مجلة حكمة
فيلسوفة المشاعر: مارثا نوسباوم - ريتشل أفيف

فيلسوفة المشاعر: مارثا نوسباوم – ريتشل أفيف / ترجمة: غادة اللحيدان

رايتشل افيف
رايتشل افيف

أفكار مارثا نوسباوم تسلط الضوء على العناصر المهملة من الحياة البشرية، كالشيخوخة، واللامساواة، والعواطف


كانت مارثا نوسباوم تستعد لإعطاء دروسها في جامعة تيرنتي – دبلن في أبريل عام 1992 عندما وصلها خبر أن والدتها تحتضر في مستشفى فيلادلفيا. لم تستطع مارثا إيجاد رحلة إلا في اليوم التالي. أعطت مارثا -وهي أحد الفلاسفة الكبار في أمريكا- درسها في ذلك المساء رغم طبيعة مشاعرها وقالت لاحقاً: “أعتقد أنه فعل غير إنساني وأني لن أستطيع القيام بذلك”، ثم فكرت بعد ذلك “بالطبع علي القيام بذلك, ما أعنيه هو أني هنا, لماذا لا أعطي الدرس؟ الجمهور موجود وهم يريدون سماع الدرس”.

عندما عادت إلى غرفتها فتحت جهازها المحمول وبدأت بكتابة الدرس التالي والذي ستلقيه بعد اسبوعين في كلية القانون في جامعة شيكاغو. استمرت بالكتابة في الصباح التالي وهي في الطائرة وكانت يداها ترتجفان. تساءلت عما إذا كان من القسوة القدرة على أن تكون منجزة للغاية. كان الدرس يتمحور حول طبيعة الرحمة, وكما تفعل عادة فقد ناقشت أن بعض الحقائق الأخلاقية من الأفضل أن يعبر عنها بصيغة قصة. وكتبت: “نكون رحماء عندما نتصرف كقراء قلقين لرواية, نفهم حياة كل شخص كحكاية معقدة لمحاولات إنسان في عالم مليء بالعقبات”

تحدثت مارثا في درسها عن قيام الفيلسوف الروماني سينيكا بعد كل يوم بالتفكير في خطاياه التي اقترفها ثم يقول لنفسه “أنا أعفو عنك هذه المرة”. تسببت هذه الجملة ببكاء نوسباوم. كانت قلقة من أن قدرتها على العمل ماهي إلا نتيجة للعدوان اللاواعي, علامة على أنها لم تحب والدتها بما يكفي، وفكرت: “كان علي إلغاء الدروس, وألا أكون فيلسوفة”. أحست نوسباوم أن والدتها اعتبرت عملها قاسياً ومنعزلاً، وقد كتبت “من الواضح أننا لسنا مخلوقات محبة جداً عندما نتفلسف”.

علمت نوسباوم بوفاة والدتها عندما حطت طائرتها في فيلادلفيا. أخبرت شقيقة نوسباوم الصغيرة قيل قريفن بوش والتي تعمل ي كنيسة والدتها أن نوسباوم في طريقها وقالت عن والدتها “لم تستطع الصمود لفترة أطول”.

عندما وصلت نوسباوم إلى المستشفى وجدت والدتها لا تزال في السرير ويعتلي شفتيها أحمر شفاه. كان جهاز التنفس المفصول عن أنبوب الأوكسجين لا يزال موصولا بأنفها. أحضرت الممرات أكواب من الماء لنوسباوم بينما كانت تبكي ثم قامت بعد ذلك بجمع ممتلكات والدتها من بينها كتاب عنوانه Glass of Blessings”” والذي اعتبرته نوسباوم قيماً لدرجة أنها لن تقرأه أبداً, ثم تركت المستشفى ذاهبةً إلى ممشى جامعة بنسلفينيا وقطعت هناك أربعة أميال ركضاً.

أعجبت نوسباوم بالفلاسفة الرواقيين الذين يعتقدون أن المشاعر التي يصعب التكم بها تدمر الشخصية الأخلاقية للفرد, وشعرت أنه في حالة موت من تحب, ستكون تعليماتهم كالآتي “جميعنا معرضون للموت، وسوف تتخطى هذا الأمر من قريب”. ولكنها اختلفت معهم في طريقتهم بتدريب أنفسهم على عدم الاعتماد على أي شيء خارج نطاق تحكمهم. خلال الأيام التالية, أحسن وكأن أظافراً كانت تضرب بمعدتها وأن أطرافها تتمزق. كتبت نوسباوم في كتابها “Upheavals of Thought”  والذي يتحدث عن بناء العواطف ” هل بإمكاننا تخيل الفكرة التي تسبب تصافق يديّ أو رعشة في معدتي؟ , وإن كنا نتخيل ذلك هل نريد فعلاً القول بأن هذا التصافق أو الارتعاش هو حزني على والدتي؟”.

ألقت نوسباوم درسها عن الرحمة بعد فترة قصيرة من عزاء والدتها, أحست نوسباوم أن والدتها كانت ستفضل أن تمتنع عن العمل لعدة أسابيع ولكنها تشعر بالندم والكسل عندما لا تعمل لذا فقد قامت بمراجعة درسها إلى أن أحست أنه أفضل درس كتبته على الإطلاق. عدت حديثها كنوع من الإصلاح: يتحدث الدرس عن حاجتنا إلى إدراك صعوبة عيش حياة فاضلة حتى مع أفضل النوايا. وكعادة أعمالها, فقد عرض الدرس ما تسميه بـ “الفلسفة العلاجية” , “علم الحياة” والذي يخاطب الحاجات البشرية المتواصلة. وقد قلات لي ” أحب فكرة أن الشيء ذاته الذي دعته أمي بالقاسي والغير محب يمكن أن يكون في الحقيقة شكل من  أشكال الحب. أنه شكل من الحب البشري لتقبل انسانيتنا الفوضوية والمعقدة وعدم الركض بعيداً عنها”.

بعد عدة سنوات رجعت نوسباوم إلى علاقتها مع والدتها في حوار درامي كتبته لمسابقة حوارات جامعة أوكسفورد الفلسفية والذي ربحت فيه. في الحوار تتهم الأم ابنتها الفيلسوفة الأخلاقية الشهيرة بالقسوة فتقول الأم ” أنت لا تعرفين ماهي العواطف” ويخبرها والدها ” ألست فيلسوفة لأنك تريدين حقاً العيش داخل عقلك قبل كل شيء؟ وأن لا تحتاجين أو تحبي أي شخص آخر؟” وتسألها أمها ” أو لأنك لا تريدين الاعتراف بأن التفكير لا يتحكم بكل شيء؟” تطلب الفيلسوفة المغرة وتسأل ” لماذا تكرهين طريقة تفكيري إلى هذا الحد يا أمي؟ مالذي يمكنني قوله أو كتابته لجعلك تتوقفين عن النظر إلي بهذه الطريقة ؟”.

