مجلة حكمة
الحربة ماركس والبيان الشيوعي

في الحرية والاضطرار – اي جاي آير / ترجمة: فيصل الفرهود

فيصل أحمد الفرهود
المترجم: فيصل أحمد الفرهود


 عندما يقال بأنني قمت بفعل ما عن حرية إرادة فإن هذا يعني ضمنا بأنني كنت أستطيع اختيار القيام بفعل معاكس لما اخترت القيام به، وعندما يسلم بقدرتي على القيام بفعل آخر فإنني أصبح حينها فقط محاسبا أخلاقياً على توابع ما فعلت ومن لا يستطيع تجنب فعل فعل قام به لا يحمل مسؤولية ما فعل . ولكن ما دام سلوك البشر محكوماً بالقوانين السببية فلا يبدو من الواضح كيف لنا أن نتجنب القيام بأي فعل قمنا به . عندما يقال بأن فاعلاً ما كان يستطيع القيام بنقيض ما فعل لو كانت الظروف التي تسببت بفعله مختلفة فهذا يعني بأنه كان مجبرا على فعله .هناك مسلمتان متعارف عليهما أن البشر قادرون على التصرف بحرية بمعنى أنهم مسئولون أخلاقيا عن عواقب أفعالهم ، وأن السلوك البشري محكوم بقوانين سببية . ومن خلال هذا التعارض الظاهر بين هذين الافتراضين تبدأ كل المشاكل الفلسفية لحرية الإرادة بالبروز.

عندما يجابه العديد من الأشخاص بهذه المشكلة فإنهم يميلون لموافقة مقولة الدكتور جونسون ” يا سيدي نحن نعلم بأن إرادتنا حرة وأن لها نهاية ” .على أن هذا يدعم رأي من يقبلون بمقدمة الدكتور جونسون جيداً ولكنه بالكاد يستطيع إقناع أي ممن ينكرون حرية الإرادة . مما لاشك فيه بأن معرفتنا بحرية إرادتنا تعني إذن أن إرادتنا حرة . ولكن نقض ذلك منطقيا قد يكون ما دامت إراداتنا ليست حرة فهذا يعني أن لا أحد يستطيع معرفة ذلك . فإذا ادعى أحد ما أنه يعلم بأننا نملك إرادة حرة كالدكتور جونسون فإنه بلا شك مخطئ. ما يبدو جلياً بالطبع هو اعتقاد الناس بأنهم يفعلون عن حرية إرادة ولهذا “الشعور” بـ الحرية يلجأ بعض الفلاسفة في معرض اهتمامهم بالنقاش الأخلاقي لإثبات أن كل أفعال البشر ليست محكومة سببياً . ولكن إن كان هؤلاء الفلاسفة محقون في افتراضهم بأن لا أحد يستطيع أن يفعل عن حرية إرادة ما دامت أفعاله مقدرة بالقوانين بالسببية فهذا يعني بأن مجرد شعور الفاعل بحرية الإرادة أو عدمها عند قيامه بفعل ما لا تعني بالضرورة أنه كذلك. قد يعني ذلك أن الفاعل لا يعلم الدافع لاختياره لفعل ما دون الآخر , ولكن عدم وعي الفاعل بما يسبب فعله لا يعني بالضرورة ان هذه الأسباب لا وجود لها .

قد يٌسلم للحتمي بصحة كثير مما يعتقد ، ولكن اعتقاده بخضوع كل السلوك الإنساني لأحكام القوانين الطبيعية لا يزال غير مبرراً حتى الآن . ولو كان كل حدث محتاج لسبب ضرورة فإن هذه القاعدة يجب أن تطبق على السلوك الإنساني كأي شيء آخر .

ولكن ما الذي يدفعنا إلى الاعتقاد بحاجة كل حدث إلى مسبب له ،فعكس هذا الافتراض ليس مستبعداً ولا أن قانون السببية في العالم هو مقدمة ضرورية للعلم . قد يحاول العالم أحياناً اكتشاف القوانين السببية وقد ينجح في ذلك ولكن أحياناً عليه أن يرضى بالقوانين الإحصائية ، وقد تمر عليه أحياناً أحداث لا يستطيع تصنيفها تحت أي قانون علمي في حالته المعرفية الحالية . يفترض في هذه الحالة بأنه كلما تزايدت معرفته فسيصبح قادرا ً على اكتشاف بعض القوانين العلمية إحصائية كانت أم علمية والتي ستمكنه من إلحاق (هذه الأحداث) تحتهما وهذا الافتراض لا يمكن دحضه ، وإلى أي مدى قد يصل به البحث فلا تزال وجهته مفتوحة لمزيد ومزيد من البحث . وسيفترض دائماً احتمالية اكتشافه للارتباط الذي فاته حتى هذه اللحظة ما لو استمر في بحثه قدماً . ومن المحتمل أيضاً بأن هذه الوقائع التي يبحث فيها ليست مترابطة بانتظام فيما بينها وأن السبب وراء عدم قدرته على اكتشاف القوانين التي يحتاجها هي لأنها بكل بساطة غير متحققة .

