مجلة حكمة

فشل أنقرة: كيف خسرت تركيا الربيع العربي – جوناثان سكانزير، ميرف طاهر اوغلو / ترجمة: غادة اللحيدان

 

 مجلس العلاقات الخارجية. جوناثان سكانزير, ميرف طاهر اوغلو


عندما بدأت الثورات المناهضة للحكومة قبل خمس سنوات في الشرق الأوسط ابتداءً من تونس ومصر وليبيا وانتهاءً عند سوريا. أعلن المتفائلين أن الشرق الأوسط على أشراف تغيير ديموقراطي درامي, وقد كان القادة التركيين ضمن هؤلاء المتفائلين الذين رأوا في الثورات فرصة لتحقيق الحلم العثماني وتنصيب تركيا قائدا للمنطقة كديموقراطية مسلمة تربطها علاقات بكل من الغرب والعرب. ولكن بعد خمس سنوات انتكس حال الربيع العربي وتحطمت معه آمال وأحلام تركيا حيث دخلت كل من سوريا وليبيا في حروب أهلية وأصبحت مصر استبدادية بشكل متزايد كما أصبحت تونس وهي الدولة الوحيدة التي يعتقد البعض نجاح الثورة فيها مركز جذب لتنظيم داعش. وقد انقلب حال تركيا أيضا فبدل أن تكون العاصمة التركية أنقرة مؤثرة في المنطقة أصبحت منعزلة أكثر من أي وقت مضى.

في عام 2002 وقبل اندلاع الثورات العربية قرر حزب العدالة والتنمية الإسلامي التركي بناء علاقات أفضل مع الشرق الأوسط وتبنت سياسة ” انعدام المشاكل مع الجيران” والتي تشمل مبادرات اقتصادية ودبلوماسية جديدة مع كافة جاراتها بما فيها الدول التي دخلت في مشاكل معها في السابق كإيران كما أنشئت علاقات مع دول أفريقية كالصومال. ولكن الرئيس رجب طيب أردوغان مؤسس حزب العدالة والتنمية ووزير خارجيته أحمد دافوتوغلو الذي يشغل الآن منصب رئيس الوزراء كانا يخططان لما هو أكبر من إصلاح النزاعات السابقة وتعزيز التجارة فقد كانا يطمحان لإعادة تأسيس الدولة العثمانية التي كانت القوى العظمى في المنطقة, آملين قيادة حركة الوحدة الإسلامية في الشرق الأوسط كما فعلها أسلافهم من الخلفاء العثمانيين حتى أوائل القرن العشرين.

كان الربيع العربي فرصة ذهبية لزعماء تركيا لتحقيق حلمهم العثماني. ففي سبتمبر عام 2011 قام أردوغان بجولة في ليبيا ومصر منصباً حزبه قدوة ومثال للدول العربية التي تخضع للتغيير ومنصباً نفسه قائداً لتلك الحركة. دعا أردوغان الى الديموقراطية وأكد على أن الإسلام لا يتعارض مع الحكم العلماني. ارتفعت المعنويات بعد اسقاط دكتاتوري خلف الآخر وأصبح أردوغان نجما لمن يبحث عن الخروج من الربيع العربي بأقل الخسائر.

قام الغرب بدوره بتنفيذ طلب أردوغان ومنحه منصب قائد المنطقة وشجعته على ذلك. تصف مجموعة من وسائل الإعلام الغربية والعلماء تركيا بأنها نموذج مثالي للديموقراطية بغالبية مسلمة وتوجه غربي كما وصفت حزب العدالة والتنمية بأنه ذو جذور إسلامية ولكن بتوجه إسلامي علماني. سَعِدَ الرئيس الأمريكي باراك أوباما بشريك كأردوغان والذي سهل له الرئيس الأمريكي قيادة التغييرات في المنطقة كما اتبع باراك اوباما سياسة الانسحاب وعدم الدخول في نزاعات مع الجماعات الإسلامية في الشرق الأوسط. وقد تحدث القائدان عبر الهاتف وكل شيء يسير حسب ما خطط له.

