مجلة حكمة
الجيوشعرية hg[d,f,dj;

في الخلفية الفلسفية لِلجِيُوبُوِيتِيكْ (أو الجِيُو-شِعْرِيَة) – كينيث وايت / ترجمة: عبد النور زياني


في دلالة الجيوشعرية:

[ لقد كانت فكرة الجيوبويتيك أو الجيوشعرية = Géopoétique كامنة ومطبقة في العمل منذ البداية،حيث برز هذا المفهوم بشكل غير متوقع هنا وهناك.تلفظت به وكتبته في أواخر السبعينات.وقد قيل لي بأنه مفهوم استعمل في سياقات أدبية وعلمية؛غير أنني لا أدعي بأنه نتاج أبوة شعرية خالصة(…) وتهدف الجيوشعرية كممارسة إلى إستعادة وإثراء العلاقة بين الإنسان والطبيعة التي انقطعت منذ زمن طويل، حيث نتجت عنها عواقب وخيمة على المستوى الإيكولوجي والنفسي والثقافي. وبالتالي،فالهدف المنشود من الجيوشعرية  هو العمل على تطوير وجهات نظر وجودية جديدة في إعادة تأسيس العالم…”]

كينيث وايت


أجيب في هذا المقال على سؤالين إثنين لم يتعرضا، في السياق الذهني، للخلط والغموض وفقط،ولكنهما تدهورا إلى حد ما في الوقت الحاضر،ويمكن عرضهما كالآتي:هل يصح اعتبار الجيوشعرية دوغمائية،بمعنى أنها مناهضة لليبرالية؟وهل الجيوشعرية نزعة لاإنسانية؟

سأقوم بهذ الإستكشاف الفكري بصحبة مفكرين،هما سبينوزا ونيتشه اللذان كانا في محيط الجيوشعرية منذ أصولها الأولى.

(1)

أن تكون الحرية تصورا مألوفا ومريحا جدا،هذا أمر لاشك فيه.ولكن يمكن أن تكون لدينا أكثر من شكوك جدية حول دقة هذه الفرضية.ويمكننا حتى أن نجازف بالقول “وعلى نحو متعصب” أنها وهم كلي بالنسبة للكثير من الناس.ولكي نرى بوضوح،يتعين ،كما قال ليشتنبرغ= Lichtenberg (١) في إحدى شذراته “أن دراسة عميقة جدا”،هي الدراسة “التي يعد لها شخص واحد من بين ألف شخص الوقت والصبر الكافيين”.

لقد تكلمنا،وكتبنا،وشرحنا كثيرا بشأن مفهوم “الحرية”،وهذا أبعد من أن ينتهي.ولكن أفضل فحص للمسألة ،في نظري،يوجد في “الإٍتِيقَا /علم الأخلاق” لسبينوزا،وخصوصا في الباب الخامس المعنون ب “في قوة الفهم أو في الحرية الإنسانية”،وقد أعد هذا الجزء الذي بلغ ذروته بشأن الباب الذي قبله “في عبودية الإنسان أو في قوى الإنفعالات”.

لقد اقتبست للتو الترجمة الحالية لدراسة سبينوزا. ولكن لمزيد من الدقة فيما يخص المفردات، فمن المثير للإهتمام أن نشير إلى اللاتينية. فالصيغة الأصلية للعبارة ،”في قوة العقل أو في الحرية الإنسانية”هي الصيغة التالية :” De potentia intellectus, seu de libertate humana”. يبدو أن لفظ “intellectus=العقل” أكثر دلالة وأكثر قوة اليوم من لفظ “الفهم= entendement “.وبالمثل، فترجمة لفظ “mens” في الجملة “De natura et origine mentis “بلفظ”روح=âme” يبدو لي أمرا تقريبيا وحتى أنه تعسفيا.عندما نستعمل القول”mens sana in corpore sano “،فنحن نقصد “العقل السليم” وليس”الروح السليمة”.

