مجلة حكمة

فن الحب المتين: صاموئيل بيكيت يقيم أعمال الأصدقاء الإبداعية – ماريا بوبوفا / ترجمة: هديل الدغيشم

The Letters of Samuel Beckett
رسائل صاموئيل بيكيت 1929-1940

“لو كنتُ أقل اكتراثًا بك لكان علي بكل بساطة أن أقول إنه جيد جدًا.”

إذا كان الصديق الصدوق ثاني النفس وثالث العينين- كما يعتقد أرسطو- وإذا كانت الصداقة الحقيقية هي العطية الإلهية التي تجمع بين اللطف والصدق- كما ناقش إمرسون ذلك ببلاغة-، فإن مهمةً أساسية للصداقة أن تُقوّم بصدق ولين تلك الأشياء التي يبديها الصديق لأعز أصدقائه، بما في ذلك ما ينتجه من عملٍ إبداعي بدافع حب وشغف.

بدأ الروائي والمسرحي والشاعر العظيم الحائز على جائزة نوبل، صاموئيل بيكيت، بهذا التعريف مفصحًا عن نفسه كصديق حقيقي لـ إيدان هيغنز -كاتب إيرلندي شاب يقطن أفريقيا الجنوبية والذي قد بقي تأثير بيكيت أبديًا عليه-. اهتم بيكيت أيضًا بمصير الحقوق المدنية في أفريقيا الجنوبية، واحتجاجًا على نظام التفرقة العنصرية في البلاد، فإنه فيما مضى قد حظر عرض مسرحياته بسبب سياسة عزل الجمهور.

في ربيع ١٩٥٨ أرسل هيغينز ذو الواحد والثلاثين عامًا- والذي أصبح لاحقًا نجمًا صاعدًا ووُصف بأنه “رامبود الذي يبحث عن أفريقيا”- قصة من قصصه القصيرة إلى بيكيت -البالغ من العمرِ اثنين وخمسين عامًا آنذاك- آملًا بأنها قد Botteghe Oscure تُناسب الصحيفة الأدبية، والتي كان لبيكيت دورًا مهمًا في تحريرها. لسوء الحظ، رأى بيكيت بأن القصة غير مناسبة، ولكنه أرسل إلى هيغينز رسالة بديعة تحوي تعليقات توجيهية عن كيفية تطوير بناء القصة.

استفتح بيكيت الرسالة بطمئنة شديدة، مشيرًا إلى حُسن مقصده واحترامه لهيغينز، مما أدى إلى تردده في النقد، لكنه لاحقًا استشهد بقناعة إمرسون بأن الصديق هو الشخص الذي يمكن للمرء أن يكون صادقًا معه. “لا أبتغي التعامل مع الصداقة بلطف بالغ، بل بجرأة صارمة”، كما قال إمرسون. “إذا كانوا حقيقيين، لن يكونوا سهلي الكسر وهشي العاطفة، بل أقوى مما نشهد.”

وبدلًا من ذلك، فإنه يرى أن النقد البنّاء جزء من التواصل الإبداعي بين الأرواح المُتحابة، فيقول:

“ترددي في التعليق بات مسيطرًا علي، أكره فكرة أنني قد أُحدث ضررًا بسبب إحجام وتقصير كهذا، لو كنتُ أقل اكتراثًا بك لكان علي بكل بساطة أن أقول “إنه جيد جدًا، وأنه أعجبني جدًا لكنني لا أعلم إلى أين عليّ إرساله”، ثم تركتُ الموضوع جانبًا عند هذا الحد، ولكنني لا أريد الإقبال على تصرف كهذا معك. وفي الوقت ذاته، أعلم أنني لا أستطيع تفحّصه وتقويمه بطريقة مثمرة بالنسبة لك. إن الكُتّاب لا يساعدون بعضهم بعضًا بهذه الطريقة.”

مع الأخذ بعين الاعتبار أن تقديم النقد جهد مُنهِك بالنسبة له، إلا أن بيكيت قد استمر بتفكيك مفصّل لنقاط ضعف هيغينز الكتابية، بدءًا بالأخطاء المطبعية الصغيرة – وجب التنويه على أن هذا كان قبل عقدين من اختراع التدقيق الإملائي، وكاتبٌ يافع بهذا العمر كان على الأرجح غير قادر على تقديم نسخة منقحة- وحتى التفصيل الدقيق في استخدامه المفرط للتشبيهات.

“كلوائح تهديدية” .. “مُتعِبٌ كأصفاد” .. “مُضجر كطاغوت” .. “ضخم كهيكل السفينة” .. “متهوّر كعرّافة مدينة كوماي” .. “جاف كآنية خزفية” .. “فاسد كجريمة قتل” .. عليك أن تكون حذرًا حول ذلك.

بالإضافة إلى ذلك، إن بيكيت يكشف عن نفسه بأنه عميد أسلوب النقد المسبوق بالثناء، معلقًا على مقطع في الصفحة الرابعة من النص:
“لقد قرأت إلى هذا الحد باحترازٍ بسيط، وإعجابٍ بالترابط والإتقان والسرعة في الكتابة، إن ذلك ظاهرٌ بشكل رصين من خلال النص، ولا أعني بذلك أن بقية المقاطع تفتقر إليه.. لكنني ببساطة أشعر بتخبّط وإجهاد، وعلاوة على ذلك، فالأسلوب يبدو ركيكًا. أعتقد أنه من السخف القول بأن التعبير عن المكنون الداخلي لا ينبع إلا من الداخل، على كل حال، لا يوجد هناك شيء أصعب وأدق من هذا الشرح الاستطرادي لكلمة لا يمكن التعبير عنها أو التعبير باستخدامها. ستكون الرؤية حسّاسة جدًا والكتابة فعّالة جدًا عندما تتوقف عن الحديث بشغف بالغ عن تفاصيل بحجم الذر، ومن الأرجح أن النتائج ستكون ملحوظة عندما تشعر بأنك ميّزت الغنيمة المتيسرة في متناول كلماتك، عمّا سواها.”
إن الانطواء على خصائص نقده والتعمق فيها، يقدم لمحة عامة ومثيرة حول أسلوبه الكتابي- ينثر بيكيت بذورها عادةً في رسائله- مسديًا نصيحة قيّمة، خصوصًا في الوقت الحاضر، ضد العجلة في النشر.

“اعمل، اعمل، اكتب لا لشيء إلا لذاتك، لا ترتكب الخطأ السخيف الذي نرتكبه جميعًا بالنشر قبل الأوان.”

بعد خمسة أسابيع، كتب هيغينز إلى صديق: “قدّم نقدًا مفصلًا للقصة، ومن الممكن أنه كان أكثر فائدة من النشر” في السنة التالية، وقبل وقتٍ قصير من نشر هيغينز لكتابه، كتب بيكيت لصديق آخر: “أعتقد أنه كاتب واعد ويجب تشجيعه.”