مجلة حكمة
فكر الهجنة والوعي بالآخر - عمر بوجليدة

فكر الهجنة والوعي بالآخر – عمر بوجليدة

عمر بوجليدة
د. عمر بوجليدة

” … إنه لذو أهمية خاصة بالنسبة لي بوصفي عربيا وغربيا أن ينجلي أن فكرة التعددية الثقافية أو الهجنة – التي تشكل الأساس الحقيقي للهوية اليوم – لا تؤدي بالضرورة دائما إلى السيطرة والعداوة ، بل تؤدي إلى المشاركة وتجاوز الحدود إلى التواريخ المشتركة المتقاطعة “

إ . سعيد .

“… استهدفت تحدي أولئك الذين يتوهمون أن الأروبيين هم وحدهم الذين صنعوا التاريخ … “

اريك وولف

 

استهلال :                                                          

   إنا لنعلم أن القـبول بفكرة الحقائـق المتعـددة أو الوجـوه المـتبـايـنة المختلفة  للحقيقة الواحدة ، مثل خطوة جريئة بلورت الإطار النظري الحاضن “للآخر”، فمن البين أن القبول بالآخر، بما هو عليه ، ومهما بدا ممعنا في الاختلاف والتغاير عن الأنا ، نشأ وسرى على أرضية فلسفية تجل تعدد الحقائق ، أو لنقل تعدد وجوه الحقيقة الواحدة بتعدد الزوايا المنظورية المعتمدة لرؤيتها .

 

-“الآخر” ، الهجنة ، أو سعيد بين عالمين :                             

   ونحن إذا أجدنا النظر في ما يعنيه “أفلاطون” في محاورة “السفسطائي” بالبحث في “الآخر” من حيث هو اهتمام فلسفي ، نجد أن مقصده إنما هو التوضيح أن “الآخر”هو دائما نسبي لآخرما .(1) فـ” الآخر” إنما هو جنس من الأجناس ، وما هو ذاته هو آخر بالنسبة إلى غيره ، ثم ماذا لوقلنا “إن اللاوجود هو آخر بالنسبة للوجود” ، ألا يترتب عن ذلك أن اللاوجود نفسه يوجد ؟ وإنه داخل هذا الأفق بالتحديد ستنشأ دعوة قوية حاولت إثبات حق “الآخر” في التمايز والاختلاف والاحتفاظ بكل ما جعله آخر.

  هذا الشكل الجديد من التفكير الذي يقطع مع منطق التطابق الكلاسيكي وينقذ الفلسفة من تجربة الانغلاق الذي انتهت إليه مع “هيغل” يحاول إنجاز حوار مع الفلسفة الكلاسيكية ، فما يؤاخذ عليها إنما هو إقصاء “الآخر” و الاستحواذ عليه انطولوجيا و سياسيا ، وينقل “دلوز” هذه الصورة إلى السياسي والتاريخ “كان تاريخ الفلسفة دائما في خدمة السلطة ، في الفلسفة و حتى في الفكر “(2) فلا يخفى أنه إذا عرض على الفلسفة أن تفكر في “المحسوس” فإنها ستؤكد تعدده و تنوعه، إلا أنها تلغي تنوعه وتعدده في وحدة معنى ، يفترض أنها ثابتة ، وإذا أجبرت على النظر في “الاجتماعي” المتعدد ، فستقرر أنه غير منسجم وستعمل على توحيده ونظمه في وحدة الدولة . فكان أن صار منطق الفلسفة منطق تطابق  وانحسر الفكر وأدى هذا الحصر إلى طمس الاختلاف وأبان عن تطابق في الوعي أو الذات أو الكوجيتو ، وفي هذا الإطار يضغط المهمش على الوحدة السعيدة للدولة.

