مجلة حكمة
قراءة نقدية في رواية "عائشة تنزل إلى العالم السفلي" لبثينة العيسى - مصطفى عطية جمعة - حكمة

قراءة نقدية في رواية “عائشة تنزل إلى العالم السفلي” لبثينة العيسى – مصطفى عطية جمعة

13010105
غلاف الرواية

الذات بين الموت والحياة: قراءة في الطرح والبنية والزمن


     تقدّم رواية “عائشة تنزل إلى العالم السفلي” ([1]) للروائية ” بثينة العيسى” ([2])عالما سرديا مختلفا ، يحلّق في آفاق فلسفية ونفسية وروحية واجتماعية ، من خلال شخصية ” عائشة ” التي تصدمنا منذ الأسطر الأولى في الرواية بقولها ” أنا عائشة ، سأموت خلال سبعة أيام ، وحتى ذلك الحين قررت أن أكتب ” ([3]). حملت هذه العبارات مفاجأة للمتلقي؛ فالبطلة / عائشة تقرر مسبقا ، وبكل جدية ، أنها ستموت بعد سبعة أيام ، وستقضي هذه الأيام في الكتابة ، عن كل شيء في حياتها، وقد قررت الموت ، لأن صغيرها ووحيدها قد مات ، ولا طعم للحياة من بعده، وشاهدت جثمانه الصغير ممددا أمامه في حادث على الطريق، راحلا إلى العالم الآخر، وكلما حلّت ذكراه ، اشتعل قلبها ، وأحست بلا جدوى الحياة ، تاركا إياها في دنيا جافة ، لا أمل ولا لذة فيها . فهي تقرر موتها ، دون ذكر الكيفية، ولا شكل النهاية ، فالموت ما هو إلا هروب من دنيا عفنة ، وذات صدئة .

    فالموت حاضر في وعي كل نفس إنسانية ، وتختلف النظرة إليه حسب كل ذات ، فهناك من ينظر إليه بوصفه هروبا من ضيق الدنيا وآلامها ومآسيها فيختار الانتحار وسيلة لإنهاء حياته ، وهناك من يراه انتقالا إلى عالم آخر جديد ، فيه كثير من الراحة وأبدية الحياة والقرب من الخالق ، فيترقب لحظة الموت ، ويستعد لها بأعماله الصالحة ، وهناك من يراه نهاية فيزيائية متوقعة لأي كائن حي على وجه الأرض ، دون النظر إلى ما بعده من حياة أخرى ، وهناك من يراه عقوبة بحرمانه من الحياة ([4])، وبعبارة أخرى ، فإن النفس تتوقف مع الموت وقفات؛ فبعضها يرى الموت برؤية مادية تعني : نهاية الجسد المادي ، دون النظر لمآل الروح ، وآخر يراه : ملاذا من خضم الدنيا ، بغض النظر عن عاقبة الفعل ولا التفكر في طبيعة المآل وكيفيته ، وثالث : مؤمن بالبعث والنشور ، فيرى الموت نقلة للحياة الآخرة ، وما فيها من جنة ونار ، وهذا ديدن مؤمني الديانات السماوية، وهناك من يغيّب تفكيره عن الموت،لينغمس في الدنيا،معتبرا الموت نهاية وحسب.

الإفناء الاختياري :

    الإفناء الاختياري يعني: رغبة الذات في إنهاء وجودها في الحياة بإرادتها، وهو ما يوازي فلسفة الانتحار ، غير أن صاحبه يختار كيفية موتته ، ويعرف أسباب اختياره ، ولديه من الأسباب ما يجعله مقتنعا أشد الاقتناع بهذه النهاية الاختيارية ، التي يكون سعيدا بتحديد زمانها ومكانها وآليتها .

