مجلة حكمة
الخطاب السفسطائي

في بلاغة التفلسف السفسطائي؛ قراءة في كتاب التضليل الكلامي واليات السيطرة على الرأي العام لكلود يونان – حيدر السلامة

التضليل الكلامي وآليات السيطرة على الرأي العام - كلود يونان الخطاب السفسطائي
التضليل الكلامي وآليات السيطرة على الرأي العام – كلود يونان (الخطاب السفسطائي)

الخطاب السفسطائي في التضليل الكلامي

في بلاغة التفلسف السفسطائي؛ قراءة في كتاب ” التضليل الكلامي واليات السيطرة على الرأي العام (الحركة السفسطائية نموذجا)” – للكاتب د.كلود يونان (دار النهضة العربية للطباعة والنشر – القاهرة، الطبعة الأولى، 2011م، حيدر علي سلامة (باحث من العراق متخصص في فلسفة الدراسات الثقافية))


تعتبر إشكالية الخطاب السفسطائي/وبلاغته في راهن القول الفلسفي، واحدة من اعقد الإشكالات الفلسفية. لما يكتنفها من حالات من الغموض والالتباس على المستويات التالية: التنظير الأبستمولوجي؛ والميتودولوجي (المنهجي)؛ واللساني (التداولي). مما انعكس سلبا على اغلب الدراسات والمؤلفات في مجال وحقل الخطاب الفلسفي، إلى الدرجة التي غلبت عليها سمة الأرثوذكسية/السلفية، حينما يجري تناول تاريخ فلسفة المدرسة السفسطائية. ربما يعود هذا في احد أهم أسبابه، إلى “سياسيات النهل الارتكاسي” من مصادر معلومات مألوفة وغير نافدة الصلاحية، تمثل المقاييس والمعايير السائدةstandards  / norms لمجمل ألأخطاء ألاكاديمية الشائعة/والمتداولة في دراسة وتحليل بنية ومفاهيم ومنهج هذه المدرسة الفلسفية اللسانية.

ومن بين أكثر تلك الأخطاء الفلسفية المألوفة التي يمكن تشخيصها وملاحظة تكرارها بطريقة دورية

الباحث حيدر علي السلامة
الباحث حيدر علي السلامة

مسستمة ومحكمة، هو “ضرورة التلازم الأيديولوجي” لهذه الفلسفة مع كل ما له صلة بمنطق التلاعب بالألفاظ؛ والخداع الخطابي؛ والإغواء الذهني. وذلك لكونها فلسفة تهدف إلى الإيقاع بالخصم وتضليله، لأنها استندت على منطق اللغة اليومية النسبي والحجاج البلاغي الاقناعي. فهي تسعى بذلك، إلى خلق حالة ذهنية شواشية لدى المتلقي/والمخاطَب، ومن ثمة، تخلق بينه وبين جوهر الحقائق المطلقة والكاملة فجوة كبيرة.

