مجلة حكمة
في مواجهة رهبة العصر - بيتر آدمسون ترجمة ليان الغامدي في مواجهة رهبة العصر - بيتر آدمسون ترجمة ليان الغامدي

في مواجهة رهبة العصر – بيتر آدمسون / ترجمة: ليان الغامدي

د. بيتر أدمسون

رهبة العصر

أكثرُ صورةٍ من صور الإجحاف التي تواجهنا، نحن مؤرخي الفلسفة، أن بين الفلسفة والإيمان تعارضٌ قائم بطريقة أو بأخرى؛ فالدين قائم على الإيمان والتصديق، والفلسفة تُعوّل على المنطق؛ والدين توقيفيٌّ توقيفًا لا يقبل النقاش، والفلسفة تساؤلاتٌ لا حد لها؛ والدين يقتضي امتثال الأمر، والفلسفة تقتضي البحث والتقصي. ولو تأملت؛ لتبين لك أن الأمر أعقدُ من ذلك. ومع ذلك فإن فلاسفة التاريخ – مشاهيرهم ومجاهيلهم، المتقدمين منهم والمتأخرين، ذكورًا وإناثا، فلاسفة الغرب وغيرهم – معظمهم من أهل الديانات. فاعتقادك بتعارض الدين والفلسفة، أو الإيمان والعقل، افتراضٌ أن تاريخ الفلسفة في معظمه قام على أناس خرجوا على معتقداتهم الدينية المترسخة أو طرحوها جانبًا.

والواقع أن الصوابَ خلافُ ذلك؛ فلم يزل الدين عاملًا مهما في ارتقاء الفلسفة وتقدمها. وهو أحد العوامل بطبيعة الحال. فالـ ميتافيزيقا التي تبنّاها أكويناس صُبَّتْ في قالبٍ لاهوتيٍّمسيحيّ، كما أن المبادئ الأخلاقية التي وضعها كونفوشيوس شكلتها أفكارٌ تُعنى بأواصر القرابة في الحضارة الصينية العتيقة. وقد تأمل كثيرٌ من المفكرين في العلاقة ما بين السلطة الدينية والمنطق الفلسفي. وأشهر مثال على ذلك أكويناس نفسه؛ إذ حاول أن يفسر كيف أن الحقائق السماوية المُنزلة، ما هي إلا تتمة لمسلّمات التفكير الفطري. لكن هذه القضية أطلت برأسها في ثقافاتٍ أُخرى. انظر إلى المدرسة الهندوسية ميمامسا (Mimamsa) حين طورت نظريةً معرفيةًمتكاملةً، وفلسفةً لغويةً أرادوا بها تقوية ادعائهم أن فيدا أحدُ مصادر المعرفة الموثوق بها. أو انظر إلى الفيلسوف الأثيوبي في القرن السابع عشر، زيرا يعقوب (Zera Yacob) الذي امتحن إيمانه أمام التحقق العقلي لينظر أيصمد أم لا.

وبالجملة، فإن علينا إذن ألا نقول بتنافر الدين والفلسفة؛ فإن الفلسفة – على خلاف ذلك – تقدم السياق الذي جرى فيه التأمل الفلسفي. ولعل أحدنا يقول بذلك وهو يتساءل عن بعض الأيديولوجيات الدينية – على أنها في جملتها ليست من الدين في شيء – هل كبتت الحاجة إلى تعاطي الفلسفة أو ألغتها تمامًا. وأقرب مثال على ذلك فلسفة أكويناس، المذكورة آنفًا، التي أفرزها السياق الثقافي. وقد أُدين قبيل موته مرتين؛ قمعًا لتساؤلاته التي لا تعرف القيود، والتي تولى طرحها في معهد أكويناس (Aquinas’s Institute) بجامعة باريس (وكان أحد المستهدفين بلا شك). ثم إن أكويناس، وأعلام الفلاسفة المؤثرين الذين جاؤوا من بعده كـ دانز سكوطس عملوا في ذلك الوقت وفي ذات المكان؛ ليبيّنوا لهم أن مهمة المراقب مهمة عسيرة. فليس من اليسير، فيما يبدو، أن يخضع عظماء الفلسفة. ولقد قال بعضهم إن هذه الإدانات التي وجهت إليهم قد تمخض عنها – دون قصد – ابتكار وابداع.