   والموت في هذه الرواية ، يكاد يجمع كل ما سبق بكل رؤاه المتضادة، فالبطلة (عائشة ) راغبة في الموت هروبا من حياة ؛ بدت لها شديدة القسوة ، ولا طعم لها، رغم أنها مؤمنة في أعماقها بالله وبالحياة الآخرة ، ولكنها ترى أنها لا تقدم على فعل الانتحار ، بقدر ما تهرب من دنيا ظلمتها كثيرا ، وأنصفتها قليلا، لذا حددت زمن موتها ( بعد أيام معدودة ) ، وأجّلت التفكير في المكان والآلية، ولكنها كانت سعيدة بقرارها ، وفي ثنايا سعادتها نستشف أن رؤاها للموت متأرجحة فمرة تراه نهاية للجسد المادي بكل أمراضه ، ومرة أخرى انتقالا لروحها إلى عالم نوراني قرأت عنه كثيرا، ولكنه لم تعرف كنهه ، وإنما معلومات متناثرة أخذت من العقيدة الإسلامية والأساطير وكتابات ما بعد الموت ، ومرة ثالثة: تتشكك في كون ما تفعله انتحارا بإرادتها ، وإنما رفضا لحياة لا ترى فيها سعادة .

   ربما تتقابل الرؤية السردية في هذه الرواية مع ما طرحه الفيلم الإيراني Taste  of cherry أو طعم الكرز ([5])، فالفيلم يحكي ببساطة وبروح مأساوية فكرة الإفناء الاختياري والرغبة في الانتحار. عبر سرده قصة رجلٍ مكتئب غارق في السواد بشكل لم يعد للعيش طعم معه ، فانتهى إلى ضرورة إنهاء حياته. وقد وضع خطة لتنفيذ ذلك بأن يتناول حبوباً مخدرة وينام في حفرة شبيهة بالقبر منتظراً قدوم شخص قد اتفق معه من قبل، ليهيل التراب عليه ، وساعتها لن يجد مجالا للفكاك فيستسلم للموت خنقا في مثواه الذي أعده ، ورغم سهولة الخطة إلا أن الصعوبة تتمثل في عدم عثوره على الشخص الذي سيتمم عملية الردم.. لذلك هو يبحث دون جدوى . لقد صورت غالبية مشاهد الفيلم في مكان واحد بعيد عن المدينة ؛ يغلب عليه الجفاف والفقر . في هذا المكان تقع (الحفرة/القبر). وفيه أيضاً يكثر العمال الفقراء الذين يسهل إغراؤهم بالمال للقيام بعملية الدفن. واختيار مكان جاف كهذا وخالٍ من أي بهرجة شكلية كان من أجل نزع كل ما من شأنه أن يشغل المشاهد عن تأمل حقيقة المأساة التي يعيشها بطل الفيلم. فهنا لا شيء يتحرك سوى فكرة الانتحار المجردة التي يحملها الفيلم ويسعى إلى إبلاغها للناس، كي يقتنعوا بضرورتها بالنسبة له. فهو محتاج للموت ؛ إنقاذا له من حياة نكدة، وهي حاجة ملّحة لا تحتمل الجدل ولا التفسير.. لكن الناس من حوله يجدون صعوبة في تقبلها.. والفيلم بهذه الصيغة العميقة الباردة يقدم نفسه كواحد من الأفلام الفلسفية التي تناقش قضية اختيار الموت بإرادة الفرد ذاته ، أو الانتحار ، وهو من الأفكار الفلسفية التي خاض فيها الفلاسفة كثيرا ، طارحين السؤال : هل يمكن أن يأخذ الفرد قرار موته بنفسه ؟ وهو ما تعارضه الأديان عامة والإسلام خاصة، على اعتبار أن الروح والجسد منحة من الله للإنسان ، ينبغي للفرد الحفاظ عليهما، وعدم العبث بهما ، إلى أن يسترد الله أمانته .