فحينما نطالع كتاب الأستاذ الدكتور “كلود يونان” الموسوم بـ ( التضليل الكلامي وآليات السيطرة على الرأي العام… “الحركة السفسطائية نموذجا”… بحث في فلسفة التضليل الكلامي الدعائي الإعلامي السياسي)، سنلمح كيف جرى اعتبار تلك الفلسفة “الأساس الجينالوجي” لتاريخ التضليل الكلامي والإعلامي. فمن خلال محاولة الباحث وبطريقة ميتافيزيقية وسحرية، التأسيس لتاريخ التلاعب الإعلامي والميديائي المعاصر على الخلفية التاريخية لهؤلاء المنبوذين- أي السفسطائيون-  حتى من قبل اليونانيين أنفسهم. سعى الباحث إلى تشكيل حفريات مؤدلجة بهدف تدليس وتلبيس الحقائق، وذلك لغرض ابتكار مرحلة تاريخية هجينة للخطاب السفسطائي تتأسس على كتابات غورغياس والذي عده الباحث واضع قوانين :(( التضليل السيكولوجي عندما كشف ازدواجية الشعور في النفس…وواضع قواعد التلاعب به وتوجيهه بواسطة اللوغوس الكلامي….أما بروتاغوراس، زعيم الحركة السفسطائية، فهو المساهم في تأسيس التضليل الكلامي الموجه إلى العقول، الذي استعمل الجدلية الكلامية …التي تقوم على البهلوانية اللفظية والقياسات المموهة التي لا تثبت شيئا، غايتها الإفحام والتسلط، باستعمال قوة الكلام. وجدلي: الانتيلوجي “القائمة على الخطاب الكلامي المزدوج المعاني، فحول كل شيء يوجد خطابان يتناقض واحدهم مع الآخر. وهنالك الكثير من طرق التضليل التي أسسها السفسطائيون. ان “الدعاية الإعلامية” تقوم على أساسات فلسفية عريقة بجذورها في الفلسفة السفسطائية، حيث نجدها عند السفسطائي غورغياس الذي أسس منظومة فلسفية متكاملة،حول “الدوكسا” أي الرأي، وعلاقته “باللوغوس الكلامي” والذي استقر أناه من خلال الآليات القووية (التي تستعمل القوة) التي  مارسها اللوغوس الكلامي على الرأي ليضلله ويقوده. وقد سميت هذه الطريقة”البسيكاغوجيا” أي “فن قيادة النفوس”، بواسطة الإقناع الكلامي؛ وهي من أهم وسائل الحرب السيكولوجية المستعملة بشدة في عصرنا الحالي.))(ص ص18-19) .

نلاحظ من خلال النص أعلاه، كيف تشكلت حالة التلازم الايديولوجي بين ظهور الفلسفة السفسطائية وبين تحول الخطاب الميديائي من مرحلة “الطهر الإعلامي الأفلاطوني” إلى مرحلة “الدنس الإعلامي السفسطائي/النسبي”. وبسبب غياب الأبعاد التاريخية والسوسيوثقافية في معالجة قضايا إنتاج الرأي العام وسياسيات تضليله من جانب المؤسسات الإعلامية صاحبة الدعم المادي واللوجستي له رسميا، راح باحثنا يصب جم غضبه على تاريخ الفلسفة السفسطائية التي عدها هي السبب الكامن وراء خروج “إعلامنا” من جنة دلمون المقدسة. ونتيجة لذلك، جرت عملية تنزية متكاملة شملت الجهات الإعلامية/الميديائية ومجمل برامج التشويه اليومي التلفازية والاذاعية؛ ناهيك عن الحروب النفسية ذات الصلاحية المستمرة  والمستعملة في غسيل أدمغة المتلقي. فهذه المؤسسات –بحسب وجهة نظر الباحث- كان يمكن لها ان تستمر في أداء وظائفها بمعزل عن منطق “الكون والفساد المتحول”، لولا ظهور “الفلسفة السفسطائية” التي لوثت طهارة تلك “المدن الإعلامية الفاضلة” التي ربما كانت تعمل بواسطة الأقمار الصناعية الأفلاطونية الميتافيزيقية المعقلنة عبر التاريخ!!

ويستمر الباحث في عملية تأصيل تاريخ أشكال “تضليل الرأي العام”. ليصل إلى نتيجة مفادها أن “السفسطائية” كانت هي من وضع المبادئ الأولى لمنطق إنتاج الخدع الإعلامية والأشهارية – فكأنها بذلك هي الأسبق على طروحات الفيلسوف الفرنسي ليوتار في التكنولوجيا (اللامادية) المستعملة في حرب الخليج- حيث يرى: ((أن السفسطائي غورغياس كان له الفضل في وضع النظريات المهمة في علم الأستراتيجيات من حيث الآليات الصراعية غير المادية، لقد تكلم على  الحرب الموجهة إلى الأعداء من خلال التهويل أو الإغواء بواسطة “اللوغوس الكلامي”. كما تكلم عن آلية إرهاب العدو بواسطة المشهد والصورة. وعدّ ذلك أسسا لفلسفة انتهازية الزمان والمناسبة والاستفادة من الفرص السانحة.))(ص19). فهل نحن أزاء حرب أفلاطونية جديدة ضد السفسطائية؟ يتحول وفقا لها “منطق اللوغوس الكلامي الفلسفي والأنطولوجي في تاريخ الفلسفة اليونانية إلى مجرد صور للإغواء والانتهازية؟ ثم لماذا ركز الباحث على تشويه “منطق اللوغوس” الذي يشكل القاعدة السوسيوسياسية؛ والسوسيولسانية لفلسفة الخطاب السفسطائي؟

