مجلة حكمة
فتعنشتاين فرويد

فتجنشتاين عن فرويد والتحليل النفسي / ترجمة: مروان محمود، تدقيق ومراجعة: علي رضا


 مقدمة راش ريز

 كان فتجنشتاين في هذه المناقشات مُنتقدًا لفرويد. لكنه كان يبرز، أيضًا، أهمية ما يقوله فرويد، مثلًا، عن مفهوم “رمزية الحلم”، فضلًا عن رأيه القائل أنني في الحلم، وبصورة ما “أقول شيئًأ”. فقد كان يحاول التفريق بين ما له قيمة فيما يقوله فرويد وبين “طريقة التفكير” التي أراد أن يحاربها. وأخبرني فتجنشتاين أنه عندما كان في كامبريدج قبل عام 1914، اعتقد أن علم النفس هدر للوقت. (على الرغم من أنه لم يتجاهل هذا المبحث، فقد سمعته يشرح قانون “ويبر فيشنر” Weber-Fechner إلى طالب بطريقة لا يمكن أن تأتي بمجرد قراءة مقالات ماينونغ Meinong أو عبر النقاش مع راسل Russell). يقول فتجنشتاين: “بعد ذلك بعدة سنوات، قرأت شيئًا لفرويد، وجلست ذاهلًا. إنه شخص لديه ما يقوله”. أعتقد أن هذا كان بعد فترة وجيزة من عام 1919. وكان فرويد واحدًا من الكتّاب القلائل الذين أعتقد فتجنشتاين ، فيما تبقى من حياته، أنهم جديرون بالقراءة. كان يصف نفسه في فترة هذه المناقشات بأنه “تلميذ لفرويد” أو أنه “أحد أتباع فرويد”. وقد نال فرويد على إعجاب فتجنشتاين بسبب ما انطوت عليه كتاباته من ملاحظات وإلماحات مقترحة، ففرويد “لديه ما يقوله”، حتى وإن كان من وجهة نظر فتجنشتاين خاطئ. وعلى الضفة الأخرى، اعتقد فتجنشتاين أن النفوذ الهائل للتحليل النفسي في أوروبا وأميركا كان ضارًا، ويقول: “ومع ذلك، فأن الأمر سيستغرق وقتًا طويلًا قبل أن نتخلص من خضوعنا لهذا النهج”. ويتعين على المرء كي يتعلم من فرويد، أن يكون ناقدًا، والتحليل النفسي بصفة عامة يمنع ذلك.

لقد تحدثت عن الضرر الذي يصيب الكتابة، عندما يحاول المؤلف إدخال التحليل النفسي في القصة. يقول فتجنشتاين عن هذا الأمر: “بالطبع، لا يوجد شيئ أسوأ من ذلك”، كان على استعداد لتوضيح ما يقصده فرويد بالإشارة إلى قصة، ولكن القصة كُتبت، في الأصل، على نحو مستقل. عندما كان فتجنشتاين ذات مرة يسرد شيئًا ما قاله فرويد ويتحدث عن النصيحة التي أعطاها لشخص ما، قال واحد منا إن هذه النصيحة لا تبدو حكيمة جدًا، فعلّق فتجنشتاين عليه: “نعم، بالطبع هي ليست حكيمة”. وأضاف: “ولكن الحكمة شيء لا أتوقعه من فرويد. أتوقع منه الذكاء بالتأكيد، لكن ليس الحكمة”. أما الحكمة التي كانت محط إعجاب فتجنشتاين، فإنها حكمة القصصيين الأثيرين لديه أمثال جوتفريد كيلر Gottfried Keller. إنّ هذا النوع من النقد الذي قد يساعد في دراسة فرويد، يجب أن يمضي عميقًا، وهو ليس شائعًا.

(فتجنشتاين ، ملاحظات جمعها راش ريز، بعد مناقشة في صيف عام 1942)