في معرض الحديث عن السلوك البشري فإن كل ما قدم من بحوث عن تفسيرات لها لم يكن مثمراً في الحقيقة. هناك عدة قوانين علمية تم التوصل لها وبمساعدتها نستطيع القيام بتنبؤ صحيح عن بعض أسباب السلوك البشري. ولكن هذه التنبؤات لا تغطي كل التفاصيل . فقد نتنبأ بغضب رجل ما إذا ما مر ببعض الظروف دون تفصيل دقيق عن كيفية غضبه. قد نتأكد أنه سيصرخ دون أن نعلم عن درجة علو صراخه أو أي الكلمات سيستعمل عند صراخه . وهي كمية محدودة من الأفعال البشرية تلك التي تقبل التكهن وقد يعلل ذلك بعدم كفاية ما قدم من بحث فلا يزال علم النفس بدائياً حتى الآن ومع تطوره فلن يتم تفسير الأفعال البشرية فقط ولكن هذا التفسير سيصل إلى تفاصيل أعظم . قد يكون مفهوم الوصول إلى التفسير النهائي عصياً على البلوغ ولكنه ممكن نظرياً وهذا قد يكون صحيحاً ولكنه غير ظاهر فمن الصعوبة أن لا تكون كل مسلمة كذلك . وهذا لن يمنع العلماء من تطوير النظريات واختبارها في مجال علم السلوك البشري وغيره وهم بذلك محقون لعدم امتلاكهم لأي سبب بديهي للاعتراف بوجود حدود لما يمكنهم اكتشافه . وعدم يقينهم بعدم وجود هذه الحدود لا يجعل استنباط النظريات أو تطويرها أمرا غير منطقي بالنسبة لهم .

ولكن لنفترض القول بوجود حدود في ما يتعلق بالأفعال البشرية ، وهذه الحدود مرجعها حرية إرادة الإنسان . هناك اعتراض بديهي على هذا وهو أن كل إنسان يجد نفسه في حالات متكررة حرا بالقيام بفعل ما أو تركه ، وحتى الآن نحن قادرون على تفسير اختيار الإنسان لأفعاله بمصطلحات سببية. ولكن قد يعترض على ذلك بأنه وعلى الرغم من خطأ البشر أحياناً في الاعتقاد بحرية أفعالهم فإن هذا لا يعني ضرورة أنهم مخطئون في كل شيء آخر .لأننا لا نستطيع إرجاع كل فعل يقوم به إلى تفسير سببي حينما يشعر الشخص بأنه تصرف عن حرية إرادة . فالمؤمن بالحتمية سيقول بأننا نستطيع إرجاع كل فعل لعلاقة سببية ما دمنا نملك المعرفة اللازمة بظروف هذا الفعل وما دمنا نستطيع اكتشاف القوانين الطبيعية الصحيحة . ولكن حتى تتم هذه الاكتشافات فقوله لا يزال أملا متحيزا. ومن الممكن أن نرجع عدم قدرتنا على إعطاء تفسيرات سببية بسبب عدم وجودها أصلاً ، وأن اختيار الفاعل لفعله كان نابعا عن حرية إرادة محضة كما شعر بذلك ؟