ربما أن تاثير الفلسفات الافلاطو-ارسطية امتد من القارة الاوروبية ليصل ويتغلغل بين طيات ابحاثنا الأكاديمية العربية بشكل كبير، وهذا ما بدا واضحا في لغة الباحث. حيث نلحظ بين الحين والآخر حضورا لتلك الفلسفات، من خلال عقده لمقاربات فلسفية لا حصر لها بين الاقانيم المثالية والقيّمية للفلسفات الأفلاطو-ارسطية الواحدية المنزهة والمتعالية عن كل ما هو “سفسطائي حسي/نسبي” وغريب بالضرورة عن الخطاب السياسي لمدينة أثينا المقدسة والمسورة بحقائق أفلاطون السياسية المطلقة؛ وبفلسفة الأخلاق الارسطية المعيارية. بل ونلحظ ايضا، أن الباحث وعلى مدار فصول كتابه، عمل على ان يرفدنا بأحدث وآخر تقليعات الصفات والخصائص السلبية التي أُلصقت  جزافا بالسفسطائية. ولنتأمل في هذا النص المفتقر للدقة والموضوعية من النواحي التاريخية والفلسفية، حينما يعتبر الباحث: ((أن فلسفة التضليل الكلامي عند بعض الاتجاهات السفسطائية شكلت احد أهم المحفزات التي ساهمت في الإنتاجية الفكرية عند أفلاطون وأرسطو، وهذا يخولنا القول بأن هذه “الفلسفة ” نهضت تنظيرا وسلوكا لدى زعماء الحركة السفسطائية: بروتاغوراس؛ غورغياس، وايزوقراطس،مؤسس المدرسة “الأسكراتية”  وهذه الحركة كانت في صدام فكري مع التيار السقراطي  الأفلاطوني الأرسطي. ومرده، ذلك التناقض في الآراء والأفكار والمسلكيات، والتضارب في الآراء بين سقراط وتلاميذه، وبين السفسطائيين مؤسسي فلسفة التضليل السياسي، الهادفين إلى السيطرة والتسلط على الشعب في البولس -المدينة- “polis” اليونانية. أنهم “باعة علم الكلام” و “تجار الحقيقة”، “وباعة المعرفة”، “الذين مزجوا لحق بالباطل”، “وزيفوا الحقائق”، “وابرزوا البهتان بثوب الحقيقة”، “أنهم المتملقون، المداهنون، المغالطيون، النفعيون، المخاتلون، المخادعون، المتكيفون، المتقلبون، الذين شوهوا الأخلاق واحلوا منهج اللاعقلانية محل العقلانية، والذين تلاعبوا بعواطف الشعب وبمصيره. كل هذه الصفات أطلقها أفلاطون وأرسطو على زعماء هذه الحركة وتلامذتها. هذا يعني أن فلسفة التضليل كانت المحفز الأساسي لنشوء الفكر الفلسفي عند أفلاطون وارسطو الذي مر بالمراحل الآتية: مرحلة الكشف عن “فلسفة التضليل” التي مارستها الحركة السفسطائية. وتضمنت فضح هؤلاء وكشف قواعد التضليل لديهم؛ مرحلة دحض هذه القواعد وتفكيك آليات التضليل ومناهجه المستعملة من قبل هؤلاء؛ مرحلة المواجهة، وقد بدأت عندما وضع أفلاطون وارسو القواعد المعرفية والمنهجية والأخلاقية الثابتة لمواجهة فلسفة التضليل. ورمت قواعد الأخلاق التي وضعها أفلاطون إلى مواجهة المبادئ اللاأخلاقية، التي اعتنقها السفسطائيون ومارسوها))(ص ص 19-20).