      وقد لزم عن ذلك ، أن اعتبر “فكر الاختلاف” ، فلسفة التاريخ ، فلسفة للدولة والوحدة ، و تبريرا للتوتاليتارية ، وإقصاء للمنبوذ ، وإقرارا للمتجانس .  ورغم هذه الكشوف الباهرة ، كان “فكر الاختلاف” في أوانه غريبا ، فلم يتم الانتباه إلي حق “الآخر” ، أن يكون غيرنا ولم يقع الإنصات إلى” الآخر” ، والانتهال منه ، ، بل أحيل على الصمت وأقصي في الهامش . و إن كل ذلك لمما يوضح أن الاهتمام بفكرة “الآخر” ، إنما يستوجب مراجعة للتاريخ وتأمل ما اكتظ به من إقصاء ، وتهميش واستبعاد ، ومن هنا نلاحظ ذلك الخطاب الذي طفا على السطح والذي تعلق بالمهمشين والأقليات …

     وقصد الإفصاح عن مبتغانا ،فإنه أصبح من الواجب علينا أن نوضح كيف أن “ادوارد سعيد” جعل من هذا الإرث ، غرضا فلسفيا تام الوجاهة ، وقد استبان أنه إنما يؤشر على أهميته ، بأن كان اللجوء في مذكّراته إلى استحضار أقدم اعتراف لما كان يربكه في طفولته  فهو لأخلق بأن يمنح الصدارة  : اسمه المهجن ، الذي يجمع تناقض عالمين مختلفين ، وإمعانا في التحديد و الضبط يستطرد من تهجين الاسم بمفرده إلى اقصى عملية تهجين لغوي تعرض لها منذ نشأته ، ويدفعه حسه النقدي إلى الاحالة على تجليات هذا التهجين، الذي وكأنه يقوم منه مقام نفسه. ففي مقال تحت عنوان “بين عالمين” لخص “سعيد”موقعه ، وهكذا فإنه علينا أن نستبصر وجه الحضور الكثيف لرمزية “كونراد” الذي هجر موطنه : إنه التماهي  ولا يجد “سعيد” حرجا في الإقرار بأن هويته ووطنه ظلا مختبئين  وراء لغة المنفى ، رغم أنه من شأن المنفى  أن يحرر من عوائق الثقافة القومية ، لقد أصبح المنفى بهكذا معنى موقفا أصيلا ، على أنه يجدر بنا أن ننبه إلى أن “سعيد”رأى في منفاه ظاهرة فريدة لا مثيل لها ، ولمثل هذا الاقتضاء أيقن أن منفاه جماعيا شموليا ، إنه منفى بين عالمين متباينين ، حضارة وثقافة وتاريخ ، وهكذا جعل من المنفى أسلوبا في التفكير وموضعا للكيان. وما يلفت النظر هنا هو أنّ هذا المتعدد المنفرد عاش هوية منفى مركب أو منفى داخل المنفى، فهو منفي عن أخص ما بحوزتنا ، انه نتاج لأزواج متدافعة متضاربة ، متواشجة ومتصارعة ، من عوالم الثقافة ، إنها تجربة الانتماء القلق الذي يمازجه الرفض ، تجربة تكتسب بها الإنسانية خصوبة مصدرها القلق الخلاق، ذلك الذي بموجبه يكون عدم الانتماء رفضا لما كان حجبا للإنسان في حقيقته . فالمنفى سردية تصر على أن تكون نحوا من الوجود الموجب على صعوبته. إنها إقامة ماهيتها التنقل المتصل بين عالمين “حيث ارتقت بي الذكرى بعيدا فإنني أحسني منتسبا إلى عالمين دون أن أكون تماما منتميا إلى أي منهما “(3)    إنه جهد مضني يروم معرفة الذات بواسطة الذات ، تنقيبا في ثنايا الذاكرة وأعطافها ، بحب قاس ومرارة تحفر في الروح أخاديد عميقة ، مرارة لا تجد مثيلا لها إلا في معاناة وجودية .  وليس أدل على ذلك ، مما كان قد  رواه “سعيد” ذات مرة في “تأملات حول المنفى” من أنه منفي عن وطنه وفي لغته ،إنها غربة مفروضة على الذات وهو ما ليس يقدر أن ينفك عنه ، فالمنفي مجتث من جذوره وماضيه وتراثه وبالتالي مقتلع من هويته ، إن المنفي يظل مهمشا ، إلا أن المفارقة هي أن الثقافة الغربية الحديثة إنما هي نتاج لفكر المنفيين والمهاجرين والمبعدين .

