مجلة حكمة

ابن الهيثم العالم الفيلسوف – محمد بن ساسي / مراجعة: جلال الدريدي

 

1
غلاف الكتاب

عنوان الكتاب: ابن الهيثم العالم الفيلسوف – محمد بن ساسي (منشورات نيرفانا، تونس، مارس، 2016) – عدد الصفحات: 191 صفحة.


صدر هذا الكتاب بمناسبة احتفالات اليونسكو بابن الهيثم (2015)، وهو جملة من الفصول تكشف الوجوه الأخرى لهذا العالم العربي الكبير، فهو فيلسوف بقدر ما هو عالم وهو مناظر قديم للعلماء والفلاسفة المعاصرين له والسابقين (اليونانيين). نقده العديد من الفلاسفة العلماء المبدعين (ابن باجة وابن رشد وعبد اللطيف البغدادي ومؤيد الدين العرضي ونصير الدين الطوسي).

يعرض الكتاب ابن الهيثم ناقدا ومنقودا منزّلا له المنزلة التي يستحقّها في تاريخ الفلسفة والعلوم العربية والتاريخ العام للعلوم.

“ابن الهيثم العالم الفيلسوف” احتوى هذا الكتاب على امتداد واحد وتسعين ومائة صفحة قسمين كبيرين، ضمّ الأوّل ثلاثة فصول مدارها نقد ابن الهيثم علوم عصره وتأسيسه لمشروعه الخاص في المعرفة جاءت مرتّبةً كما يلي: في نظرية العلم عند ابن الهيثم من خلال الرسالة البيبليوغرافية، المنهج الهيثمي من منظور جديد بالاعتماد على بعض الرسائل وأخيرا نظرية ابن الهيثم في المكان. أمّا القسم الثاني فضمّ أربعة فصول مدارها نقد المشائيين نظريات ابن الهيثم ومناهجه جاءت على النّحو التالي: نقد ابن رشد لابن الهيثم، موازنة بين فيزيولوجيا العين عند ابن الهيثم وعند ابن سينا في تنقيح كمال الدين الفارسي، نقد عبد اللطيف البغدادي لنظرية المكان عند ابن الهيثم، وأمّا الفصل الأخير فحمل عنوان في منزلة ابن الهيثم من الثورة العلمية الحديثة أو الثورة العلمية من منظور جديد.

ولكي نعود إلى الجانب التأسيسي لهذا الكتاب وما طرحه من إشكالات، فقد استهلّ المؤلّف كتابه بمقدّمة جمعت أطراف القضايا المطروقة بفكرة ناظمة، وضّح فيها المقاصد الكبرى لمؤلَّفه، وحدّد ما يبرّر العودة إلى ابن الهيثم بوصفه عالما فيلسوفا، معتبرًا أنّ المتن الهيثمي مازال يحتاج إلى الاهتمام والتدبّر بصورة نسقية من شأنها أن تجمع مشروعه العلمي إلى مشروعه الفلسفي، وموضّحا في الآن ذاته كيف تعايش الفكر الهيثمي مع روافد معرفية مختلفة ومع وجهات نظر وصلت أحيانا إلى حدّ التناقض، الأمر الذي جعله يعيد “بناء المعرفة العلمية على أسس جديدة”[[1]].

    القسم الأول: ابن الهيثم ناقدا علوم عصره

أمّا الفصل الأوّل من القسم الأول، فقد حاول الكاتب أن يستنطق من خلال الرسالة البيبليوغرافية، تلك التي كان حفظها لنا ابن أبي أصيبعة في كتابه عيون الأنباء في طبقات الأطباء [[2]] عند ترجمته لحياة ابن الهيثم مشروع صاحب المناظر العلمي من التّحصيل والاتباع إلى الخلق والإبداع العلميين في المجالات التي اشتهر بها كالجبر والهندسة والفلك وعلوم المرايا والمناظر والآثار العلوية، إضافة إلى المناظرات الكلامية وبعض الكتابات الفلسفية في الأخلاق والسياسة. كما حاول إلقاء نظرة على مؤلّفات صاحب المناظر في محاولة استجلاء نظريته في العلم [[3]] ومن ثمّة الوقوف على برنامجه الفكري، مركزا في ذلك بالخصوص على جانبين، حيث اهتمّ في الجانب الأوّل على علم المناظر، وأمّا الجانب الثاني فحاول من خلاله أن يتمثّل الأبعاد المنهجيّة لبرنامج ابن الهيثم العلمي والفلسفي.

هذا، ويذكر المؤلّف في الفصل الأوّل من الكتاب أنّ المتن الهيثمي كان عرضة للعديد من التحويرات والتنقيحات، إلى جانب فقدان العديد من النّصوص التي نُسبت إلى شخصية أخرى غير شخصية الحسن بن الحسن بن الهيثم وهي شخصية محمد بن الحسن بن الحسن بن الهيثم كما يرجّح ذلك رشدي راشد في غير ما موضع من كتاباته بالاستناد إلى السيرة التي جاءت في ترجمة ابن أبي أصيبعة. لذلك فإنّ نصّ الرسالة التي أوردها ابن أبي أصيبعة تثير لدى الباحثين والمحققين صعوبات متعدّدة أهمّها التساؤل عن النصّ الأصلي للرسالة الذي ينبغي الاعتماد عليه، هل هو نصّ الرسالة كما نشرها صاحب الطبقات أم هو نصّ الرسالة التي حققها هاينن بالاستناد إلى مخطوط لاهور.

كما درس المؤلّف البناء الدّاخلي للرّسالة، وتناولها أوّلاً كما ذكرها ابن أبي أصيبعة، وثانيًا كما عثر عليها في مخطوط لاهور، لينتهي في القسم الأخير من الفصل الأوّل إلى النظر في علاقة هذه الرسالة بفكر ابن الهيثم، معتبرا أنّ قيمة الرسالة البيبليوغرافية لا تظهر في كونها رسالة لترجمة سيرة صاحب المناظر فحسب بقدر ماهي رسالة تبرز لنا عالما يتميّز بنسق فكري متكامل ومتطور في المضامين وفي أنماط الكتابة، ومنخرط في الصراعات الفكرية، وملتزم بخط فلسفي وأخلاقي يعتمد فيه على أرسطو في الجانب الفلسفي وعلى جالينوس في الجانب الأخلاقي قبل أن تتمحّض الهيثميّة للهيثمية في مرحلة النّضج والإبداع.