ومن السياقات الثقافية الأخرى التي يُتوهم أنها حالت دون إِعمال المنطق بحرية، هو سياق من أوسع السياقات جغرافيا وأقدمها زمنا: ألا وهو الدين الإسلامي. دعونا نتأمل أيضا لنرى بطلان هذا الادعاء. ظهر الإسلام في القرن السابع الميلادي، وسرعان ما انتشر انتشارًا تصاغرت أمامه أوروبا الغربية؛ وهو اليوم أكثر اتساعًا من قبل، فالمسلمون يمتد وجودهم من ماليزيا وإندونيسيا شرقًا، إلى المغرب غربًا. فهل يعقل أن موقفهم تجاه الفلسفة واحد، أو تجاه المنطق عمومًا واحد، في زمنٍ امتد إلى ألفية ونصف الألفية من تاريخٍ وثقافةٍ إسلاميتين طالتا نصف الأرض؟ لا ريب أن هذا مما لا يعقل، إلا أن الواحد منا يسمع مرارًا من يقول إن الإسلام في جوهره يعارض التأمل العقليّ بطريقة أو بأخرى، وهذا الذي قعد بهذه الثقافات عن بلوغ عصرٍ تنويريٍّ (وكأن عصر التنوير نشأ في أوروبا دون تدخل، وعلى هذا لا بد من تفسيرٍ لعدم قيام التنوير في مكان آخر) وهكذا.

وحتى ندفع هذه التهم، علينا أن ندقق في سجلات التاريخ، ونأتي بشواهد على المذهب العقلاني (rationalism) في الثقافة الإسلامية. وقد انبرى لهذا المشروع سليماني بشير ديانفي دراسة بعنوان: “الانفتاح على العقل: حوار فلاسفة المسلمين والأساليب الغربية”. وهي دراسة نُشرت أول مرة باللغة الفرنسية عام 2008م وترجمها إلى الإنجليزية جوناثان اجيمان (JonathanAdjemian). وكما هو الحال في معظم المنشورات العامة عن الفلسفة في العالم الإسلامي، كان عامة تركيز الفيلسوف ديان على العصور الوسطى – قد يطلق عليها في السياق الإسلامي “المرحلة الكلاسيكية” أو “التأسيسية” – وهي تمتد، على وجه التقريب، من القرن التاسع إلى القرن الثاني عشر الميلادي. وكانت مهمته في إيراد الشواهد على وجود مفكرين عقلانيين مهمة يسيرة، فقد تبيّن أن المسلمين واليهود والنصارى، من عاش منهم في عصر القرون الوسطى في العالم الإسلامي،كانوا أشد إقبالًا على الفلسفة العقلية من معاصريهم المسيحيين في أوروبا، وأكثر منهم انطلاقًا إلى استكشاف الأفكار أيا كانت تلك الأفكار. وقد نشأت فلسفات راقية لها قيمتها، في كلٍ من الغرب اللاتيني وبيزنطة، غير أن تجريم هؤلاء الفلاسفة كان تهديدًا محدقًا، وحقيقةً لا مناص منها. لكن على النقيض تمامًا مما يظنه الكثير، فلم يكن القمع السياسي المنظم للفلاسفة حاضرًا في عصر القرون الوسطى في العالم الإسلامي.

وكان ديان ينتقل في سرده انتقالًا معتدلًا بما يشبه سرد الشخصيات – لمن يعرفون هذا العلم. وسمعنا عن مترجمي اليونانية والعربية الذين وقعوا في اضطراب بسبب نتاج أعمالهم في صورة حرب على المنطق اليونانيّ، شنّها النحوي [أبو سعيد] السيرافي، وأعمال ابن سينا العظيمة، ومآخذ الغزالي على ابن سينا وغيرها. أما أعظم دعاة العقلانية من الفلاسفة (وهو مسلم فقيه – أي أنه جمع بين التدين والعقلانية) فهو المفسر الأندلسي ابن رشد، في القرن الثاني عشر، الذي حظي بما هو أهل له من الاهتمام؛ إذ كان يرى وجوب الفلسفة على كل مسلمٍ قادرٍ على التعاطي مع هذا العمل الفكريّ. وكل ذلك وُصف وصفا بارعًا، لكنه يظل كغيره من المقدمات التي تناولت الموضوع ذاته. ولا ننكر أن بعض اختيارات ديان كانت مثيرةً للدهشة. فقد تناول عملا غير مألوف لابن سينا، وهذا العمل، كما اعترف هو، “لم يكن من أفضل أعماله” وثمة خلاف في موثوقيته. وعنوان هذا الكتاب: كتاب المعراج (The Book of Ascent) ضمّنه نصًا يقدم قراءة رمزية لقصة زيارة مَلَك من الملائكة للنبي محمد (r) ورحلة الإسراء إلى بيت المقدس. وبالنظر إلى اهتمامديان بالعلاقة بين الفلسفة والخطاب الديني، فإن تركيزه على هذا العمل له معنى عنده. لكن القارئ يخرج من هذا الفصل دون أن يفهم لماذا عُدّ ابن سينا علمًا من أعلام هذا المجال الفلسفي.