عندما ندرس علم النفس، قد نشعر بأن هنالك شيئًا غير مُرض، بعض الصعوبة حيال الموضوع أو البحث برمته، ذلك لأننا نعد الفيزياء بوصفها علمنا النموذجي. ونحن نفكر في بلورة القوانين كما نفعل في الفيزياء. ومن ثم نجد أنه لا يمكننا استخدام هذا النمط المعياري، أي نفس أفكار القياس كما هي في الفيزياء. يبدو هذا واضحًا، بصورة خاصة، عندما نحاول وصف المظاهر: كما هو الحال في أقل الاختلافات ملاحظة في الألوان، والطول، وهكذا. ولكن لا يبدو في بمقدورنا هنا، في علم النفس، القول على سبيل المثال: إذا كان أ=ب، و ب=ج، بالتالي فإن أ=ج. إنّ هذا النوع من المشاكل ينتشر في الموضوع برمته. لنفترض أنك تريد التحدث عن السببية في عمل الشعور. فإذا قلت: “تنطبق الحتمية على العقل كما هو الحال بالنسبة للأشياء المادية”. فهذا أمر مبهم، لأنه عندما نفكر في القوانين السببية في الأشياء المادية، فأننا نفكر في التجارب. وليس لدينا شيء من هذا القبيل عندما يتعلق الأمر بالمشاعر والدوافع. على الرغم من هذا، يريد علماء النفس القول: “يجب أن يكون هناك قانون ما”، على الرغم من أنه لم يتم العثور على أي قانون. (يسأل فرويد مستنكرًا: “هل تريدون القول، أيها السادة، إن التغيرات في الظواهر الذهنية تحكمها الصدفة!”). في حين أن حقيقة عدم وجود مثل هذه القوانين فعليًا تبدو لي مهمة.

تقوم نظرية فرويد للأحلام على القول: إن كل ما يحدث في الحلم سيكون مرتبطًا ببعض الرغبات التي يمكن للتحليل الكشف عنها. لكن هذه الإجراء من التداعي الحر، وما إلى ذلك، هو أمر غريب، لأن فرويد لا يخبرنا متى يجب أن نتوقف. إنه يقول في بعض الأحيان أن الحل الصحيح، أو التحليل المناسب، هو الحل الذي يرضي المريض. وفي بعض الأحيان يقول أن الطبيب يعرف ما هو الحل أو التحليل الصحيح للحلم، بينما المريض لا يعرف ذلك: يمكن للطبيب القول بأن المريض مخطئ.

ولا يبدو السبب الذي يدعوه إلى اعتبار تحليل بعينه هو الصحيح، متعلق بوجود أدلة على ذلك. وينسحب الأمر عينه على الطرح القائل بأن الهلوسة، بالإضافة إلى الأحلام، عبارة عن تلبية رغبات.

لنفترض أن رجلًا يتضور من الجوع لديه هلوسة متعلقة بالطعام. يريد فرويد القول أن الهلوسة بوجود أي شيء تتطلب طاقة هائلة: فهي ليست شيئًا يحدث بصورة اعتيادية، ولكن الطاقة تتوفر في الظروف الاستثنائية التي تكون فيها رغبة المرء في الطعام لا يمكن كبحها. غير أن ما تقدم هو مجرد تأمل، إنه ذلك الضرب من التفسير الذي نميل إلى قبوله. لكنه لا يتم تقديمه كنتيجة للفحص الدقيق لأنواع الهلوسة المختلفة.

يقدم فرويد في تحليله تفسيرات يميل العديد من الناس لقبولها، في حين أنه يؤكد أن الناس لا يميلون إلى قبول مثل هذه التفاسير. لكن إذا كان هذا التفسير هو أحد الأمور التي لا يميل الناس إلى قبولها، فمن المرجح تمامًا أن يكون أيضًا أحد الأمور التي يميلون إلى قبولها. وهذا في الواقع ما قام فرويد بإبرازه. انظر على سبيل المثال في رأي فرويد الرامي إلى أن القلق هو دائمًا عبارة عن تكرار، يحدث بطريقة ما، للقلق الذي شعرنا به عند الولادة. لا يثبت فرويد ذلك بالأدلة، لأنه بالطبع لا يستطيع فعل ذلك. لكنها فكرة لها جاذبية ملحوظة، فهي تمتلك الجاذبية نفسها التي تملكها التفسيرات الأسطورية، تلك التفسيرات التي تقول أن هذا كله تكرار لشيء ما حدث من قبل. وعندما يقبل الناس هذا أو يتبنونه، فإن بعض الأشياء ستبدو أكثر وضوحًا وسهولة بالنسبة لهم. والأمر نفسه ينطبق على مفهوم اللاوعي أيضًا. يدّعي فرويد العثور على أدلة في الذكريات والتي يُكشف عنها من خلال التحليل. لكن لا يكون واضحًا، في مرحلة معينة، إلى أي مدى تُعزى هذه الذكريات إلى المُحلل. على أي حال، هل تكشف هذه الذكريات أن القلق كان بالضرورة تكرارًا للقلق الأصلي؟