تميل نوسباوم إلى فكرة أن انجذابنا نحو الإبداع والإلتزام لنصبح جيدين ناتجة عن ادراكنا بأننا نكن العداوة اتجاه الأشخاص الذين نحبهم. تبلغ نوسباوم 69 من العمر وهي بروفيسورة قانون وفلسفة في جامعة شيكاغو (مع مباحث في الكلاسيكيات وعلم السياسة والدراسات الآسيوية الجنوبية ومدرسة اللاهوت) وقد نشرت 24 كتاباً وخمس مئة وتسعة مقالة كما تلقت سبعة وخمسين مرتبة شرف. كما أصبحت في عاد 2014 ثاني امرأة تلقي دروس جون لوك في أوكسفورد وهي أبرز سلسلة من الدروس في الفلسفة. وقد تلقت السنة الماضية جائزة إناموري إثكس والتي تُمنح للقادة الأخلاقيين الذين حسنوا من وضع البشر. كما ربحت قبل عدة أسابيع خمسمئة ألف دولار نتيجة تلقيها جائزة كيوتو وهي أكثر الجوائز هيبة في المجالات الغير مؤهلة لجوائز نوبل, وبهذا تنضم نوسباوم إلى مجموعة صغيرة من الفلاسفة ككارل بوبر وجيرقن هابرماس. ولكن الجوائز والتكريمات تذكرها برقائق البطاطس حيث أنها تستمتع بأكلها لكنها تخشى التخمة كواحدة من “الحيوانات الغبية الراعية” لأرسطوا. فمفهومها عن الحياة الجيدة يتطلب النضال من أجل هدف صعب وإن لاحظت رضاها عن نفسها بشكل زائد فإنها تبدأ بالشعور بالاستياء.

نوسباوم واثقة من نفسها فكرياً وجسدياً كما أنها جميلة بطريقة لطيفة, صوتها درامي وذو نبرة عالية كما يبدو عليها السعادة غالباً بكونها ذاتها.

أن أعمالها والتي تعتمد تدريبها في الكلاسيكيات بالإضافة إلى علم الإنسان والتحليل النفسي وعلم الاجتماع وعدد من المجالات الأخرى, تبحث عن الظروف المؤدية للـ”يودامونيا” وهي كلمة اغريقية تصف الحياة المثالية والمزدهرة. يحقق عمل نوسباوم ويجسد غاية المسعى الإنساني في وقت انعدمت فيه الثقة بالإنسانيات. أخبرتني نانسي تيرمان فيلسوفة أخلاقية في جورج تاون “غيرت مارثا وجه الفلسفة بواسطة استخدام المهارات الأدبية لوصف تفاصيل التجربة المعاشة”.

إن نوسباوم بعكس الفلاسفة الآخرين كاتبة غنائية وراقية كما أنها تصف بشكل مؤثر أم إدراك المرء ضعفه والذي تؤمن انه تمهيد لحياة أخلاقية, فقالت” أن تكون انساناً جيداً يعني أن تملك نوع من الانفتاح للعالم, والقدرة على منح الثقة لأشياء غير أكيدة وخارج نطاق تحكمك والتي قد تؤدي إلى تدميرك”. تبحث نوسباوم عن “أسلوب كناية غير إنكاري” وهي طريقة لوصف التجارب العاطفية دون عصر المشاعر منها. كما أنها لا تؤيد الأسلوب غير التقليدي للنثر الفلسفي والذي تصفه بالـ “علمي, التجريدي, الباهت صحياَ” كما أنه منعزل بمشاكل زمانه. تقول نوسباوم كما قال نارسس ” تقع الفلسفة في حب صورتها فتغرق”.

اقتبست نوسباوم في عدد من الكتب والمقالات جملة كتبها المتخصص في علم الاجتماع إيرفينق قوفمان وفيها ” بمعنى مهم يوجد هناك ذكر كامل غير خجول  واحد فقط في أمريكا: أب, شاب, متزوج, أبيض, مدني, شمالي, متباين الجنس, بروتستاني, ذو تعليم جامعي, وموظف بدوام كامل وذو طول ووزن وسحنه جيده كما أن له رقم قياسي ي الرياضة” تصف هذه الجملة بشكل أو بآخر والد نوسباوم حيث تصفه هي بالـ “الملهم” و “المثال” بالإضافة إلى “العنصري” فقد أخبرتني أنه كان متحاملا بشكل كبير.

خلال الثلاثين سنة الماضية انجذبت نوسباوم نحو الأناس الخجولين وكتبت عن هذا النوع من الناس والذي يعتبره والدها دون البشر. تعتقد نوسباوم أن الذكور الغير خجولين أو “الطبيعيين” ينكرون طبيعتهم عن طريق إظهار اشمئزازهم من الجماعات الضعيفة منشئين بذلك “منطقة عزل”. كما تعتقد أن الاشمئزاز عاطفة غير منطقية يجب عدم الوثوق بها  كأساس في القانون, كما أنها تمثل جذور الاعتراض على حقوق الشواذ والمتحولين جنسياً. يتضمن عملها وصفاً رائعاً للحقائق الجسدية حول أن تكون شخصاً وأن تملك جسداً ناعماً أنثوياً, كما تعتقد أن الفزع من هذه الظواهر يهدد الحياة المدنية. وكتبت” كل ما أدعوا إليه هو مجتمع من المواطنين المقرّين بضعفهم وحاجتهم”.