(2)

يبدأ الباب الخامس من الإٍتِيقَا ،وعلى نحو جميل،كمايلي” transeo tandem ad alteram Ethices partem, quae est de modo sive via, quae ad Libertatem ducit =أنتقل أخيرا إلى هذا الباب من الإٍتِيقَا حيث يتعلق الأمر بكيفية تحقيق الحرية أو الطريق الذي يقود إليها. ولذلك سأتعامل إذن مع قوة العقل،مبينا ماذا يمكن للعقل أن يفعله ضد الإنفعالات ومن ثمة ما هي حرية النفس”.

يتعلق الأمر هنا بالإنتقال الكبير(الذي لا علاقة له بالإصلاحات أو حتى بالثورات) ،وكذا بالعبور العظيم (والذي لا علاقة له بمجرد العبور).إنها مسألة الخروج من كل شبكة العادات المألوفة ،والأسرة،وأبعد من ذلك ،من مزالق الفكر،بمعنى من السوفسطائية،التي يتعثر فيها الساذج ويلعب فيها السوفسطائي. لاشيء من هذا سهلا. ولكن كما يقول سبينوزا في ختام دراسته وبراهينه “كل مايكون جميلا يكون صعب المنال بقدر مايكون نادرا= Omnia praeclara tam difficilia quam rara sunt “.

(3)

وبالعودة إلى البدايات، يبدأ كتاب “الإٍتِيقَا ” على النحو التالي :”أعني بعلة ذاته ماتنطوي ماهيته على وجوده، وبعبارة أخرى ما لا يمكن لطبيعته أن تُتَصور إلا بوجوده=Per causam sui intelligo id, cujus essentia involvit existentiam “.ليس من السهل تعريف id في السؤال نظرا للإفتقار إلى الأفضل،سبينوزا يسمي “الله” (Deus)،مضيفا إليه على الفور” الطبيعة” (Naturae Ordo).واسمحوا لي ،يقول كينيث وايت،أن أشير على الفور إلى أن “إله” سبينوزا لا علاقة له بالديانات،وعندما يتكلم عن”الماهية”،فهي ليست تحديدا مسألة “ماهية إنسانية” من النوع الذي عارضته جميع المذاهب الوجودية.

دعونا إذن نترك جانبا اللاهوت والميتافيزيقا،ونتكلم عن طريق،عن رحلة، ولكن بما في ذلك أكثر من المعتاد عن: “ما يمكن أن يؤدي إلى معرفة النفس الإنسانية والغبطة القصوى “.

إن الخطوة الأولى التي تؤدي إلى المحطة الأولى،هي تعلم كيفية التغلب علي مجموع الإنفعالات،بدءا من الرغبة إلى اليأس مرورا بالطموح.لماذا يتعين تجاوزها إذن؟ لأن الإنفعالات-والأكثر من ذلك إذا كانت مُتَكَيِّسَة= enkysté في الخيال (imaginatio)-هي أفكار غير كافية ومشوشة،وبشكل أعمق،هي”انفعالات النفس”.وعلى هذا النحو،تُبْقِي الإنفعالات على النفس في حالة عبودية،سواء كانت سلبية أوإيجابية:”أسمي عجز الإنسان عن كبح انفعالاته والتحكم فيها عبودية= Humanam impotentiam in moderandis et coercendis affectibus servitutem voco”.

للتحرر من تحكم الإنفعالات والخيال،فإنه يجب يقظة (ad haec vigilantia requiritur) الفهم من الإختراق (ingenii acumen) وهو فن من نوع خاص يتوقف على “معرفة الحد الأقصى من الأشياء الفردية= res singulares intelligere” ورؤية كل شيء “في نوع من الخلود=sub specie aeternitatis”. وعلى هذا الأساس ،وباتباع طريق العقل الأعظم (أقول أن وحده الحُرُّ هو من يقوده العقل فقط) ذلك الذي يستطيع ،في مدة طويلة،وبالمثابرة أن يصل إلى مرفأ الوجهة التي يكون بمقدوره فيها،في الآن نفسه،معرفة الحقيقة (realitatem habere) والسعادة القصوى(summa mentis acquiescentia).