لم تُروج استراتيجية أردوغان بشكل كبير فبعيدا عن مناصرة التعددية وحماية الحريات المدنية في المنطقة أختار أردوغان مناصرة الشكل الشوفيتي من الإسلام السياسي والمرتبط بالدرجة الأولى بالإخوان المسلمين. فقد كان ذلك تحولا طبيعيا لحزب العدالة والتنمية بسبب الجذور التي تربط الإخوان المسلمين بالحركة. وقد قام أردوغان بالفعل بإنشاء علاقات وطيدة مع عدد من حركات الإخوان المسلمين في المنطقة وأفضل مثال على ذلك هو علاقته الوطيدة والشخصية مع حركة حماس الفلسطينية الإرهابية والتي تعد جمعة إخوانية, كما تعاونت أنقرة مع قطر منذ وقت طويل على الدعم الإقليمي لجماعة الإخوان المسلمين والتي اعتبرتها بعض جاراتها من الدول الخليجية محرضا للخطر.

أتضح دعم حزب العدالة والتنمية لجماعة الإخوان في تونس وليبيا ولكنه كان أكثر وضوحا في مصر, حيث حظي أردوغان بشعبية كبيرة بين الإخوان في مصر بعد فترة وجيزة من الثورة بسبب دعمه للفلسطينيين ومعاداته لإسرائيل. بعد أن أصبحت جماعة الإخوان القوة المسيطرة في مصر, سعت أنقرة بشكل سريع لتقوية الاقتصاد المصري عن طريق الاستثمار والتجارة والمساعدات. فبعد أن تولت جماعة الإخوان التابعة لمحمد مرسي مناصب الحكم, عزز دافوتوغلو الدعم الاقتصادي من تركيا وتعهد بما يقارب البليونين دولار أمريكي كمساعدة للحكومة الجديدة في القاهرة في سبتمبر 2012. أصبح مرسي بعد شهر ضيف شرف في الاجتماع السنوي لحزب العدالة والتنمية في أنقرة. كما تقابل أردوغان ومرسي عدة مرات خلال فترة رئاسة مرسي, قدم فيها أردوغان بعض النصائح لقائد جماعة الإخوان فيما يخص مجموعة واسعة من المشاكل المتعلقة بالاقتصاد والحكم.

كانت مناصرة أنقرة للإخوان المسلمين في سوريا بنفس حجم مناصرتها للإخوان في مصر ولكنها كانت أكثر خفية. منع نظام الحكم البعثي السوري نشاطات الإخوان في الستينات ونفى الجماعة من سوريا في عام 1982. حتى قبل قيام الثورات ضد بشار الأسد, دعت أنقرة إلى تسوية الخلافات بين دمشق وجماعة الإخوان ولكن دعمها الحقيقي للإخوان بدأ بعد بداية الثورة حي دفعت أنقرة جماعة الإخوان إلى أعلى المراتب وقدمتها على الجماعات الأخرى التي نُظمت في تركيا بما فيها الجيش السوري الحر على الرغم من عدم وجود صلة تربطها بالثورة.

لم ترجع رهانات تركيا بفوائد كما هو واضح, فقد قامت مظاهرات كبيرة في مصر ضد مرسي خُلع فيها من منصبه في يوليو 2013 من قبل قوات الجيش بعد سنة من انتخابه. لم تقم أي علاقات دبلوماسية بين القاهرة وأنقرة منذ ذلك الحين, كما بدل التونسيين ديمقراطيا حكومتهم ذات القيادة الإسلامية في السنة التي تلتها ولازالت ليبيا وسوريا متورطة في حروب أهلية دموية. أثارت مساعدات تركيا لبعض الفصائل الإسلامية في تلك النزاعات غضب الدول الغربية وبعض الدول الخليجية السنية التي تسعى لإضعاف جماعة الإخوان وتعزيز قوة الملكيات.