كتبت نوسباوم مرة مستشهدة بنيتشة أنه عندما يناقش الفيلسوف فجأة موضوعاً معيناً بشكل متكرر فإن ذلك يدل على أن هناك شيء آخر خلف هذا النقاش, أن هناك شخص يقود هذا الانهماك بالموضوع. وفي حالة نوسباوم , أتساءل عن ما إذا كان السبب وراء نجاحها في الحديث عن موضوع الضعف هو أنها تنظر إيه من بعيد كما لو أنه شيء غريب وغير مألوف. تشيد نوسباوم بالقدرة على أن تكون ضعيف ومكشوف للجميع ولكن في حياتها يبدو أنها تسيطر على كل شيء حيث أنها تقسم يومها إلى سلسلة من النشاطات الانتاجية, بداية من ممارسة الرياضة امدة 90 دقيقة تستمع خلالها ولسنوات للأوبرات – عادة تكون أعمال قام بها موزارت- . حفظت الأوبرات وركضت على أنغام كل واحدة منها لمدة 3-4 شهور متنقلة بين الإيقاعات بما يناسب سرعتها ومزاجها. كما وضعت جدول لمدة عقدين تسجل فيه تمارينها اليومية بعد ممارسة الرياضة تجلس بجانب البيانو وتغني لمدة ساعة وقد أخبرتني أن صوتها رائع (عندما دعاها قائد الأوركسترا للانضمام إلى مجموعة من المغنين الكبار في السن أخبرته أن الكرة كانت مخزية).

ألهم انضباطها الذاتي قصة تدعى “صديقي السابق, الفيلسوفة الأخلاقية” للكاتب والبروفسور في جامعة شيكاغو     ريتشارد ستيرن. تصف القصة التناقض بين إشادة الفيلسوفة للعفوية وبين طبيعتها الحقيقية التي تعد الأقل عفوية على الإطلاق.

تعمل نوسباوم حالياً على كتاب عن الشيخوخة وعندما عَرضتُ عليها فكرة إنشاء نبذة موجزة عن حياتها أخبرتها أني أود جعل جعل هذا الكاتب مركز النبذة. كانت مترددة في ردها وكتبت في الإيميل أنها تمتلك مهنة طويلة ومتنوعة مضيفة ” أود أن أشعر أنك أخذتي بعين الاعتبار جوانبها المختلفة و أن لدينا خطة لها تمركز”. كان ردها لي خلال ساعة فقط من إرسالي للإيميل. وسألتني” هل تشعرين أن لديك هذه الخطة؟ أود معرفة الإيجابيات والسلبيات من وجهة نظرك حول محاور تركيز مختلفة”. لم تكن نوسباوم متأكدة من قدرتي على تغطية جميع أعمالها حيث أنها تتناول عدد كبير من المواضيع مثل: حقوق الحيوان, والعواطف في قانون الجرائم, والسياسة الهندية, والإعاقة, والتعصب الديني, والليبرالية السياسية, ودور العلوم الإنسانية في الجامعة, والتحرش الجنسي, وتناقل الثروات عبر الحدود. وكتبت ” ما سيشكل تحدياً لك هو إعطاء القراء خريطة ترشدهم خلال عرض أعمالي وتوضحها لهم بدل أن تزيدها تعقيداً”, وأضافت ” سيتحول الأمر برمته إلى رماد بدون خطة”. وصفت نوسباوم ثلاث مقابلات أجريت معها والأخطاء التي حدثت فيها, من بين هذه الأخطاء هو أنها لم تُصَوِّر إخلاصها للتدريس ولطلابها. وقالت أن أحد هذه المقابلات جعلتها تبدو كشخص يحتقر مساهمات الآخرين وهو الأمر الذي اعتبرته أحد أكبر الإهانات التي قد يوجهها شخص ما لها.

اقترحَتْ أن نقوم في أول اجتماع لنا بالغناء لي مبررة :” الغناء الحقيقي هو ما سيظهر لك شخصيتي الحقيقية وحياتي العاطفية على الرغم من أن قدرتي على التعبير عن ما أريده ليست جيدة”. وقد كتبت أن الغناء سكشف لها جزءاً من شخصيتها أقل اندفاعاً وأكثر تقبلاً . ذهبنا الصيف الماضي إلى منزل معلمة الغناء التي تدرسها تمبرا بلاك, والتي تعيش في حي مرموق يطل على كنائس جامعة شيكاغو. كان الجو مشمساً ودرجة الحرارة 90 وعلى الرغم من أننا كنا مبكرين بعشرين دقائق إلا أن نوسباوم استمرت بالقرع على الباب حتى ادخلتنا بلا وشعرها مبلل من الاستحمام.

كانت نوسباوم ترتدي بنطالاً قصيراً رياضياً من النيلون وقميصاً وكانت تحمل أوراق الموسيقى في حقيبتها المطرزة. كانت أظافر يديها وقدميها مطليتان باللون التركوازي وذراعيها وساقيها متناسقتان وبرونزيتان. وقفت بجانب بيانو بلاك وقامت ببعض التمارين الموسيقية عن طريق إرخاء فمها بشكل كامل والنفخ عبر الشفتين مطبقتين.

اول لحن تدربت عليه هو “Or Sai Chi L’onore”  لدون جيوفاني وهي أحد ألحان موزارت القليلة التي لم تستمع إليها أثناء ممارسة الرياضة وذلك لأنها ترا لقطة الاغتصاب غير ملائمة. تعلوا نبرة صوتها فترفع نوسباوم ذقنها للأعلى إلى أن تأمرها بلاك بالتوقف. أتقنت نوسباوم النوتات العالية ولكن بلاك تعتقد أن القطع التي تتحدث عن قتل والد البطلة يجب أن تكون أكثر رقة وإحساساً. فتسأل بلاك” هل بإمكانك جعلها أكثر لطفاً وإمتاعاً؟”

اللحن الثاني كان من المقطع الأخير من Verdi  لدون كارلوس والتي وجدتها نوسباوم أكثر تحدياً حيث يتوجب عليها تجسيد قلة حيلة امرأة تتوق إلى الموت بعد معرفة استحالة بقاءها مع الرجل الذي تحب.

تخفض نوسباوم نبرة صوتها لكن سرعان ما يسترجع قوته فتخبرها بلاك ” تملكين الكثير من الطاقة, احتفظي ببعضها للنهاية” فترد نوسباوم ” سأعمل على ذلك, من الصعب تجسيد كل المشاعر الموجودة هنا”.

بعد ساعات ونحن في طريقنا إلى المنزل أخبرتني نوسباوم أنها تجد صعوبة في تجسيد الاستسلام الموجود في Verdi  وأنه لا يمكنها التوافق مع الدور وقالت” أشعر بأن هذه الشخصية تقول (الحياة تعاملني بقسوة لذا سأستسلم) وأنا أجد هذا الأمر مبهماً تماماً”.

عندما كان عمر نوسباوم ثلاث أو أربع سنوات ذهبت إلى والدتها وقالت ” أعتقد أن لدي المعرفة بكل شيء” فردت والدتها بصرامة ” لا يا مارثا أنت فرد فقط من مجموعة” أغضب هذا الرد نوسباوم لدرجة أنها ضربت رأسها بالأرض.