أمّا الفصل الثاني من القسم الأوّل والموسوم بـ”المنهج الهيثمي من منظور جديد بالاعتماد على بعض الرسائل” فقد ضمّ لحظتين أساسيّتين: استعرض في الأولى آراء كبار الباحثين مثل مصطفى نظيف وعبد الحميد صبرة ورشدي راشد وكارل سميث وجيرار سيمون فيما يتعلق بخاصيّة الضّوء وكيفيّة امتداده أو انتشاره كما جاء في ثنايا كتاب المناظر ورسالة الضوء، وردّ في الثانية على جملة هذه الآراء مركّزا أساسا على الجانب المنهجي في بحوث ابن الهيثم وذلك بإيراد القراءات المختلفة وبيان تقصيرها في فهم المنهج الهيثمي وطبيعته ومصادره وتجلياته، وخاصّة حينما يتعلّق الأمر بما اصطلح عليه ابن الهيثم بتقنية “السّبر والاعتبار”. وعلى هذا الأساس هذه القراءة الجديدة يذهب الأستاذ محمد بن ساسي إلى اعتبار أنّ ابن الهيثم ليس مجرّد امتداد لأرسطو أو لأعمال الربوع الإسكندراني (بطلميوس-جالينوس-إقليدس-أرشميدس)، وبخاصة لبطلميوس الذي يبدو أنّه أوّل من استعمل مصطلح الاعتبار، حيث انتقل هذا المصطلح إلى ابن الهيثم عبر الترجمة –أي ترجمة المجسطي لبطلميوس- كما يرجّح ذلك رشدي راشد، ولكن فضل صاحب المناظر –كما يرى المؤلّف- أنّه كيّف تقنية الاعتبار مع ما اصطلح عليه بالسّبر المستمدّ من المعجميّة الأصوليّة في بحوثه وكشوفه العلميّة  والذي يفيد في سياق القول الهيثمي معنى التّجربة والامتحان. ولعلّ هذا التكييف كما يقول المؤلّف: “هو الذي ألهم الرّجل منهج أو رؤية التّركيب بين ما هو طبيعي وما هو فيزيائي في كلّ مسائل المناظر التي تناولها، سواء مسألة الإبصار والضّوء والآثار العلويّة (القوس والهالة)، وكذلك الشأن بالنّسبة إلى المرايا” [[4]]. ومعنى ذلك، أنّ تقنية السّبر والاعتبار ليست مجرد تقنية يتأدّى إليها ابن الهيثم أحيانا لحلّ بعض القضايا أو تمحيصها أو الحسم من خلالها بين مدّعين مثلما هو حال ادّعاء الشفيف والضوء لتفسير ظاهرة الامتداد على سموت الخطوط المستقيمة، بل باعتبارها إطارا نظريًّا عامّا لمنهجه في كلّ ما كتب في المناظر، وفي بعض الرسائل الرياضيّة مثل رسالة المكان التي تقوم منذ البداية على إعطاء تصورين للمكان أحدهما هو الأقرب إلى الصحّة، ولابدّ من الحسم بينهما، ومعيار الحسم هو التصوّر الخالي من الشّبه أو الأقلّ شبها. وبهذا المعنى، فإنّ استعمال ابن الهيثم لعبارة السبر والاعتبار لم تأت عفو الخاطر، بل هي تنمّ عن رؤية أشمل “تجعل التركيب كما يطال العلم الطبيعي والعلم الرّياضي يطال كذلك المنهج، فيكون بشكل من الأشكال تركيبا” [[5]]. وفي هذا السياق يشدّد المؤلّف أنّ منهج التركيب المرفوض مشائيّا هو في صميمه تركيباً بين منهج القسمة الأفلاطوني ومنهج السبر والتقسيم الأصولي واللغوي. ولعلّ، هاهنا، تكمن الجدّة باعتبار أنّ ابن الهيثم يرى كلّ شيء تركيبا وتأليفا. واليقين لا نجده عند طرف دون الاخر، ويجب أن نسبر أغوار كلّ واحد من الأطراف المتنازعة على الحقيقة وأقلّ الأطراف شبهة هو الأقرب إلى الحقّ كما هو الحال في رسالة المكان. وبهذا المعنى، يؤكّد الكاتب على قصور التقويمات السابقة من نظيف إلى راشد، ومن ليدنبارغ إلى سيمون ومارك سميث، ومن صبرة إلى صالح بشارة عمر على إدراك حقيقة المنهج الهيثمي وجدتّه في شموليّة رؤيته وتعدديّة مراجعه.

وفي خاتمة هذا الفصل يتساءل المؤلّف: أفلا نستطيع بعدئذ أن نقول إنّ ابن الهيثم صنع براديغما وضعيّا قبل الأوان استخلصه من كلّ ما هو مضيء من التراثات التي تقاطعت في زمانه وتناظرت ولكنّها وجدت انسجامها في تأليفيّة هيثميّة مازلنا نحتاج إلى مزيد النّظر فيها [[6]

وفي الفصل الثالث من القسم الأوّل، يعود المؤلّف إلى رسالة ابن الهيثم في المكان ليكشف عن بدايات تفكير هندسي في المكان، وأنّ ما ذهب إليه عالمنا الفيلسوف لا يقلّ وضوحا عن الرؤى التي ستتحرّك فيها وبها مفاهيم علماء القرن السابع عشر، حيث يلتقي تصوّر ابن الهيثم للمكان مع الرؤية الحديثة كما تمّ صياغتها في الكتابات النيوتونية خاصّة نصّ الشباب في “الجاذبية” ونصّ النضج “المبادئ الرياضية في الفلسفة الطبيعية”، إضافة إلى أنّ اهتمام ابن الهيثم بالمكان -بحسب المؤلّف- كان متعدّدا حيث اهتمّ به في أبعاده الجغرافيّة واهتمّ به من حيث قابليته للتوظيف[[7]]. وبهذه المناسبة حاول كاتبنا الرجوع إلى البحوث العربيّة التي تدبّرت أمر المكان، معتبراً أنّ ابن الهيثم يعدّ من بين الذين تجرّأوا على نقد المقالات الأرسطية بتأثير من الأفلاطونية والفيتاغوريّة، غير أنّ صاحب المناظر الذي تحرّك في هذا الفضاء الفكري، صرف اهتمامه خاصّة إلى المكان ليتدبّر أمر ماهيته وطبيعته ولم يفكّر في الوسع لأنّ التّفكير في الوسع هو تفكير لاهوتي عقدي، ولم يهتمّ بالفضاء باعتباره مكانا خاليا من معالم البشر بل اهتمّ بالمكان بمعنييه: الموضع (place, lieu) والأبعاد المطلقة: الطول والعرض والعمق (espace) وردّ الأول إلى الثاني، فالموضع هو جزء من المكان، وبالتّالي تكون ماهيته من ماهية المكان. وهذه النتيجة التي يصل إليها ويؤكّدها في رسالة المكان بعد نقد الرؤية الأرسطية وتصحيح الرؤية الذريّة ستكون الرؤية البديلة وهي رؤية علميّة للمكان لأنّها الوحيدة القابلة لأن تكون متطابقة مع متطلبات العلم، وهي كذلك الرؤية التي سيتبناها العلم الحديث منذ نيوتن. وعلى هذا الأساس، فإنّ القول الهيثمي -من وجهة نظر الكاتب- في هذه المرحلة (أي مرحلة النضج)، قد رسم صورة للمكان وفق ما تقتضيه المعرفة العلمية، ولم يحصر نفسه في اتّجاه أو مدرسة على طريقة معاصره ابن سينا الذي لم يجرّأ على الخروج عن التقليد المشائيّ خروجا كليّا. والخلاصة التي انتهى إليها أن لا وجود لمعجزة علميّة لأنّ الحديث عن معجزة “يقطع أوصال المسيرة العلميّة تلك المسيرة التي يمكن أن تنطلق بفكرة من حضارة تستأنفها حضارة أخرى توصلها إلى منتهاها عندما يحين قطافها”[[8]].