    يلتقي الفيلم مع روايتنا ، في كون البطلان يائسينِ من الحياة ،راغبينِ في الموت، وإن كانت وسيلة الإفناء واضحة في الفيلم ، غائمة في الرواية . واتفقا أيضا في أهمية العودة للحياة ، بعدما أدركا أن ثمة ما يستحق العيش لأجله ، ففي الفيلم اكتشف البطل أن في الحياة لذائذ عندما ذاق ثمرات الكرز من أحد الأشجار القريبة من الحفرة ، وبدأ تفكيره يتغير إيجابيا نحو الحياة ، فإذا كان هناك من الفاكهة ما يلذذه حسيا ، ويشعره بسعادة ولو وقتية ، فلاشك أن الناس لديهم ما يبهجهم . فليكن مثلهم ، يبحث عما يسعده ، ويقاسمهم في لذائذهم.

    وهو ما حدث مع عائشة التي فوجئت بأن هناك من يحبها ممن حولها ، ويخافون عليها، ولا يستطيعون فراقها، وقد تفانوا طيلة صفحات الرواية ، في الزمن السردي المحدد ، على إسعادها ، وبث حب الحياة فيها ، لا لشيء ، وإنما لأنها جزء منهم ، وهم حريصون عليها ، حبا لشخصها .

بنية الرواية :

   جاءت بنية الرواية حافلة بتقنيات عديدة ؛ حيث نجد ما يسمى السرد التنبؤي Predictive Narration  ، والذي يكون فيه السرد متقدما على المروي أو الحدث الفعلي زمنيا ، ويسمى أيضا سرد متقدم Anterior Narration ([6]). وهذا صادفنا من الأسطر الأولى في الرواية ، ملحّة على أن الموت خيار لها ، والكتابة أيضا، تقول : ” لقد قررت أن تكون أيامي الأخيرة على هذه الشاكلة ، أقصد شاكلة الكتابة .. ، إنها تشبهني وأنا في أيامي الأخيرة .. هذه الكتابة لا تداوي بل تميت ، الموت جيد ، وأنا أريده من كل قلبي ” ([7]) .

    فالتنبؤ السردي جليٌ في استباق البطلة للأحداث ، بقرار الموت المسبق، وأنها ستكتب كي تتخلص من عبء نفسها ، وأيضا تكون شفافة مع ذاتها في البوح .

   وبدا الاستشراف السردي أوضح في ثنايا المتن الروائي ، فـ عائشة تتخيل ما سيقوله الناس عنها بعد وفاتها ، فهي : ” في النهاية مجرد لا أحد .. ، الأوراق الرسمية ستقول القليل الذي بالكاد يذكر .. ، كانت موظفة لبعض الوقت عادية في القطاع الحكومي .. ، ثم توفي ولدها ، واستقالت ” ([8]) .

     تنقل همهمات الناس بعيد وفاتها ، التي سرعان ما ستنتهي لتنشغل الألسنة بهمهمات أخرى عن أشخاص آخرين . توقن عائشة أن شخصيتها لن تنال قسطا كبيرا من كلام الناس ، فهي شخصية عادية ، لم تتميز بشيء في هذا العالم ، موظفة مثل الآلاف ، مات ولدها كأي طفل يموت ، وهي ستلحق به أيضا. إنها رؤية تقييمية لذاتها في عيون الآخرين ، بينما انطوى بين جنباتها الكثير من العالم الأسطوري والعالم الحقيقي .