والد نوسباوم جورج كرافن المحامي الناجح والذي كان يعمل طوال وقته حيّا في نوسباوم هذا التكبر حيث كان يعتقد أنه من الممتاز أن تكون مترفعاً عن الآخرين, كان يحب المزاح قائلاً أنه كان مخطئاً مرة واحدة فقط وهي عندما اعتقد أنه مخطئ. عاشت عائلة كرافن في بايرن مور في بنسلفانيا في جو وصفته نوسباوم الترف البارد الواضح. كانت والدتها بيتي ضجرة وغير مرضاه وكانت تشرب معظم اليوم, حيث قالت قيل أخت نوسباوم أنها اتصلت مرة بالإسعاف وجدت ولدتها ممددة على الأرض وفاقدة للوعي. ولكن والدها أرسل السيارة بعيداً. وقال روبرت أخو نوسباوم من الأب أن والده لم يفهم الوضع عندما يتصرف الناس بغير منطقية وأضاف ” لقد كانت بيئة جافة عاطفياً, حيث يفترض بك التماسك والمواصلة فحسب”

قضت نوسباوم وقت فراغها وحيدة في العلية تقرأ كتباً بعضها لديكنز, وتقول أنها وجدت في الأدب مهرباً من حياة غير أخلاقية إلى عالم يهتم بالأخلاقية . في الليل كانت تذهب إلى مكتب والدها ويقرآن معاً, أحب والدها قصيدة وليام أرنست هينلي “Invictus”  وكان غالباً ما يقرأها لها ” لم أجفل أو أصرخ عالياً / وتحت هروات القدر / غطت الدماء رأسي / لكنه لم ينحني ……. أنا سيد قدَري وأنا قبطان سفينة روحي”.

وقد تكون أخلاقيات والد نوسباوم هي التي زرعت اهتمامها بالرواقية. كانت علاقتها بوالدها آسرة لدرجة الرومانسية. وقالت” دلني والدي على طريق سعادتي في الحياة وكان مثالاَ للجمال والروعة. ولكن قيل تعتقد أن مزاج والدها أقل ملائمة حيث قالت” أعتقد أنه كان في الغالب معتل اجتماعياً وكان نرجسياً وشديد الاستبدادية والتحكم. كانت والدتنا محجورة في غالبية زواجهما”. وقد قالت قيل أن والدها كان يصر على أن تكون في سريرها قبل أن يعود هو من العمل إلى المنزل.

كتبت نوسباوم مرة عن إيرس موردوش أنها كانت مقربة لوالدها ولكن نفس الشيء يمكن أن يقال عن نوسباوم نفسها حيث قالت لي قيل ” كان هناك عدد قليل جداً من الناس المقربين لوالدي والذين لم يسبب لهم المتاعب وكانت نوسباوم واحدة منهم. كان أبي يرى انعكاسه فيها وكان ذلك ما أراد بالضبط”.

تفوقت نوسباوم في دراستها بينما تخبطت قيل وتمردت. قالت نوسباوم في مقابلة لها مع محطة تلفاز هولندية أنها عملت بجد لأن هذا مايفعله والدها , يتحمل مسؤولية نفسه, وأضافت متحدثة عن أختها ووالدتها ” كنت غاضبة جداً منهما لأنني أعتقد أن بإمكانهما تحمل مسؤولية حياتهما بإرادتهما ولكنهما لم يفعلا”.

درست نوسباوم في جامعة ويلسلي ولكنها انسحبت في سنتها الثانية لأنها أرادت ان تكون ممثلة. مكنها تقمص شخصيات مختلفة الوصول إلى عواطف لم تكن قادرة على التعبير عنها بنفسها ولكن بعد نصف سنة من العمل مع الشركة الفنية التي تقدم تراجيديات اغريقية انسحبت نوسباوم معللة “لم أعش بما يكفي”. بدأت بدراسة الكلاسيكيات في جامعة نيويورك ولا زالت مركزة على التراجيديا الاغريقية. لقد بدأت بالإيمان بفكرة أن القراءة عن المعاناة تعمل كنوع من “أداة تحول” وهو المصطلح الذي استخدمه مفكرها المفضل المحلل النفسي الانجليزي دونالد رينيكوت لوصف الألعاب التي تمّكن المواليد الجدد من الابتعاد عن أمهاتهم لاستكشاف العالم بنفسهم. وقد كتبت “عندما يكون لدينا مشاعر الخوف والشفقة اتجاه بطل المأسآة فإننا نستكشف نواحي من ضعفنا في جو آمن ومريح”.

ازداد عدم ارتياح نوسباوم مع ماتدعوه “النفاق والتميز الغير مُستحق” الذي ترتب عليه. في محاضرة عن التركيب الاغريقي وقعت نوسباوم في حب طالب آخر من جامعة نيويورك يدعى آلان نوسباوم والذي كان يهودياً وهي الديانة التي انجذبت اليها لنفس الأسباب التي جذبتها للمسرح وهي “المزيد من التعبير العاطفي”. لقد ربطت الدين بالوعي الاجتماعي لإسدون فينستاين ستون وكتابه “The Nation”  . ولكن والدها والذي يعتقد أن اليهود بذيئين لم يؤيد هذا الزواج ورفض حضور حفل زفافهما. أخبرني روبرت كرافن “كانت مارثا قرة عين والدي إلى أن تبنت لديانة اليهودية فخسرت مكانتها لدى والدي”.

بعد أربع سنوات من زواجهما قرأت نوسباوم رواية “The Golden Bowl”  للكاتب هنري جيمس. ظلت نوسباوم تفكر في أمنية شخصية ماجي فرفير في أن تظل نفس الابنة الصغيرة العاطفية دوماً”. لقد كانت مسحورة بهذه الرواية لدرجة أنها كتبت ثلاث مقالات تتحدث فيها عن الطرق الثلاث التي قدم فيها جيمس نوعاً من الفلسفة الأخلاقية كاشفاً السذاجة خلف الطموح للمثالية الأخلاقية وحياة لا يرتكب فيها خطأ ولا يخالف فيها نظام ولا يُتسبب فيها أذى. أخبرتني نوسباوم ” مايجذبني لماجي هو أنها شخص أمريكي يريد من أعماق قلبه أن يكون جيداً وبالطبع هذا مستحيل فوالدها كثير المطالب ولكي تكون مع زوجها عليها ترك والدها وإيذاءه وليس لديه أي طريقة للتعامل مع هذه المشكلة فهي لم تكن مستعدة.