التعبير بالرموز في الأحلام. فكرة لغة الأحلام. فكر في إدراك لوحة بوصفها حلم. أنا (لودفيغ فتجنشتاين) كنت ذات مرة أتجول في معرض للوحات فنانة شابة في فيينا. كانت هناك لوحة لغرفة مجردة، كأنها قبو. رجلان بقبعاتهما يجلسان على الكرسي، ولا شيء آخر. وعنوان اللوحة “الزيارة Besuch”. عندما رأيت هذا قلت على الفور “هذا حلم”، (أختي قامت بوصف اللوحة لفرويد، وقال لها “أجل، هذا حلم شائع” – مرتبط بالعذرية). لاحظ أن العنوان هو ما يؤكده كحلم، ولا أقصد أن شيئًا من هذا القبيل حلم فيه الرسام أثناء نومه. أنت لا تقول عن كل لوحة “هذا حلم”. وهذا يُظهر أن هناك شيئًا مثل لغة الأحلام.

يذكر فرويد الرموز المختلفة: القبعات عبارة عن رموز قَضيبِيَّة، والأشياء الخشبية مثل الطاولات ترمز إلى النساء، وإلى آخره. إن تفسيره التاريخي لهذه الرموز سخيف. وقد نقول أن هذه التفاسير لا حاجة لها على أي حال: إنه الشيء الأكثر طبيعية في العالم أن الطاولة يجب أن تكون هذا النوع من الرمز.

لكن الحلم – باستخدام هذا النوع من اللغة – على الرغم من أنه قد يستخدم للإشارة إلى إمرأة أو إلى قضيب، فقد يستخدم أيضًا لعدم الإشارة إلى أي شيء من ذلك. إذا تبيّن أن بعض الأنشطة تُنفذ غالبًا لغاية معينة – ضرب شخص ما لإلحاق الإلم به – فإنه من المحتمل بشدة أيضًا أنه قد يُنفذ في ظل ظروف أخرى لأغراض أخرى غير التسبب بالألم. فربما هو يريد ضربه من دون التفكير في إلحاق الألم به على الإطلاق. أما حقيقة أننا نميل إلى إدراك القبعة بوصفها رمزًا للقضيب، فهي لا تعني أن الفنانة كانت تشير أو تلمح بالضرورة إلى قضيب بأي شكل من الأشكال عندما رسمت القبعة.

فكر في صعوبة أنه إذا لم يتم فهم رمز في الحلم، فإنه لن يبدو رمزًا على الإطلاق. فلماذا أدعوه بذلك؟ لكن لنفترض أن لدي حلم وأنني أقبل بتفسير معين له. بالتالي – عندما أقوم بمطابقة التفسير مع الحلم – يمكنني القول “أجل، الطاولة تتوافق بشكل واضح مع المرأة، وهذا يتوافق مع ذلك، وإلى آخره”.

قد أقوم بخدوش على الحائط. يبدو الأمر بطريقة ما وكأنه كتابة، ولكنها ليست كتابة يمكن لي أو لأي شخص آخر فهمها أو ادراكها. لذلك نقول بأن كتابتي هذه مجرد خربشة. ثم يبدأ المحلل بطرح الأسئلة علي، وتتبع الآثار ذات الصلة بذلك، وهلم جرا، وبعدها نصل إلى تفسير لماذا فعلت هذه الخدوش. قد نربط بعد ذلك بين خدوش مختلفة، قد قمت بها، مع عناصر مختلفة في التفسير. وقد نشير إلى الخربشة بوصفها نوعًا من الكتابة، مثل استخدام نوع من اللغة، على الرغم من أنها غير مفهومة على الإطلاق.

يدّعي فرويد باستمرار بأنه علمي، ولكن كل ما يقدمه هو تأملات، وهي شيء ما يسبق حتى صياغة الفرضية.

يتحدث فرويد عن التغلب على المقاومة. عندما تُوهِم “حالة” ما “حالة” أخرى. (بالمعنى الذي نتحدث فيه عن “محكمة الدرجة العليا” الممتلكة لسلطة نقض الحكم الصادر من محكمة دنيا. ملاحظة من راش ريز). من المفترض أن يكون المحلل أقوى، وقادر على محاربة وهم الحالة والتغلب عليه. لكن لا توجد طريقة لبيان أن النتيجة الكاملة للتحليل قد لا تكون مجرد “وهم”. إنه شيء يميل الناس إلى قبوله ويسهل عليهم المضي في طرق معينة: فهو يجعل أساليب معينة من التصرف والتفكير طبيعية بالنسبة لهم. لقد تخلوا عن طريقة ما للتفكير، وتبنوا طريقة أخرى.