اشتملت لغة النص أعلاه، على حالة من “التمويه والتضليل التاريخي” لطبيعة الخطاب السفسطائي. فعندما جاءت على عرض أهم المراحل التي مرَّ بها هذا الخطاب، نلاحظ كيف تعاملت معها تارة بوصفها نظام فلسفي واحد ينبغي مواجهته وتفكيكه؛ وتارة أخرى تصنفها بطريقة اعتباطية غير دقيقة وواضحة بما يكفي من أجل تحديد جينالوجيا فلسفة أجيالها المبكرة والمتأخرة. أضف إلى أن الباحث لم يأتِ على عرض تحليلي واف يعرض لنا فيه ما ارتكبه “السفسطائيون” من أخطاء تاريخية أدت إلى مثل العواقب الوخيمة. وهنا ينبغي علينا ان نتساءل، ما هو نوع وطبيعة التضليل الذي قصده الباحث؟ ومن هم المنتجون لمثل ذلك التضليل في تاريخ الفلسفة اليونانية؟ هل هم أولئك الذين فصلوا بين النظرية والممارسة وخطاب المدينة وعلاقته بالكائن الإنساني، كما هو الحال عليه في الفلسفات الأفلاطونية والأرسطية؟ أم هم من سعوا – أي السفسطائيين– إلى إعادة الاعتبار إلى “فلسفة المادية البراكسيسة” واكتشاف “النظرية السياسية” في بنية التواصل اليومي في المدينة بعدما كانت محض تصورات نظرية ميتافيزيقية تجريدية؟ وهل يمكننا العثور على أصول أشكال التضليل الكلامي عند السفسطائي المبتكر لخطاب الثقافة النسبية ونسبية الثقافة ونقد وتعرية وتفكيك القيّم الأيديولوجية التي كانت مسيطرة آنذاك، خاصة مع استمرار عملية إنتاج  العبودية بواسطة نظرية تقسيم العمل الأفلاطونية إلى ما هو ذهني وفيزيائي، والتي تخدم ،في نهاية المطاف، سلطة الطبقات السياسية المسيطرة في أثينا؟ وهل في الامكان ان تتاسس اصول التضليل والتمويه والخداع مع السفسطائي الذي سعى إلى تطبيق قانون ” محو ألامية ” في اثينا من خلال تعليم “العامة من اليونانيين”  التقنيات الخطابية في البلاغة والحجاج القائمة على وسيلة الإقناع، تلك التقنيات النافعة والمثمرة على مستوى الحياة اليومية بكل ما تخلفه لهم من هموم وقضايا ومشاكل إنسانية آخذة في التعقيد والتي رافقت التحولات السياسية والاقتصادية في الحضارة اليونانية، فكان عليهم ان يتعلموا كيفية الدفاع عن حقوقهم المهدورة والمصادرة في ظل سيطرة منطق اللغة النخبوية المسيطر؟ وهل تبدأ سياسة التضليل مع من يعمل – مثل أفلاطون وارسطو– على تثبيت سلطة الدولة وتأسيس إيديولوجيتها على أسس ميتافيزيقية/أخلاقية/قانونية قسرية مطلقة وقارّة وأبدية، لا تخدم سوى طبقة الساسة والملوك ومن لفّ حولهم؟ أم مع السفسطائي الذي نادى بضرورة التأسيس “لمنطق نسبي تاريخي” في الخطابات السوسيوسياسية؛ والسوسيوثقافية؛ والسوسيولسانية/ولغوية؟ ومن يضلل العامة، هل هو ذلك الذي يفرض عليهم الخضوع بدون جدال لمبادئ المثل العليا، ومن يستخدم وسيلة العنف بواسطة “سساتيم لا مرئية” مشرع لها دستوريا وقانونيا، ويأتمر الجميع إليها بالضرورة على الطريقة التوتاليتارية –حسب ارندنت–؟ أم هو ذلك السفسطائي الذي حول مسار الخطاب الفلسفي وانعرج بتاريخ الانطولوجيا الغربية بعدما كانت منسية جراء سيطرة الفلسفات التجريدية من الأفلاطونية والأرسطية؟