      فالنفي في الأصل هو الطرد والإقصاء ، وذلك هو الدين الذي يدين به “سعيد” إلى ميراث فكري عظيم ، ينحدر من “ماركوز” إلى “بكيت” ليبلغ تمامه مع “كونراد”  وللإبانة على ذلك اختار “سعيد” أن يؤكد أنه إنما هو التحول إلى إنسان غريب يعيش في وطن غير وطنه ، ومن هنا الإحساس بالحنين ، وبأنه مجتث ، ذلك أن المنفى هو واحد من أسوأ المصائر التي ينتهي إليها الإنسان ، إنه العقاب في شدته ، إنه نبذ وإقصاء أبدي ، دائم . وليس ببعيد أن يكون  حنين “سعيد” إلى أمه حنينا إلى الوطن ، ذلك أن قدره قد قدر عليه أن تكون أمه منفاه ، فتعمق إحساسه بالمنفى وأصبح يجد نفسه خارج المكان. فقدر “سعيد” هو قدر “جبرا” و”درويش” وكنفاني” فتلك أمة كانت برمتها في المنفى .

     لقد انتظم لنا الآن  أنها حياة تنهض على مساومة صعبة بين أسلوبين متناقضين من الوجود. ويتحصل مما أسلفنا أن مثقف ما بين الحضارات يحس دائما بتخلخل المكان والقلق الأبدي ، لا سيما إذا ما تعلق ذلك بعمليات التهجين الثقافي التي تقتضي انخلاع الشخص من دوائره الحميمة واستزراعه في بيئة غير بيئته . وحتى يكون الأمر مستبينا نفترض أن “سعيد” إنما كان قد تمثل جيدا حكمة اللاجئ الجذري”ادرنو” ، حين أشار إلى أن الكتابة إنما تغدو مكانا للعيش لذلك الذي لم يعد يملك وطنا ، ذلك أنه تقرر له، فقرر أنه في حالة من الانخلاع دائمة . إن هذا الشعور بالخارجية يسّر لـ”سعيد” أن يلاحظ ما لاحظ وأن يكتب ما كتب ، وأن يستبين ما إنبهم في الأشياء. ذلك أن كتابات “سعيد” التي انخرطت في تدمير الفاصل الأكاديمي بين أجناس الخطاب ،إنما تحاول تدبر مضامين ورهانات وآفاق ما أبدعته الذات وبخاصة ما فرضته القوة الاستعمارية من كيفيات استخدمت في مستواها الثقافة الامبريالية لحافا أيديولوجيا . إن  هذا الشتات لا يثني “سعيد” عن عزمه بل يدفعه إلى المراهنة على ما نهض له في بادئ أمره ، فـ” سعيد” إنما يريد أن يقف عند عقلية من كان وراء هذا الإنشاء والضمنيات التي كانت تحكم أساليب وآليات وطرائق تفكيره ، فيمارس “سعيد” قراءاته في ارتباط بنصوص ، يمنع عنها تعاطي الاكتمال والنهاية ، فهو مجسد للوعي الضدي ، إذ يخوض في المسكوت عنه والمحلوم به ، فهمه النقدي متعلق باحتمال الغيرية احتمالا موجبا ،   حالتئذ ينطرح أفق للتساؤل جديد ، ينبري متظننا : هل الآخر بشر أدنى من الأنا أم بشكل ما مساوون لها لكنهم مختلفون عنها ؟ لقد جعل سعيد مدار اهتمامه هؤلاء ، الذين ينظر إليهم من جهة ما هم كتل بشرية لا تستحق صفة الآدمية والسيادة فهم الذين لا وجود لهم ولا يمكن وصفهم.  