مجلة حكمة

قراءة في كتاب انتحار المثقفين العرب وقضايا راهنة في الثقافة العربية – نورة الثميري


انتحار المثقفين العرب- وقضايا راهنة في الثقافة العربية
غلاف كتاب (انتحار المثقفين العرب: وقضايا راهنة في الثقافة العربية)

(إذا كان القارئ يبحث عن كتاب مدرسي في الانتحار فلا أنصحه بهذا الكتاب، لكون معالجته للظاهرة الانتحارية تتعدى واقعة الانتحار الجسدي- وإن انطلقت منها- لتلامس حالات فردية وجماعية من الانتحار المعنوي، تبلغ ذروتها في تنكر الإنسان لكينونته، وخروج الأمة على ذاتها). هذه الكلمة التوضيحية التي اتخذها محمد جابر الأنصاري تبيّن مقدمةً له في كتابه (انتحار المثقفين العرب: وقضايا راهنة في الثقافة العربية) للقارئ أن الكتاب ليس بحثًا منهجيًا متقيدًا بحدود، وإنما هو للتأملات الفكرية الطليقة أقرب. وهو محاولة لسبر أغوار الظاهرة الانتحارية العربية بالرغم من ندرتها، نظرًا لخصوصية المجتمعات العربية ذات الطابع الثقافي الإسلامي. لكن الانتحار اليوم، وبعد الجراح الغائرة التي تعرض لها الكيان العربي، غدا هاجسًا وفكرة قابلة للتوقع، ومن ثم للطرح. كان الكتاب من جانب ما مقاربة ما بين الانتحار والإبداع، ومحاولة بحث جادة في المساحة المخفية بينهما. بالرغم من أن “الانتحار مهما سمت دوافعه لا يصنع الحياة”، فإنه مؤشر على يقظة الضمير العربي، خاصة لدى مثقفيه الأكثر تعرضًا لدموية هذه الفكرة،سواءً أكان ذلك جسديًا أم معنويًا. أما رؤوس الفساد والخراب فهم الأبعد عن التفكير فيها، ليعلن غياب الانتحار هنا موت الضمير.

يستعرض الكاتب أبرز حالات الانتحار على خارطة الثقافة العربية كتوطئة فكرية، بدايةً من المشير عبدالحكيم عامر، أحد رجال ثورة يوليو في مصر والصديق المقرب للرئيس الراحل جمال عبدالناصر. ولعل المشير عامر يعد أحد مؤسسي الإطار الانتحاري العربي. فقد كان انتحاره حدثًا استثنائيًا ونذيرًا بتحول ذهني غير معهود في طبيعة المنطقة، كما وصفه سامي الجندي.لحق به بعد ذلك الأديب الأردني تيسير سبول عام 1973 مبعد انتكاسة حرب أكتوبر. ومع دخول القوات الإسرائيلية إلى بيروت، دخل ملك الموت شقة خليل حاوي الشاعر اللبناني ذي النزعة القومية، فكان انتحاره حدثًا موجعًا بقدر ما هو متوقع، وكانت آخر كلماته “رباه! كيف أستطيع تحمل هذا العار؟”. وأخيرًا يأتي انتحار أروى صالح الأديبة والناشطة المصرية تذكيرًا للأمة على بقاء شبح الموت الانتحاري ما دام في الأمة جرح باقٍ.

ويحاول الأنصاري

“أن يسهم هذا الطرح في إشكالية الانتحار من زواياها المختلفة إلى تجاوز الوعي العربي لظاهرة الانتحارات الفردية، مهما كانت مثيرة، ليصل إلى حقيقة أساسية: وهي أن الانتحار بمعناه العميق ليس قتلاً للجسم بالضرورة، فللانتحار أشكال وألوان أخطر”.

 