    كما اتخذت البنية شكل المذكرات أو اليوميات ، التي تبدأ كما هو مدون من يوم 10 من إبريل 2011 إلى 18 من إبريل 2011م ، في سبعة أيام كما قررت، وخلال زمن الخطاب السردي Discourse Time([9]) الذي يستغرقه تقديم المحكي أو السرد ذاته ، وفيه يلتقي الماضي بالحاضر وأيضا المستقبل، حيث تعود الذاكرة بـ عائشة إلى علاقتها بالزوج والابن وأهلها وصديقاتها، مختلطة بمشاعرها الكئيبة، وأيضا بالأحداث المتفاعلة خلال الأيام السبعة ، حيث تجد مواقف عديدة من الزوج والأخ والأخت والأم ، تدفعها إلى أن تعيد تقييم رؤاها للحياة والأحياء . ونرصد خلال يومياتها أنها تؤرخ لما تكتب زمنيا ومكانيا ، فتشير إلى الوقت وإلى مكان الكتابة ، في الليل والنهار ، الصباح والمساء ، في سعي حثيث لتسجيل كل ما يعنّ لها من أحداث وخواطر، وكأنها تريد أن تقدم شهادتها للحياة قبل أن تختتمها بالوفاة . فقد قررت أن يكون موتها في ذكرى وفاة ابنها، لتكون الذكرى تأكيدا على لحاقها بالابن في راحته الأبدية .

     لاشك أن شكل اليوميات المختار من قبل المؤلف الضمني ناسب كثيرا مضمون النص ذلك أن ” المجال فسيح أمامنا ، في كتابة اليوميات ، لنستعيد في خواطرنا .. ذكر الحوادث ، قبل انتقالها من حيز العمل إلى حيز الرواية .. ، مما يمكننا من تتبع مجريات الحادثة في ذاكرة الراوي ، وجميع التحولات التي طرأت عليها ، والتأويلات المتتابعة فيها ، والتطور في تعيين موقعها ” ([10]) .

    وهذا ما نلاحظه في الرواية ، حيث لجأت الساردة إلى ترك العنان لخواطرها عبر تسجيل مذكرات يومية متقطعة ؛ فقد كتبت في أوقات مختلفة ، بين السحر والظهيرة ، والصباح والمساء ، ولكن يلاحظ أن الساردة راعت بنية مرتبة للأحداث ، تجيب عن الأسئلة المتوقعة من المتلقي ، فراحت تعلل في أول يومياتها أسباب قراراها الإفنائي ، ومن ثم أشارت بشكل مجمل لأسرتها وزوجها ، كي تكتمل الصورة الكلية .

   تقول في يومها الأول ( 10 إبريل ) الساعة ( 2.13 ) صباحا منبئة عن سبب قرارها : ” لقد مات ولدي فعلا ، لا توجد لطيفة لقول ذلك ، لا توجد طريقة صحيحة أو كلمة صحيحة، تفسّر ميتة طفل ” ([11]).

وتصف مشهد دهسه  : ” يدان صغيرتان ، وعالم مجنون ، هكذا دهسته السيارة وهو منحن على لعبه يحاول جمعها ، إنه لن يتخلى عن لعبه أبدا ، فهو ليس مثل أمه ، في اللحظة الأخيرة من حياته ، كان ينظر صوبي ، مرتعبا وكأنه أدرك شيئا هاما ” ([12]) . نلاحظ أنها تسترجع ما حدث بروح الأم ، والكاتبة ، والمرأة المتفجعة، تصف وليدها ، وتنثر مشاعرها ، وتدين العالم المجنون من حولها ، واستخدامها لفظة “مجنون ” في نعت العالم ، دال على علاقتها الحادة مع محيطها الخارجي، وهذا ما نتلمسه طيلة صفحات الرواية ، فهي ترى الناس – خارج محيطها الأسري – كائنات معادية لها ، تتجاهل وجودها ، تترقب أخطاءها ، ولا تقيم وزنا لها ، والناس غير حافلة لمقتل ولدها تحت عجلات سيارة هوجاء.

