مجلة حكمة
فرانز كافكا وغرامياته المستحيلة نوابغ

فرانز كافكا وغرامياته المستحيلة – ترجمة: سعيد بو خليط

نوابغ
مقالة (فرانز كافكا وغرامياته المستحيلة) من كتاب (فرانز كافكا وغرامياته المستحيلة) من كتاب (نوابغ)

I ـ كافكا ، الخاطب الخالد : 

بين سنوات 1912 و 4192، حين كرس فرانز كافكا نفسه للأدب، مثل يائس وسط دوامة تتأرجح بين الرغبة والواجب، الانجذاب والنفور، فقد أراد الظفر بامرأة تكون  زوجة له، كي لا تسري عليه لعنة التلمود، التي بحسبها فكل شخص عازب غير جدير بالانتماء إلى النوع البشري. لكن، الأمر ليس هينا. كافكا الذي كتب إلى عشيقته ميلينا Milena : ((الحب، معناه، أن تكوني بالنسبة إلي، سكّين أقلّب به ذاتي))، لا يقر حتما بالوصول إلى إشباع مشترك. هل كان كافكا مجبرا على أن يبقى عازبا، بسبب مزاجه الفني الذي يربك سعيه إلى التمتع بالحب ؟

إنه السـؤال، الـذي طـرحـه كتـاب “جاكليـن راول دوفال”

« Jacqueline Raoul Duval » [كافكا، الخاطب الخالد] (١) . سرد هجين، بحيث يبدو كأنه يأخذ فقط منحى بيوغرافيا، لكنه أيضا، حكي مختلف حول حياة فرانز كافكا الغرامية. يرجع، لهذا العمل، الفضل في تجميع مقاطع مأخوذة من يومياته وفقرات من رسائله، ثم موضعتها ثانية في سياقات حسية، فأعطى ذلك لحياة كافكا صيغة استمرارية، لأن القارئ عندما يتصفح مذكراته أو رسائله، لن يجد غالبا إلا شذرات منفصلة الواحدة، عن الأخرى.

يوجد خيط يعبر هذه التواريخ، يتلوى في كل الاتجاهات كي ينتهي، بخنق للحب. هذا الدافع، أضاء مسار “جاكلين دوفال”، ومكنها من وضع اليد على شخص، سيعترف: ((لا أشبه، نفسي إلا قليلا جدا)). وإلى صديقه ماكس برود، كتب فرانز كافكا سنة 1921، مصرحا بهذا الفكر الذي يبدو بأن جميع ما عاشه، يحيل عليه. يقول : ((كان مستحيلا أن أحب، إلا إذا استطعت بالمطلق، جعل موضوعي فوق ذاتي، فيصير بالتالي منيعا)).

من خلال نص جاكلين دوفال، ندرك بأن جملة كهاته ليست فقط تأكيدا فكريا، بل تجد لها صدى مباشرا في حياة الكاتب وحيثيات تعاسته الكبرى. سرد رائع !

https://www.flickr.com/photos/armitiere/5782164980/
غلاف الكتاب

فيليس بوير Felice Bauer، شابة ألمانية، صاحبة “وجه نحيل، لا تميزه أية دلالة تقريبا”، رآها فرانز كافكا مرة واحدة، لكنه، سيصف لها في مراسلاته المجنونة (ثلاثة رسائل يوميا) طبيعة حبه السلبية : ((إن رغبتي في الكتابة إليك باستمرار، ليس دافعها الحب، بل نتيجة شقاء استعدادي الفكري)). لكن، كافكا، اليائس من مبدأ الالتزام، وأضفى عليه مفهوما مميتا، قرر قطع علاقاته للأبد مع “فيليس” بعد خطوبتين متتاليتين. لماذا، اتخذ قرارا كهذا ؟ ضغط عائلي ؟ أم الشعور بأن الحب يتهاوى، لما يصير شهوة والتحاما جسديا، فيرتبط حينئذ لدى كافكا بالعقاب ؟ ((كيف يمكننا العثور على السعادة في العالم، إن لم تكن مجرد تمويه؟)). يكتب في إحدى مذكراته. الجواب، يبقى بعيد المنال.