عندئذ نستبين كيف أنه استطاع التأكيد على أن” الآخر” ، إنما هو المعادل الفعلي للمنفي ، الغريب ، و المهمش…وهو ما دعا “سعيد” إلى رفض الانغلاق في العقل اكتمالا ، إذ يمارس اكتناها غوريا صارما ، على درجة مدهشة ، ليستنتج أن ما أحيل على الصمت وأقصي في الهامش ، إنما ينبغي أن ينجز مبدأ التفكير بوجه آخر ، ويجعل الفلسفة تدمج في المعرفة ما كان مستبعدا من المعقولية الكلاسيكية .لقد بان مما فات أنه نظر إلى” الآخر” على أنه موضوع قابل للمعرفة والدراسة  تجسيدا لإرادة السلطة ، إن “الآخر” هاهنا يتجلى مرآة تنعكس عليها “الصورة” التي شكلت “العقل” الذي ينجز تمركزه انطلاقا من ممارسة الإقصاء .فهذا “الآخر” الذي همش طويلا ، ونبذ بعيدا ، ينتقل من “الموضوع المدروس” إلى فضاء يصبح فيه “ذاتا” فهو لم يعد ليقبل أن يكون موضوعا ، فـ”الآخر” اختراع تريده “ذات” ما ، ومن ثمة ، هي تستعمله لـ”تعريف نفسها” بوصفها ما ليس هي ، فينحط لحظتئذ من كائن فعلي إلى “صورة ” لا تملك أي دور وجودي ، بل دورا أداتيا ، لشيء – مقابل- يساعد الذات على تمييز هويتها فقط. (4) بيد أنه  علينا أن ننتبه إلى أن “الآخر” مايزال في عصر النهضة غريبا وبعيدا لا يرقى إلى أن يكون موضع الغيرية وعنوانا للاختلاف ومصدرا لحركة موجبة ، وبالتالي يغيب مفهوم “الآخر” بإطلاق من “التأملات الميتافيزيقية” ، فقد أسس “ديكارت لإسكات “الآخر” واستبعاده وجللت الذات ، فـ”ديكارت” لم يثبت  من خلال الكوجيتو سوى طبيعة “الأنا المفكرة” فحكم بالتالي على “الذات” بالتقوقع على ذاتها ، وكان نفي “الآخر” من ساحة أي معرفة ممكنة. كذلك الأمر في “نقد العقل المحض” ل” كانط “، ذلك أن ميتافيزيقا الذات التي تأسس عليها مشروع الحداثة قد كانت في أول أمرها غير مهيأة للتفكير في “الآخر” فغايتها كانت السيادة والسيطرة وتحويل كل الموجودات إلى مواضيع للمعرفة، ذلك أن الانتقال من الإنية إلى الغيرية من أعسر الإعضالات الفلسفية .إلا أن مفهوم “الآخر” لم يكن ليصبح ضروريا إلا عندما بدأت الذات المتعالية تنقلب إلى مبدأ للتاريخ الكوني ، ولكن لابد عندئذ من التصادم مع “الآخر” على نحو كلي .(5)

        إن أبحاث “سعيد” لم تأل جهدا من أجل إثبات أنه وبعد خواء “الآخر” أصبح “الآخر” مركز عناية ، ففكر التنوير بدلا من الإحجام عنه ، تهيبا منه ، يعترف بالآخر واليوتوبيا التي كانت تسم فلسفة التنوير من أهم الأشكال التي تبلورت بها الغيرية في الأزمنة الحديثة .فقد شكل التساؤل عن “الذات” انعطافة ، نحو الاهتمام “: من الآخر، الذي هو نحن ؟”