   وتظل طيلة صفحات الرواية تسترجع ذكرى وفاة ولدها ، بأشكال مختلفة، وفي كل مرة تضيف جديدا ، سواء كان شعورا خاصا بها ، أو أوصافا لوليدها ، أو علاقتها به ، أو جوانب من حياته في المنزل أو الروضة أو بعض جوانب مرضه، تقول مُعلمة عن تاريخ وفاته وعمره ، وهو ما لم تذكره في مطلع يومياتها : ” في الثامن عشر من إبريل للعام 2007، توفي عبد العزيز ولدي الوحيد عن عمر يناهز الخامسة والنصف ، بفعل حادث سيارة وهو يقف وسط الشارع يحاول التقاط لعبه”([13]) . ونلحظ تكرارا لمعلومات مسبقة كان يمكن عدم ذكرها ، خاصة أنها ذُكرت في الصفحة السابقة ، وهذا لون من الإلحاح السردي الذي نجده سمة خاصة في متن الرواية ، حيث تعيد وتسهب في وصف أحداث وأفكار بعينها ، تناسب فورة مشاعرها ، واضطرابها .

   فهي تفصح عن مشاعرها الملتهبة نحو وليدها بأسلوب شاعري :

” آه يا عزيز ، يا ولدي ، أيها المنبثق من باطني ، مثل صرخة الميلاد وحشرجة الرحيل ، يا مجلجلا أطرافي ، يا مزلزلا أركاني ، أيها المغروس في كبدي مثل صارية ، أيها الحزن المعشوشب في خلاياي ، في مسامي ” ([14]) .

    فقلبها يفيض لوعة ، تفسر للمتلقي أسباب قرارها بالإفناء ، فقد كانت شديدة التعلق بصغيرها ، ولم تدرك حجم حبها لوحيدها إلا عندما وجدته مسجى أمام سيارة عمياء ، لا تعرف أنها أصابت مقتلا لأم ، وجعلتها مكلومة أبدا دهرها .

   فهذا كسر متعمد للزمن التتابعي لمشهد الحادثة ، وبعلاقتها الخاصة بابنها الذي كان يمكن أن يكون في جزء خاص به في الرواية لو اتبعت السرد التقليدي التصاعدي ،  ولكن شكل اليوميات أتاح لها هذه الميزة المتقطعة ، والمتلائمة مع طبيعة اليوميات ، التي تتيح مساحات واسعة للنفس لتأمّلِ مواقف حياتها وتعيد قراءتها بشكل مختلف، في ضوء ذاتها المضطربة .

   ونرصد في هذه التجربة ، الغرق الذاتي في وصف أحداث الحياة عبر مشاعرها وعينيها ، في لحظات متباينة زمنيا ومكانيا ، وهو شكل يعد جديدا على تجربتها السردية ، وهي بارعة خلال مسيرتها السردية في استخدام تقنيات مختلفة من الحكي ، تعينها على الغوص في أعماق الذات والشخصيات وتحليل الأحداث ، وتقديم رؤاها وأفكارها بشكل متناسب مع غاياتها في الكتابة ([15])، وقد أتاح لها هذا الشكل الكثير من المصارحة النفسية والفكرية ، وإعادة قراءة ما دونته كي تقيّم حياتها ، وتصرفاتها ، وقراراتها مع الآخرين .

   فطريقة الحوار الداخلي المتبعة ساهمت في إيضاح رسالة الرواية ، فإذا “كانت القصة بصيغة المتكلم ، فإن الراوي يقص ما يعرفه عن نفسه ، وما يعرفه عنها فقط ، أما في الحوار في الداخلي فذلك يتقلص بازدياد ، إذ لا يمكنه أن يروي إلا ما يعرفه عن نفسه في هذه اللحظة بالذات .. وتبدو القراءة عندها كأنها حلم يفضح ويهتك ” ([16]) .

    ولنقرأ حوارها الذاتي حول فاجعة ولدها :

” أتمنى لو أنني لم أنجبه ؟! أتمنى لو أنني لم أنجبه ؟! أتمنى لو أنني لم أنجبه ؟!

  كيف أمكنك أن تتفوهي بشيء كهذا يا عائشة ؟ ألا تدرين بأن الجدران لها آذان، والسماوات لها آذان ، والأراضي لها آذان ، والشوارع لها آذان ، ألا تدرين بأن العالم له آذان ؟ ” ([17]) .