انضمت نوسباوم لبرنامج الدراسات العليا في الكلاسيكيات في هارفارد عام 1969 وأدركت أنها ولسنوات كانت تبتسم بدون سبب محدد. عندما دعاها مشرف رسالتها العلمية “أون” لمكتبه وقدم الخمر وتحدث عن الحزن في الحياة وألقى بعض أشعار أودن ثم حاول لمس جسدها, قالت أنها دفعتها بلطف وكانت حذرة من أن تسبب له الإحراج وكتبت” مثلما لم أتهم والدتي أبداً بأنها مخمورة على الرغم من أنا مخمورة كل الوقت, لذا فقد تمكنت من الحفاظ على تحكمي بنفسي مع أون ولم أقل أي كلمة عدائية”. لم تمر نوسباوم بعدم الإتزان بالسلطة الذي يجعل التحرش الجنسي مدمراً ويرجع ذلك حسب قولها لأنها شعرت أنها أصح وأقوى منه”.

اتجهت نوسباوم فيما بعد للفلسفة القديمة والتي اتبعت فيها أرسطو الذي طرح السؤال “كيف يجب على الإنسان العيش؟”, كما أدركت أن الفلسفة عادة تجذب الأشخاص الذين يفصلون المنطق وعادة ما يكونون ذكوراً. وقد بدأت بفهم مافكر به نيتشة عندما كتب أن لا أحد من الفلاسفة العظماء كان متزوجاً. وقالت ” أعتقد أنه كان يحاول القول أن معظم الفلاسفة كانوا منشغلين عن التجربة الإنسانية لذا لم تكن لديهم الرغبة بالارتباط”. وقد رفضت الفكرة السائدة في الفلسفة المعاصرة والتي تنص على أن العواطف هي عبارة عن طاقات غافلة تدقع الشخص يمن ويسرة ببساطة. بدلاً من ذلك, أحبت نوسباوم نسخة من النظرية الرواقية والتب لا تفصل الفكر عن الشعور. كما أعطت نوسباوم العواطف دوراً رئيسياً في الفلسفة الأخلاقية مبررة أنها إدراكية في الطبيعة: أنها تجسد العواطف أرائنا عن العالم.

     كان جون رولز أحد معلميها وهو أحد أهم الفلاسفة السياسيين تأثيراً في القرن الماضي. كان رولز يتأتأ وكان خجولاً لدرجة كبيرة. وقالت أنه في أحد الأيام التي كانا يأكلان فيها الغداء أخبرها أنه إن كان لديها القدرة على أن تصبح مفكرة شعبية فإن من واجبها العمل على ذلك.

كانت نظريتا النفعية والكانتيه سائدتان في ذلك الوقت لذا فقد شعرت نوسباوم بان هذا المجال معزول وممتهن. كانت قلقلة من أن يكون زملائها مهتمين بالتحليلات المفهومية أكثر من الوقوف على تفاصيل حياة الآخرين. بينما كانت تكتب بحث عن أطروحة مهملة لأرسطو, بدأت بكتابة كتاب ثاني يتحدث عن الرغبة في إنكار الشخص للحاجات البشرية. رفضت نوسباوم في كتابها ” The Fragility of Goodness”   وهو أحد أفضل كتب الفلسفة المعاصرة مبيعاً فكرة أفلاطون التي تنص على أن الحياة الجيدة هي الحياة التي يكون فيها اكتفاء ذاتي كامل . وقالت أن المآسي تحدث بسبب أن الناس يعيشون بشكل جيد: لقد كونوا ارتباطات عاطفية جعلتهم مكشوفين. وقد بدأت الكتاب بقول:

علي الاختيار باستمرار بين أشياء تنافسية وصماء كما قد تجبرني الظروف إلى أن أكون في موضع يصعب علي فيه تجنب ارتكاب الأخطاء, وأن حدثاً واحداً قد يغير ببساطة وبدون إرادتي حياتي بالكامل, وأن الاعتماد بسعادتك على أصدقائك وأحبائك ووطنك أو محاولة العيش بسعادة من دونهم هي معضلة على حد سواء. أعتبر كل هذه الأشياء ليست فقط مكونات المأساة بل أيضاً حقائق يومية عن الحكمة الفعلية.

تصف نوسباوم الأمومة بتجربتها العميقة الأولى للتصادم الأخلاقي. كان حملها علم 1972 غير مخطط له وتزامن ذلك مع وقت انتخابها لتكون أول امرأة تنضم لجمعية هارفارد للشباب وقد تخيلت أن العلماء الآخرين سيقولون بداخلهم ” لقد ضممنا امرأة, وماذا فعلت؟ غابت لتنجب طفلاً. تابعت نوسباوم حياتها لتسعة أشهر كما لو أنها غير حامل فكانت تركض يومياً لعدة أميال وكانت نحيلة لدرجة أن مستشارها أخبرها أن ماتحمله لابد أن يكون هواءً, كان إنجابها سريعاً بدون مخدر وعندما سألها الأطباء عن كيفية استعدادها للولادة قالت: تقنية اللاماز للضعفاء, الركض هو الحل” كانت تقرأ كتب أرسطو في المستشفى. وقد حضرت عشاءاً للجمعية في الاسبوع التالي وقالت “أردت أن يفهم الجميع أنني لازلت أعمل”.

يدرس ألآن زوج مارثا في اللغويات في جماعة بيل بينما تهتم هي بابنتهما رايتشل طوال الاسبوع وحدها. وقد كتبت لاحقاً ” من بين الرجال الجيدين والمحترمين رجال غير مستعدين لمفاجآت الحياة وتجنح نواياهم الحسنة عندما تواجههم مشاكل كرعاية الطفل”. انفصل الاثنان عندما كانت رايتشل في عمر  المراهقة. عندما انضمت نوسباوم إلى جمعية للفيلسوفات الإناث اقترحت أن لدى النساء اسهامات فريدة لتقديمها وعللت ذلك بقول ” لدينا نحن تجارب في التصادم الأخلاقي فنحن مشتتون بين الأطفال وبين العمل بينما لا يملك الذكور هذه التجربة ولا يتحملها”. ترفض نوسباوم الفكرة التي اقترحها “كانت” والتي يقول فيها أن الناس الجيدين أخلاقياً يملكون مناعة ضد الحظ السيء الذي قد يخولهم إلى مواضع يضحون فيها بأخلاقهم. وقد أخبرتني ” قال العديد من الفلاسفة الكبار أنه لا يوج معضلات أخلاقية حقيقية. حسناً, كنا نقول ” لن ترتكب امرأة هذا الخطأ الغبي”.

