحدة الأوربية).

ثانيا – إن التدريس العام للشأن الديني (ولا أتحدث عن الاختصاصات الدقيقة في شكليها العلمي العلماني أو اللاهوتي) هو حاصلة تفاعل عناصر ثلاثة : العقل النقدي ، التجربة الاجتماعية والأهداف المرسومة للتعليم. فالعقل النقدي يمثّل في مستوى المؤسسات البحث الأكاديمي الذي لا يطرح على نفسه غير هدف المعرفة في ذاتها. والمشكل أن العديد من جوانب المعرفة حول دين معين، فضلا عن المعرفة بالظاهرة الدينية كليا، هي جوانب قائمة على الافتراض ولا تحظى باليقين. على أن قيمة البحث الأكاديمي لا تتمثّل في تقرير الحقائق يقدر ما تتمثل في التدريب على منهجية معينة في التفكير، وهذه المنهجية تختلف عن موقف الإيمان دون أن تعارضه بالضرورة، وهي الجديرة بالتشجيع في البرامج التعليمية فليس أفضل من فتح أفق المعرفة على التقاليد الأخرى كي نتجنب الانغلاق الطائفي ونخفف من ادعاء امتلاك الحقيقة المطلقة، فلا أرى صائبا أن يفصل تعليم الدين والأديان عن التعليم العام، دون أن يعني ذلك الاعتقاد الساذج بأن التاريخ يمكن أن يقدّم الحقائق لكل ما يختلف حوله البشر أو يرغبون في معرفته معرفة يقينية. لقد قدّمت أن الموضوع الديني يخضع للتاريخية لكنه يتجاوز التاريخ منظورا إليه على أنّه سرد محقّق للوقائع.

ولئن كان بول فاين مبالغا عندما ذهب في كتابه المشهور “كيف يكتب التاريخ” إلى أنّ التاريخ عموما هو أقرب إلى النقد الأدبي منه إلى العلم، فإن وجهة نظره يمكن أن تجد لها سندا أقوى إذا ما طرحت في مجال التاريخ الديني تحديدا. ولا أجد حرجا في القول إنّ تدريس الشأن الديني يمكن أن يجمع بين سجلين : سجلّ تاريخي بالمعنى الدقيق وسجلّ الشهادة الروحية التي يمكن أن تقدّمها المجموعات الدينية، بشرط التمييز بين السجلين وإخضاعهما معا إلى الأهداف العامة المرسومة للعملية التعليمية كليا. إنّ وضع تاريخ الأديان اليوم يشبه وضع التواريخ القومية في فترة قيام الدولة – الأمة . فلا يمكن له أن يصاغ ببرودة في مخابر البحث.

ثالثا – من الضروري تشجيع علم كلي حول الظاهرة الدينية، ومن الضروري لهذا العلم أن يجد له مكانا في مختلف مراحل التعليم العام. وأنا أتعمّد استعمال عــبارة ” علم الأديان ”  الذي هي غير العلم الديني، مواصلة لمشروع كان قد ضمنه سابقا ميشيل ميلان كتابا عنوانه هذه العبارة (منشورات لوسوي، 1973، بالفرنسية). ولا أفتأ أتذكر عهدا كنت أتابع فيه دروس محمد أركون في الإسلاميات بجامعة باريس الثالثة ودروس ميلان في “علم الأديان” بجامعة باريس الرابعة، وكان أركون يشجعنا على حضور دروس ميلان ولا يفوت الفرصة للإشادة بكتابه الثاني “التجربة الإنسانية للإلهي” (1988) . وقد حذف الكرسيّان بعد ذلك، كرسي الإسلاميّات وكرسي علم الأديان، وأرى أنّ هذا الحذف كان خطأ جسيما. فليس المقصود أن تصبح الإسلاميات أو علم الأديان بديلا عن اللاهوت والعلوم الدينية ، لكنهما المقابل العلماني لهما ، وبدون دراسات من هذا النوع فإنه يتعذر التمييز بين الموضوعي الكوني من جهة والذاتي الذاكري من جهة أخرى. وغياب هذا التميز يعمق الطائفية أو الجهل ( أو كليهما في آن واحد). وقد لا يستجيب هذا النوع من الدراسات إلى متطلبات السوق، لكنه يستجيب قطعا لمتطلبات المواطنة والإنسانية.

لقد ذكرت أعلاه أن مراجعة الموقف من تدريس الأديان لا يتطلب مراجعة الموقف التقليدي المحافظ وحسب، إنه يتطلب أيضا مراجعة الموقف العلماني التقليدي، كي نخرج من إزدواجية الشخصية التي كنت قد أشرت إليها. ولا أنكر أن في الأمر مخاطرة، ففتح مجال تعليمي جديد قد يمثل فرصة للتجديد كما قد يمثل فرصة للشعوذة والتدجيل وتسرب الأفكار البائسة تحت رداء الشعارات البراقة، لكن كل عملية تجديد تتحمل جزءا من المخاطرة.

يمثل تقرير الفيلسوف الفرنسي ريجيس دوبريه مثالا من محاولة حجاجية تأسيسية للدفع نحو تدريس الأديان في المناهج الدراسية الحكومية وإقناع المتشككين من اللاهوتيين والعلمانيين على حد سواء. وقد كتبه صاحبه بتكليف من وزير التربية آنذاك (جاك لونغ) سنة 2002. ثم اعتمد هذا التقرير وثقة توجيهية في الإصلاحات التي قامت بها وزارة التربية الفرنسية لبرامجها الرسمية، لتحقيق مزيد الانفتاح على التعددية التي أصبحت تميز المجتمع الفرنسي. وترتبت على ذلك عدة نتائج مثل إقحام الإسلام في برامج التاريخ بعد أن كان شبه غائب عنها، وتخصيص حصص للتعريف بالثقافة الإسلامية كي يطلع الشباب الفرنسي على الإسلام ويتفادى الأحكام المسبقة التي حملها الأجداد. ونرجو من خلال عرض هذا النص على قراء اللغة العربية أن نفتح المجال لمناقشات جادة حول الموضوع المطروح وأن نثير الاهتمام إلى بعده الكوني فهو لا يخص الأوربيين وحدهم ولا يقف عند حدود مجتمع بعينه ولا يمثل تحاملا على دين من الأديان أو ثقافة من الثقافات (3).