أمّا النتيجة الثانية فتتعلّق بالمسألة التي انطلق منها وهي علاقة المكان بالتنمية، فقد لاحظ أنّ تغيّر رؤية المكان هي التي تؤدّي إلى التمكّن منه وتوظيفه لصالح الإنسان. وكما وقفت رؤية ابن الهيثم إلى مستوى لم يؤهلها لإنجاز ثورة علمية كاملة، كذلك كانت محاولته الفعل في المكان محدودة أو منكسرة ومنخذلة بعبارة القفطي وبقيت بمثابة الحلم، ولكن أليست أحلام القدماء هي بعض واليوم ووقائعه؟ يتساءل كاتبنا؟

القسم الثاني: نقد المشائين نظريات ابن الهيثم ومناهجه

استهلّ المؤلّف هذا القسم الذي يدور حول نقد المشائين نظريّات ابن الهيثم ومناهجه بنقد ابن رشد لابن الهيثم (الفصل الأول) حيث تعرّض ابن رشد لابن الهيثم أكثر من مرّة في تلخيصه للآثار العلوية، وتعرّض إليه بالنقد في بعض المسائل البصرية أو المناظرية. وهذه الانتقادات كما يرى الكاتب لم تأت في سياق معزول بل أتت في سياق التراجعات أو المراجعات التي سُجّلت في الكتابات الرشدية اللاحقة عن الكتابات السابقة. هذا وقد جاءت مراجعة ابن رشد في كتاب تلخيص الآثار العلوية بعد أن كان قد تبنى في جوامع الآثار العلوية موقف ابن الهيثم القاضي بالتّركيب بين الأمور الطبيعيّة والأمور التعاليمية، حيث نجده يقول في الجوامع: “ولما كان الموضوع لهذه الآثار الأجسام الطبيعية، وكانت مع هذا إنّما تعرض بوضع محدود وبأشكال محدودة. وجب أن يكون النظر فيها من جهة طبيعيا، ومن جهة تعليميا ونحن إنّما ننظر هاهنا من أمرها فيما شأنه أن ينظر فيه الرجل الطبيعي، ونستعمل تلك الأمور التي تبينت في التعاليم من أمرها على جهة المصادرة والأصل والموضوع، وبخاصة ما كان منها شأنه أن يؤخذ هاهنا مبدأ البرهان”[[9]]. ولكنّ قبول ابن رشد بالتركيب بين التعاليم والطبيعيات الذي ترسخت قواعده مع ابن الهيثم لم يكن إلاّ قبولا مؤقتا لأنّه سرعان ما انتفض عليه في التلاخيص، حيث نجد ابن رشد في معرض حديثه عن الهالة في تلخيص الآثار العلوية في الفصل الذي خصصه للقول في الهالة وقوس قزح والعمود من المقالة الثالثة، يقول: “وهذه الأشياء كلها التي ذكرناها قد بينها ابن الهيثم في مقالة مشهورة له بأيدي الناس، وهي كما قلنا ليست من هذا العلم، وإنّما من علم المناظر، ولذلك لم يعرض لها أرسطو هاهنا، واقتصر من ذلك على ما شاء صاحب هذا العلم أن ينظر فيه، ومن جمع النظرين فقد أخطأ كما فعل ابن الهيثم، فإنّ النظر في ذلك لصناعتين مختلفتين، وليس يدخل ما تبين من ذلك في صناعة المناظر في هذه الصناعة، على أنّ هذه الصناعة تنظر في تلك الأسباب بوجه آخر أو تستعملها مبادئ برهان على ما كنا ظننا نحن في الجوامع الصغار فأثبتنا هنالك العلل التعاليمية التي في هذه الأشياء على جهة المصادرة”. (التلخيص ص 143-144) ويوضّح ابن رشد الالتباس الذي تأدّى إليه متأثّرا بابن الهيثم في تطبيق هذا المعنى الأرسطي أي الفصل بين الأمرين أو المجالين، قائلاً: “وليس حال علم المناظرين هذا الحال في إعطاء هذه الأسباب كحال علم المناظر مع علم الهندسة. أعني أن علم المناظر يستلم أسباب كثير من الأمور الموجودة فيه من علم الهندسة، كما كنا ظننا نحن ذلك أولا، فإن تلك ذاتية في صناعة المناظر أعني ما تبين ذلك في علم الهندسة، إذا كانت أسبابا قريبة وأسباب هذه الأشياء التي بينت في علم المناظر فهي لهذه الأثار الموجودة من قبل الأجسام الطبيعية علل غير ذاتية بل بعيدة”. (التلخيص، ص 145).

في علاقة بهذا الأمر، يُشدّد الأستاذ محمد بن ساسي على قلق العبارة الرشديّة في موقفه من ابن الهيثم وبخاصة فيما يتعلّق بالتركيب بين التعاليم والطبيعيات في صناعة المناظر، حيث لم يكتف فيه ابن رشد بمجرّد التراجع أو ما اعتبره تصحيحا للأمور بل اغتنم الفرصة ليضفي على أرسطو نوعا من العصمة بحيث لا يأتيه الباطل من أي جهة كانت. وبعد الإشارة إلى مواقف بعض المهتمين بالفكر العربي حيال هذه الظاهرة –ظاهرة المراجعات بين من يعتبرها دليل قلق فلسفي ميّز الروح الرشدية وبين من يراها بوصفها دليل حياة وتطوّر، أو من يعتبرها انتقالا من ابن رشد المنفتح إلى ابن رشد الأرسطي المنغلق، يتساءل المؤلّف في محاولة لفهم ظاهرة المراجعة الرشدية هل هي مجرّد تعصّب أم علامة انفتاح أم أنّها صادرة عن خلفيات إبستيمولوجيّة ومنهجيّة؟

في علاقة بهذا السؤال، يبيّن الأستاذ محمد بن ساسي في ملاحظة أولى أنّ الرشدية لا تنتكص في الواقع إلى المواقع الأرسطية فحسب بل تحاول أن تجد لها ما يكفي من البراهين. وهذه المعطيات ولئن تؤكّد انخراط ابن رشد في السياق العلمي العام، فإنّ ذلك لا يعني تضحية بانتمائه الأرسطي، ولكنّه لا يعني أيضا تعصبّا لأرسطو. ويعلّل الكاتب هذا الأمر كالتالي:

    أوّلاً: أنّ أسلوب الجوامع ومنهجه ومادته العلمية لا يمكن أن نردّه إلى مصدر واحد وهو ابن الهيثم بل إلى مصادر عدة (أرسطو، ابن سينا، ابن الهيثم، والشراح القدامى لأرسطو).