الباب الأول: منتحرون وألوان من الانتحار

يستعرض المؤلف في هذا الباب من كتاب (انتحار المثقفين العرب) عدة مباحث. بدايةً من محاولة الكشف عن النزعات الانتحارية للمبدعين، إلى التساؤل عن ظاهرة “المنتحرين العرب”.. من المسؤول؟ وكيف لفكرة كهذه أن تلاقي القبول في “أمة لم يكن من تقاليدها الانتحار”. يستعرض الكتاب ثلاث نظرات  حول انتحار الأديب اللبناني خليل حاوي، والتأكيد على أن القضية العربية لم تكن السبب الرئيسي لانتحاره بقدر ما كانت القشة التي قصمت ظهر البعير. فكان الانتحار صرخته في الضمائر الناعسة،”فلم يجد أقوى من الانتحار في زمن أصبح فيه القتل لغة التعاطي والتعبير، بدل الكلمة والفكرة”. ثلاث نظرات بحث فيها الأنصاري عن أسباب وقفت خلف انتحار حاوي،ليكون قولنا انتحر لأجل القضية العربية سببًا سطحيًا غير مقنع. ثم ينتقل بنا الأنصاري إلى البؤرة التي قد تجمع تلك الأضداد التي تحوي الحياة والموت في آن واحد، لتتجسد لنا جلية في اعتراف همنغواي في كتابه موت في الظهيرة “Death in the Afternoon” قائلاً:

 “هذه الضربة القاضية في عملية الموت العنيف كما في ساحات الإعدام هي ما يجدر بالفنان تصويره دون إغماض العينين”

فقد كان الدم ورائحة الموت النتنة هي سر همنغواي الملهم، ليكون هذا الإلهام المعنوي في نهاية حياته تجربة معاشة تمثلت في رصاصة اخترقت جسده.

وينتقل بنا المؤلف من بركة الدم إلى فضاء المعنى والروح المتصوفة التي أنقذت أبو حيان التوحيدي من الخوض في دمه، فانتحر فكريًا بحرق كتبه. مرورًا بانتحار سارتر فلسفيًا في محطته الأخيرة– والذي يمثل في نظري انتحارًا باعثًا للحياة من جديد -تجسد في قوله:”لست ذرة غبار في هذا الكون، بل كائن لم يستطع المجيء إلا من خالق”. ومن ثم نصل إلى حركات التطبيع الثقافي؛ أهي حوار أم انتحار؟ ولنقف أخيرًا عند انتحار الإنسان الحديث بالعودة إلى رومانسية القلب الواعية.

 

الباب الثاني: نظريتان في الخلق الفني

في هذا الباب يستعرض المؤلف قضايا راهنة في البناء الفني الثقافي (شعر-رواية-مسرح)، ويستعرض”جناحين للفن العظيم لا يحلق دونهما معًا” ويتمثل الشرطيين الجوهريين في:

  1. البناء المادي (الشكل): والذي يعد ضرورة لا يمكن التقليل منها بحجة عمق الفكرة، “فالعالم التجريبي الحسي وحده هو الذي يستطيع أن يتشارك في الإحساس به جميع الناس”. ومن خلال الشكل المادي فقط يستطيع القارئ النفاذ إلى الوعي الإنساني ككل.

  2. المحتوى (الجوهر): فلابد للبناء المادي أن يستمد قيمته من رمزيته المخفية في المعنى. كما دعا المؤلف إلى تأسيس نثر جديد قبل تأسيس شعر جديد، كون النثر أسبق وهو القاعدة التي انطلق منها الشعر.

 

 

الباب الثالث: قراءات في الأدب العربي المعاصر

في هذا الباب يستعرض المؤلف أربعة محاور بداية من الزيات ومجلة الرسالة-الناصرية قبل عبدالناصر-“فالمعالم الرئيسية في تفكير الزيات هي المعالم الرئيسية ذاتها في حركة القومية العربية والوحدة العربية، الفارق أن الزيات سبق إليها في الثلاثينات بينما الفكر القومي طرح في الأربعينيات والخمسينيات”. ومن ثم يطرح الكاتب شكوك مبكرة في فكر العقاد والتي أخفتها إسلامياته، فـتناول بنوع من الإسهاب بداية المرحلة الحزيرانية في الأدب العربي التي دشنتها بعض أقاصيص الأديب المصري نجيب محفوظ الرمزية، والتي لم تلفت نظر النقاد حينها.

 

الباب الرابع: معالجات ثقافية.. عربية وعالمية

في هذا الباب الأخير من كتاب (انتحار المثقفين العرب)، يقدم الأنصاري عدة أطروحات هامة ما بين خطر الصورة على المستويات العليا التجريدية ومحذور التخلف العقلي للجنس البشري. كما يقدم تشخيصًا لظاهرة الفصام المتكرر بين أوضاع العرب ومحاولاتهم المجهضة في طريق التقدم.

ولا نختم هذا كتاب (انتحار المثقفين العرب) إلا بما ختم به الناقد رجاء النقاش: “لا أبالغ إذا قلت أن هذا الكتاب من أعمق وأجمل الكتب التي صدرت حديثا في المكتبة العربية”.