وجواب ذلك أن هذا قد يكون صحيحاً بقدر ما يفتح باب القول بعدم إمكانية وجود تفسير حتى يتم إيجاده حقاً. وحتى هذا القول لا يدعم مقولة الأخلاقي لأنه مهموم بإثبات قدرة البشر على الفعل بحرية إرادة لينتهي بذلك إلى القول بمسؤوليتهم الأخلاقية عما يفعلون . ولكن ما دام اختيار كل إنسان لأن يفعل فعلا بدلا عن الآخر مرجعه إلى الصدفة المحضة فقد يعني ذلك بأنه حر ولكنه لا يعني بأنه مسؤول عما يفعل . وعندما لا نستطيع التنبؤ بأفعال كل إنسان ولا نعلم ما سيقوم بفعله فإننا لا نراه كفاعل مسؤول أخلاقياً عما يفعل بل نراه كمختل عقلياً .
وقد يعترض على ذلك بأننا لم نتعامل بإنصاف مع دعوى الأخلاقي ، فهو عندما يشترط حرية إرادتي لأكون مسؤولاً أخلاقيا عما أفعل فإنه لا يلمح إلا أن مرجع أفعالي إلى الصدفة المحضة . وإنما يريد أن يلمح إلى أن أفعالي هي نتائج عن حرية إرادتي ولهذا السبب فأنا مسؤول عن تبعاتها الأخلاقية .

يجب أن نتساءل الآن كيف توصلت إلى اختيار القيام بفعل ما . إما أنني قمت باختيار القيام بالفعل عن قصد مني أو لا . إن كان فعلي عن غير قصد مني فإن اختياري له مجرد صدفة ، وما دام اختياري لفعلي مجرد صدفة فمن غير المنطقي أن أحمل أخلاقياً مسؤولية ما أفعل . ولكن إن كان اختياري لأفعالي لم يتم عن صدفة فلابد أن نفترض تفسيرا سببياً لاختياري هذا ، وفي هذه الحالة فإننا نعود مجدداً إلى حيز الحتمية .

ومجدداً ، قد يعترض بأننا لم نوف اعتراض الأخلاقي حقه ، فالأخلاقي لا يقول بأن اختياره لأفعاله مبني على الصدفة ولكنه يقول بأن اختياره لأفعاله متسق مع طبعه وشخصيته . وعلى رغم ذلك فهو يرى بأنه لا يزال محتفظا بحريته لأنه هو المسؤول عن شخصيته . ولكن من أي جهة هو مسؤول عن شخصيته ؟ إلا أن تكون هناك رابطة سببية بين أفعاله في الماضي وما يفعله الآن . وبهذا فقط سيستطيع تبرير قوله بأنه مسؤول عن تكوين ماهيته. ومع ذلك فهذا لا يعدو أن يكون تبسيطاً مخلاً لأنه لا يعطي أي اعتبار للتأثيرات الخارجية التي أكون عرضة لها على الدوام . وتجاهل هذه المؤثرات الخارجية ولنفترض بأنني المسؤول عن تكوين شخصيتي وما أنا عليه الآن . سيكون من المنطقي أن نتساءل ما الذي جعلني أختار شخصيتي هذه ولم أختر غيرها . وإن أجيب عن هذا التساؤل بأن مرجع ذلك إلى قوة الإرادة ، فسنستطيع إعادة طرح ذات التساؤل بشكل مختلف بقولنا ما الذي أكسب إرادتي هذه الدرجة المعينة من القوة ولم تكن لإرادتي درجة قوة مختلفة . مجدداً ، فقد يكون مرجع ذلك إلى الصدفة أو لا ، إن كانت صدفة فتنطبق عليها الحجة التي سيقت من قبل بأني لا أحمل المسؤولية الأخلاقية . وإن لم تكن الصدفة مرجعا لذلك فنعود مجدداً إلى حيز الحتمية .

إضافة إلى ذلك فإن القول بأن أفعالي تنبثق عن شخصيتي أو بشكل أوضح أنني أتصرف بناء على شخصيتي فإن هذا يعني بأن سلوكي متسق وقابل للتوقع. وبما أنني قبل كل شيء مسؤول أخلاقيا عن كل فعل يصدر عن شخصيتي فإن التسليم بالمسؤولية الأخلاقية يبدو غير متعارض مع الإقرار بالحتمية بل على العكس فإننا نميل إلى افتراضها مسبقاً . ولكن كيف لهذا أن يحدث ما دام الإقرار بحرية إرادة الفاعل شرطاً أساسياً لتحميله المسؤولية الأخلاقية . يبدو أننا إما ملزمون بالإقرار بصحة تحميل الناس مسؤولية أفعال لم يختاروا القيام بها , أو أن نجد طريقة للتوفيق بين حرية الإرادة والحتمية ما دمنا نريد الالتزام بفكرة المسؤولية الأخلاقية .