    ثانيًا: اشتراك ابن الهيثم وابن رشد تقريبا في نفس المصادر.

    ثالثًا: التّركيب بين الأمور الطبيعية والأمور الهندسية في تحليل الظواهر البصريّة مصدره الأوّل أرسطو الذي اختلفت مواقفه من النصوص النفسيّة إلى الآثار العلويّة.

    رابعا: طريقة الجوامع في الكتابة وفي حفظ العلوم تتميّز بكثير من الحريّة في حين أن التّلاخيص تقيّد فيها أكثر بالمتن الأرسطي وبالتعاليم الأرسطية. ولعل مردّ ذلك أنّ ابن رشد قد تجاوز في هذه المرحلة الاعتماد على غيره في الشرح ورفع قلق العبارة في استنطاق النص وإعادة كتابته ومناقشة كلّ تأويل غير موفّق للأرسطية أو كلّ اختراق لمجالها ومبادئها. ولكن السؤال الذي يطرحه المؤلّف لماذا وقف ابن رشد في هذه النقطة بالذّات ضدّ ابن الهيثم رغم أنّ هذا الأخير يصرّح أكثر من مرّة بانتمائه منهجا وموضوعا إلى الأرسطية[[10]

للإجابة عن هذا السؤال ينبّهنا ابن ساسي أنّه رغم قيمة الإسهامات المنهجية لابن الهيثم في مجال البصريات، فإنّ مشكل التركيب لا يرتقي مع ذلك ليصبح حدثا علميا من شأنه أن يزعزع الرؤية القديمة أو أن يلتقي مع الرؤية الحديثة للعلم التي باتت تقوم على النظرة الكميّة أو الهندسيّة للطبيعة بل ظلّ تركيبا خارجيا بين مقالات الطبيعيين ومقالات الرياضيين. ورغم أنّ هذا الأمر يبدو بعيدا عن الرؤية الحديثة، فإنّه مكّن ابن الهيثم من اختراق العلم القديم –في المناظر- ومن إجراء قياسات هندسية لا تقلّ قيمة عن القياسات الحديثة. وهذا يعني أنّ اختراقات ابن الهيثم تبقى اختراقات جزئية، فهي وسط بين القديم والحديث ولذلك حُقّ لابن رشد من وجهة نظر أرسطية أن يعيد ترتيب البيت الأرسطي دون أن يكون ذلك نكوصا إلى الوراء أو نزعة محافظة، لأنّ ابن رشد كان يرفض مثل هذه الاختراقات الجزئية التي من شأنها أن تؤدى إلى مأزق، “وكأنّنا بابن رشد يقول إنّ العلم يبقى أرسطيا إلى أن يأتي ما ينقض الأرسطية نقضا كليّا” [[11]]. وبعد كلّ هذا يخلص الكاتب، إلى أنّ القلق الذي ساد العبارة الرشدية إن دلّ على شيء فهي يدلّ على أنّ البراديغم مازال أرسطيا لذلك نراه يناقش كلّ النظريّات الجديدة مبيّنا قصورها، وأنّ بداية التجاوز الحقيقية كانت بتحفيز من الرشدية اللاتينية.

الفصل الثاني: موازنة العين عند ابن الهيثم وعند ابن سينا في تنقيح المناظر لكمال الدين الفارسي

 استهلّ الكاتب هذا الفصل بالتذكير بمكانة كلّ من ابن الهيثم وابن سينا في الفكر العربي وطرائق تلقي وتداول العرب لبحوث صاحب المناظر والشيخ الرئيس وبخاصّة ما حمله كتاب تنقيح المناظر لكمال الدين الفارسي، وهنا تساءل الكاتب لماذا أراد الفارسي تكميل التشريح الهيثمي؟ ألمجرّد المعرفة أم لغرض تعليمي؟ أم هو طريقة في التأريخ للمعرفة العلمية وخدمة الطلاب حتى لا يتعذّبوا مثلما تعذّب للحصول على هذه المادة كما يقول بلفظه في تبرير هذه الوقفة التاريخية أو التأريخيّة؟ وللإجابة عن هذه الأسئلة توخّى الكاتب هذه الخطوات:

1– ابن سينا وتشريح العين

 يلاحظ الكاتب في البداية أنّ ما كتبه ابن سينا في البصريّات بما في ذلك تشريح العين وفيزيولوجية الإبصار وما يتعلّق بالألوان والضوء لا يتجاوز المائة والأربعين صفحة في كامل متنه، وتتوزّع هذه المادة على المجلدين الأوليين من القانون، وعلى كتاب الحيوان الذي يبدو أنّه لخّص ما جاء في القانون. ويلاحظ الأستاذ ابن ساسي أنّه بالنسبة إلى المظان والمسائل المشار إليها هو أنّ الشيخ الرئيس ألمّ بجميع أحوال العين، متدرّجا من العضلات إلى الأعصاب إلى مكونات العين أغشية ورطوبات ووظائف تخصّ كلّ مكوّن وما يطرأ عليها من آفات وعيوب وكيفية معالجتها. وبعد عرض مفصّل لهذه المسائل بالعودة إلى المتن السينوي يتساءل الكاتب: كيف تصرّف الفارسي مع هذه المادة؟ وماذا أخذ عن ابن سينا وماذا أخذ عن غيره؟