    لقد تأكد للوعي لحظة تأسيس حداثته أنه “لايكون في ذاته ولذاته إلا عندما يكون وعيا في ذاته ولذاته لوعي آخر بالذات ” (6).فـ” الغرب” إذن وإن ألقى بالا لـ”الآخر” ، فلكي يتحدث عن الصيغ التي يمكن بمقتضاها إقحام الغير في هذا المشروع الأوربي الخاص . إن فكر التنوير يعترف بـ”الآخر” ليتمكن من نفيه ، إنه اعتراف مكيد بـ”الآخر” مناطه ، نفيه تماما ، ذلك أن “الآخر” هو من يرى ما أرى ،و ذلك أن العالم لم يوجد إلا لي ، كذات ، وينبغي أن أكون من خلال ذلك محورا للعالم.

-في التداخل بين الثقافة والامبريالية ومطلب المقاومة والتحرر: في هذا المستوى يشيح “سعيد” بوجهه عن ازدواجية المثقفين في المركز ، ليولي اهتمامه لنمط من الخطاب المهاجر ، المضاد ، والذي يساهم من موقعه في زحزحة سرديات الغرب ومروياته عن “الآخر” ، ولما استتب لـ”سعيد” التحليل وظفر بالمعنى الأدق ، طفق سريعا يلملم عناوين التداخل بين الثقافة والامبريالية ، فقد استطاع أن يستشف خيطا ناظما لعلاقة تواطؤ مفترضة ،  وينتبه إلى ما دفع الايطالي “فيردي” في” أوبرا عائدة ” إلى ماضي مصر الفرعونية تقفيا لأثار الغريب والعجيب ، وبالتالي يكون “فيردي” منسجما تماما مع الطروحات الثقافوية المهيمنة إبانئذ “إن مغناة فيردي المصرية الشهيرة والتي تظهر من جهة ما هي معجبة بصرية وموسيقية ومسرحية لتؤدي الكثير من الأشياء العظيمة من أجل الثقافة الأوربية ومنها تأكيد المشرق وتثبيته مكانا غرائبيا وقصيا وأثريا ، بوسع الأروبيين أن يقيموا فيه استعراضات معينة للقوة “(7)

      لقد تحول الاستشراق إلى نصوص تؤمّن تقليدا إمبرياليا وتبلور رؤية للعالم إمبريالية ، إنه أسلوب وإنشاء استطاعت وفقه الثقافة الغربية تدبر الشرق ،  ومنعه من  أن يجسد ذاته التي تخصه وترجمة غيريته في ضرب موجب من الانتماء إلى نفسه ، إنها صورة مشرقنة عن الشرق ، ذلك أن تلك الممارسة إنما كان هدفها الإلغاء.

     هاهنا يتجلى أن هاجس “سعيد”- من الإستشراق كأسلوب غريب للسيطرة وكقاعدة للمحاكمة والتأديب ، إلى “الثقافة والامبريالية” – إنما هو تعرية ذلك التآزر الخفي بين قوة المثقف ومؤسسات القوة وليكشف أنّها إنما هي علامات تنبئ عن أزمة براديغم الذات ومطب من مطبات الحداثة . فما يهم “سعيد” إنما هو الكشف عن الكيفيات اإلتي حدثت بها العملية الامبريالية والترابط المدهش والمباشر بين الثقافة والامبريالية والذي يظهر بجلاء في إبداعات ثقافية وروائية وموسيقية ، ويجلو “سعيد” على طول مساحة روائية تمتد من “جوزيف كونراد” إلى “كامو” مرورا ب”كبلنغ” و”أوستن” و”فورستر” وحتى “إليوت” ، العلاقة بين الرواية والامبريالية ، حيث غدت الثقافة الحامل الفعلي لمشروع امبريالي من جهة ما هو التفكير في ، والسيطرة على أرض لا يملكها المرء ، أرض نائية ، يعيش عليها ويملكها آخرون .