إن طبيعة لغة الباحث كانت متوقفة عند حدود المنطق الصوري. لهذا، نلاحظ كيف تمّ تغييب ومصادرة أهم انجازات الخطاب السفسطائي الفلسفية واللسانية والتدوالية..الخ. وذلك لان: ((…السفسطائية استخدمت في خطاباتها السياسية أسلوب الجدل التضليلي، الذي لا تبتغي منه المنهجية الرصينة، أو علم المنطق المؤديين إلى الحقيقة. بل جدل يراد به التضليل والتدليس والخداع والتمويه وسائر ضروب الغش. جدال يتلبس أشكال المنطق. ليست الجدلية السفسطائية بعلم، إنما هي مهارة وحرفة وبراعة، تهدف إلى التنافس والتجادل والتبارز، والتبرير من اجل التغلب على الخصم، ومضايقته والاستهزاء به. إن الجدل لدى بعض الاتجاهات السفسطائية، تم التطرق إليه ليس بهدف إنشاء منظومة منطقية متكاملة ومتناسقة، إنما في سياقات استخداميه وانتهازية، وتوظيف بعض القواعد المنطقية في خدمة “البلاغة” و “الفصاحة” و “الإقناع” و “المجادلة” التي تهدف إلى التضليل من اجل الانتفاع والنجاح والتسلط في المجتمع والسياسة))(ص27).

من بين ما يثيره النص أعلاه من أسئلة إشكالية، هل نحن أزاء بحث أكاديمي فلسفي موضوعي؛ أم بحث سلفي ارثوذكسي النزعة انطلق بنا من مسلمات مطلقة/ومقدسة إلى حد الدوغما القطعية حول اصول التضليل السفسطائية المزعومة، ومن ثمة، بطلان الخطاب السفسطائي برمته؟ فلماذا غابت مناهج التحليل اللساني والابستمولوجي واللغوي بهدف إعادة قراءة تاريخ هذه الفلسفة كما هو حاصل في راهن الخطاب الفلسفي الغربي؟  ولماذا كان هناك استناد واضح للباحث على مصادر ثانوية لا يمكن اعتبارها مراجعا موثوقا بها من الناحية التصنيفية والمنهجية؟

    إشكالات اللوغوس والخطاب في الفلسفة السفسطائية

عند مطالعتنا تحديدا لبعض المفاهيم الأساسية في كتاب الأستاذ يونان، نلحظ لوجود حالة من عدم الضبط الاصطلاحي وغياب الدقة المفاهيمية، وبالتالي افتقار لغة الباحث إلى ملامح منهجية واضحة ومحددة. فعلى سبيل المثال لا الحصر،  عندما جاء الباحث على عرض مفهوم “اللوغوس” واستعمالاته وبنية وظائفه الفلسفية عند السفسطائية، لم يعمل على تقديم سرد تاريخي وفلسفي/ابستمولوجي/اصطلاحي لمسيرة وتحولات هذا المفهوم بدء من الإرهاصات الأولى لتشكله في الفلسفة اليونانية حتى مرحلة تفكيك تاريخ اللوغوس في الانطولوجيا الغربية التقليدية على يد كل من: نيتشه وهيدجر إلى جانب الدارسات اللسانية والأنتروفلسفية الجديدة. نتيجة لذلك، لم يسلط الباحث الضوء على القطيعة الابستمولوجية واللسانية التي احدثتها الفلسفة السفسطائية مع مفهوم اللوغوس ألافلاطو-أرسطي. فمثل هكذا مقاربات فلسفية لم نلحظ لها وجودا في بنية الكتاب برمتها. ومن ثمة، لم يسعى الباحث نحو عرض هذا المفهوم بوصفه مفهوم متصل غير منفصل عن مجمل أبحاث الفلسفة السفسطائية، بدأ من مبحث الوجود، مرورا بعلوم السياسة والأخلاق وتاريخ الانطولوجيا القديمة في الفلسفة اليونانية.