2– تشريح ابن الهيثم للعين ومآخذ الفارسي عليها

  لقد خصّص الفارسي الفصل الخامس من التنقيح للحديث عن تشريح العين وعنوانه: في هيئة البصر، وفيه أحد عشر مقصدا حيث عرض للمادة التشريحيّة الهيثميّة. وينهي الفارسي مقاصده متحدّثا عن أصحاب التشريح في علاقتهم بابن الهيثم: “أقول وبينهم وبينه مخالفات، وكذا بينهم هم أنفسهم على ما سنورد مفصّله، غير أنّ الذي ذكره كاف فيما قصده من أمر المناظر، وتلك المخالفات غير قادحة فيه”[[12]]. ويعتبر المؤلّف أنّ هذه الاعتراضات أو التبريرات التي ظلّ يردّدها الفارسي طيلة عرضه للتشريح الهيثمي هي التي جعلته يحاول تكميل هذه المادة بالعودة إلى المشرّحين على ما بينهم من اختلاف. ورغم أنّ مصطفى نظيف قدّم جملة من الحجج لصالح ابن الهيثم ضدّ الفارسي الذي تسرّع في الحكم على ابن الهيثم وخاصّة في علاقة الرطوبة الزجاجية بالرطوبة الجليدية -بحسب أطروحة نظيف- إلاّ أنّ الكاتب يعتبر أنّ مقصد الفارسي ليس هو مقصد نظيف “فالفارسي يلاحظ الاختلاف بين ابن الهيثم في المادة التشريحية المقدمة وبين بقية المشرحين وخاصة جالينوس وابن سينا، فأراد أن يعطيهم الكلمة مبرزا ما توصّل إليه علم التشريح بصورة عامة في عصره ومخففا المؤونة على المتعلم”[[13]]. ومن أجل ذلك يعود الأستاذ ابن ساسي إلى البيان المنهجي الذي استهلّ به صاحب التنقيح كتابه ليخلص بعد تلاوة وتلخيص البيان إلى جملة من الملاحظات، جاء في الأولى أنّ ما حرّك الفارسي في تنقيحه هو طموحه “إلى إتمام مباحث تشريح العين” بصورة عامّة وعدم الاكتفاء بما قدّمة ابن الهيثم، ومن أجل ذلك -أي من أجل إرضاء هذا الطموح- كانت العودة إلى أيمّة الطب ومقارنة مواقفهم فيما بينهم بحثا عن الحقيقة. والملاحظة الثالثة تتمثّل في الغاية التربوية، أي في كفاية المهتمين بمسألة التشريح مؤونة مقاساة الطلب وعدم الضياع في “المفصلات”. ويبدو أنّ هذا الهاجس كما يقول الكاتب هو هاجس أغلب علماء مدرسة مراغة[[14]]. وتأتي الملاحظة الأخيرة لتؤكّد تأثّر الفارسي بالشيخ الرئيس باعتبار أنّ ابن سينا هو المشرّح الأكبر في عصر الفارسي وأنّ من أتى بعده قد عوّل عليه.

3- التكميل الفارسي للتشريح بالاعتماد على ابن سينا

    يخصّص الكاتب هذا الفصل للوقوف على المادة التشريحيّة كما عرضها الفارسي في تنقيحه مقارنا إيّاها بأقوال المشرّحين والشارحين. وبعد دراسة طبقات العين ورطوباتها وأغشيتها كما وردت في التنقيح من حيث مصادرها ووظائفها وحدودها ينتهي الكاتب من خلال هذا العرض إلى جملة من النتائج والاستخلاصات التي يمكن حصرها في النقاط التالية:

  يخلص المؤلّف في ملاحظة أولى إلى أنّ أهميّة تنقيح الفارسي لا تكمن فقط في كونه قدّم لنا مادة علميّة ثريّة ناقش فيها آراء أيمّة الطبّ والشرّاح، ورثة جالينوس من ناحية وورثة ابن سينا من ناحية ثانية، بل وأيضا في كونه مارس فعل المؤرّخ لهذه المادة في تلك الفترة من القرن العاشر إلى بداية القرن الرابع عشر ميلادي والتي “فتحت لنا مجالا يحتاج إلى مزيد الاهتمام لما يحتويه من كشف العلاقات بين العلماء العرب المسلمين مهما تباعدت بينهم الشقّة في الزمان والمكان، ولما تحتويه من إمكانيّة للخصام والتناظر من أجل تقدّم المعرفة العلمية”[[15]]. ولعلّ واحدة من فضائل هذا العمل، هو طابعه التعليمي، أي أنّ ما حرّك الفارسي في هذا العمل هو تيسير الكتب وتبسيطها على طالبي العلم كما فعل أقطاب مدرسة مراغة، وقد ذكر الطوسي والشيرازي اللذان كان شغلهما بالإضافة إلى إنتاج المعرفة في المجالات التي يهتمان بها تيسير الكتب وتبسيطها.

الفصل الثالث: نقد عبد اللطيف البغدادي لنظرية المكان عند ابن الهيثم

أشار الكاتب في الفصلين السابقين إلى أنّ ابن الهيثم تعرّض إلى جملة من الانتقادات كنقد ابن رشد له من أجل قوله بالتركيب بين الطبيعيات والتعاليم في بلورة علم المناظر كذلك نجده محلّ نقاش ونقد على سبيل المثال في المغرب والأندلس في نظريته الفلكيّة من قبل ابن باجة كما تشهد بذلك رسالة كتبها هذا الفيلسوف إلى صديقه ابن حسداي يؤكّد فيها أنّ ابن الهيثم لا يمكن أن يكون من علماء الهيئة المضطلعين بها. ومن جهة أخرى نرى مدرسة مراغة مُمثّلة في شخصي عالميها الأكبرين مؤيد الدين العرضي ونصير الدين الطوسي، تنقد ابن الهيثم في مسألة وقوفه عند مجرّد الشكّ على بطلميوس دون تقديم البدائل. وهذه الانتقادات يعتبرها الكاتب هي في صميمها نابعة من خلفية أرسطية أي أنّها تعبّر عن صراع المشائيّة الأرتودوكسية مع الاتجاهات التي تحاول تجاوزها أو إصلاحها أو نقدها في بعض المسائل. ولا يخرج نقد عبد اللطيف البغدادي عن هذا السياق باعتبار أنّ مسألة المكان من المسائل التي عالجها أرسطو في السماع الطبيعي، وبما أنّ ابن الهيثم مال إلى القول بأنّ المكان هو “البعد الفارغ” وأبطل مقالة “السطح الحاوي” فإنّ مقالته –بحسب البغدادي- ليست فقط دون مرتبته أن تنسب إلى كماله في فضيلته. ولذلك ساغ أن يصرف البغدادي العناية إلى نقضها منطقيا وطبيعيا دفاعا عن “الشرعية المشائية”[[16]] بحسب عبارة رشدي راشد. وهنا، يتساءل صاحب كاتبنا: هل من وجاهة لنقد البغدادي آراء ابن الهيثم في المكان ومنهجه؟ وفي أيّ سياق يمكن أن ننزّل هذا النقد؟ وماهي حقيقة علاقة ابن الهيثم بأرسطو؟ هل كان أرسطيّا ثم خرج عن الأرسطيّة؟ أم أنّه في سياق تعلّمه وتعليمه كتب مسائل على طريقة أرسطو ثمّ لمّا تبيّن له الحقّ تجاوزها بل تخلّى عنها كما يشير إلى ذلك بنفسه في غير ما موضع من نصوصه[[17]