إن الفكر الذي يخط هنا مساره خطوة بخطوة،هو طريق التحرر الذي يتجاوز بكثير مانقصده عادة بهذه الكلمة.فهو طريق للتحرر والمعرفة التي تؤدي إلى رؤية شعرية للأرض على أساس تخطيط طبيعي لتكوين العالم.

إنه طريق صعب، بل هو صعب للغاية.

(4)

بالنظر إلى ماقمت بعرضه للتو أمام أولئك الذين يعلنون بأنهم “سيمارسون الجيوشعرية بكل حرية” مثلما هو عليه الأمر بالنسبة لأولئك الذي يعتبرون أنهم دائما “يمارسون الجيوشعرية دون معرفتها”،وهنا لا يمكننا إلا أن نبتسم.ليس فقط لأنهم يخلطون، لست أدري،بين الجيوشعرية والجغرافية الأدبية، أو لست أدري بين الجيوشعرية والبناء التخيلي،ولكن لكونهم لايعرفون بأنهم يسبحون في اللاوعي. ولكن دعونا اللحظة نواصل تنظيف الساحة ،عبر المرور من (غير أنه من الواضح أنهما مفهومان مترابطان) مفهوم “الحرية” إلى مفهوم “الإنسانية”.

(5)

أغادر الآن ورشة وغرفة دراسة سبينوزا في رينزبورغ=Rhynsbourg بالقرب من ليدن=Leiden حيث عاش خمس سنوات (بإمكانيات قليلة،وحياة بسيطة،وتأمل عميق) لكتابة هذا “التصحيح للفهم= émendation de l’intelligence”،الذي هو الإٍتِيقَا ، و في غرفة صغيرة في المدينة القديمة لِنِيسْ،حيث ذَرَعَ كل مسارات المناطق النائية،كتب نيتشه “إنسان مفرط في إنسانيته” =(Menschliches, Allzumenschliches).

في المقام الأول، أسئلة المنهج:

منهجية سبينوزا كانت هندسية، وبديكارتية فائقة، أما منهجية نيتشه فهي جيروفاگ gyrovague =/جَوَّالة (٢) وشذرية.

إذا كانت معظم نصوص الفلاسفة مملة بشكل قاتل،فذلك لأن الفلاسفة يريدون التطوير والشرح أكثر من اللازم. لكن منهجية سبينوزا مثيرة للعقل بسبب هندستها الملموسة والمجردة، إنها هندسة تآلفية/أفينية (٣)= Affine وإسقاطية.أما المنهجية التائهة والتجوالية والشذرية لنيتشه هي التي تسمح له بالقيام باختراقات مفاجئة ومبهرة.

(6)

في تصديره ل”إنسان مفرط في إنسانيته” الذي يعود إلى أبريل ١٨٨٦،صرح نيتشه أن مايميز كل كتبه هو”تحريض خفي على قلب كُلِّ التَّقْدِيرَاتْ المُعْتَادَة و العَادَات المُقَدَّرَة “.وهذا يزعجنا كثيرا(“ثم ماذا؟ ألن يكون كل شيء إنساني مفرط في إنسانيته؟”).كما أنه أمر يغرينا كذلك كثيرا،ولكن لأسباب خاطئة.هذا هو السبب في عودة نيتشه على الدوام في الطريق، حيث يكون صادما هنا،ومتحدثا بهدوء هناك،مستخدما الهجاء أحيانا،والشعر الغنائي أحيانا أخرى.وهذا لأن الميدان معقد وطويل،إنّهُ الطريق.وهو نفسه يعرفه،ولم يذهب فيه حتى نهايته.

في الوقت الذي كتب فيه “إنسان مفرط في إنسانيته”، كان بالكاد قد خرج من حالة شعر فيها وكأنها سجن. حالة يشعر فيها ،من جهة أولى، بالتعافي من المعاناة،الحزن،وكل أنواع “الأمزجة الشريرة”.ومن جهة ثانية،يعرف أن”هذه الوفرة من القوة الحيوية،والعلاجية،والتربوية والتجديدية،هي علامة على الصحة الجيدة “.إنها في الغالب شكل للتحول.ولكن ما هو التحول؟ إنه عبارة عن سبينوزا الذي يمر عبر كيب هورن cap= Horn (٤)