تركت نوسباوم هارفارد عام 1983 بعد أن رفضوا ترسيمها وقد عزت قرار الجامعة إلى ” كرههم لي بسبب كوني امرأة صريحة, وإلى كيد زميلها لها. وقد قال قلين باورسوك رئيس قسم الكلاسيكيات في الوقت الذي كانت فيه نوسباوم طالبة ” أعتقد أنها أخافت الناس, لم يستطيعوا تقبل هذه المرأة الصالحة والبليغة جداً, كانت طويلة وجذابة وأنيقة ونسوية علناً, كانت تمشي باستقامة وترتدي التنانير القصيرة, كل هذا في امرأة واحدة! كانوا مرعوبين وحسب”.

كانت هذه المرة الوحيدة التي تواجه فيها نوسباوم شبه كارثة في عملها. كنت أتوق لسماع لحظة ترددها نظراً لكونها حازمة دائماً. سألت عما إذا شعرت بالذنب عندما كانت ناجحة كأن تكون غير مستحقة لهذا النجاح وكان جوابها ” لا, أبداً, أعتقد أن النساء والفلاسفة لم يأخذوا حقهم من التقدير لما يفعلونه”. بعد أن تم رفض ترسيمها فكرت بدخول القانون وأضافت ” ترددت لفترة وجيزة جداً, حيث فكرت بدخول القانون ليوم أو من هذا القبيل”.

عوضا عن ذلك, أخذت تفكر بدور عام أكثر للفلسفة. وقد اتهم أحد اساتذتها البرفسور الإنجليزي بيرنارد ويليامز الفلاسفة الأخلاقيين بـ ” الامتناع عن كتابة أي شيء ذو أهمية”. بدأت نوسباوم بالاهتمام بجودة الحياة في العالم النامي وكان وراء هذا اهتمامها بهذا المجال عالم الاقتصاد الهندي أمارتيا سن الذي ربح جائزة نوبل. عملت نوسباوم مع أمارتيا سن في هيلينسكي هام 1986 المؤسسة العالمية لأبحاث اقتصاديات التنمية. أخبرتني أنه في المؤسسة أدركت أنها لا تعلم شيئا عن بقية العالم. لقد علمت نفسها عن السياسة الهندية وطورت نسختها الخاصة من أسلوب القدرات لسن وهو إطار نظري لقياس ومقارنة مستوى المعيشة بين الأمم. شجعت أعمال نوسباوم القديمة الضعف ولكنها تعرفت الآن على أنواع من الضعف كالفقر والجوع والعنف الجنسي التي لا يجب على أي كائن بشري تحملها. في روح أرسطوالية وضعت نوسباوم قائمة للعشر قدرات الأساسية التي يجب على كل المجتمعات توفيرها, وتشمل حرية اللعب , وخوض تأملات نقدية وحرية الحب. أصبحت نظرية القدرات الآن جزء ثابت من مطالب حقوق الإنسان وقد أخبرني سن أن نوسباوم أصبحت “أصولية” أكثر منه. وقال” عندما يتعلق الأمر بالحكم على جودة الحياة فأنا غالباً مغلوب بعكس مارثا”.

بدأت نوسباوم بتمديد أعمال جون راولز الذي طور نسخة مؤثرة ومعاصرة لنظرية العقد الاجتماعي والتي تنص على أن المواطنين المنطقيين يتفقون مع بعضهم البعض لتحقيق مصالحهم لأنهم يدركون أن الحاجات تُقضى من خلال التكاتف. تعتقد نوسباوم أن راولز ظلم الأناس المعتمدين على الآخرين كالمعاقين والمسنين والنساء الخاضعات في منازلهن. فبنظر نوسباوم, حتى يكون المجتمع مستقراً وقائماً على المبادئ الديموقراطية فإنه لا يحتاج إلى مبادئ أخلاقية مستقلة وحسب بل عليه صقل بعض المشاعر لتعليم الناس دخول حياة الآخرين بشكل قاطع. كما تؤمن أن الإنسانيات ليست ضرورية لبناء مجتمعات صحية ديموقراطياً فحسب بل إنها حاسمة في تشكيل مصيره. وقد قدمت نوسباوم نسخة محسنة من ” التعليم الجمالي” لستيوارت جون ميل وفكرتها ” التحسين العاطفي لجميع المواطنين من خلال الشعر والموسيقى والفن” وقد كتبت ” الاحترام وحده جامد وغير فعّال أو كافي لتخطي النزعات السيئة التي تدفع البشر لاضطهاد بعضهم البعض, الثقافة العامة يجب أن لا تكون فاترة وبلا أحاسيس” .

في أواخر التسعينات أصبحت الهند متوافقة مع فكر نوسباوم وقد حذرت بعدها صحفياً من وقائع التعليم العالي أن أعمالها هناك كانت ” منم صميم قلبي وفهمي لمعنى الحياة, فأن فللت من قيمتها فأنت إذاً لا تفهمني”. سافرت نوسباوم خلال الإجازات الدراسية للدول النامية وقابلت نساءً فقيرات وقالت أنها شعرت كما لو أنها محامية وكّلها الفقراء في الدول النامية.

كانت نوسباوم مشغولة بنشر الوعي النسوي في الستينات وقالت أنها تشكّك بالفكر اليساري. عندما بدأت نوسباوم بدراسة حياة النساء في الدول غير الغربية تعرفت كنسوية على ليبرالية تقليدية تؤمن بقوة المنطق في زمن اعتبره عماء مابعد الحداثة آلة أو تظليل للاضطهاد. وقالت أن حياة النساء حول العالم من الممكن أن تتحسن من خلال معايير ونظام عالمي للعدالة التوزيعية. لم تطق نوسباوم النظرية النسوية التي كانت نسبية لدرجة الافتراض أنه وباسم احترام الثقافات الأخرى على النساء الوقوف مكتوفي الأيدي بينما يتعرض نساء أخريات للضرب والتعذيب. وقد كتبت في كتابها “Sex and Social Justice”  الذي نشر عام 1999 أن هذا المنهج يشبه الانهيار الأخلاقي الذي صوّره دنتي عندما وصف حشد من الأرواح يطحنون في جهنم مجرجرين لافتاتهم تارة هنا وتارة هناك غير عازمين على وضعها واتخاذ موقف محدد حيال أمر سياسي او أخلاقي. هذا النوع من الناس هم الأكثر حقارة .