     للإجابة عن هذه الأسئلة عمد ابن ساسي إلى فحص رسالة البغدادي التي حقّقها ونشرها رشد راشد ضمن المجلد الرابع من الرياضيات التحليلية المترجم إلى العربية. وبعد فحص الأسباب التي دعت البغدادي للردّ على ابن الهيثم عمد الكاتب إلى تقسيم رسالة البغدادي إلى ثلاثة أقسام، حيث استهلّ القسم الأوّل بالتظنّن على منهجيّة ابن الهيثم في التعاطي مع مسألة المكان، وفي هذا السياق يقول البغدادي: “ابتدأ الشيخ وأوجب على نفسه الانصاف وطلب الحق، ولكن أخذ يسلك طرقا جدلية، والطرق الجدلية لا تعثرنا على الحق ضرورة. فإن ما يوجبه البرهان لا تدفعه الشبه والشكوك، وإنّما يكون الحق ثابتا، ثم نطلب للشكّ مخرجا” (846-847). وهنا يرى الكاتب الخلاف بين البغدادي وبين ابن الهيثم. فإذا كان الأوّل يدافع على العلم الأرسطي على أنّه منتهى العلم، فإنّ الثاني يبحث عن الحقّ ولا يثق بالمعلّمين والأستاذين بل يضع كلّ شيء محل سؤال وشكّ على طريقة أرسطو نفسه في شكوكه على من جاءوا قبله. ولذلك، ومنذ بداية، “لا يمكن لابن أن يقنع البغدادي ولا يمكن لاعتراضات البغدادي أن تطال منهجيّة ابن الهيثم، لأنّها منهجيّة توفق بين معلمي الاغريق وأرسطو وأفلاطون فهي جدلية على الطريقة الأفلاطونية وهي شكانيّة على طريقة أرسطو وهذه الجدلية الشكانيّة هي بالذّات ما يعيبه البغدادي على ابن الهيثم”[[18]].

   وفي القسم الثاني حاول الكاتب حصر الشّبه التي آثارها البغدادي في شبهة واحدة لها أمثلة كثيرة، حيث يعترض على ابن الهيثم في قوله بأنّ “الجسم المتوازي السطوح إذا فصل بسطوح متوازية وموازية لسطحين من سطوحه”. وفي علاقة بهذا الأمر، يلاحظ الكاتب أنّ البغدادي يحاكم مقالة ابن الهيثم بالاعتماد على ما تسلّم به الأرسطيّة وهو الفصل بين سطوح الجسم أي مكانه، والمساحة التي هي له وليس على مساحة تكسيره. كما يلاحظ الكاتب أنّ البغدادي سمّى هذه المحاجة “اعتبارا” وهي تسمية متداولة في النّصوص الهيثمية، يشترك فيها مع أهل الأصول وأهل اللّغة. والملاحظة الأخيرة، هي أنّ الهيثميّة تفصل بين المكان والجسم في حين أنّ البغدادي يفهم السطح دائما على أنّه سطح الجسم ولا ينفصل عنه ولا ينفكّ، فالجسم لا يملأ المكان بل ينتقل حاملا مكانه معه، فالمكان هو الجسم وهو الامتداد وهذا ما لا يقول به ابن الهيثم فإن كان المكان جسما فإنّ الجسم يحلّ بالمكان فإنّه سيداخل جسما مع جسم آخر، وهذا محال، ولكن عندما يكون المكان أبعادا متخيلة في ذاتها من الجسمية وتقبل أي نوع من أنواع الأجسام الذي يحلّ أو يتخيّلها، فلن ينشأ عن المحاجّة محالٌ وهو رأى ابن الهيثم الذي لم يفهمه البغدادي أو لم يقبل به.

وينتقل الكاتب إلى العنصر الثالث من محاجّة البغدادي، وهنا يطيل البغدادي في الردّ على مقالات ابن الهيثم، محيلاً من حين إلى آخر على بعض من كتاباته في الآراء التي كان أسطو أبطلها، حيث يقدّم فقرة كاملة تتعلّق بموقف ابن الهيثم من مسألة الخلاء المتخيّل الذي قد ملأه الجسم والشبهة المتعلقة به، وهي اعتراض الأرسطيين عليه باعتبارهم الخلاء غير موجود في العالم. وبما أنّه لا يقرّ التخيّل للأبعاد، فإنّه يثبت الوجود الطبيعي للأبعاد والسطوح ليخلص في النهاية إلى “التباين” بين الصنفين، وبالتالي، وهذا هو بيت القصيد -بحسب الكاتب- لا ينطبق المتباينان في الذات الواحد على الآخر، ولا “يشملهما جنس واحد” و”ليس لهما حقيقة واحدة”، وهذا هو مصدر تعجّب البغدادي من تناول ابن الهيثم لهذه المسألة بهذه الطريقة ولتبنيه مقالة الأبعاد المتخيّلة. ويلاحظ الكاتب، هاهنا، أنّ البغدادي نقد مواقف ابن الهيثم باعتماد مقالات الأرسطية وفق مبدأ عدم الخلط بين الأجناس.

 وبما أنّ رأى ابن الهيثم في الخلاء مخالفا لرؤية الحكيم وكذلك رأيه في المكان والامتداد بلا نهاية، وتعدّد العوالم بلا نهاية، فإنّ هذه الآراء تؤدّي بحسب البغدادي إلى شناعات. وعلى هذه الشاكلة يواصل البغدادي محاجته لنظرية المكان الهيثمية جارا إيّاها من شناعة إلى شناعة، والحال أنّ تصوّر ابن الهيثم للمكان من وجهة نظر الكاتب هو ما أسّس عليه نيوتن نظريته في المكان باعتباره الامتداد الخالي، وذلك هو أساس العلم الحديث وهو ما بات يسمّى بهندسة المكان. ويخلص الكاتب إلى أنّ ما ذهب إليه ابن الهيثم هنا ينسحب على جملة من الخصومات الأخرى كخصومة فخر الدين الرازي لثابت بن قرة في إقراره بجذب الأجسام المتشابهة لبعضها البعض، وأنّ الجسم الأكبر هو الذي يجذب الأصغر ولا علاقة لهذا التجاذب بنظريّة الأحياز الأرسطية أو مخاصمة الشيخ الرئيس للبيروني التي تخصّ نظرية العناصر والأحياز الطبيعيّة التي ما انفكت تخضع للتظنّن والتشكيك من وجهات نظر عديدة رياضية وأفلاطونيّة وأفلاطونية محدثة.  وهنا يبدو الأمر بحسب الكاتب “وكأنّه استباق لما ستكون عليه خصومات مؤسسي العلم الحديث: “خصومات الديكارتيين والنيوتونيين ومحاجة غاليلي لمقالات الأرسطية في مختلف محاوراته. ولعلّ خصومات عرب العصر الوسيط لم تكن تامة الوعي بذاتها من جهة ماهي خصومات، ولم تكن الفرقة جذرية بين الأطراف المتقابلة، كما سيكون عليه الأمر في القرن السابع عشر. فكان لابدّ لها من رحم آخر تتخبّط فيه هذه الآراء لتؤتي أكلها”[[19]].