(7)

كما يبين العنوان الفرعي للكتاب على أن أي واحد يميل إلى أن ينسي،ف”إنسان مفرط في إنسانيته”كتب”للعقول الحرة”(Ein Buch für freie Geister). هذه العقول الحرة (شيء آخر غير”المفكرين الأحرار” ،الذين ينشطون في سياق وقتهم) لا وجود لهم حتى الآن، ولكن قد يوجدون يوما ما: “إنني أراهم على نحو استباقي قادمين رويدا،رويدا،وربما أكون قد فعلت شيئا لأعجل مجيئهم،حين أصف مقدما تحت أي رعاية أراهم قد ولدوا،والمسارات التي أراهم قادمون عبرها.” التربية،هي في الأساس تربية أساسية.واحد من النصوص الأولى لنيتشه كان موضوعه “في مستقبل مؤسساتنا التعليمية”،وليس فقط لأنه كان أقل تفاؤلا،ولكنه كان كذلك أشد نقدا.

في “إنسان مفرط في إنسانيته” حين كان مجبرا على اختراق حقل أكثر توترا،يعود إلى السؤال مرارا وتكرارا،وَاصِمًا “تقلب المناهج والنوايا”،والذي يؤدي فقط في حالة بعض العقول أكثر مقاومة من الآخرين إلى سياق حيث” في هذه الضجة الجنونية،أصيب المعلمون والمُربون بالذهول، ثم التزموا الصمت ،وأخيرا أصبحت عقولهم منهكة”. وهذا هو وضع الكليات والمدارس الثانوية. ففي الجامعة، من حيث المبدأ،ظلت المساحة مفتوحة لمزيد من الحرية، ولكن الجامعيين،مرة أخرى باستثناء الإستثناء ،لم يتمكنوا من استخدامها، وتركوا عقولهم في حالة شرنقة. في مصادر أي مشروع للتعليم العميق توجد مسألة كمية الطاقة (الحيوية والعقلية) المتاحة.إذا كان هذا مفقودا،يتعين ابتكار وسائل لزيادتها، أوإيقاظ طاقة جديدة. ثم تأتي المرحلة الثالثة الأكثر صعوبة: التهييء لثقافة، ولكن ليس أي ثقافة.ليس “ثقافة” بالمعنى السوسيولوجي،ولا حتى ثقافة “نقدية” مصاحبة أو كطباق=contrepoint للثقافة العامة والخاصة”، ولكنها ” ثقافة قوية “.

إن ما يميز ثقافة قوية عن ثقافة عادية،هو أن هذه الأخيرة تكون محمولة من قبل العقول التي”لا تعرف الصعود إلا بحبلين فقط “،في حين أن الثقافة القوية هي نتيجة للعقول التي “تعرف كيفية اللعب على عدد أكبر من الحبال”.

(8)

كيف يمكن أجرأة “الثقافة القوية”؟

في سياق التاريخ،وفي جميع أنحاء العالم،يمكننا أن نجد الأوقات التي توجد فيها مثل هذه الثقافة. لكن “الثقافة القوية يساء فهمها بالضرورة، ويساء تفسيرها دائما من قبل الثقافة العادية”.ما تبقي منها هو ما يسمي بـ”الثقافة الكلاسيكية”،والتي سيتم رفضها في نهاية المطاف باسم”النخبة”، لفائدة سوسيولوجية،لجميع أنواع التسوية من الأسفل.

مصدر آخر: في أدب متحرر، منعش، جوهري ومتوهج.

هذا النوع من الأدب ليس من إبداع الغالبية العظمى من الكتاب والشعراء، ولكن يمكن أن نعثر عليه لدى بعض المؤلفين النادرين، الذين لا يحضرون الوسط الفكري بشكل عام والوسط الأدبي على وجه الخصوص. وبهذا يكون “أفضل مؤلف هو ذلك الذي يخجل من أن يتحول إلى رجل حروف.”