أيامه، إذن مع فيليس صارت معدودة، مثل صفحات هذه الرواية، التي يبدو بأن قوتها السرية خاضعة دائما لضرورة : الاندثار، بهدف ترك المكان لكلمات فرانز كافكا ومنح القارئ صورة مباشرة عنه. بيد، أنه في اللحظة، التي استطاعت مقاربة “جاكلين دوفال” تحقيق هذه المعجزة الصغيرة، المتعلقة بتجسيد موضوعها، كاد أيضا أن يضيع منها. فكافكا، المصاب بالسل، سيعتبر مرضه مثل “سلاح” : لقد أجبره على مغادرة مدينة براغ، ونسيان خمس سنوات من العذاب مع فيليس.

في قرية قريبـة من بـراغ، سيلتقـي فرانز كافكـا بـ “جولـي فوريزيك” « Julie Wohryzek » : ((لا تقلّ، قط تفاهة عن هذه الذبابة التي تحلق نحو الضوء))، مع ذلك، اقترح عليها الزواج. قضية، بلا تتمة، التعليل واضح.

لكن، تنقيب كافكا، بالرغم من إخفاقاته وتعبه الكبير، لم يؤدي إلى حجب قلبه أو عينه، فيظهر الأمر جد مثير : شيء ما، ينبغي أن يحدث مرة أخرى، حتى ولو أنهك قواه.

سنة 1920، وقد بلغ فرانز كافكا السابعة والثلاثين، وفي إحدى مقاهي براغ تعرف على  ميلينا جيسينكا Milena Jesenka، امرأة  في العشرين من عمرها، أرادت أن تترجم إلى التشيكية (اللغة الأم، لكافكا)، مجموعة مؤلفاته مثـل المحاكمـة « Le verdict » وكذا المسخ « la métamorphose ». بداية حوار أدبي، أشعل بسرعة لافتة شغفا، تضمنته رسائلهما. شعور، ابتدأ سعيدا، ثم سرعان ما جف نبعه وتحول إلى آلام ويأس، كتب كافكا : ((ميلينا، ينبغي الانتهاء من هذه الرسائل المترنحة، لقد حولتنا إلى مجانين. فلا يمكنني، على أية حال، الاحتفاظ بزوبعة داخل غرفتي)). أيضا، ومرة أخرى، عندما تختلط اللغة بالفكر، سيأخذ كل شيء، صيغة مناقشات لا متناهية. لقد تواردت باستمرار كلمة ضجر بين طيات مراسلاته مع ميلينا. الحب، رسالة ميتة.

سنة 1923، قبل عام واحد من وفاته، وعلى ساحل البلطيق صادف فرانز كافكا دورا ديامان Dora Diamant ، يهودية بولونية في عقدها الثاني. إنه الحب الأخير، الذي رافقه حتى رحيله، سيحاول معها تحقيق مشروع، كان عزيزا عليه: أن يعيش في برلين، منتظرا الرحيل ربما ذات يوم إلى تل أبيب كي يقيم مطعما.

استحضار الشهور الأخيرة من حياته، مؤثر للغاية. زخم، سرد “جاكلين دوفال”، يمسك بأدق التفاصيل الواقعية، المكتوبة بتحفظ، والتي تترك شيئا فشيئا، بياضا على الصفحة، كما الحال مع نصوص كافكا الشذراتية. بعدها بفترة قليلة، مات.

لقد صار فرانز كافكا منهكا وهزيلا، مع ذلك، امتلك القوة كي يبعث من سريره، ببعض الجمل إلى أصدقائه : ((ألديكم لحظة ؟ إذن أرجوكم امنحوا قليلا من الماء إلى نبات الفوانيا، إنه منكسر جدا )). ثم توفي يوم 3 يونيو 1924 بالنمسا.