وأحدُ المآخذ على هذا الكتاب، ما ذكرته آنفًا، أنه ركز على قرونٍ محددة من الفلسفة في العالم الإسلاميّ. وبعد أن أشار ديان إشارة خاطفة إلى مفكري ما بعد الكلاسيكية كـ السهرودي (Suhrawadi) وصدر الدين الشيرازي (Mulla Sadra) قفز سبع مئة سنة ليناقش أقرب الفلاسفة إلينا، كـ جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ومحمد إقبال وعلي عبد الرازق. ونحن نرحب بهذه الفصول، ذلك أن أعلام الفلسفة من المتأخرين، ليس لهم في العادة حضور في تاريخ الفلسفة في العالم الإسلامي. لكنني أتساءل: لو أن ديان ألف كتابه في الوقت الحاضر، أكان سيؤلفه بالطريقة ذاتها، على ما فيه من ثغرة تاريخية شاسعة؟ حتى بعد عقد من الزمان من صدور النسخة الفرنسية الأصل، كان ثمة اهتمامٌ كبير في الفلسفة الحديثة بالعربية والفارسية. وقد ظهر جليًا في هذا العمل، أن الجدل الفلسفي ومفاهيمه – ما أُخِـذ عن ابن سينا خاصة – أصبحت جزءًا معياريًّا في أداة الفكر عند علماء الكلام والصوفيين، من شمال إفريقيا إلى آسيا الوسطى. ومما يدركه ديان إدراكًا تامًا دون أن يتطرق إليه في الكتاب، أن عِلم الكلام الفلسفي، والصوفية، نفذت عبر الغرب الإفريقي وصولا إلى أماكن مثل تمبكتو [بجمهورية مالي] وظلت تُمارس هناك. ولم يُحقق من آلاف المخطوطات في هذه الثقافة إلا قليلا منها، غير أن نظرة إلى عناوينها؛ تعطيك لمحة عن النشاط الفكري الثقافي في تلك المنطقة. وما يقال هنا يقال أيضًا عن الإمبراطورية العثمانية أو الهند إبان الحكم الإسلامي.

    عرفنا إذن أن الإسلام، على وجه العموم، لم يكن عائقًا أمام الفلسفة كما كانت المسيحية في أوروبا، أو الوثنية في بلاد الإغريق القديمة. وما نزال نجهل التفاصيل كلها. وعلينا أن ندرك، كما أسلفت، أن الفلسفة في العالم الإسلامي لم تكن شيئًا واحدًا، كما أن الثقافة الإسلامية ليست شيئًا واحدًا أيضًا. فهناك أتباع أرسطو وعلماء الكلام، والصوفيون والعلماء، واليهود والنصارى، والمسلمون أيضًا. وقد ختم ديان كتابه بطلب فيه شيء من الحماسة يؤكد هذه الرؤية. وأكد ما قاله الفيلسوف محمد عبده، أن الإسلام ذاته تغير مع تغير العالم من حوله، ويرى أن على المسلمين تقبّل هذا التغير. وأنكر على الأصوليين (fundamentalists) الذين تنتابهم “رهبة العصر” ويريدون أن يعودوا إلى ما كان عليه المتقدمون من معتقدات وممارسات، وحث المؤمنين على أن “يتبنوا […] طرقًا تُوائم التغيرات القادمة” مع تقدم الزمان. بمعنى أن عليهم أن يفعلوا ما دأب الفلاسفة على فعله؛انظر إلى الأفكار الجديدة في سياقها الذي وُلدت فيه.

المصدر