معظم الكتاب هم إما مدمرون وإما ظلاميون حيث” يسعون إلى تشويه صورة العالم وحجب فكرتنا عن الوجود”.هذان النوعان “يمنعان تحرير العقول”.أما بالنسبة للشعراء فكانوا في زمن سابق (في العصراليوناني على سبيل المثال) يعتبرون معلمي البشرية، ولكن لم يعد لهم وجود الآن.فلم يعودوا مكونين،لأنه ليس لديهم هم أنفسهم أي تكوين.

يبقي المؤلف الذي أخذ الوقت الكافي لإكتشاف نفسه، والذي يستمد من الثقافات القديمة العناصر الحية التي تجعل منه قادرا على خلق الإمتداد،والذي سيتعلم كيف يكتب بحق ( أي أن يفكر بطريقة عميقة وحيوية على حد سواء،ليراكم الخبرة القابلة للترجمة)، هو القادر على شق الطريق من خلال الإرتباك.

(9)

هناك العديد من أنواع المسافرين،لكن نيتشه يميز بين خمسة أنواع:

(١) مسافري الدرجة الدنيا :المسافرين الذين نصادفهم (كالسُيَّاح،بما في ذلك السُيَّاح الثقافيين .(٢) أولئك الذين ينظرون حقا إلى العالم.(٣) أولئك الذين يصلون إلى شيء ما نتيجة لملاحظاتهم.(٤) المسافرين الذين يحتفظون بما عاشوه والإستمرار في حمله في نفوسهم.وأخيرا،”هناك بعض الرجال الذين يتميزون بقوة استثنائية،ينشرون كل ما شاهدوه في اليوم الكبير.هؤلاء هم الذين يسترجعون أسفارهم في شكل أعمال إبداعية”.

إن ما يميز المسافر الحقيقي هي” رغبته الطوعية في التنقل،بحيث يكون مندفعا للهجرة، للإبتعاد… “. يذهب إلى كل مكان “.إنه مسافر جوال،فضولي وباحث “.

(10)

يتبع نيتشه طريقه الكوسمو-فوضوي نحو نظام ناشئ، يطرح دائمًا أسئلة حول”لغز هذا التحرير العظيم”، يقوم ب”رحلات الطيور إلى المرتفعات الباردة”،يعد تاكتيكا للحياة “قريب طوعيًا،بعيد طوعيًا”،واستراتيجية وجودية (“وتيرتك تصبح أكثر حيوية،أكثر حزما،والشجاعة والحذر قد انصهرا .”) ،ولكي نختم:”هناك بعض الدلائل التي ستدرك أنك قطعت شوطًا طويلًا فيها وأنك قد صعدت إلى أعلى:والفضاء الآن أكثر حرية من حولك ،ووجهة نظرك تحتضن أفقًا أوسع.”

إنه فرداني مطلق،لكنه لا ينسى أبدًا إمكانية وجود مجتمع من الأصدقاء،أو جمعية من العقول الحرة، أو مكان جديد للتعليم.في شكل،على سبيل المثال،أكاديمية للعلم المرح التي كان قد أسسها في نِيسْ،حيث سيتم تدريس المافوق-إنسانية=Surhumanisme.لكن هنا أيضًا،يصادف “الإنسان المفرط في إنسانيته”،وأكثر من ذلك في نصوص الفلاسفة والكتاب “بمجرد الإرتقاء إلى أعلى من أولئك الذين كانوا معجبين بنا”،نبدو لهم غير مرئيين،بحيث”يعتبروننا قد سقطنا وانهارت قوانا،ذلك أنهم تصوروا أنفسهم ،وفي جميع الظروف، معنا في الأعالي (حتى لو كان الفضل في ذلك يعود لنا)”. وبعد ذلك لتنظيم أي شيء كان، ولأجل الحفاظ على البنية،يلزم فقط القيام ب”استعدادات،إنعطافات،اختبارات،محاولات،تنكرات” كمشاكل سلطة.

ربما لم تكن البشرية حتى الآن في مرحلة ملائمة من التطور. ليس فقط لن يكون هناك تقدم،ولا تدرج ،ولكن تدهور متزايد. ” قيل لي أنه يتطلب الكثير “.حسنا،للأسف.يجب علينا أن نواصل الطريق،نفتح المجال. والآخرون “سيبقون في زاويتهم،مشدودين إلى دعامتهم” أمام “عالم غير مُكْتَشَف”.