ومما لاشك فيه ولقصد إثراء هذه التوفيقية قام بعض الفلاسفة بتعريف الحرية بأنها الوعي بالاضطرار . وبذلك أصبحوا قادرين ليس على القول بأن الإنسان قادر على التصرف بحرية حتى وإن كان فعله مقرر سلفاً فحسب , بل بأن أفعاله يجب أن تكون مقررة ومقدرة سببياً حتى يستطيع التصرف عن حرية إرادة . ومع ذلك فإن هذا التعريف ينتهي بنا إلى عائق حقيقي وهو تحميل المفردة ” حرية ” معنى لا تتحمله على العادة . من الواضح بأننا نستطيع منح المفردة ” حرية “أي معنى نستسيغه ، فنستطيع أن نجد لها معنى يتوافق مع الحتمية ، ولكن هذا لن يوجد حلاً لإشكاليتنا الحالية فهو كاستخدامنا لمفردة ” حصان ” اعتباطيا لتعني ما تعنيه مفردة ” عصفور” لتستعمل دليلاً على أن الأحصنة تمتلك أجنحةً . لنفترض بأن شخصاً آخر يجبرني على القيام بفعل ما ، في هذه الحالة فإنني لا أستطيع القول بأنني أتصرف عن حرية إرادة وأنا أعني بالكلمة “حرية” معناها المعتاد . وأما قدرتي على إستيعاب ما أتعرض له من إكراه فلا تشكل أي فارق هنا . فأنا لا أصبح حراً بمجرد استيعابي لعدم حراً . قد يكون من الممكن فعلاً أن يستدل بوعيي بحتمية أفعالي على أنها لا تتصادم مع حرية إرادتي . ولكن هذا بالطبع لا يعني بأن هذا ما عليه تبنى حرية إرادتي . من ناحية أخرى فإني أظن بأن من أسباب التزام البعض بتعريف الحرية بأنها الوعي بالاضطرار بأنهم يعتقدون بأن وعيهم بتقرير أفعالهم سلفاً يجعلهم قادرين على التحكم باضطراريتها وهذه مغالطة . وهذا شبيه بقول أحد أنه يتمنى لو استطاع رؤية المستقبل حتى يرى كل نكبة تنتظره فيتجنبها . ولكنه إن تجنب هذه النكبات فلن تصبح موجودة في مستقبله حتى يتنبأ بها . وهذا ينطبق على قولي بأنني ما دمت قادرا على التحكم باضطرارية أفعالي بمعنى أنني أستطيع الإفلات من توابع قانون ضروري فإن هذا القانون لا يصح أن يطلق عليه قانونا ضرورياً . وما دام القانون ليس ضرورياً فلا حرية إرادتي ولا أي شيء آخر يستطيع أن يبنى على معرفتي المجردة بذلك .

ليكن جلياً إذن بأننا عند حديثنا عن التوفيق بين حرية الإرادة والحتمية فإننا نستعمل كلمة “حرية” بمعناها المتعارف عليه . ولا يزال واجباً علينا من أجل إيضاح ما نعنيه بـ الحرية أن نشير إلى ما يتعارض مع الحرية . سنبدأ بالافتراض الذي يقول بأن الحرية متعارضة مع السببية وهذا يعني بأننا قولنا عن إنسان بأنه يتصرف عن حرية إرادة ما دامت أفعاله محكومة علياً هو عار من الصحة. ولكن هذا الافتراض ينتهي بنا إلى مصاعب عدة وأريد أن أشير إلى خطأه لأني لا أعتقد بأن نقيض الحرية هو السببية ولكنه الإكراه . وعلى أن القول بأن بإجباري على القيام بفعل ما يفضي إلى القول بتسببي به فالعكس غير صحيح. سأحاول أن أبين أن القول بأن أفعالي محكومة سببياً لا يعني بالضرورة بأنني مجبر على القيام بها ، وهذا مساو للقول بأنها لا تعني بالضرورة أيضاً بعدم حريتي .

ما دمت مكرهاً فلن أتصرف بحرية . ولكن تحت أي وضع أستطيع وصف نفسي بأني حقاً مكره ؟ مثال بديهي على ذلك هي حالة إرغام شخص آخر لي لأن أفعل ما يريد . هذا النوع من الإرغام لا يتطلب حرمان الشخص الآخر من القدرة على الاختيار . فلا يجب على الشخص الآخر أن يضطر لتنويمي أو أن يجعل من قدرتي على القيام بعكس ما يريد أمرا مستحيلاً. يكفيه أن يستميلني لفعل ما يريد عن طريق إيضاح أن عواقب عدم إصغائي له ستكون أشد علي من عواقب ما أرغمني على القيام به . فلو أشار هذا الشخص بالمسدس تجاهي فقد أستطيع عصيان أمره ، ولكن هذا لن يمنع من وصفه بأنه ارغمني على فعل ما يريد . ولو مر هذا الوضع على كل عاقل فلن يقوم باختيار عكس ما أرغم عليه وهذا يعني أن ما ارغمت على القيام بفعله لا يجعلني مسؤولا عن توابع فعلي الأخلاقية .