هل يمكننا القول أننا قد كشفنا عن الطبيعة الجوهرية للعقل؟ “صياغة مفهوم”. ألم يكن من الممكن التعامل مع الأمر برمته بطريقة مختلفة؟

 

(فتجنشتاين ، ملاحظات تم جمعها من قبل راش ريز، بعد مناقشات عام 1943)

الأحلام، وتفسيرها، ورمزيتها. عندما يتحدث فرويد عن صور معينة – صورة القبعة على سبيل المثال – بوصفها رموزًا أو عندما يقول أن صورة ما تعني كذا وكذا، فهو هنا يتحدث عن التفسير، وعن ما يمكن أن يقبل به الحالم كتفسير.

إنه من خصائص الأحلام أنها تبدو غالبًا للحالم بأنها تتطلب تفسيرًا. بالكاد يميل المرء لكتابة ما حلم به اليوم، أو إعادة سرد ذلك لشخص آخر، أو أن يسأل: “ماذا يعني هذا الحلم؟”، لكن الأحلام لديها ما هو محير، وما يدعو إلى الاهتمام بها بطريقة خاصة لدرجة أننا نرغب في تفسير تلك الأحلام (التي يتم اعتبارها في كثير من الأحيان على أنها رسائل.)

يبدو أن هناك شيئًا ما في الصور التي نراها في الأحلام يشبه إلى حد ما دلالات اللغة. مثل سلسلة من العلامات والآثار الموجودة على ورقة أو على الرمال. قد لا تكون هذه العلامة مُدرَكة بطريقة تقليدية في أي أبجدية نعرفها، ومع ذلك قد يكون لدينا شعور قوي بأن هذه العلامة لا بد أن تكون لغة من نوع ما: أي أنها تعني شيئًا ما. مثلًا، هناك كاتدرائية في موسكو مع خمسة أبراج، ولكل واحد من هذه الأبراج شكل تقويسة من نوع خاص. يحصل المرء على انطباع قوي بأن هذه الأشكال والطرق المختلفة في التصميم لا بد أنها تعني شيئًا ما.

عندما يُفسّر الحلم، قد نقول أنه قد وُضِع في سياق يجعله يتوقف عن أن يكون غامضًا. بمعنى أن الحالم يحلم بأحلامه مرة أخرى ولكن في محيط يغير بعض جوانبها. يبدو الأمر وكأننا قمنا بتقديم قليل من قماش اللوحات، مرسوم عليه يد، وجزء من وجه، وبعض الأشكال الأخرى، وتم ترتيب هذه الرسومات بطريقة غامضة وغير مألوفة. لنفترض أن هذا الجزء من القماش المرسوم عليه مُحاط بمساحات كبيرة من القماش الفارغ، ومن ثم نبدأ بالرسم على هذه الأجزاء الفارغة بأشكال – مثلًا، ذراع وساق ونحو ذلك – تتسق وتتلائم مع الأشكال المرسومة على قطعة القماش الأصلية. ستكون النتيجة هي أننا سنقول: “آه، الآن فهمت لماذا هو هكذا، وكيف تم ترتيب هذه الرسومات بتلك الطريقة، وماذا تعني قطع القماش المختلفة المرسومة تلك…” وهكذا.

امتزاج هذه الرسومات مع الجزء الأصلي من القماش، قد ينتج لنا أشكال معينة، تجعلنا نقول أنها لا تتصل بصور الأخرى على النطاق الأوسع من القماش؛ فتلك الأشكال ليست أجزاء من أجسام أو أشجار وما إلى ذلك، بل أجزاء من الكتابة. قد نقول عن تلك الأجزاء أنها قد تكون أفعى، أو قبعة، أو مثل ذلك. (هذا ما سيكون عليه الحال في تكوين كاتدرائية موسكو).

ليس كل ما يجري خلال تفسير الأحلام من نوع واحد. هناك جزء من عملية التفسير، إذا جاز التعبير، ينتمي إلى الحلم نفسه. عند النظر في ماهية الحلم، من المهم أن نأخذ بعين الاعتبار ما يحدث له، والطريقة التي تتغير بها جوانبه عندما يتم ربطه بأشياء أخرى، مثل ما يتم تذكره. فعند الاستيقاظ لأول مرة، قد يؤثر الحلم في المرء بطرق مختلفة. قد يشعر أحدهم بالخوف والهلع، وقد يشعر آخر وهو يكتب حلمه بنوع معين من الإثارة، وباهتمام حيوي جدًا به، وبأنه مفتون بهذا الحلم. إذا تذكر أحدهم أحداثًا معينة من اليوم السابق، وربط ما كان يحلم به مع هذه الأحداث، فهذا بالفعل يُحدِث فرقًا، ويغير جوانب الحلم. إذا تأمل أحدهم في حلمه، ومن ثم قاده هذا إلى تذكر أشياء في طفولته المبكرة، فإن هذا سيعطي حلمه جانبًا مختلفًا كذلك، وهلم جرا. (كل هذا مرتبط بما قيل عن أن تحلم الحلم مرة أخرى. فهو يظل منتميًا للحلم بطريقة ما).