      لقد برع “سعيد” في أن يجعل من العالم مسرحا لتأويلاته ، بحثا عن الإنسان في شرطه الكلي – والفوارق بين المستويين ليست وافرة- برهان ذلك القراءة الطباقية التي تسعى إلى إفساح المجال لجميع الأصوات التي تنطوي عليها الظواهر والمنتجات الثقافية الإنسانية بما فيها النصوص الأدبية ، حتى تفصح عن الرؤى في تنوعها واختلافها ، لقد بين “سعيد” أن التفسيرات السائدة للثقافة والتاريخ والفن إنما هي تفسيرات ذات بعد واحد ، عدت دائما في ارتباط بالمركز ، شريكة الامبريالية في مسعاها لتدمير” الآخر”. فمن ذا الذي ينكر إسهام أعمال “سعيد” في تشكيل مناخ فكري وتصوري أثر أيما تأثير في إعادة النظر في قضايا التراث والهوية ، فضمن تجربة الحوار يتأسس بيني وبين” الآخر” حقل مشترك ، ذلك أن واقع النقاش يستدعي مقاصدي ومقاصد المخاطب ، فيندرجان في عملية لم يكن أحد منا ليبدعها ، ففي إطار الحوار ، أتحرر من ذاتي ، لتتحقق طقوس الاعتراف المتبادل بين الأنا والآخر ، اعتراف متبادل بين الذوات ، فالاختلاف لا يحول دون التفاهم ، بل يخلق فضاءات تواصل وأرضية لقاء مشترك ، يجعل منها إشكالا يدفع إلى  استئناف التفكير. فـ “سعيد” مثلا يريد أن يدرس نقديا دلالات تاريخ الصهيونية ، ليكشف ارتباطها بالمشروع الاستعماري الثقافي لأوربا ، إلا أن ذلك لايمكن أن يكون مدخلا لمعاداة السامية .

     لقد ندد “سعيد” مع مثقفين أمثال “درويش” بالأطروحات المراجعة لحقيقة المحرقة النازية ، فمعرفة الآخر لا تعني التطبيع معه ، وهو ما ورد في رده على أولائك المثقفين العرب المفتونين بطروحات “غارودي” معتبرا أن هذا الاحتفاء ب”غارودي” وتشجيع الطروحات القائلة بأن محرقة اليهود ،إنما هي دعاية صهيونية ، تدفعنا حتما إلى التساؤل عما يدفع الآخرين إلى الإحساس بمآسينا ، في حين نستهين بمآسيهم ، وهو الإحساس بالمسؤولية الأخلاقية والذي من شأنه أن يضفي شرعية أخلاقية وقانونية على مطالبنا.

       وما يمكن استجلاءه ، أن هذا الرهان/الإحراج والذي ينسلك عمله في أفقه قد يجد نفسه بضرب من انقلاب الأوضاع في مواجهة اعتراضات ومزالق على قدر من الخطورة والحساسية : وليس أقل الأمارات على ذلك ، الصراع بين مسلمة مفادها التطلع إلى أفق إنساني وموقف كوني وفعل تحرري ، في عصر الإمبراطورية من جهة ما هي ـ كيفية من كيفيات الوجود ـ قاسم مشترك والامبريالية إيديولوجيا.

    يبدو أن صلتنا بالكوني تقوم منذ البدء على تطعيم معرض للخطر ، يتعلق الأمر بتخليص وتحرير الذات من شوائب الهويات الماهوية ، بتفكيك ميتافيزيقا الهوية ، ذلك أن تعدد وتنوع الانتماءات في حياة “سعيد”، سبب قلقا زعزع علاقته بذاته ، قلقا محرضا على الإبداع والتسامح والانفتاح ، ولا يفوت “سعيد” أن يقرن قرنا حميما بين توجيهين, أحدهما إلى”الغرب” ومفاده :إنّ العالم إمبراطورية وليس أمة خاصة بالغربيين ، وثانيهما إلى “الشرق” و جوهره :إنّ الهوية مشروع تتخلله التعددية أي نمط من الهجنة ، إذ أدرك “سعيد” كيف يلاءم بين التعدد والوحدة ، ذلك أنه تعلم أبدا احترام حقوق “الآخر” ، فقد أفاد من تأكيد الدراسات الانثروبولوجية على مفهوم نسبية الثقافة بوصفه المسرب للقبول بفكرة التنوع . ومن ثمة كان التأكيد لديه على أن الهوية حاملة لدلالتين متقابلتين : فهي من ناحية تحيل على التطابق والوحدة والثبات ، ومن ناحية أخرى تحيل على الاختلاف والتمايز والمغايرة،وهو شكل لاهووي في التعامل مع الهوية  كسيرورة ، وهي بهذا المعنى منفتحة وبالتالي فمفهوم الهوية مفهوم تاريخي.