ولحوصلة الإجابات عن الأسئلة التي طرحها في المقدّمة، يعتبر الكاتب أنّ نقد البغدادي آراء ابن الهيثم في المكان هو تعبير عن الصراعات التي كانت محتدمة في الساحة الفكرية عصرذاك حيث تقاسم الساحة الفكرية بين الفارابي من مصر إلى الغرب الإسلامي، وبين ابن سينا من بغداد إلى ما يليها من عواصم المشرق الإسلامي، وهذا هو سياق النقد.

الفصل الرابع: في منزلة ابن الهيثم من الثورة العلمية الحديثة أو الثورة العلمية من منظور جديد

استهلّ الكاتب هذا الفصل بالتعليق على مفهوم الثورة العلمية محيلا في ذلك على أهمّ الكتب التي اعتنت بتاريخ العلوم والإبستيمولوجيا في القرن الماضي مثال الثورة الفلكية [[20]] لكويري والثورة الكوبارنيكية [[21]] أو بنية الثورات العلمية [[22]] لكوهن (Thomas Kuhn) إضافة بحوث ودراسات الأخرى. وهنا، إذ يعتبر الكاتب أنّ الثورة تعني عند هؤلاء المفكرين تحول كبير أو طفرة (Mutation) طالت بنية التفكير ذاته (les cadres de la pensée)  فإنّ الجيل القريب منّا لا يجعلون من أعمالهم تحت عنوان الثورة أو الانقلاب بل تحت عناوين أقلّ حماسا وأكثر تواضعا (plus sobre)، فكأنّما مفهوم الثورة بدأ يأفل، وأصبح التركيز، لا على مظاهر التّجديد والثورة والتّحوّل والتّجاوز وحتّى الإعجاز، بل على بعض مظاهر التواصل بين الأنظمة، ولم لا، المقايسة بينها بعد أن كان اللاتقايس هو السائد. ومن أجل ذلك يتساءل الكاتب: هل أفل مفهوم الثورة العلميّة فعلا؟

وقبل النّظر في هذا الموضوع يعود بنا الأستاذ محمد بن ساسي إلى الأصول الكانطية للمقولات الإبستيمولوجيّة الجديدة، حيث يعتبر أن من بين أشهر القائلين بمفهوم الثورة وربطها بالظاهرة العلمية منذ أن نشأ النسق العلمي، هو الفيلسوف الألماني كانط (Kant) في المدخل الثاني لكتابه نقد العقل الخالص[[23]] أين يتحدّث كانط عن الطريق الملكي والدرب الآمنة للعلم، معتبرا أنّ الطريق الملكي للعلم لا يهتدى إليه إلاّ بحركة عقلية يسميها بالثورة. فكأنّما كلّ ثورة لن تكون كذلك إلاّ إذا كانت على مثال الانقلاب الفكري الذي أنجزه كوبارنيك في ثورته الفلكية. وبما أنّ الحداثة العلمية أو الثورة العلمية الأحدث بالنسبة إلى كانط، بدأت مع كوبارنيك، فإنّه توسّل منهجه في التعاطي مع الميتافيزيقا التي ظلّت في عصره حلبة للصراع بين المتنافسين، ولم يحرز فيها أي منهم النصر الحاسم، بل إنّ الحرب لم تكن حتّى سجالا بينهم هذا ينتصر مرّة والآخر أخرى، ولا حتّى هدنة بينهم بل حلبة لصراع دائم لا يفتر لأنّ أيّ نصر سيكون ثورة وسيفصل بين مرحلتين مرحلة ما قبل علمية، ومرحلة علمية ذلك أنّ بلوغ هذه المرحلة يكون في رأي كانط دون رجعة (irréversible) وهذا يتجلّى في الثورات العلمية التي استعرضها في المدخل الثاني لنقد العقل الخالص: ثورة المنطق مع أرسطو، وثورة الرياضيات مع اليونان-طاليس مثلا، وثورة الفيزياء مع مجموعة من العلماء ذكر أسماءها مثل بيكون وغاليلي وتورتشلي ودوستاهل. ولكن خلافا للمنطق الذي يبدو أنّه اكتمل على يدي أرسطو ولم يتقدّم، فإنّ العلمين الآخرين قد تقدّما في إطار الاتّفاق الحاصل على الموضوع والمنهج لأنّ كلّ ثورة هي في نهاية الأمر ثورة في المنهج، أو ثورة في وجهة النّظر التي نتخذها، وجهة النّظر التي تجعلنا نصل إلى ما نرغب فيه، وكذلك سيكون الأمر من وجهة نظر كانط بالنّسبة إلى الميتافيزيقا التي ظلّت تراوح مكانها لأنّها لم تهتد إلى الوجهة الصحيحة. وبهذا المعنى فإنّ كانط -من وجهة نظر الكاتب- هو أوّل من عبّر عن مسيرة العلم بمفهوم الثورة والقطيعة والتحوّل الفجئي، وهو كذلك من أقام معياري التباين بين العلم واللاعلم، وهو من حدس مفهوم الجماعة العلمية (La communauté scientifique) ومفهوم “برنامج البحث” الذي سيشتهر به بالخصوص مع لاكاتوس بعد بوبار، إضافة إلى كونه جعل الحركة الفكرية التي أنجزها كوبارنيك مثالا لكل ثورة علمية وأنّ الحداثة بدأت مع كوبارنيك وثورته. وهنا يتساءل الكاتب: إلى أي مدى يمكن أن نوافق على هذا الرأي؟ وأي دور للعرب في هذه المسيرة العلميّة؟