ومشابه لذلك ولكنه بشكل ما مختلف ، هي الحالة التي يهيمن فيها علي شخص آخر فلا أعود حينها مرغما على فعل ما يريده مني عن طريق إعطائي بديلا غير محبب . فلا يصبح لهذا البديل أي داع ما دمت تحت سيطرته تماماً . ومع هذا فأنا لا أقوم بالتصرف بحرية لأنني حرمت من القدرة على الاختيار وهذا يعني بأنني اكتسبت عادة من العبودية الشديدة لحد لا أستطيع معه اختيار فعل أو عدم فعل ما يريده مني الشخص الآخر . قد استطيع المماطلة في القيام بهذا الفعل ولكنني مماطلتي هذه لن تكون ذات تأثير على إيفائي بفعل ما يريده مني الشخص الآخر وبهذا المعنى يقال عني بأنني مكره . قد لا يشترط بهذا الإكراه أن يأخذ شكل العبودية لشخص آخر . فلا يقال عن المصاب بهوس السرقة بأنه فاعل عن حرية إرادة فيما يتعلق بالسرقة لأنه لا يملك خيار السرقة من عدمها فمهما كان قراره مسبقاً فسيكون مضطراً للسرقة على أية حال . وهذا ما يجعله مختلفاً عن السارق العادي .

ولكن قد يتساءل في هذه الحالة هل توجد أي اختلافات جذرية بين هذه الحالات المذكورة وبين ما يعتقد عادة بأن الفاعل كان حرا في اختياره . مما لا شك فيه بأن السارق العادي يمر بمرحلة اتخاذ قرار السرقة من عدمه ، ومما لا شك فيه أن هذه المرحلة تؤثر على سلوكه . فلو قرر السارق الامتناع عن السرقة فقد ينفذ قراره هذا . ولكن ما دام أن اتخاذه لهذا القرار من عدمه هو محتوم سببياً فكيف للسارق العادي أن يكون أكثر حرية من المصاب بهوس السرقة ؟ قد تكون للسارق العادي القدرة على الامتناع عن السرقة متى ما أراد ذلك ، ولكن ما دام أن هناك سبب أو مجموعة من الأسباب توجب اختياره هذا ، فكيف يصح لنا وصفه بأنه يملك إرادة حرة ؟ ومجددا قد يعترض بعدم وجود من يرغمني على القيام والمشي داخل غرفتي ، ولكن إن كان بالمقدور تقديم وصف تسلسلي سببي لفعلي هذا عن طريق ملاحظة تاريخي السلوكي أو بيئتي أو ما شابه ، فكيف تكون هذه الحالة مختلفة عن إرغا م شخص آخر لي على فعل ذلك ؟ قد لا يخالجني الشعور ذاته بالإرغام الذي يرافقني في حالة إشارة شخص آخر بالمسدس على رأسي ولكن هذه السلسلة من الأسباب لا يختلف تأثيرها علي لمجرد أنها غير مشاهدة .

الإجابة على ذلك هي بأن ما ذكرته من حالات كأمثلة على الإكراه والاضطرار تختلف عن غيرها بما حاولت إبرازه هنا . فإذا كنت أعاني من اضطراب عصبي فنهضت وقمت بالمشي في أنحاء الغرفة بغض النظر عن رغبتي بفعل ذلك من عدمها أو قمت بذلك لأن غيري قام بإجباري على فعل ذلك فلا يصح أن يقال عني بأنني تصرفت عن حرية إرادة . ولكن لو فعلت ذلك الآن فسيقال عني بأنني أتصرف عن حرية إرادة لمجرد أن هذه الظروف لم تتحقق ووجود سبب لفعلي هذا يعد أمرا غير ذي صلة . لأن وصفي بعدم امتلاكي لحرية الإرادة لا يحدث لمجرد وجود أي سبب لفعلي فقط، بل لوجود سبب مختلف ومميز تسبب بهذا الفعل.