كتبت نوسباوم عام 1999 أن الأكاديمية السنوية تخاطب النخبة فقط , وأنها أصبحت غير مقيدة بالنضال العلمي للوصول إلى جودة الحياة للنساء وقد وبخت جوديث بتلر ونسويين آخرين لترك الجمال المادي من الحياة والتركيز على سياسات شكلية وقوليه لها ارتباط بعيد جداً عن الأوضاع الحقيقة للنساء. وقد شعرت أن تركيز هؤلاء المفكرين ينصب على مشاكل العرض أكثر من الاحتياجات المباشرة للنساء في الطبقات والثقافات الأخرى. وفي الرسائل التي ترد على هذا المقال استنكرت النسوية قاياتري سبينماك ” مهمة نوسباوم للتحضير”, كما كتبت المؤرخة جوان سكوت أن نوسباوم قد نسجت قصة أخلاقية تخدم ذاتها.

عندما تجلس نوسباوم على الكمبيوتر وتكتب تشعر وكأنها دخلت ” holding phase”  وهي عبارة استخدمها دونالد ويدكت لوصف الظروف التي تمكن الطفل من الشعور بالأمان والحب. وتقول أنها مثل الطفل ” تلعب بشيء, هذه طريقتي ولكن أشعر أن شيء من والدي بداخلي , فحس القلق والتراجع أربطه بوالدتي وحس الإقدام والابتهاج أربطه بوالدي”, وقالت أنها تتطلع إلى تجربة “الإقدام” ي علاقاتها العاطفية فهي تنجذب إلى الرجال المميزين فكرياً وق قالت لي ” أعتقد أن السبب وراء ذلك هو والدي”. تقع شقتها الفسيحة في الطابق العاشر والتي تطل نوافذها الحادية والعشرون على بحيرة ميشيقان كما أن الشقة مزينة بعدد من الفيلة المصنوعة مت البروسلين والحديد والزجاج وهو حيوانها المفضل نظراً لذكاءه العاطفي. وقد أخبرتني ” لاحظت أن عددا من صديقاتي الإناث يخترن الرجال ذو الطموح المتواضع , وهذا ينجح لان هؤلاء الرجال يكونون داعمين لهن وكنت أفكر أليس من اللطيف لو كان لدي ذوق رومانسي كهذا؟ ولكني بالطبع لا أملكه”.

بعد انتقال نوسباوم لجامعة شيكاغو عام 1995 كانت في علاقة مع المدير السابق لمكتب الرئيس أوباما لشؤون المعلوماتية كاس سنستين وهو أحد العلماء الأقلية المنتجين كنوسباوم .

انشغلت نوسباوم بالطرق التي يبدو فيها التفكير الفلسفي في غير توافق مع الحب والشغف. كم تدرك أن الكتابة قد تكون طريق للابتعاد عن الحياة البشرية أو حتى طريق للتحكم بالحياة البشرية. وقد قدمت في مقالة السيرة الذاتية في كتابها ” معرفة الحب” صورة لفيلسوفة تُقدم على حسرتها بقلم ودفتر, تنظم وتقسم التجربة من خلال اعداد قائمة بمواصفات العشيق المثالي وتقارنها بالرجال الذين أحبتهم من قبل. وكتبت ” بدأتم الآن بفهم هذه السيدة فهي تفكر كل الوقت. لا تبكي ببساطة بل ستسأل مما يتكون البكاء؟ , دمعة واحدة , نقاش واحد”.

نوسباوم غير متأكدة عن ما إذا كانت قدرتها على الانفصال العقلاني داخلية او مكتسبة. اشارت في ثلاث مناسبات إلى تجارب في طفولتها كانت فيها في أوّج غضبها على والدتها بسبب شربها في النهار بدرجة أنها صفعتها, حذرتها بيتي قائلة ” إذا أصبحتِ ضدي, لن أملك أي سبب للعيش”. دعت نوسباوم أن تتخلص من غضبها لخوفها أن يصبح دائم ولأنها فكرت أنه قد يقتل أحداً.

نادراً ما تمر بتجربة الغضب الآن كما أنها تبقي علاقات صداقة مع عشاقها السابقين الأمر الذي أثبته كلن من سنستين وسين وآلان.

في كتابها الجديد ” الغضب والعفو” والذي نشر الشهر الماضي جادلت نوسباوم ضد الفكرة المحببة للنسويين وعلماء النفس والتي تقول ” أن الناس وخاصة النساء يدينون لاحترام ذاتهم بامتلاك وتعزيز واعلان غضبهم” فكتبت نوسباوم أن من الهراء افتراض أن الغضب سيصلح ما أُفسد. وتؤمن أن الغضب يجسد الأمنية الغير منطقية بعودة الأشياء إلى وضعها الصحيح إذا ما سبب الانسان المعاناة. وقد كتبت أنه يتوجب حتى على قادة الحركات الثورية تجنب الغضب والانتقال إلى ” أفكار أكثر عقلانية من السعادة الشخصية والاجتماعية”. (وقد أقرت: قد يتهم البعض اقتراحي هذا بما يفعله شخص من الطبقة المتوسطة العالية ذو تعليم أكاديمي وهو ما ينطبق علي ولكني ببساطة أنكر هذا الاتهام).

لفترة طويلة بدا على نوسباوم العمل على الاتصال مع الغضب عندما أعدت قائمة في التسعينات بالقدرات التي يجب عزوها إلى كل إنسان وهي القائمة التي راجعتها في عدد من البحوث, تناقشت مع النسوية كاثرين مكانن عما إذا كان “الغضب المعذور” يدخل ضمن القائمة. كانت نوسباوم قلقة حيال العنف الذي يصاحب الغضب ولكن مكانن قالت أنها أقنعت نوسباوم بأن الغضب علامة على أن احترام الذات مازال موجود, قررت نوسباوم النظر إلى الغضب من جانب أكثر إيجابية وقالت “فكرت فكرت أني مخدرة بتجاربي الذاتية” وأفصحت في مقابلة لها بعد سنوات أن إظهار غضبها اتجاه صديق بعد سنوات من كبحه كان أكبر اللذات في الحياة.