لا تعد أنقرة فقط مسؤولة عن فشل الربيع العربي فقد لعبت القوات الاستبدادية التي خشيت انتشار جماعة الإخوان دورا مهما في ذلك, ولكن دعم تركيا الكامل لجماعة الإخوان والذي يتعارض مع التزامها بالعلمانية وسيادة القانون وقيم ديمقراطية أخرى ساعد في زيادة القلق الذي أدى الى الثورات. فإيجاد حكم إسلامي معتدل في الشرق الأوسط يبدوا حلما صعب المنال تلاشت معه طموح تركيا في الهيمنة. فتركيا الآن معزولة في جوار أنظمة استبدادية تعتبرها عدوا وحروب أهلية زادتها تركيا اشتعالا.

بالفرص الضئيلة التي تملكها تركيا لتحقيق حلمها العثماني  لكسب المنطقة, لازالت أنقرة تدعم بشكل كامل حركات الإخوان المختلفة في أنحاء الشرق الأوسط. يعتقد الكثيرون أن تركيا مازالت تقدم دعمها الخفي للمقاتلين المسلمين في سوريا وليبيا ولعدد من المصريين الإخوان اللاجئين الذين هربوا الى تركيا بعد الانقلاب. وقد عقد زعماء جماعة الإخوان المسلمين عدد من المؤتمرات في أنقرة واسطنبول كما لازالت حماس تحتفظ بمقرات لها في تركيا. أنشأت تركيا ملاذا آمنا للإخوان والجماعات التابعة لها كما أن تحالفها مع دولة قطر المناصرة للإخوان مازال قويا حيث اتفقت الدولتين مؤخرا على إلغاء تأشيرات الدخول بين البلدين كما قامت بأول تدريب عسكري مشترك. تقدمت تركيا بصداقتها الجديدة خطوة إلى الأمام عن طريق التخطيط لإنشاء قاعدة عسكرية في قطر والتي تعد الأولى لها في الشرق الأوسط.

تبنت أنقرة على الرغم من فشل حلمها بالسيطرة الإخوانية سياسات أخرى تثبت أن حزب العدالة والتنمية مستعد للخوض في المخاطر. ففي نوفمبر 2015 أسقطت تركيا طائرة مقاتلة روسية مثيرةً أزمة دبلوماسية مع موسكو. ثم قامت الشهر الذي يليه بإرسال قوات إلى شمال العراق لمساعدة الكرد والعراقيين السنة في قتالهم ضد داعش والذي أثار غضب حكومة بغداد. علاقة تركيا أيضا بإيران متوترة, حيث يدعم البلديين معسكرات مختلفة في سوريا كما يلقي كل منهما على الآخر لوم إشعال الطائفية في المنطقة. ما أثار حيرة طهران هو دخول تركيا في التحالف ضد الحوثيين في اليمن بقيادة السعودية حتى ولو كانت مشاركتها بالاسم فقط بينما لم تفعل تركيا ما يكفي للحد من انتشار المتطرفين في حدودها مع سوريا على الرغم من كونها جزءا من التحالف الذي قادته الولايات المتحدة لمحاربة داعش ما جعل الولايات المتحدة وعدد من الدول الأوروبية تنتقدها باستمرار.

أيا كنت السياسات الجديدة لتركيا وما تحمله معها فإن إرث الربيع العربي لأردوغان مكتوب. ادّعى أردوغان نجاحه في الجمع بين الإسلام والعلمانية ولكنه روّج نوع جديد من الإسلاموية. يظهر هذا جليا في فروع جماعات الإخوان التي سعى إلى تمكينها وفي تركيا نفسها حيث عانت الديموقراطية والحريات المدنية. ففي هذه الحالة يكون أردوغان قد تسبب في الأذى الفظيع للأفكار ذاتها التي أعتنقها بنفسه.