من ناحية أخرى، يمكن للمرء صياغة فرضية. عند قراءة ما يخبر به الحلم، قد يتنبأ المرء بأنه يمكن للحالم تذكر كذا وكذا من الذكريات. وقد يتم التحقق من هذه الفرضية أو لا. قد يُسمَى هذا المعالجة العلمية للحلم.

مفهوم التداعي الحر عند فرويد Freier Einfall وتلبية الرغبات. هناك معايير مختلفة للتفسير الصحيح: على سبيل المثال، (1) ما يقوله المحلل أو يتنبأ به، منطلقًا من خبراته السابقة، (2) ما يصل إليه الحالم من خلال التداعي الحر. سيكون من المهم والمثير إذا تطابقتا تلك الطريقتين بشكل ما. ولكن سيكون من الغريب الادعاء (وهو ما يشير إليه فرويد) أن تلك الطريقتين يجب أن تتطابقا دائمًا. ما يحدث في التداعي الحر يكون على الأغلب مشروطًا بمجموعة كبيرة من الظروف. ويبدو أنه لا يوجد ما يدعو للقول أنه يجب على التداعي الحر أن يكون مشروطًا فقط بنوع الرغبات التي يهتم بها المحلل، والتي يرى، لأسباب معينة لديه، أنه لا بد وأنها قد لعبت دورًا ما في ذلك التداعي. إذا كنت ترغب في إكمال ما يبدو أنه جزء من صورة أكبر، فقد تُنصح بالتوقف عن محاولة التفكير بقوة حول ماهية الشكل الأرجح للصورة، وبدلًا من ذلك عليك فقط أن تحدّق فيها، وبعدها قم بعمل أول شكل ينبثق في ذهنك، من دون تفكير. قد تكون هذه الطريقة في كثير من الأحيان نصيحة مثمرة لإعطائها، ولكن سيكون من المذهل لو أنها كانت تحقق أفضل النتائج دومًا. إن الشكل الذي ستقوم بعمله مشروط بكل ما يجري حولك وفي داخلك. وإذا كنت أعرف أحد هذه العوامل الحاضرة، فإنه لن يخبرني بشكل مؤكد عن الشكل الذي كنت ستقوم بعمله.

القول بأن الأحلام عبارة عن تلبية رغبات، أمر مهم للغاية، لأنه يشير إلى نوع التفسير الذي نريده – وهو شيء من شأنه أن يكون تفسيرًا للحلم. وهذا على النقيض من التفسير الذي يقول، مثلًا، أن الأحلام ببساطة عبارة عن ذكريات لما قد حدث. (نحن لا نشعر بأن الذكريات تستدعي وجود تفسير بنفس الطريقة التي نشعر بأن الأحلام تستدعي وجوده). ومن الواضح أن بعض الأحلام عبارة عن تلبية رغبات؛ مثل الأحلام الجنسية عند البالغين. ولكن يبدو من المشوش القول أن كل الأحلام عبارة عن هلوسات متعلقة بتلبية الرغبات. (يعطي فرويد عادة ما يمكن أن نطلق عليه تفسيرًا جنسيًا للأحلام، ولكن من المثير للاهتمام أنه من بين جميع التقارير التي يقدمها فرويد عن الأحلام، لا يوجد مثال واحد لحلم جنسي صريح، رغم أنها شائعة مثل المطر). ويعزى ذلك جزئيًا إلى أن هذا لا يتلائم مع الأحلام التي تنبع من الخوف بدلًا من الرغبة، ويعزى كذلك إلى أن غالبية الأحلام التي يتناولها فرويد يجب اعتبارها تلبية الرغبات بطريقة مموهة، وبالتالي فإن هذه الأحلام ببساطة لا تلبي الرغبة. إن الفرضية السابقة لا تسمح للرغبة بأن تُلبى، وتتم هلوسة شيء ما أخر بدلًا من ذلك. إذا كانت الرغبة تُخدع على هذا النحو، فبالكاد يمكننا اعتبار الحلم تحقيقًا لها. كما أنه يصبح من المستحيل أيضًا تحديد ما إذا كانت الرغبة أم المراقب ما تعرض للخداع. ويبدو أن الاثنين قد خدعا، والنتيجة هي أن كلاهما غير راضٍ. لذا، فإن الحلم ليس إشباعًا هلوسيًا لأي شيء.