عندما سألتها عن المفاهيم الذاتية المختلفة ردت علي بثلاث رسائل إلكترونية اثناء رحلتها إلى المكسيك تشرح فيها أنها أصدرت وجهات نظرها هذه قبل دراسة العواطف بشكل عميق. لم يكن الغضب الذي تمر به غضباً حقيقياً بل “غضباً انتقالياً” وهي حالة عاطفية تجسد فكرة ” لابد من فعل شيء حيال هذا الأمر, كردة فعل للظلم الاجتماعي”.

قامت نوسباوم السنة الماضية بعمل تنظير للقولون ولم ترد التخلف عن العمل فرفضت أخذ المسكنات. أرعبها شكل الزائدة الدودية الوردية والصغيرة جداً وقد أخبرتني ” إنه لجزء كبير منك ولا يتسنى لك لقاء هذه الأجزاء, أحب هذا النوع من التعرف فهو كما لو أنك تجسن العلاقة مع نفسك”.

أشمئز اصدقائها عندما أخبرنهم أنها اكنت يقظة طوال مدة العملية وقالت ” كانوا يعتقدون أنه من المقرف الخضوع لعملية دون فقدان الوعي”. لم تكن متفاجئة من درة فعل الرجال برغبتهم بالتخدير والمسكنات لكنها استغربت من النساء اللاتي يتجنبن النظر إلى أجسادهن فهن أنفسهن الاتي ينادين باحتفال المرأة بجسدها وعدم الخجل منه أو مما يمر به جسد المرأة ولكن حالما أصبحن في الستينات من عمرهن اشمأززن من أجسادهن ! لطالما كانت نوسباوم متقبلة لجسدها ولوظائفه الطبيعية ولكنها تعترف انه خلال التقدم في العمر يصعب تقبل جميع التغيرات الجسدية ففي الآونة الأخيرة لم يرق لها التغيرات التي حدثت لأنفها فذهبت إلى طبيب البوتكس وقام بإصلاح الأمر وقالت” أنا أعي أنه وبهذا العمر يتوجب علي الاهتمام بمظهري لتجنب خطر أن لا أكون جذابة, هناك نساء في عمري لا يهتممن بنظرات الرجال لهن ولكني أفعل”.

في كتابها الجديد Aging Wisely  تناقشت نوسباوم مع زميلتها في كلية الحقوق ساول ليفمور المصاعب الأخلاقية والقانونية والاقتصادية للشيخوخة وهو الموضوع المهمل فلسفياً باعتقادهما. يتمركز الكتاب حول حوار بين عالمان شائخان يحللان الطرق التي تؤثر فيها الشيخوخة على الحب والصداقة وعدم المساواة. يرفض الاثنان فكرة أن الشيخوخة شكل من أشكال نكران الذات. اجتمع في الصيف الماضي عدد من العلماء في ورشة عمل لنقد بعض فصول كتابها. وقد حضرت نوسباوم بأبهى حلة وكأنها تحضر مناسبة مختلفة تماماً عن التي يحضرها الآخرون. في أحد فصول الكتاب اقترحت ليفمور أنه من المفترض إعطاء رؤساء العمل أحقية إجبار الموظفين على التقاعد في عمر متفق عليه ولكن نوسباوم ردت قائلة أنه من المؤسف رؤية زملاء في دول أخرى يُجبرون على التقاعد بينما لم تزهر أعمال كانت وكاتو وجورجياس إلا بعد تقدمهم في العمر. رفع العالم ريتشارد ابستين يده بعد ذلك واقترح اعطاء كل مؤسسة حرية القرار مضيفاً “لكي تتمكن مارثا من الحصول على عروض من أربع أماكن أخرى ومواصلة العمل” فقاطعته نوسباوم قائلة ” بالطبع, يمكنني الانتقال إلى مكان آخر ومواصلة العمل ولكني لا أريد ذلك, إذا أرغمت على التقاعد سيؤثر ذلك حتماً على نفسيتي”.

عندما اقترح أحد الزملاء أن لا أحد يعلم بالتحديد الوقت الذي يبلغ فيه العلماء إلى أقصى مالديهم اقتبست نوسباوم كاتو عندما قال أنه لا يمكن مقاومة التقدم بالعمر من خلال نشاطات بدنية وعقلية.

لقد ذكرت ليفمور من قبل تكريس نفسها للضعفاء والمظلومين حتى أنها اكنت تتعاطف مع طالب سابق كان بلاحقها ويهددها وتبين لاحقاً أنه يمر بانهيار نفسي وقالت لي ” أشعر بالأسى اتجاه أي شخص ضعيف”. وقد شاهدت نوسباوم مقطع فيديو لنسر يطعم صغاره ولاحظت أن الأم كانت تطعم أحد الصغار وتتجاهل الآخر على الرغم من محاولاته البائسة في الحصول على بعض الطعام وبعد سؤال أحد المختصين أجابت أن هذا النوع من التنافس بين الأخوه شائع جداً بين هذه الفصائل من الحيوانات وهو ما أحزن نوسباوم. فسألتها ” ألم تكن علاقتك بأختك من هذا النوع؟” فأجابت “نعم, على الغالب” وقالت أن اختها كانت أسعد بكثير كل ما تقدمت في العمر فقد ازدهرت في وظيفتها وأضافت ” ربنا يجب علينا التحدث عن هذا الموضوع في الدرس القادم” هل يمكن للشهور بالذنب أن يكون إبداعياً؟ قد لا تكون كلمة “ذنب” المصطلح المناسب فهو نوع من الحزن الذي يستفيد منه الشخص على حساب شخص آخر.

تحدثنا عن أحد فصول كتابها التي كانت تنوي كتابته عن التقدم في العمر وفكرة أن ينظر الإنسان إلى حياته ثم يحولها إلى رواية, لطالما كانت نوسباوم معجبة بكلمات جون ميل الأخيرة “لقد قمت بعملي” وقد اقتبست هذه الكلمات في عدد من المقابلات كعلامة على حياة عيشت بشكل جيد وقد توفي والد نوسباوم وهو يقوم بتصفيف أوراق عمله داخل حقيبته وهذا ما تظنه نوسباوم موتة جيده. بعكس أشقائها الذين يرونه دلالة على الانعزال. وقالت ” لو كنت لأموت غداً لا يمكنني القول أني قمت بعملي. لو كانت حياتك جيدة لكان هناك دائماً شيئاً تود أن تفعله. وأضافت بعد مده “أعتقد أن فكرة “الكلمات الأخيرة” فكرة ساذجة فأفضل شيء يمكن فعله قبل الموت هو توديع من تحب وليس التحدث عن نفسك.

المصدر