الأصول العربية الإسلامية للثورة الكوبارنيكية

يستهلّ المؤلف حديثه في هذه النقطة عن الشكوك العربية على الهيئة البطلمية – أي برنامج بطلميوس الفلكي- معتبرا أن شكوك ابن الهيثم على بطلميوس كانت بمثابة البرنامج الفلكي لإعادة بناء علم الفلك القديم إن لم تخلقه خلقا جديدا رغم الانتقادات التي جوبهت بها بحوثه في الهيئة (ابن باجة، ابن رشد، العرضي وحتى الطوسي نفسه). ويكتفي، هاهنا، بالإشارة إلى النقد الذي قدّمه العرضي في كتاب الهيئة[[24]] في الفصل الذي خصّصه لمعرفة أفلاك الكواكب. وهنا إذ يستعيد العرضي بعض من أقوال ابن الهيثم فلكي يبيّن أنّ الرجل اقتصر على مجرّد الشكّ، ولكن المؤلّف له رأي آخر، فهو يعتبر أنّ مرونة ابن الهيثم في التعاطي مع قضايا الفلك بصورة عامة وقبوله أنظمة مختلفة وحتّى إمكانية الخروج عن مركزية الأرض ويحيلنا في ذلك على قطعة وجيزة زاد في اقتضابها من حفظها لنا وهو ظهير الدين البيهقي في كتابه: تتمّة صوان الحكمة، يقول ابن الهيثم: “تخيلنا أوضاعا ملائمة للحركات السماوية فلو تخيّلنا أوضاعا أخرى غير ملائمة أيضا لتلك الحركات لما كان لذلك التخيّل مانع، لأنّه لم يقم البرهان على أنّه لا يمكن أن يكون سوى تلك الأوضاع أوضاع أخرى ملائمة مناسبة لهذه الحركات”[[25]]. ويضيف البيهقي معلّقا على النصّ: “وطول الكلام، وهذه الرسالة آخر تصانيفه”. ولكن على قدر مرونة ابن الهيثم والبيروني الذين لم يكونا مشائيين أرتودوكسيين، فإنّه لم يتهيأ لهما إمكان مركزية أخرى غير المركزية الأرضية، فكأنّما ابن الهيثم أعوزته الحلول عندما توفرت عند كوبارنيك اذي استفاد من أبحاث علماء مدرسة مراغة وتشبّع بالفلسفة البروقليسية وهو الذي عاش زمن تطوّر صناعة الخرائط في مدينة فلورنسا… كلّ هذه المعطيات تؤكّد –بحسب الكاتب- أنّ الثورة الكوبارنيكية ما كان لها أن تنجز قبل كوبارنيك. ولهذا “كان يجب أن يعاد كلّ هذا الجهد أو يستوعب بطرق أخرى وفي أرحام فكرية أخرى حتّى يلتئم شمل الشروط المطلوبة.

وفي الختام يخلص كاتبنا إلى أهميّة العودة إلى العرب والمسلمين باعتبار أنّ الحضارات تأخذ من بعضها البعض، وما العصور الحديثة التي ابتدأت في الغرب إلاّ نتائج لمقدّمات بدأت في الشرق، وما كان لهذه النتائج أن تكون دون مقدّمات، وما كان للاكتمال أن يلتئم دون توفّر العناصر المكوّنة له.


[[1]] محمد بن ساسي، ابن الهيثم العالم الفيلسوف، منشورات نيرفانا، تونس، مارس 2016، ص 11.

[[2]] ابن أبي أصيبعة، عيون الأنباء في طبقات الأطباء، شرح وتحقيق نزار رضا، منشورات دار مكتبة الحياة، بيروت، 1965، ص 552.

[[3]] رغم الاختلافات التي أحاطت بمصطلح “نظرية العلم”، فإنّ الكاتب قصد به الإطار النظري والمبادئ التي يتحرّك العلماء والفلاسفة العرب في سياقها في حكمهم على العلم وفي ممارستهم إنتاج العلم.

[[4]] محمد بن ساسي، ابن الهيثم العالم الفيلسوف، مرجع مذكور، ص 78.

[[5]] نفسه، ص 82.

[[6]] نفسه، ص 83.

[[7]] في إشارة إلى الحادثة التي حصلت لابن الهيثم مع الحاكم بأمر الله الفاطمي عندما دعاه إلى مصر لتنظيم جريان مياه النيل. أنظر: جمال الدين القفطي، أخبار العلماء بأخبار الحكماء، دار الآثار للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، د ت، ص ص 114-115.

[[8]] محمد بن ساسي، ابن الهيثم العالم الفيلسوف، مرجع مذكور، ص 103.

[[9]] أبو الوليد بن رشد، تلخيص الآثار العلوية، تقديم وضبط رفيق العجم وجيرار جهامي، دار الفكر اللبناني، بيروت، 1994، ص 70.

[[10]] في إشارة إلى تصريح ابن الهيثم القائل بأنّ درب الحق هو ما قرّره المعلمّ الأول في وصله بين عناصر الحس والأمور العقليّة. أنظر المقالة التي أوردها ابن أبي أصيبعة لترجمة سيرة ابن الهيثم، ضمن عيون الأنباء في طبقات الأطباء، مرجع مذكور، ص 552.

[[11]] محمد بن ساسي، ابن الهيثم العالم الفيلسوف، مرجع مذكور، ص 119.

[[12]] كمال الدين الفارسي، تنقيح المناظر لذوي الأبصار والبصائر، تحقيق وتقديم مصطفى حجازي، مراجعة محمود مختار، القاهرة، 1984، الجزء الأول، ص 125.

[[13]] محمد بن ساسي، ابن الهيثم العالم الفيلسوف، مرجع مذكور، ص 128.

[[14]] نفسه، ص 129.

[[15]] نفسه، ص 136.

[[16]] رشدي راشد، الرياضيات التحليلية بين القرن الثالث والقرن الخامس للهجرة، ترجمة محمد يوسف الحجيري، منشورات مركز دراسات الوحدة العربية، ط1، بيروت، 2011، الجزء الرابع، ص 835.

[[17]] محمد بن ساسي، ابن الهيثم العالم الفيلسوف، مرجع مذكور، ص 138.

[[18]] نفسه، ص 145.

[[19]] نفسه، ص 153.

][20] [Alexandre Koyré, La révolution astronomique, Hermann, Paris, 1974.

][21][ Thomas Kuhn, La Révolution Copernicienne, Trad de l’anglais par Avram Hayyli, éd Fayard, 1973.

][22][ Thomas Kuhn, La structure des révolutions scientifiques, Trad. Par Laure Meyer, Flammarion, Paris, 1983.

][23][ Kant, Critique de la raison pure, Trad. Française avec notes par A. Tremsaygues et B. Pacaud, préface de Ch. Serrus, FUF, 1980, préface de la seconde édition (1787) p. 15-30.

[[24]] مؤيد الدين العرضي، كتاب الهيئة، تحقيق وتقديم جورج صليبا، منشورات مركز دراسات الوحدة العربية، ط2، 1995، ص 241.

[[25]] ظهير الدين البيهقي، تتمة صوان الحكمة، تحقيق وضبط وتعليق رفيق العجم، منشورات دار الفكر اللبناني، بيروت، ط1، 1994، ص 84.