   الملمح الأساسي هنا : جدلها الذاتي الذي يصل إلى ما هو غير متوقع عقلا، فهي نادمة على إنجابه ، تبوح بما في نفسها ، تتمنى أن لم تكن أما يوما، ولأنها تعلم في أعماقها أنها قد شذّت نفسا وعقلا وقلبا عن سياق الحياة ، وأسلمت نفسها لوساوس الشيطان ، لذا ، أنذرت نفسها بأن هناك في الكون حولها من يرصد خواطرها ، ويحاسبها على ترهاتها .

   وتقول:

” جرحك حيٌ يقتات عليك ، يلتهمك ، يا عائشة ، يتنفس روحك ويشرب ماءك ، جرحك حي يا عائشة مهما متِ ومهما ادعيتِ ، ومهما حييت يا عائشة ، أنت الجانية والمجني عليها ، أنت السوط والجلاد ” ([18]).

    نرى تضادات النفس ، فالجرح حي ميت ، وهي مظلومة وظالمة ، وهذا دال على شدة تأرجح نفسيتها ، بين الإدانة والمسامحة ، ولنرى الذات وهي في حالة ضياع وتخبط ، تجعل اختيارها الفناء الإرادي أمرا مقبولا ، فلا عيش لنفس في خضم مشاعر متضادة ، ورؤى متضاربة .

 


[1] ) الدار العربية للعلوم ناشرون ، بيروت ، الطبعة الأولى ، 1433هـ ، 2012م .

[2] ) روائية كويتية ، صدرت لها ثلاث روايات ، وهي : ارتطام لم يسمع له دويّ ( 2004م)، سعار ( 2005 ) ، عروس المطر (2006 ) ، تحت أقدام الأمهات ( 2009 ) ، ونصوص في كتاب بعنوان قيس وليلى والذئب (2011م .

[3] ) الرواية ، ص11 .

[4] ) قلق الموت ، د. أحمد محمد عبد الخالق ، سلسلة عالم المعرفة ، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب ، الكويت ، مارس 1987م، ص43 ، 44 ،

[5] ) إنتاج 1997م ، من إخراج عباس كيروستامي ، وقد فاز بجوائز دولية عديدة ، أبرزها : السعفة الذهبية بمهرجان كان السينمائي . انظر موقع: http://habibdvd.com/?p=258

[6] ) قاموس السرديات ، جيرالد بيرنس ، ترجمة : السيد إمام ، ميريت للنشر والمعلومات ، القاهرة ، 2003 ، ص156 .

[7] ) الرواية ، ص11 .

[8] ) الرواية ، ص105 .

[9] ) قاموس السرديات ، م س ، ص48 .

[10] ) بحوث في الرواية الجديدة ، ميشال بوتور ، ترجمة : فريد أنطونيوس ، منشورات عويدات  ، بيروت – باريس ، ط3 ، 1983م ، ص67 .

[11] ) الرواية ، ص15 .

[12] ) الرواية ، ص17 .

[13] ) الرواية ، ص18 .

[14] ) الرواية ، ص38 .

[15] ) يمكن رصد كثيرا من التطورات الإيجابية في مسيرة الكاتبة السردية ، عبر تتبع مراحل الكتابة من عمل لآخر ، فقد اتتقلت من البناء التقليدي ( زمنيا ومكانيا ) في أعمالها الأولى ، إلى السرد حسب أصوات شخصياتها روايتها ، كل شخصية تسرد وفق تجربتها وذاتها كما في روايتها : ” تحت أقدام الأمهات ” ، حيث نجد أربع شخصيات وهي : موضي ، هيلة ، نورة ، رقية ، تصف كلٌ الأحداث وفق رؤاها ، وتجربتها .  ( الدار العربية للعلوم ، بيروت ، ط1 ، 2009 ) .

[16] ) بحوث في الرواية الجديدة ،ص68 .

[17] ) الرواية ، ص114 .

[18] ) الرواية ، ص115 .