من المحتمل أن يكون هناك العديد من أنواع الأحلام المختلفة، ولا يوجد اتجاه واحد لتفسيرهن، مثلما هناك العديد من الأنواع المختلفة من النكات، أو كما يوجد العديد من أنواع اللغة المختلفة.

تأثر فرويد بتصور القرن التاسع عشر للدِينَامِيكَا التي أثرت على شكل التعاطي مع علم النفس بالكامل. لقد أراد إيجاد تفسيرًا واحدًا يبين ما هو الحلم. أراد إيجاد جوهر الحلم. وكان من شأنه رفض أي اقتراح قد يكون صحيحًا جزئيًا، وليس صحيحًا بشكل كامل. إذا كان فرويد مخطئ بشكل جزئي، فإن ذلك كان يعني له حسب كلامه أنه مخطئٌ تمامًا – أنه لم يجد في الواقع حقيقة الحلم.

(فتجنشتاين ، ملاحظات تم جمعها من قبل راش ريز، بعد مناقشات عام 1943)

سواء أكان الحلم فكرة، أو أنه تفكير في شيء ما.

لنفترض أنك تنظر إلى الحلم بوصفه نوع من اللغة، وطريقة لقول شيء ما، أو طريقة لترميز شيء ما. قد تكون هناك رمزية منتظمة، وليس بالضرورة أن تكون أبجدية، لنقل أن هذه الرمزية مثل الصينية على سبيل المثال. قد نجد بعد ذلك طريقة لترجمة هذه الرمزية إلى اللغة والأفكار العادية، ولكن يجب أن تكون الترجمة ممكنة في كلا الاتجاهين. يجب أن تكون ممكنة بتوظيف نفس الطريقة لترجمة الأفكار العادية إلى لغة الأحلام. كما يقرر فرويد، فإن هذا لن يحدث أبدًا، ولا يمكن القيام به. لذا قد نتسائل عما إذا كان الحلم طريقة للتفكير بشيء، أو ما إذا كان لغة على الإطلاق.

من الواضح أن هنالك تشابه معين مع اللغة.

لنفترض أن هناك صورة في صحيفة ساخرة، مؤرخة بعد الحرب العالمية الثانية بقليل. قد تحتوي الصورة على شكل ما، قد تقول أنه من الواضح رسم كاريكاتيري لتشرشل Churchil، وشكل أخر يحمل على ما يبدو علامة المطرقة والمنجل، بحيث تقول أنه يفترض بوضوح أنها روسيا. وافترض أن الصورة كانت تفتقر إلى عنوان، ومع ذلك قد تكون متأكدًا من أنه في ضوء الشكلين السابقين، فإن الصورة بأكملها تحاول على نحو بيّن توضيح نقطة ما عن الحالة السياسية في ذلك الوقت.

يبقى السؤال هو ما إذا كان دائمًا لديك المبرر لافتراض أن هنالك نكتة أو نقطة ما، وهي النقطة التي يقصدها الرسم الكاريكاتيري. ربما أنه حتى الصورة ككل لا يوجد لها “التفسير الصحيح” على الإطلاق. قد تقول: “هناك دلائل، كالشكلين المذكورين، وهذا يشير إلى وجود تفسير”. وعندها قد أجيبك بأن هذه الدلائل هي كل ما هنالك. بمجرد حصولك على تفسير لهذين الشكلين، فهذا لا يؤسس أرضية للقول أنه يجب أن يكون هناك تفسير للموضوع بأكمله أو لكل تفصيل فيه على نفس النسق.

نفس الحالة التي ذكرناها قد تكون مشابهه لما يجري في الأحلام.

كان فرويد يسأل: “ما الذي جعلك تهلوس هذا الموقف برمته؟”، قد يجيب المرء بأنه ليس من الضروري وجود ما يجعلني قد أهلوس بشيء مثل ذلك.