 لهذا، علينا إن لا نصاب بالدهشة لعدم حضور مصطلحات أمثال مصطلح “الخطاب”ومناهجه التحليلية والنقدية” على مدار صفحات وفصول الكتاب. ربما لأن الباحث، لا زال يتعامل مع الفلسفة بوصفها تمثل مرحلة ماقبل الخطاب/واللغة والتداوليات اللسانية /التواصلية الجديدة، في حين إن بنية الخطاب السفسطائي اصبحت: ((تعكس الصورة المقلوبة لصنوه وغريمه الأبدي ،أي لكل من أفلاطون وأرسطو اللذان طالما فكر كل منهما من داخل الإطار الأونتو-لوجي onto-logie، أي ضمن أطار الكلام الذي يُحمل أولا وأخيرا على مفهوم être دون سواه. فهذا être سابق بدوره على اللغة التي هي مسكن الانكشاف. فمن خلال استنادهما على هذا المفهوم فهم قد حددا الكلام بـ “التحدث عن شيء ما”، ومن ثمة، لم يضعوا بعين الاعتبار أشكال اللغة الأخرى،على سبيل المثال، الخطب العامة وطرق الإقناع  persuasion وغيرها ممن الأشكال التي نتداولها في حياتنا اليومية،حيث تغلب الفاعلية وكفاءة الأداء في الواقع على سؤال الحقيقة فيكون مراعاة التواصل العلائقي أهم بكثير من محتوى أي خطاب…  إذن ،إن احد أهم سمات الخطاب السفسطائي هو تدشينه لمفهوم الممارسة والتفكير  بتلك الاشكال البلاغية/التداولية التي طالما نبذتها الانطولوجيا الافلاطو-ارسطية ورمت بها في لجة العدم. لأنه وفقا لهذه الانطولوجيا، طالما كانت تحمل كل كلمة من الكلمات “جوهرا متعاليا” فأنه بالضرورة سيكون لكل واحدة من هذه الكلمات معنى…. وهذا ما يلخص ذلك الرسوخ الأساسي للغة في الانطولوجيا (وفي نطاق الفلسفة الأرسطية وذلك تحت ذريعة عدم الانزلاق في الأقيسة الفاسدة واللغو السفسطائية). فمع السفسطائية أصبح الكلام يمثل وجودا- في- العالم، وبذلك انطبع التفكير الفلسفي بما ندعوه في القرن العشرين بالمنعرج اللساني” linguistic turn “)). Barbara cassin,la sophistique,sciences de linformation et de la communication,p29

يتضح من النص أعلاه، ان هناك علاقة جدلية وتاريخية تم السكوت عنها في نص الباحث، ونعني بها هنا: العلاقة المفقودة بين كل من: اللوغوس/والخطاب/والوجود. حيث لاحظنا ان الباحث لم يكن مهتما بإشكالية القطيعة الأبستمولوجية/والأنطولوجية/والمعرفية التي شكلها الخطاب السفسطائي في تاريخ الفلسفة اليونانية،بل إن الباحث لم يهتم أيضا بقضية تسليط الضوء على لحظة المنعرج الأنطو-لساني،الذي تم تدشينه مع السفسطائية وليجري إعلان ميلاد مختلف لمفهوم الأنطولوجيا القديمة.

والسؤال الذي نود طرحه هنا: لماذا اخذ مفهوم اللوغوس معناً أرثوذكسيا واحديا مرتبطا بأشكال منطق التلاعب؛ والتملق؛ والتضليل والسيطرة على عقول الناس، بصورة متلازمة مع  فلسفة السفسطائيين في المؤلف أعلاه؟ هل لأن يعود ذلك لوجود “تأويل حرفي” مطلق للوغوس تتحدد من خلاله اشكال ذلك المنطق ؟ ثم كيف لمفهوم “اللوغوس” أن ينفصل عن اللغة ومتداوليها في انطولوجيا الحياة اليومية؟ وكيف انفصل اللوغوس عن الوجود ليغدو مجرد “شعار إيديولوجي” استعمله الباحث لغرض فرض أحكامه المسبقة بهدف الإعداد لعملية “تحريف جديدة” تُضاف إلى سلسلة تاريخ تشويه الخطاب السفسطائي؟

ولماذا صمت “لوغوس الجامعة وأساتذته” عن كشف آليات التضليل والدوافع الأيديولوجية الخفية لدى الباحث، والرامية إلى إضافة دفعة تحريفية جديدة للخطاب الفلسفي السفسطائي، عوضا من إعادة قراءته واستنطاق المسكوت عنه. هل لان الخوض في “الفلسفة السفسطائية” لا زال يشكل  “تابو محرم” في  الفلسفة العربية عندنا، لا يصح تناوله وإعادة قراءته بالدرس والتحليل في كبرى مشاريع الثقافة العربية عامة والفلسفية خاصة؟