       ويذهب “سعيد” في التوضيح أنه كثيرا ما نحدد هويتنا من خلال طبيعة علاقات القوة والخلافات ، وأن مبدأ احترام حق الاختلاف لا يشمل كل سردية عنصرية ، تنهض على استبعاد”الآخر” كما يتجلى في الصهيونية ، ولا يعني التصالح مع واقع الهيمنة ، لذلك علينا دائما أن نعيد النظر في معنى” الآخر” لحظة الحديث عن احترام حق الاختلاف.

        من أجل ذلك يعود التفلسف في كل مرة إلى المساهمة في استرداد معنى للكوني  أصيل ، وتلك هي فرصتنا الوحيدة ، والرهان هو هذا : كيف يمكننا أن نتدرب على مجاوزة التصادم بين المشروع الإمبريالي والمشروع القومي ، أي بين نموذج الدولة / الأمة الذي أنتج ظاهرة الاستعمار و الحس الهووي، إرتعابا،  إلى استحداث كلي مشترك ، يقبل به الناس جميعا على جهة الرضا ، لا على جهة القسر ، تمهيدا لتحقيق رهانات الإنسانية ، ضمن كونية تراهن على الإنسان ، في تعدده واختلافه وتنوعه .

     إن انتماءنا إلى فضاء الكوني لم يبارك عمليا إلا من باب الشفقة ، فقد كان إقحام التفكير في الكوني في كل مرة ، يصطدم بصراع حاد بين طموحات المثقف الامبريالي و طروحات المثقف الإمبراطوري ، إنه ما يستوجب اشتغالا على الذات دؤوب ، فوجود الإنسان في العالم لا يكون إلا مع الآخرين ، وفق ألوان من السرد ، متنوعة ، تفصح عن أصوات إنسانية ، غير أن هذه المعية لا تخلو من مفارقة : ففي الوقت الذي ينظر فيه إلى عصرنا على أنه الإعلان الفعلي عن ولادة الفرد في نطاق مجتمعات موسومة بالتنوع ، تعترف بحرية الأفراد وتأصيل هوياتهم ، يكشف الواقع عن صورة مغايرة لهذه المجتمعات التي أضحت أحادية ، تفرض فيها ، أنماط تفكير وإحساس وسلوك ،ولأن “سعيد” اختار وضعية المثقف المقاوم أصبح مزعجا وخارجا عن الطريقة التي سلكها “الغرب” لترتيب العالم ، إنها  وضعية المثقف ما بعد امبريالي وما بعد قومي .

        إن الانتباه الفاحص يثبت أن الحدث الإنساني والفعل الحواري لا ينكشفان إلا في فضاء التفاعل بين ذوات يؤلف بينها اختلافها ، بيد أن هذا التصور ليس يتوضح على حقيقته ، إلا إذا أبصرنا به في ضوء اختلاف الثقافات ، مؤشر تبادل وباعثا على التفاهم والتعايش ،ولنحاول الآن تقصي هذه الصعوبة المتوارثة تقصيا أحكم. إن الهوية لا تدرك إلا في وجود آخر مختلف ، فـ “الآخر” المختلف جزء من هويتي كما وضح “ريكور”، ووراء الخصوصيات والاختلافات وتنوع الهويات ، تكمن الوحدة، فالتنوع لا يلغي التواصل في أفق إنساني كوني عابر للخصوصيات ، سيما وأن الكونية إنما هي ما يقابل الانغلاق ،  فإنسانيتي هي انفتاحي المبدئي على كل ما هو إنساني خارج ذاتي ، هكذا يكون الرهان شديدا ، على أن الهوية لاهي امبريالية ولاهي قومية بل ضرب من الهجنة ، الغجرية  ، المشوبة ،و الغير نقية : إنها لحظة استشرافيّة إليها ينتسب كلّ منتم إلى  العالم ما بعد الحديث ، إنها هوية بلا مركز ،هويّة لا تكون إلا فعلا في الوجود مستمرّا ، وفعلا مقاوما.