يبدو أن فرويد كان لديه بعض الانحيازات المسبقة حول متى يمكن اعتبار التفسير كاملًا، وعما إذا كان لا يزال يحتاج للإكمال، عند الحاجة إلى تفسير إضافي. لنفترض أن شخصًا ما كان جاهلًا بالتقاليد التي لدى النحاتين عند نحتهم لتماثيل نصفية. إذا جاء هذا الشخص بعد ذلك ورأى تمثال نصفي منتهيًا لرجل ما، فربما يقول أنه من الواضح أن هذا مجرد جزء، وأنه يجب أن يكون هناك أجزاء أخرى تنتمى إلى هذا التمثال، مما يجعله جسدًا كاملًا.

افترض أنك أدركت أشياء معينة في الحلم يمكن تفسيرها بالطريقة الفرويدية، فهل هناك أي أساس لافتراض أنه يجب أن يكون هناك تفسير لكل شيء آخر في الحلم بنفس الطريقة؟ هل من المعقول أن نسأل عن التفسير الصحيح للأجزاء الأخرى من الحلم؟

يسأل فرويد مثلًا: “هل تطلب مني أن أصدق أن هناك شيء يحدث بدون سبب؟”، لكن هذا لا يعني شيئًا. إذا كنت تحت مسمى “السبب”، قمت بإدراج أشياء مثل الأسباب الفيزيولوجية، فعندئذ نحن لا نعرف شيئًا عن هذه الأسباب، وعلى أي حال هي لا صلة لها بسؤال التفسير. من المؤكد أنك لا تستطيع أن تصل من سؤال فرويد إلى الافتراض القائل بأن كل شيء في الحلم يجب أن يكون له سبب متمثل في بعض الأحداث الماضية التي ترتبط وتتداعى بطريقة معينة.

لنفترض أننا نعتبر الحلم نوعًا من الألعاب التي لعبها الحالم. (بالمناسبة، لا يوجد سبب أو مبرر واحد للعب الأطفال الدائم. وهذا هو ما تخطيء فيه نظريات اللعب عمومًا). قد تكون هناك لعبة يتم فيها تجميع قصاصات الورق لتشكيل قصة، أو يتم تجميعهن بطريقة ما أيًا كانت. قد يتم جمعها وتخزينها في كتاب قصاصات الورق، ممتلئ بالحكايات والصور. قد يأخذ الطفل بعدها اجزاء مختلفة من هذا الكتاب، ويضعها في تركيب معين؛ وبعدها قد يضع صورة كبيرة، لأن فيها جزء يريده، وقد يضيف باقي أجزاء الصورة الكبيرة فقط لأنها كانت هناك مع الجزء الذي يريده.

 قارن بين سؤال لماذا نحلم ولماذا نكتب القصص. ليس كل شيء في القصة استعاري. ماذا سيكون المقصود بمحاولة شرح لماذا قام بكتابة هذه القصة فقط بهذه الطريقة؟

لا يوجد سبب واحد فقط لكلام الناس، فطفلة صغيرة في كثير من الأحيان تصدر الأصوات فقط لمتعة إحداث إزعاج، وهذا أيضًا أحد الأسباب التي تجعل البالغين يتحدثون، وهناك أسباب أخرى لا تحصى لذلك.

يبدو فرويد متأثر باستمرار بفكرة أن الهلوسة هي شيء يتطلب قوة عقلية هائلة – قوة عقلية seelische Kraft. “لا يوجد حلم بنصف اجراءات”. ويعتقد فرويد أن القوة الوحيدة القادرة على انتاج هلوسة الأحلام هي تلك التي توجد في الرغبات العميقة للطفولة المبكرة. وقد يشكك المرء في هذا الرأي. فلنفترض أنه من الصحيح أن الهلوسة في حالة اليقظة قوة عقلية استثنائية، ولكن لماذا لا تكون الهلوسة الحالمة أمرًا طبيعيًا تمامًا أثناء النوم، ولا تتطلب أي قوة غير عادية على الإطلاق؟

(قارن بسؤال: لماذا نعاقب المجرمين؟ هل هي رغبة في الانتقام؟ هل هو من أجل منع تكرار الجريمة؟” وهلم جرا. الحقيقة هي أنه لا يوجد سبب واحد لذلك، فهناك مؤسسة لعقاب المجرمين، ويدعم الأشخاص المختلفون العقاب لأسباب مختلفة، ولأسباب مختلفة في حالات وأوقات متنوعة، البعض يؤيد العقاب من منطلق الرغبة في الانتقام، وربما يؤيده البعض الأخر بسبب الرغبة في تحقيق العدالة، أو الرغبة في عدم تكرار الجريمة، وما إلى ذلك. وهكذا يتم تنفيذ العقوبات).