II ـ كرونولوجيا حياة كافكا : 

3 يونيو 1883، ولادته بمدينة براغ. سنة 1902، بداية صداقته مع ماكس برود، الذي سيصدر له، قسما كبيرا من كتاباته بعد وفاته. سنة 1907، اشتغاله في شركة إيطالية للتأمينات. سنة 1912، تعرفه على شابة من برلين اسمها فيليس بوير. سنة 1913، صدور رواية “المحاكمة”. سنة 1915، صدور رواية “المسخ”. سنة 1917، أولى تجليات أعراض السل. سنة 1919، عقد قران خطبته على جولي فوريزيك، التي كانت تعمل سكرتيرة في براغ. سنة 1920، مراسلات غرامية مع ميلينا جيسينكا، صحافية وكاتبة تشيكوسلوفاكية.  سنة 1922، صـدور عمـله :
Un champion de Jeûne. سنة 1923، لقاؤه مع دورا ديامان، ثم السفر إلى برلين. سنة 1924، الوفاة بالنمسا، نتيجة الإصابة بمرض السل وسوء التغذية.

III ـ العري الأعزل لكاتب، يبحث عن الخلاص :

سنة 1917، وقد أنهكه المرض، ثم نتيجة علاقة عاصفة مع فيليس بوير، اضطر فرانز كافكا إلى البحث عند ملاذ بوهيمي عن أخته “أوطلا” Ottla، التي تعيش  بمنطقة « Zürau ». خلال إقامته لثمانية أشهر في البادية، دوّن كافكا، في صيغة حِكم أفكاره الأكثر حميمية، وهو العمل المترجم حديثا عن الألمانية، تحت عنوان : [Les aphorismes de Zürau]. بإشراف وتقديم “روبرتو كالاسو”. يقترح توضيبا للصفحات، متطابقا مع أوراق كافكا : جملة واحدة في الصفحة تضمنت هواجس الكاتب: الخطأ، الفضيحة، السعي إلى الإفلات…. صيغ، تشير إلى نوع من التعزيم. فبكلمات قليلة، استجمع كافكا كل قواه، كي يكتب مثلا صلاة ليلية : ((الملاجئ متعددة، إنها الخلاص الوحيد، لكن إمكانيات الخلاص أيضا وافرة مثل الملاجئ)). يبدو مع هذه الصفحات، بأن الرهان محدد : يقترب الكاتب جدا من وظيفة فكره، وفق عري مستسلم : ((لقد هيأت العدة نحو هذا العالم، بطريقة تثير السخرية)).

صراعات، ألغاز، مباهج الفكر وكل تمظهرات الكاتب الكبير، تلمع بين طيات صفحات أبدعها في حالة نسبية من السكينة، بعيدا عن مدينة “براغ” والإدارة ومآسيه العاطفية. حينما، يتوقف كافكا عن الكتابة، فإنه سيخرج إلى الحقول من أجل التنزه وتقشير الخضر وتقديم العلف للماعز. مع الكتابة والمرض والريف، فقد عثر كافكا على ما يتخيل بعه السعادة.

IV ـ مقطع من كتاب : [Kafka, l’éternel fiancé] ص 61 :

بدأت، مرافعته على إيقاع صوت خافت، ثم تفخم حتى أصمّ فيليس، الفتاة الشابة، التي أجابته قائلة : “نعم، أريد أن أكون زوجتك”.

ثم قاطعها :

ـ إذن، تريدين بالرغم من كل شيء حمل هذا الصليب. إنك، فيليس تحاولين مقاومة المستحيل ؟

ـ نعم، ستكون زوجا طيبا.

ـ تتوهمين، فلن تستطيعي البقاء إلى جانبي مدة يومين. أنا رخو، أزحف على الأرض. أنا، صامت طول الوقت، انطوائي، كئيب، متذمر، أناني وسوداوي. هل ستتحملين حياة الرهبنة،  كما أحياها ؟ أقضي معظم الوقت محتجزا في غرفتي أو أطوي الأزقة وحدي. هل ستصبرين، على أن تعيشي بعيدة كليا عن والديك وأصدقائك بل وكل علاقة أخرى، ما دام لا يمكنني مطلقا تصور الحياة الجماعية بطريقة مغايرة ؟ لا أريد، تعاستك يا فيليس. أخرجي، من هذه الحلقة الملعونة التي سجنتك فيها، عندما أعماني الحب)).


 * Le monde :vendredi 15 avril 2011.

(١) Jacqueline Raoul – Duval : Kafka, l’éternel fiancé .