إن المسارات التي أشرت إليها للتو والتي تتبعتها تؤدي إلى المجال العظيم المتمثل في المافوق-إنسانية=Surhumanisme ،والتي يجب أن يقال أنه لا علاقة لها ب”السوبرمان” المهيمن،وكل شيء يتعلق بتجاوز للنزعة الإنسانية التي ورثناها ،ليصبح”مفرطا في إنسانيته”.

يستحضر نيتشه في “إنسان مفرط في إنسانيته” صورة ديوجين ،حيث يقول الكَلَبِي=Cynique الذي كان يمشي في ضوء النهار في شوارع أثينا حاملا فانوسه في يده،بحثا عن الحقيقة والوجود الأصيل.يعلق نيتشه على هذا قائلا “قبل البحث عن الرجل،يتعين علينا أن نجد المصباح،وهل سيكون ،بالضرورة،مصباح الكَلَبِي؟”.

في الواقع ، لقد مرّ ما يقرب من مائة عام على وفاة نيتشه،ومن شأن العلم ،في شخص بعض علماء الفيزياء الحيوية وعلماء الفيزيولوجيا العصبية،أن يوفر الفانوس لإعطاء ضوء جديد للإنسان،في شكل نظرية النظام المفتوح.

سأقتبس-كما سبق لي أن فعلت في سياقات أخرى،لأن النص ضروري لكونه يؤكد الكثير من الحدوس- قول عالم الفيزياء الحيوية هنري أتلان= Henri Atlan “إن الإنسان الذي أعلن مشيل فوكو عن اختفائه (مثلما تختفي أو تُمْحَى صورة الوجه المرسومة على الرمل بفعل موجة الشاطئ)،هو في الواقع صورة لنظام مغلق سيطر علي طول القرن التاسع عشر والجزء الأول من القرن العشرين […]. هذه “الإنسية” لم يعد ممكنا الدفاع عنها لأن صورة الإنسان تَشَظَّت في كل الجهات[…].إنها نهاية الوهم […].هذا الإنسان هو في الطريق إلى أن يُسْتَبدل بالأشياء، بالتاكيد، ولكن في اللحظة التي يمكننا أن نتعرف فيها على أنفسنا لأنها يمكن أن تتحدث إلينا.[…].إذا كنا لا نسمح لأنفسنا أن نُخْنَق من طرفهم،أي إذا كان لدينا استعداد- وهي ملكة لاواعية للتنظيم الذاتي تحت تأثير أشياء البيئة- للتسجيل بما فيه الكفاية في الذاكرة[…]،لذلك عندما ننظر حولنا ،يمكننا أن نشعر بأننا في المنزل[…].عندما نكتشف بنية في الأشياء،أليس ذلك إيجاد،بطريقة متجددة ومكررة،للغة يمكن للأشياء أن تتحدث إلينا عبرها؟ وهل يكلفنا ذلك كثيرا لدفع مقابل إعادة لمّ الشمل هذه لنلاحظة أن لغتنا الخاصة لا تختلف اختلافًا جوهريًا عن لغة الأشياء هذه؟ […].إن وجودا موحَّدا ومشتركا يصبح ممكنا.”

كانت هذه الحدوس موجودة قبل فترة طويلة من فوكو،وقبل علماء الفيزياء الحيوية وأخصائيي الأعصاب في أواخر القرن العشرين. ويمككنا العودة ،في الغرب،إلى هيراقليطس،إلى أرسطو.

ولكن للبقاء في إطار هذا المقال،إليكم مايقوله سبينوزا،وعلى نحو صريح جدا،في الإِتِيقَا “إن نظام الأفكار وترابطها هو عينه نظام الأشياء وترابطها” (Ordo et connexio idearum idem est ac ordo et connexio rerum).

إننا هنا في خضم الجِيُوبُّوِيتِيكْ/ الجيوشعرية الكاملة.