(فتجنشتاين ، ملاحظات تم جمعها من قبل راش ريز، بعد مناقشات عام 1946)

لقد قرأت كتاب فرويد “تفسير الأحلام Interpretation of Dreams” مع الزميل هـ. ولقد جعلني أشعر كم تحتاج طريقته للمحاربة. إذا أخذت أي تقرير عن حلم (من تقارير أحلامه الخاصة) من الأحلام التي أوردها فرويد، فيمكنني من خلال التداعي الحر الحصول على نفس النتائج التي يصل إليها في تحليله، على الرغم من أنه ليس حلمي. وسيتواصل التداعي من خلال تجاربي الخاصة وما إلى ذلك.

الحقيقة هي أنه كلما انشغلت بشيء ما، ببعض الاضطرابات أو ببعض المشاكل التي تعتبر شيئًا كبيرًا في حياتك، مثل الجنس، بغض النظر عما تبدأ منه، سيقودك التداعي حتمًا وفي الأخير لهذا الموضوع نفسه. يقدم فرويد ملاحظاته عن كيف يبدو الحلم منطقيًا جدًا بعد تحليله، وبالفعل يبدو كذلك.

يمكنك البدء بأي من الأشياء الموجودة على هذه الطاولة، ومن المؤكد أن نشاط الحلم لم يضع تلك الأشياء هنا، ويمكنك أن تجد أنه يمكن ربطهن جميعًا بأسلوب مثل الذي حللت به الحلم، وسيكون ذلك منطقيًا بنفس الطريقة.

قد يتمكن المرء من اكتشاف أشياء معينة عن نفسه عن طريق هذا النوع من التداعي الحر، لكنه لا يفسر سبب حدوث الحلم.

يشير فرويد إلى العديد من الأساطير في هذه العلاقات التي يصل إليها، ويدّعي أن أبحاثه قد أوضحت كيف ينبغي لأي شخص التفكير أو طرح مثل هذا النوع من الأساطير.

في حين أن فرويد قام بشيء مختلف، فهو لم يعط تفسيرًا علميًا للأسطورة القديمة، بل ما قام به هو طرح لأسطورة جديدة. جاذبية الفكرة التي تقول على سبيل المثال أن القلق هو تكرار للقلق من صدمة الولادة، هي مجرد جاذبية تتسم بها الأساطير، فيُقال: “إنها نتيجة لشيء حدث منذ فترة طويلة”. تقريبًا مثل الإشارة إلى أسطورة الطوطم.

 يمكن قول الشيء نفسه عن مفهوم “المشهد البدائي Urszene”. يملك هذا المفهوم جاذبية إعطاء نوع من الشكل المأساوي لحياة المرء، فكل هذا هو تكرار لنفس الشكل الذي تم تسوية الأمور على نهجه منذ فترة طويلة، فأنت كشخصية مأساوية تنفذ الأحكام التي وضعها القدر على عاتقك عند الولادة. كثير من الناس يعانون في فترة معينة من متاعب مرهقة في حياتهم، مرهقة لدرجة أنها تؤدي بهم إلى مداعبة أفكار الانتحار. ومن المحتمل أن يبدو كل هذا للمرء على أنه شيء سيء، بوصفها حالة شديدة الفساد بحيث تمتنع أن تكون موضوعًا للمأساة، وسيكون من باب الإراحة الهائلة للمرء إذا أمكن بيان أن لحياته نمط المأساوية، التحقق والتكرار المأساوي للنمط الذي يحدده المشهد البدائي.

هناك بالطبع صعوبة في تحديد أي مشهد هو المشهد البدائي، سواء أكان المشهد الذي يدركه المريض باعتباره هكذا [مشهد أول ممارسة جنسية يراه وهو طفل]، أم المشهد الذي يؤدي تذكره إلى التأثير على العلاج. وفي الممارسة يتم خلط هذه المعايير معًا.

من المرجح أن يسبب التحليل الضرر، لأن على الرغم من أن المرء قد يكتشف أشياء مختلفة عن نفسه في خضم عملية التحليل، إلا أنه على المرء أن يتسلح بالنقد الحريص والمستمر لإدراك الأساطير التي تفرض وتُطرح على المرء وأن يرى من خلالها. هناك حافز يدفعنا إلى القول: “نعم، بالطبع، لا بد أن يكون الأمر كذلك”. إنها سلطة الأسطورة.


المصدر:

Wittgenstien: Lectures and Conversations on Aesthetics, Psychology, and Religious Belief

الفصل

Conversations on Freud, p. 41