ولكن قد يبرز اعتراض هنا بأن هذا التفريق غير منطقي حتى لو كان مألوفا للجميع . لماذا يجب علينا أن نقوم بالتفريق بين أثار الأسباب على حرية إرادة أي شخص ؟ ألا توجب الأسباب أفعالها ضرورة على السواء ؟ أليس من الاعتباطية أن نختار سبباً معينا لوصفه بأنه يوجب حدوث فعل ما ضرورة ونمنع ذلك عن أسباب الأخرى .

من الحشو وتكرار المعنى أن نقول بأن كل الأسباب توجب مسبباتها على السواء إن كنا نعني “بالإيجاب ضرورة” هنا ما نعنيه تماما بقولنا أنها تسبب ، أما إن استعملت بمعنى “التقييد” أو “الإكراه” فأنا لا أوافق هذا الرأي . فكل ما يحتاجه حدث ما لأن يعتبر مسبباً لحدث هو بأن يكون هذا الحدث الناتج غير ممكن الحدوث بدون حدوث سببه ، أو العكس ما دامت الأسباب تعرف كشروط ضرورية متمة وهذا مما يستخلص من القوانين السببية والتي تقرر بأن متى ما حدث حدث من نوع ما فإنه , وبالعودة إلى الشروط المناسبة ، فإن الحدث من النوع الآخر سيحدث في علاقة زمنية أو زمكانية . باختصار ، هناك تلازم ثابت بين هذين النوعين من الحوادث ولكن لا يوجد بينهما أي إكراه إلا بالمعنى المجازي للكلمة . لنفترض على سبيل المثال أن أحد المحللين النفسيين تمكن من تفسير بعض جوانبي السلوكية بالرجوع إلى جرح تعرضت له في صغري . في هذه الحالة فقد يقال بأن تجربتي هذه في طفولتي بالإضافة إلى بعض الأحداث الأخرى توجب سلوكي الحالي ضرورة . ولكن كل ما يعنيه هذا هو وجود قاعدة عامة تقول بأن البشر حينما يعانون من تجارب في طفولتهم فإنهم على إثر ذلك يتصرفون بطريفة مختلفة ، ومثالي هذا هو نموذج آخر لهذه القاعدة العامة . وبهذه الطريقة فعلاً يتم تفسير سلوكي . ولكن القابلية لتفسير سلوكي بمعنى أنها قد تقبل التصنيف تحت قانون طبيعي معين لا يعني بالضرورة أنني أتصرف تحت قيد أو إكراه ما .

إن كان ذلك صحيحا ، أعني القول بأنني أستطيع فعل عكس ما قمت بفعله مسبقاً يعني أولاً : بأنه كان ينبغي علي فعل عكس ما قمت بفعله مسبقاً لو كنت أستطيع الاختيار. ثانياً : أن فعلي كان عن طوع مني على عكس فعل المصاب بهوس السرقة . ثالثاً : بأن أحداً لم يكرهني على القيام بما قمت به . ومتى ما اكتملت هذه الشروط الثلاث فأستطيع حينها القول بأنني تصرفت عن حرية إرادة . ولكن هذا لا يعني بأن مرجع فعلي كان لمجرد الصدفة أو بأن أفعالي غير قابلة للتفسير . والقول بقابلية أفعالي للتفسير هي المسلمة التي يعتمد عليها القائل بالحتمية وأي متطلب زائد عن هذه المسلمة يرجع إلى الاستعمال المغلوط للحتمية. لأنها تفترض وجود شخص منظم لها وهذا خاطئ . ولكن إن كنا نعني بالحتمية أنه من الممكن نظرياً أن نستطيع استخلاصها من بعض الحقائق في الماضي إضافة إلى القوانين العامة الصحيحة فذلك وإن ثبتت صحته فإنه لا يعني بالضرورة بأنني سجين مغلوب على أمره تحت سلطة أحكام القدر . وهذا لا يعني حتى أن أفعالي لا تحدث أي تأثير في المستقبل لأن أفعالي أسباب كما هي نتاج وعندما تتغير أفعالي فستتغير آثارها. ما يلزم من القول بالحتمية هو أن أفعالي قابلة للتنبؤ ، ولكن القول بأن أفعالي قابلة للتنبؤ لا يعني بأنني أتصرف عن إكراه وقيود . صحيح أنني لن أستطيع الهروب من قدري إن كان هذا يعني بأنني سأقوم بفعل ما يتطلب مني فعله . ولكن هذا أيضا حشو وتكرار كما هو من الحشو أن أقول أن ما يمكن أن يحدث سيحدث . وهذا النوع من الحشو لا يعتمد عليه في بحثنا في حرية الإرادة .