 

خاتمة:

       يمكننا أن نستدل على التقاطع الحاصل بين منطق الهوية ومطلب الكلي من خلال البحث عن هوية مهجنة ، ففكر الهجنة إنما هو ضرب من ضروب المجاوزة للانغلاق الذي ينهض عليه الفكر الهووي، نتاجا لحركات تثاقف إنساني ونمط من الفضاء الحر ، عنوانه التأسيس لهوية عالمية تقوم على التنوع .        إلا أنه حقيق علينا أن نوضح أن الدعوة إلى الكونية لم تكن منتهى ينتهي إلى حكمه المختلفون ، فلئن كانت مغرية فإن المسرب إليها في الحقيقة سلاح خطابي وتبرير إيديولوجي ، علامته السيطرة والهيمنة والاستحواذ. لقد وجد “سعيد” في ذلك منطلقا متينا وارتأى فيه تهديدا مريعا بالاغتراب الثقافي ، ذلك أن المطلوب إنما هو تنبيه الجميع للأسباب العميقة  التي أدت إلى العلاقة المضطربة والمشوشة بين المهيمن والمنضوي وبين المتون والحواشي ، وأيضا إلى المركزية الثقافية المسببة للعمى والغرور. كما أشار إلى عدم الوقوع في النزوع المضاد ، نحو تمجيد مثالية الأجنبي ، بشكل ساذج وعاطفي تحقيرا للهوية ، فالبعض يحتقرون بشكل محزن إرثهم . إلا أن الكراهية ونسيان الجذور لا تثمر شيئا ، ذلك أن المقاومة  ليست دفاعا عن قومية بعينها ، و إنما هي نقد كوني لرؤية للعالم من خلال تحريك الهوامش ، وبالتالي أهمية الحفاوة بجميع أطراف اللقاء الإنساني .

 

 

 


الهوامش:

Platon,Sophiste,traduction et note par E.Chambry, Ed Granier Flammarion ;Paris1969    -1

2- محمّد الشّبخ المثقّف و السلطة دراسة في الفكر الفلسفيّ المعاصر دار الطليعة بيروت طبعة أولى ،ص73

3-ادوارد سعيد، الثقافة والامبريالية ، نقله إلى العربية ، كمال أبو ديب ، دار الآداب ، بيروت ، 1997

4- فتحي المسكيني الهويّة خارج المكان أو النزعة الإنسانيّة في فكر إدوارد سعيد”في المجلّة العربيّة للثقافة السنة 23العدد45مارس 2004ص284

5- المصدر نفسه

Hegel , La phénoménologie de l’esprit, trad. J. Hypolite, Paris Aubier-Montaigne 1941/t    -6

7- إدوارد سعيد ، المصدر نفسه  ص177

– ادوارد سعيد ، الاستشراق ، المعرفة ، السلطة ، الإنشاء ، نقله إلى العربية كمال أبو ديب ، مؤسسة الأبحاث العربية ،بيروت 1984

– ادوارد سعيد ، خارج المكان ، ترجمة ، فواز طرابلسي ، دار الآداب ، بيروت 2001                                      – ادوارد سعيد، تأملات في المنفى ، ترجمة ، ثائر ديب وفاضل جتكر ، دار الآداب ، بيروت 2004