المصدر


إحالات الجيوشعرية:

كينيث وايت=Kenneth White شاعر ومفكر اسكتلندي معاصر،ولد في كلاسكو عام [١٩٣٦~].وهو منظر الجيوشعرية . يقوم شعره على سرد الرحلات الفلسفية ويربطه بعناصر الطبيعة من بحر،وأرض،وماء،وحجر… كاشفا بذلك عن العلاقة الجدلية والعميقة بين الإنسان والطبيعة في قالب شعري متفرد…

يفضل كينيث وايت أن ينعت ب”المسافر التائه،المتسكع،العابر…ويرفض أن يلقب بشاعر.يقول :”أوافق على أن يطلق علي “شاعر” شريطة أن يتم تعريف المصطلح بشكل صحيح.أحب وصف الطبيب ومؤرخ الفن إيلي فور Elie Faure الذي يقول فيه: “الشاعر هو الشخص الذي لا يفقد الثقة أبدا لأنه لاَ يَعْلَقُ أبدا على أي ميناء (…) إنه النموذج الذي يطير من خلال العاصفة ويضيع دون تردد في الصيرورة الأبدية.”

-اعتمدنا في ترجمة المقاطع المقتبسة من كتاب الإتيقا/علم الأخلاق لسبينوزا على الترجمة التي أنجزها أستاذ الفلسفة والمترجم التونسي جلال الدين سعيد،والصادرة عن المنظمة العربية للترجمة .الطبعة الأولى،بيروت٢٠٠٩

–اعتمدنا في ترجمة المقاطع المقتبسة من كتاب “إنسان مفرط في إنسانيته-كتاب العقول الحرة ،ج I” لفريديك نيتشه على الترجمة التي أنجزها المترجم المغربي محمد الناجي،والصادرة عن دار أفريقيا الشرق ،طبعة ٢٠٠٢

(١)جورج كريستوف ليشتنبرغ=Georg Christoph Lichtenberg،عالم وشاعر وكاتب ألماني ( 1742- 1799)

(٢)جيروفاگ=gyrovague أو الراهب المتجول،وهو إسم كان يطلق على الراهب الذي كان دائم التجوال من دَيْر إلى آخر دون أن تربطه أي علاقة مع أحد هذه الأديرة.كما أنه اعتبر رمزا للفرد”الهامشي والمنعزل عن الجماعة”،وهي حالة كانت مدانة بشدة في الغرب المسيحي في الوقت الذي كان هناك هامش من التسامح معها في الشرق المسيحي.(المترجم)

(٣)الهندسة التَآلُفِيَّة أو الأَفِينِيَّة،هي هندسة المساحات الأفينية: وتتعلق تقريبا بمجموع النقاط المحددة من قبل خصائص معينة للحديث عن المحاذاة ،والتوازي،والتقاطع…فالفضاء التآلفي أو الأفيني هو بنية رياضية مجردة تعمم الخواص الهندسية الأفينية للفضاء الإقليدي،بحيث أنه في الفضاء الأفيني،يمكن للمرء أن يطرح نقاطاً ليحصل على متجه،أو يجمع متجه مع نقطة ليحصل على نقطة أخرى، لكن لا يمكن جمع نقطتين لعدم وجود نقطة الإنطلاق. (بتصرف عن موسوعة ويكيبيديا) .

(٤)كيب هورن =Cap Horn: هو الممر الذي يدور حول الطرف الجنوبي لأمريكا الجنوبية.اكتشفه الملاح الهولندي “فيليم كورنيليز شوتن” بسفينته “إيندراخت” في القرن ١٧ م ،وأطلق عليه إسم مسقط رأسه “كيب هورن”.وفي جزيرة كيب هورن يرتطم المحيطين الكبيرين الأطلسي والهادئ حيث تكون الأمواج هائلة،مما تسبب في اختفاء مئات السفن وتحول إلى مقبرة لآلاف البحارة..( بتصرف عن موسوعة ويكيبيديا(. وهنا يشبه كينيث وايث المغامرة المحفوفة بالمخاطر التي خاضها نيتشه في حربه على الميتافيزيقا الغربية بركوب الأمواج العاتية والعنيفة لممر كيب هورن (المترجم)